عبد الله العروي أحد أبرز وجوه الثقافة المغربية المعاصرة، هذا إذا ما لم نقل بأنه "قيمة تداولية" لا مثيل لها في الثقافة العربية ككل. نقدم هنا تحليلا فكريا لجانب لم يلق عناية كافية من فكره، الناقد الأدبي.

عبدالله العروي ناقدا أدبيا

خطاب المؤرخ

يحيى بن الوليد

عبد الله العروي أحد أبرز وجوه الثقافة المغربية المعاصرة، هذا إذا ما لم نقل بأنه "قيمة تداولية" لا مثيل لها في الثقافة العربية ككل. ومصدر ذلك طريقته التحليلية النقدية الصارمة والجادة التي تطبع تعامله مع العديد من القضايا الملحة في الفكر العربي المعاصر، وكل ذلك بالاستناد إلى منظور "المؤرخ" الذي يلازمه في جبهاته المتعددة. المؤرخ المشدود، وعلى أرض التاريخ ذاته، وبـ"دون تسامح أو تشف"، إلى "تشخيص" "إخفاقات الماضي" و"تعثرات الحاضر". والمؤرخ المتحيز لـ"الحداثة" بشكل صريح... والمضاد لـ"التقليد" بذات الصراحة. ومن هذه الناحية فهو يكتب في مجالات متعددة بدءا من مجاله الأثير المتمثل بـ"التاريخ" الذي ألف فيه أهم دراساته "تاريخ المغرب الكبير" (بالفرنسية، 1970) و"الجذور الاجتماعية والثقافية للحركة الوطنية في المغرب" (بالفرنسية،1977)... ومجال "النقد الإيديولوجي" الذي استهله بكتابه الصادم والإشكالي "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" (بالفرنسية، 1967) و"العرب والفكر التاريخي" (1973) و"ثقافتنا في ضوء التاريخ" (1983) و"النزعة الإسلامية، الحداثة والليبرالية" (1997).... ومجال "النقد المفاهيمي" بدءا من "مفهوم الإيديولوجيا" (1980) إلى "مفهوم العقل" (1996) مرورا بـ"مفهوم الحرية" (1981) و"مفهوم الدولة" (1981) و"مفهوم التاريخ" (1992)... إلخ. هذا بالإضافة إلى مجال "التخييل الروائي" الذي أبدع فيه "الغربة" (1972) و"اليتيم" (1978) و"الفريق" (1986) و"أوراق" (1989) و"غيلة" (1998). موازاة مع ثلاثية مذكراته "خواطر الصباح" (2001/ 2003/ 2005) التي لا تخلو من "مادة فكرية ثرية" لا يمكن التغافل عنها في سياق مقاربة مشروع عبد الله العروي الثقافي.

تعدد الجبهات ووحدة السياقات
فمن الملاحظ، إذا، أن جبهات العروي متعددة، مما يكسب خطابه تنوعا وثراء ملحوظين؛ غير أن ذلك لا ينفي إمكانية الحديث عن نوع من "الوحدة السياقية الكبرى" التي تستوعب جميع هذه الجبهات والتي هي، وفي النظر الأخير، وحدة "خطاب المؤرخ" التي نصدر عنها في محاولة "استخلاص" دلالات "النقد الأدبي" عند عبد العروي. وبالنظر إلى عمق هذا الخطاب، وتفرده، بل واستفزازاته المتواصلة للفكر العربي، كان من الطبيعي أن يحظى بسيل من "القراءات" المتفاوتة نتيجة تفاوت مرجعيات أصحابها. وكتاب "محاورة فكر عبد الله العروي" (2000) ـ الذي أقدم على إعداده بسام الكردي (ناشر عبد الله العروي في العالم العربي) ـ جدير بأن يعكس جانبا من هذا الإشكال. غير أن ما يلفت الانتباه، ضمن هذه القراءات، وغيرها من القراءات المتناثرة في المجلات والكتب، تشديدها على جبهة "التحليل"/ "النقد". وإذا ما تم الالتفات إلى "التخييل" فغالبا ما يتم النظر إليه في ضوء جبهة "التحليل". وهذا ما جعل العروي "يشتكي" من هذا النوع من "الربط الميكانيكي". وفي السياق نفسه كثيرا ما طرح على صاحب "أوراق": أين يجد ذاته؟ في "التحليل" أم في "التخييل"؟ مع أن هؤلاء الذين يطرحون هذا السؤال لا يغرب عن بالهم أن "تخييل" العروي لا تفارقه نبرة "التحليل" أو أن حضور العروي/ المؤرخ أقوى من حضور العروي/ المبدع الروائي. أجل ثمة أكثر من صلة تصل ما بين التخييل والتحليل، غير أن هذه الصلة كانت ستثمر أكثر لو أنه تم النظر إليها في ضوء "التأثر المتبادل" لا في ضوء الربط سالف الذكر.

