تتعدد مشكلات الثقافة العراقية اليوم لأسباب مختلفة، منها: الاحتلال، الفوضى، هيمنة القوى الدينية على مفاصل المجتمع، غياب سلطة القانون، عدم وجود مؤسسات مدنية فاعلة ومؤثرة في سياقات الحياة اليومية، فضلا عن انحلال المؤسسة الثقافية الرسمية وتحولها إلى موقع لتصفية الحسابات بين المتنفذين الجدد من وزراء لا علاقة لهم بالتاريخ الثقافي العراقي، وليس لديهم أي إدراك لمفهوم الثقافة وآفاقها وعلاقتها بالمجتمع والمشروع السياسي والإنساني. وكذلك غياب المشروع الثقافي الوطني الذي يعيد تشكيل الرؤية الثقافية، ويواجه الأخطاء، ويضع الأسس لثقافة المستقبل ومتطلباتها. إن ما تواجهه الثقافة من تحديات العنف الفكري المتمثل بالتعصب الديني، والتشدد الطائفي والقومي الذي يتفشى بين الأوساط السياسية والاجتماعية هو نتاج طبيعي لتعثر المشروع السياسي، وتخبط السياسيين الذين استبدلوا ديكتاتورية الفرد بديكتاتوريات متعددة.
الهوية الضائعة
تعرضت مراكز الثقافة العراقية العريقة أو ما تبقى منها على أثر سقوط النظام الديكتاتوري ودخول قوات الاحتلال الى العراق، إلى أعنف أشكال التدمير في تاريخها، فأحرقت المكتبات ونهبت، ودمرت الآثار، وسرقت المتاحف، وفي مقدمتها المتحف العراقي، وجرت سرقة مكتبات الجامعات العراقية، وحرق البعض منها، كما دمرت قوات الاحتلال مواقع أثرية متعددة في العراق، ونهب جنودها والعصابات المنظمة الكنوز الأثرية ومقتنيات المتاحف المحلية في المدن العراقية وعلّق الصحفي الإنجليزي روبرت فيسك على ذلك: "..إن هذه السنة هي السنة صفر بالنسبة للعراق، إذ مع تدمير المتحف العراقي وحرق الوثائق الوطنية ومكتبة الاوقاف تم محو هوية العراق الثقافية، وتدميرالهوية الثقافية يعني تدمير الإحساس بثقافة مشتركة بين العراقيين لتبقى بدلها صفحة فارغة يسهل إشغالها بتاريخ جديد وثقافة أخرى".
وبناء على هذه المقدمات نشهد الآن نتائج التدمير المتعمد لهوية العراق الثقافية الذي يفضي إلى قتل الإحساس بثقافة مشتركة، مما يسر السبيل لتصاعد التعصب الطائفي والعرقي بين مكونات المجتمع العراقي والابتعاد عن الانتماء للوطن وثقافته.
حزبيون بالأمس حزبيون في المستقبل
بعد أن كان الحزبيون البعثيون يقررون توجهات الثقافة طبقا إلى رؤيتهم الحزبية، ونظرتهم الشمولية بكل سماتها الشوفينية المنغلقة، تحولت إدارة الثقافة الرسمية بعد السقوط والاحتلال إلى أيدي أناس لاعلاقة لهم بالثقافة، فالوزير الذي تسلم الثقافة في الوزارة السابقة كان يعمل في سلك الشرطة، ثم تحول الى تجارة أعلاف المواشي، وقد رشحه حزبه القومي ليتسلم حصة الحزب من التشكيلة الوزارية، واعترف بأنه لم يقرأ كتابا واحدا منذ عقدين من الزمان، ويصف المثقف بأنه: "الشخص المتربي على القيم الاسلامية والقومية وهوالذي لايقبل بهيمنة الثقافة الأجنبية عليه" وهو يجتمع برؤساء العشائر، ويسعى لإطلاق سراح المحتجزين ويعد هذا نشاطا (أخلاقيا ثقافيا) هذه المشكلة تتعاظم كلما شكلت وزارة جديدة إذ أن الثقافة لاتحتسب ضمن الوزارات المهمة كما كانت أيام النظام الدكتاتوري السابق، لذلك تمنح تكملة لعدد المقاعد التي يستحقها حزب معين أو كتلة ما، وتقوم الكتلة بالبحث عن أي شخص تراه حسب منهجها الفكري صالحا لملىء الشاغر، وليس لأنه جدير بالمنصب أو لأنه يملك مؤهلات ثقافية معينة أولأنه في أقل تقدير مطّلع على ثقافة البلد ويعرف المثقفين والمبدعين، وله دراية بالتطورات الثقافية في العراق والعالم..
