بلور الشاعر المغربي المهدي أخريف صوته الشعري الخاص الذي يدعوه الناقد بالصوت الخفيض، ويحلل لنا خصائص هذا الصوت من من خلال تناوله لإصداره الشعري الأخير «بين الحبر وبيني» في هذا المقال.

الشعر وإرادة القول

قراءة في بين الحبر وبيني

يحيى بن الوليد

مرة أخري يتجدد الحديث عن الشاعر المهدي أخريف من خلال إصداره الشعري الأخير بين الحبر وبيني (2006) ليدعونا ـ من ثم ـ إلي ولوج دائرته الإبداعية التي تتسع كلما تقدمنا داخلها بسبب من تعدد الأنماط الناظمة لها من ترجمة وحوار ونقد مفتوح ومحكي شعري ... هذا بالإضافة إلي ملاذ الشعر الذي يستوعب ـ وعبر لعبة الإضاءة والاستضاءة أو التأثير والتأثر ـ الأنماط التعبيرية سالفة الذكر في دنيا عوالم الإبداع التي افتتحها المهدي أخريف بنصه الشعري المتفرد باب البحر (1981) أي في فترة كانت القصيدة المغربية فيها لا تزال مأسورة في دوائر عنف الإيديولوجيا بسبب من المناخ الساخن الذي كان يلوي بالمرحلة الثقافية ككل وقتذاك. وفي الحق فإننا لا ننوي، في هذا المهاد المحدود، تأطير تجربة الشاعر. هذا إذا ما لم نقل بأنه سبق لكاتب هذه السطور أن أنجز ورقة نقدية مختزلة حول تجربة الشاعر ومعنونة بـ الصوت الخفيض الذي بدا لنا ثابتا جديرا بأن يفسر تجربة الشاعر في مفترق/ وحدة طرقها. وحتي إن كانت هذه الورقة قد أنجزت قبل خمس سنوات (الملحق الثقافي، الجمعة 18 ايار/ مايو 2001) فإنها لا تزال ـ في تصورنا ـ تنطوي علي ملاحظات قابلة الترهين ، وخصوصا من ناحية ما عبرنا عنه ـ أو بالأحري ما هو متداول في بورصة النقد الأدبي العالمية ـ بـ التمرين اللغوي (Exercice Languagre)الذي نجده في تجارب شعرية باذخة عربية وعالمية. التمرين الذي هو قرين نظرة مخصوصة إلي العالم والإنسان والأشياء.

وديوان بين (الحبر وبيني) لا يحيد عن هذا الإطار، ومعني ذلك أنه لا يمثل أي نوع من القطيعة بالنظر إلي نصوص الشاعر الأخيرة. هذا بالإضافة إلي أنه يواصل ما كان الشاعر قد سعي إليه من قبل، ولا سيما من ناحية ما يمكن التعبير عنه بمحاولة التقاط نبض المطلق المتمثل بالشعر ذاته. فمصدر الشعر، في نص بين الحبر وبيني ، لا يكمن في الواقع أو ـ بتعبير الرطان البنيوي ـ المرجع . ونصوص الديوان لا تفترض مراكز دلالية، ولا أي نوع من الدورات الدلالية لهذه المراكز، ولا ما يترتب عن هذه المراكز والدورات من علاقات دلالية تسعي إلي أن تعصف بنظام العالم ومنطق الأشياء. فالشاعر يتجرد ـ إلي حد بعيد ـ من شيئية الأشياء ومن ميتافيزيقا الأشياء معا. يتجرد من وجوده المرئي ذاته. ومن ثم لا يظهر في شكل من أشكال الوجود المختلفة حيث لا يبدو لا كائنا مدينيا ولا عولميا، ولا ذاتا حزينة أو فرحة... إلخ. فالفكرة شبيهة بفكرة موت الإنسان ، لكن بغير التشويه الذي طال المفهوم في نطاق حداثتنا المسلوخة أو في نطاق ما عبر عنه الشاعر نفسه ـ وفي النص ذاته ـ بـمايوهات ما بعد حداثية (ص 65).

أجل إننا لا نعدم حضور الذات التي هي مصدر دفق الإبداع، غير أن هذا الحضور ينأي بنفسه عما يمكن نعته بـ فلسفة الحضور . وربما ثقف المهدي أخريف هذه الفكرة عن فرناندو بيسوا حين يقول في كتاب اللاطمأنينة: تجردت من كينونتي ذاتها، من وجودي مرتديا ذاتي (ص93). هذا بالإضافة إلي أن هذا الحضور سالف الذكر قرين نوع من النفي المصاحب والممتد داخل فضاء الدلالة. والظاهر أن مفهوم النفي لم يتسرب إلي المهدي أخريف من خلال مدرسة فرانكفورت الألمانية الشهيرة التي شددت علي هذا المفهوم الموازي لمفاهيم أخري وفي مقدمها مفهوم التمايز الذي يضاد مفهوم التماهي. لقد رفض أعضاء هذه المدرسة قراءة الأدب من خلال الواقع، مما قادهم ـ وتبعا لتسمية النظرية النقدية التي اشتهروا بها ـ إلي التشديد علي الأدب النقدي الذي هو نفي للواقع الذي يشير إليه هذا الأدب ونقد يتحقق بواسطة فعل المقاومة. الظاهر أن المهدي أخريف اهتدي إلي مفهوم النفي من خلال جده الفني الملعون الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل أي الشاعر المثير البرتغالي فرناندو بيسوا (1888 ـ 1935) الذي تعرف إليه قبل عشرين سنة، وعلي مدار هذه الفترة الزمنية أقدم المهدي علي ترجمة العديد من نصوصه، ولا سيما كتاب اللاطمأنينة التي تعد مرجعا في مجال الترجمة العربية المعاصرة. ودون أن نتغافل عن النص المختلف الذي يعكسه شعر بيسوا، مما جعله يحظي بحضور لافت في تنظيرات فلاسفة الاختلاف إلي جانب نصوص مالارميه وفاليري وكافكا وجيمس جويس... وغير هؤلاء ممن عدهم الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو آلة حربية .

فمصدر الشعر، أو الدفق الشعري، في الديوان هو الشعر ذاته كما سلفت الإشارة إلي ذلك قبل قليل. ومن هذه الناحية يبقي دغل الشعر محوريا، ولعل هذا ما يكشف عن نفسه بدءا من العنوان بين (الحبر وبيني) الذي تحتل فيه مفردة الحبر مكانة مركزية. الحبر الذي كرس له الشاعر نفسه من قبل نصا نقديا مفتوحا معنوناً بـ فقاعات حبرية (2003) حيث الورق الذي يكشف عن أهمية تفوق أهمية الكتابة ذاتها، وهنا تكمن أهمية الحبر و التسلية في آن واحد. فالحبر، في نص العنوان، هو البؤرة ، ثم إن حضور الذات لا أهمية له إلا في ضوء التعالق مع هذا الحبر. ويفترض العنوان ـ علي المستوي الظاهر ـ نوعا من المسافة التي تفصل ما بين الطرفين، غير أن هذه المسافة لا تخلو ـ وعلي مستوي الإدراك ـ من تذويت. هذا بالإضافة إلي أن العلاقة بين الطرفين، وفي النظر الأخير، هي علاقات وجود لا علاقة حدود . وفي هذا النطاق يكمن مكر الشعر علي مستوي كهربة الحدود، بل ومحوها في دنيا الإبداع والوجود. ويمكن أن نضيف بخصوص العنوان أن مفردة الحبر تجعلنا نتغافل عن الأشياء التي تشغل ـ وعلي مستوي النص التحتي ـ ما بين الحبر وذات الشاعر، طالما أن هذا الأخير يتحرك داخل دائرة الشعر. إضافة إلي أن مفردة الحبر شرارة الدفق الدلالي ونواة الديوان أو البذرة التي تمتد أفقيا داخل الديوان. ومن ثم فإن حضور الذات، أمام هذا الحبر، شبيه بـ ثعبان نيتشه الذي يعض علي ذنبه في نوع من الدوار اللامتناهي .