السلطة الدينية وتأويلاتها
أبرز مشكلات الثقافة الآن هي احتكار السلطة الدينية لحق إصدار الأحكام على الفكر والإبداع ومعاقبة من يعدونه قد اخترق حدود المحرم، او المقدس، حسب فهمهم الخاص. للسلطة الدينية تأويلاتها الخاصة، فهي تحرم الفن، وتهدر دماء الاشخاص الذين يعملون به، وتنزل بهم القصاص دون احتكام للقانون، أو للحقوق المدنية، أو حقوق الانسان بشكل عام..وإزاء هذه الفوضى وسهولة إصدار أمر تنفيذ الحد على المتهم تراجع دور المثقف وانسحب كثيرون من المشهد الثقافي، سواء من الكتاب أو من الفنانين، كما أغلقت مراكز فنية وثقافية، وبدأ الموسيقيون، يتدربون سرا، وحين يسيرون في الشارع فإنهم لا يحملون أدواتهم الموسيقية علانية، خشية بطش المتشددين بهم، على طريقة طالبان. إن ما يحصل في العراق اليوم من تحريم وتجريم للفنان هو استنساخ لما يحصل في إيران.
مدرسة الموسيقى والباليه، هي مركز ثقافي حضاري تخرج منه عدد كبير من العازفين وأساتذة الموسيقى، كما أنه رفد الفرقة السيمفونية العراقية بالعازفات والعازفين البارعين الذين غادر معظمهم للعمل خارج العراق، وتعرضت المدرسة لتهديدات كثيرة، وداهمها السلابون مرات عدة، وحطموا الأدوات الموسيقية والبيانوات ودمروا قاعات تدريب الباليه. وتتعرض الآن للتهديدات بخاصة لمن يعمل أو يتدرب على رقص الباليه أو عزف الموسيقى، فقد انسحبت أستاذة فن الباليه التى درست في روسيا وهي عراقية بعد أن تعرضت لتهديدات عديدة، وتركت العمل في المدرسة في شهر نيسان من سنة 2006.
كما تعرضت بناية المدرسة لاعتداءات كثيرة، ففجّر الإرهابيون قربها سيارات مفخخة، وترك المدرسة طلبة كثيرون ومنهم حفيدتى بعد أن اضطرت العائلة للانتقال إلى الاردن حفاظا على سلامة الأبناء، كما فعلت كثير من الأسر العراقية خوفا من الأعمال الإرهابية التي تطال الجميع في غياب سلطة الدولة..
الثقافة العلمانية في خطر
لقد انحرف الخط البياني للثقافة العلمانية التي كانت شائعة في العراق، وبدأت القوى الدينية تتدخل فى الأنشطة الفنية والشعرية والمسرحية، مما دفع بالعديد من الفرق المسرحية إلى تقديم عروضها خارج العراق، كما أن البعض قدم عروضا ذات طابع ديني جرى تمويلها من أحزاب وجهات حكومية، وتدخلت الجهات الدينية في أنشطة اتحاد الادباء وبخاصة مهرجان المربد الشعري الذي حرم على النساء هذا العام دخوله، ومنعت الشاعرات من الحضور، وجرى تهديد الشاعر عدنان الصائغ بالقتل وقطع اللسان من قبل جماعات دينية معينة، (هناك وثيقة مصورة فيديو تثبت الواقعة) لأنه قرأ قصائد ذات نفس صوفي يخاطب بها الإله، أسماها (قصائد مشاكسة)..