وعندما يختار المهدي أخريف الاحتفاء بالشعر وفي الشعر وللشعر فإن ذلك لا يرتد إلي الإحساس بالحيف النقدي الذي جعل الشعراء يردون/ يسبون النقاد بواسطة نصوص إبداعية أو أبيات شعرية متفرقة كما كان يفعل الشاعر العربي القديم. وربما سعي الشاعر المهدي أخريف، بهذا الاختيار، إلي مجاراة كتابات ما بعد الحداثة حتي وإن كان ــ وعن وعي ــ لا يذهب بعيدا علي هذا المستوي وعيا منه بمجال التمايز بين النظرية والإبداع. ولعل هذا ما سنحاول أن نتبينه بعد قليل، غير أنه يمكن التشديد الآن علي أن الاحتفاء بالشعر هو ــ وكما في نصوص سابقة للشاعر أيضا ــ قرين ما كنا قد أشرنا إليه بـ التمرين اللغوي .

وهذا التمرين بدوره قرين ــ عبارة الفيلسوف برتراند راسل ــ تقطير المعني اعتمادا علي المفردات الممتلئة والمنتقاة بدقة، وكل ذلك في المنظور الذي يباعد ــ وعلي أرض التمرين ذاته ــ بين الصنيع الشعري وما يمكن نعته بـ الشعور الجارف أو العاطفة الهائجة . وقد يدخل هذا النوع من التمرين في نطاق ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك دريدا، في كتابه هوامش للفلسفة (Marges De La Philosophie)(1972)، وعلي مستوي أحد العناوين الفرعية، بـ الشكل وإرادة القول . وهي إرادة لا وجود لها من خارج النص، بل إنها هي التي تؤسس لهذا النص.

وفي ضوء ما سلف لا يبدو غريبا أن يشكل الاحتفاء بالشعر مركز الدلالة في نصوص الديوان، وأن يمتد في جسد هذه الدلالة وفي عملية أشبه ما تكون بالنقطة التي يصعب رصدها في الدائرة. وهو ما يفصح عن نفسه بدءا من عناوين نصوص كثيرة مثل من صفحة لأخري و بين بياضين و يا ألفاظي و بالعنوان و قرائي و العدد القادم ... وهي جميعها دوال تنصرف بنا إلي مدلول الشعر. وكل ذلك موازاة مع عناوين أخري لا تحفل بالشعر غير أن مقاطعها الأولي تكشف عن محورية الشعر. ودون أن نتغافل عن مفردة النص التي تتكرر علي مدار الديوان ومقرونة بأوصاف مثل النص الهارب و الغائب و الخائب . هذا بالإضافة إلي صيغ أخري تفصح عن محورية المفردة مثل في مرآة النص و في حضرة النص و لا تتنكر للنص و لا نصي و الميتاـ نص ... وهي كلها أوصاف وصيغ أو دوال متعددة دالة علي مدلول واحد هو الشعر من حيث هو هذا المنفلت و الزئبقي و المجهول .

وفي السياق نفسه، أي سياق الاحتفاء المحموم بالشعر، لا يتم الاكتفاء بالإشارات إلي الشعر في إطلاقه، وإنما يتم تخصيصه من خلال جملة من المفاهيم التي يبرع المهدي أخريف في التنسيق بينها داخل فضاء النص. أجل إن المفهوم يقي الكلام من (الفلسفي) من الثرثرة كما يقول جيل دولوز وفيليكس جاتري في كتابهما المشترك ما هي الفلسفة؟ ، وذلك من خلال إواليات أو ميكانيزمات المفهمة التي تتسرب في طرائق الاستدلال الخطابي. غير أن مفاهيم الحبر تفارق استراتيجية المفهمة نحو السخرية المبطنة والتسلية المعلنة. فالشاعر لا يريد أن يذهب بعيدا علي طريق المفهمة والتذهين، إنه لا يريد أن يتنفس الدم في شعره كما قيل عن أبي تمام (806 ــ 845م) في تجربته الصادمة التي مجتها الذائقة العربية أو بالأحري المؤسسة النقدية العربية الأصولية التي سحبت منه ـ ونتيجة المفهمة ـ صفة الشاعر . المفاهيم، في نص الحبر ، مشدودة إلي لمح الشعر بلغة التراث أو التكثيف الدلالي بلغة زماننا. بل إن هذه المفاهيم تفقد قوتها الاصطلاحية، وتتحول ــ بالتالي ــ إلي مفردات معجمية بارقة داخل نسيج الكلام الشعري. ولعل هذا ما يبرز في أكثر من نص، يقول الشاعر في نص بعد الترويض :
صوتي
صوتي الآخر
بعد التحكيك اللاواعي
في غرف الإنعاظ النظمي (ص54)
ويفتتح النص الموالي معذرة :
وإذن
معذرة
إن كان بنصي تشويش
من جهة التخييل
فمن اختراع النص
فان كان به تشويش
محض
تركيبي
فمن اختراعي وحدي (ص 58).

علي أن هذا الاحتفاء بالشعر لا يتحقق من خلال هذه المفاهيم فقط، وإنما يتم من خلال الإشارة ـ وفيما يشبه مهرجانا حميما وسريا يقيمه الشاعر بمفرده ـ إلي أسماء شعراء ومبدعين أغلبهم عالميون. أجل إن الشعراء إخوة كما قال رامبو، غير أن هذه الأخوة تظل مشدودة أو محكومة بـ سبل استقطار المعني التي تروق الذات المبدعة. وفي هذا السياق أمكننا أن نفهم تشديد الشاعر علي هولدرلين وبول تسيلان و شاعر المغرب أحمد المجاطي ودون أن ينسي صديقه الرسام الزاهد خليل لغريب في مخلوقاته المتداعية... إلخ. وغاية القول، هنا، إن جميع هؤلاء هم مرايا للذات في دنيا قبائل الكلمات وخرائطية الإبداع. غير أن لعبة الإحالة لا تتوقف عند هذه الأسماء المعاصرة، وإنما تمتد إلي أسماء تراثية. وبما أن الشاعر، ومنذ قرون، وهو يتسكع في قارات الشعر بلا طائل (ص 73) فلا يبدو غريبا أن يقول:
في وسع حروفي أن تشكوني لـ عيار الشعر ـ إذا مت ـ
وليت بوسعي أن أتبحر في المطلق
بوميض يقطع أنفاسي (ص15).

وكل ذلك في إشارة موجزة إلي الناقد العربي ابن طباطبا العلوي (ــ 933م) صاحب كتاب عيار الشعر الذي يطالب فيه القصيدة بأن تكون كلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها . وهو ما لا يمكن أن يصمد في حالة تجربة المهدي أخريف التي لا تفهم الشعر في معزل عن النص القائم علي الشقوق و الصدوع و الفلول المفتوحة . وفي جميع الأحوال فإننا لا نود أن نثقل نص المهدي بهذا التصور النقدي حتي لا نسقط في ذلك النص الذي يتكلم عن ذبابة بينما نحن نواجهه بـ دبابة من المفاهيم النقدية والتصورية... غير أن تنصيص الشاعر علي عيار الشعر لا يخلو من مغزي هو قرين عملية النفي التي سلفت الإشارة إليها من قبل. ثم إن المهدي بدوره ـ وحتي نحافظ علي قاموس ابن طباطبا ـ يمخض القصيدة وفي الوقت ذاته يفهم الشعر باعتباره كلمات ... إلا أن كلماته لا تتماشي و عيار الشعر ، بل إنها تشتكيه لهذا الأخير في دلالة علي افتراق الطرق ورغبة الانخراط في آفاق العصر .

وثمة ملحوظة تفرض نفسها بإلحاح في سياق الحديث عن تجربة المهدي أخريف وسواء في ديوانه هذا أو دواوينه السابقة وخصوصا ديوانه الأول باب البحر ، وتنصرف بنا هذه الملحوظة إلي فكرة المكان التي احتكم إليها البعض ـ وإن بنوع من الحيف النقدي ـ في قراءة/ تلخيص تجربة المهدي أخريف. وللحق فالمكان حاضر في هذه التجربة، غير أنه لا يمكن له أن يكون بمفرده علامة دالة عليها. وفي ضوء هذا الاعتبار يمكن النظر إلي نص في حانة ماروخا الذي يحفل بالمكان. وفي مستوي أول يظهر الشاعر، من خلال هذا النص، وكأنه يسعي ـ ومن خلال الشعر طبعا ـ إلي مواجهة أشكال النسيان أو الصدأ أو الموت التي تطال الحانة. يقول مقطع من النص:
حانة ماروخا
لا اسم لها
في أي سجل نصي
لا صوت لها في بحر
لا شاهدة في
قبر
فاذكرها
أنت الشاهد بين
الأموات
اذكر ما مر بها
من أصوات قبل ولادتها... (ص 35 ـ36 ).