مشكلات النشر وتمويل الانشطة الثقافية
جرت حركة لنشر نتاج بعض الكتاب الذين كانوا خارج العراق، أو الأدباء المتوفين، وكان معيار النشر إما الإنتماء الحزبي، أو معاداة النظام الديكتاتوري، وليس المستوى الفني والإبداعي للكاتب، لذا نشرت أعمال هزيلة لاقيمة لها، وتعثرت عملية النشر بعد تغيير وزير الثقافة، وعدد كبير من الموظفين بعد ظهور الحكومة الانتقالية محل الحكومة المؤقتة، ليحل محلهم أقارب الوزير الجديد، واقتصرت أنشطة وزارة الثقافة على الفعاليات المتعلقة بالمناسبات على اختلاف أنواعها، كما ألغى وزير الحكومة الانتقالية ما فعله وزير الحكومة المؤقتة، ومنع طبع الكتب المقرة من قبل سابقه، وبدأ يحضر المؤتمرات الثقافية خارج العراق ممثلا للثقافة والمثقفين دون أن يكون على معرفة بمشكلات الثقافة وملفاتها الساخنة، ومن جانب آخر عمدت السلطة الجديدة إلى تأسيس وزارة لمنظمات المجتمع المدني، وكان أول عمل لها إيقاف أنشطة الاتحادات والمنظمات والنقابات وتجميد أموالها، وبالتالي توقفت الأنشطة والفعاليات الثقافية لمعظم هذه المنظمات والاتحادات، واقتصرت على الفعاليات السياسية لوزارة الثقافة.
كما توقف تمويل نشر بعض المجلات المستقلة، بينما عمدت الدولة إلى نشر مطبوعات بالأموال العامة تمثل وجهة نظرها، وتصدر عن الشبكة العراقية للإعلام وهي ممولة من قبل الدولة، والمنح الدولية للعراق والتي كان يفترض بها أن تمول مشاريع ثقافية مستقلة، لا إعلام السلطة وتوجهاتها الدينية الراديكالية..
إن الثقافة الدينية لا تكلف كثيرا، نظرا لتوفرها بالمجّان في المدارس التي طغت الآن على مناهجها الصبغة الإسلامية والطائفية، وكذلك منشورات الأحزاب الدينية ومواقعها الإلكترونية الممولة من جهات متعددة..ولهذا سنضطر الى إصدار المجلة مرة كل شهرين، ابتداء من العدد الرابع، ومجلتنا تعنى بثقافة المكان، وتنشر ثقافة التنوير والتسامح، وتركزعلى تعريف الأجيال الشابة بالتراث الحضاري العراقي والإنساني، وتجارب الشعوب الفكرية والثقافية .. ويبدو أننا سنواجه صعوبات أكثر في القادم من الأيام في مجال النشر، إذ أن وجود وزير ثقافة من خريجي كلية الشريعة الإسلامية في الوزارة الجديدة التي ستحكم البلاد على مدى أربع سنوات سيقيد حرية الابداع والنشر، وسوف يوصد المنافذ أمام نشر الابداع الجديد، ويعزز من سلطة الرقابة الدينية على الثقافة والأنشطة الفنية، ويعود بالبلاد إلى عصر الظلمات والتعصب الفكري والديني، مما يقدم مؤشرا خطيرا لترسيخ الرؤية الراديكالية في النهج الثقافي المحلي الذي يعتمد في معظمه على العون الرسمي في النشر والنشاط الثقافي, في غياب دور مؤثر للجمعيات المستقلة والمؤسسات المدنية للثقافة في السنوات القادمة..