غير أن ما بعد القراءة الأولي جدير بان يكشف عن نوع من النفي سالف الذكر، أقصد إلي نفي المكان/ الحانة ذاتها. ومن ثم فالحانة لا أهمية لها في معزل عن الكلمات/ الألفاظ:
فتصيح
صاحبة الحانة ماروخا
من كرسي الكلمات الهزاز
أراك تحمل
ألفاظك ما لست تطيق
وأحيانا
تختار الألفاظ
أن
تسكر في الساحات العامة
وقت الظهر
بأقداح سوقية
تهوي بالنص إلي
القبو
الأسفل للحانة (ص43)

ومن ثم فإن الحانة لا معني لها في معزل عن مرآة النص أو حضرة النص ، بل إنها هي النص ذاته. ومن ثم فان حضور الذات في الحانة هو من أجل الحرب/ الولادة داخل الألفاظ التي تلخص عملية الإبداع في ذهن الشاعر:
ولذا
أيتها الحانة
ها أنت ترين
باني
اسبق ألفاظي
قبل الموعد
حتي
القبو الأسفل (ص43)

يبدو جليا من خلال ما تقدم مدي هيمنة مفهوم النص في التفكير الشعري الذي يلوي بخطاب بين الحبر وبيني ، النص الذي يسعي الشاعر من خلاله إلي ما عبرنا عنه بـ إرادة القول خصوصا وأنها إرادة لا وجود لها خارج النص. وكل ذلك لا يتأسس ـ أنطولوجياً ومعرفيا ـ إلا اعتمادا علي الكلمة/ الكلمات التي يحرص المهدي أخريف علي انتقائها بمحبة فائقة ونادرة داخل تركيب قوامه الرجيم (اللغوي) و التقشف (البلاغي). ولذلك فإنه حتي شيطان الشعر ـ في إشارة إلي مصادر الإلهام نحو الإنتاج ـ لا يطارد الشاعر إلا داخل النص:
جني في الأرجح
سوف يطاردني في أكثر
من نص غائب
في نصي هذا (ص75)

علي أن النص (نص المهدي أخريف) لا وجود له في معزل عن القارئ الذي لا يتغافل عنه الشاعر في سياق الخطاب الميتا ـ نقدي الذي يلوي بنصوص الحبر أو سياق الاحتفاء (المتكامل) بالشعر. ومن هذه الناحية لا يبدو غريبا أن يخص الشاعر القارئ بنص جميل يبدو من أهم نصوص الديوان. وعلي إيقاع كبرياء الشعراء يختار الحديث عن قراء (محتملين) وليس عن قارئ معزول، إضافة إلي أن هؤلاء القراء كثيرون. يقول الشاعر
قرائي
لا يحصون (ص47)

غير أن جميع هؤلاء القراء حمقي (ص47) تبعا لـ حماقة الشاعر المعقلنة أو الحكيمة. ثم إن الشاعر لا يتوقف عند هذا الحد من التوصيف، وإنما يعمد إلي التمييز بين قرائه: فإذا عدوا فثلاثة : أولهم مفتون بدريدا ـ عبر وسائط ـ، وثانيهم كان شبيه الشاعر في نحت الكلمات علي طاولة الدرس ، اما الثالث فـنديم تخييلي (ص78). أجل إن هؤلاء دوال تنصرف إلي مدلول واحد، إلا أن ما يلفت الانتباه ضمن هذا التصنيف هو اسم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ــ 2004) الذي لا يبدو غريبا أن يفيد منه الشاعر وخصوصا من ناحية صلة الكتابة بـ الخلخلة أو عدم الإثبات . هذا بالإضافة إلي أن فكرة التمرين اللغوي لا تحيد عن فكرة دريدا حول اللعب اللغوي .

غير أن المهدي بدوره يفيد من دريدا عبر وسائط أو بالأدق وسيط واحد هو فرناندو بيسوا الذي سلب الشق الأيمن من عقله ، بيسوا حين يقول في كتاب اللاطمأنينة : كل من يعرف قول ما يقول هو ملك روما بطريقته الخاصة (ص45).