غير أن ما يهمنا، هنا، ضمن تعدد خطاب العروي، جبهة أخرى تقع خارج إطار "التنابذ" بين التخييل والتحليل. ونقصد إلى جبهة النقد الأدبي التي لا يمكن، في نظرنا، استبعادها في أثناء "محاورة فكر العروي". أجل هناك من يلتفت إلى هذه الجبهة في أثناء هذه المحاورة، لكن غالبا ما يتم تلخيصها في موقف العروي "العدائي" من الروائي المصري نجيب محفوظ (1911 ـ 2006)؛ وهو الموقف الذي سنختم به هذه الدراسة. على أن هذا الاختزال لا يعكس "ثراء" خطاب عبد العروي النقدي. ويهمنا، الآن، أن نرد استبعاد جبهة النقد إلى النظرة الغالبة التي تلخص العروي في المؤرخ والروائي. هذا بالإضافة إلى أن مواقف العروي (النقدية) متضمنة أو متناثرة في "تحليلاته" المعقدة ... مما يستلزم جهدا مضاعفا من أجل استخلاص هذه المواقف. وللمناسبة فمواقف صاحب "أوراق"، في مجال النقد الأدبي، أقوى من مواقف العديد من النقاد المتفرغين، كليا، أو بالكلية، لقضايا النقد الأدبي. بل وسيكون له تأثير في بعض الدراسات النقدية داخل المغرب ولا من ناحية التشديد على "الشكل" وإنما من ناحية مسألة الفلكلور في تعميقها للتخلف كما سنلاحظ فيما بعد، ويمكن أن نشير هنا إلى بعض الدراسات التي أفادت من "الإيدبولوجيا العربية المعاصرة" مثل دراسة حميد الحمداني "الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي" (1985) وقبل ذلك دراسة محمد بنيس حول "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" (1979)... إلخ.

إلا أن النقد (الأدبي) يظل، في خطاب صاحب "العرب والفكر التاريخي"، جزءا من "الأفق" الذي يلوي بدراساته التحليلية النقدية ككل. وهي الفكرة التي تبدو بارزة، وبشكل جلي، منذ كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" (1967) الذي ينطوي، وبالاستناد إلى منظور "نقد النقد"، على تصورات نقدية في غاية من "الإحكام النظري" و"الدقة التأويلية". إلا أن تصوراته (النقدية) لا تنحصر في كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" أو باقي كتبه التي تندرج ضمن جبهة "النقد الإيديولوجي"، وإنما تمتد إلى حواراته المطولة التي تكشف بدورها عن استراتيجية "طريق النقد الصارم والجاد" التي تسند جبهتي "النقد الإيديولوجي" و"النقد المفاهيمي". وثمة ملاحظة لافتة مفادها أن الكتب الإشكالية، وكما قيل، لا تعبر عن أفكارها فقط، وإنما تعبر عن مرحلتها أيضا. غير أن الكتب الصادمة تتجاوز كل ذلك إلى "التجذر" في التاريخ الثقافي ذاته وبالتالي تجاوز مرحلتها، ثم إن "كل مشكل تاريخي يتجدد طرحه بتجدد التاريخ نفسه" كما يقول عبد الله العروي (1). وكم من كتاب كان قد أثار ضجة مدوية في مرحلته... غير أن قيمته اليوم لا تعدو أن تكون "تاريخية".
وكتاب عبد الله العروي "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" واحد من هذا الصنف من الكتب التي تتجاوز مرحلتها والتي لا يمكن الاستغناء عنها في سياق رصد محاولات فهم "الإخفاق" الذي طال "النخبة المثقفة العربية" في حلمها بـ"النهضة"، خصوصا وأن هذا الإخفاق لا يزال مستمرا إلى أيامنا هاته. ويقيس صاحب الكتاب هذا الإخفاق من خلال دراسة لحظات الوعي الثلاث التي توالت في هذا الإطار، وهي: أولا ـ لحظة "الشيخ"، وثانيا ـ لحظة "الليبرالي"، وثالثا ـ لحظة "التقنوي". ويمثل محمد عبده (1905 ـ 1949) الشيخ، ويمثل لطفي السيد (1872 ـ 1963) (أستاذ الجيل) الليبرالي، فيما يمثل سلامة موسى (1887 ـ 1958) التقنوي. ثم إن هذا "التحقيب" (الثقافي) لا يمكن أن يستوعب في معزل عن المفهوم ـ المفتاح "الدولة"(2) (أو بالأدق "الدولة القومية" التي تلت "الدولة المستعمَرة" في "العالم الثالث") الذي يبني عليه العروي "التحليل" الذي يسند الكتاب. ودون أن نتغافل، هنا، عن أن تأثير "الدولة القومية" امتد، ومن خلال ما يعرف بـ"الواقعية"، إلى "الإنتاج الأدبي" ذاته كما سنلاحظ بعد حين. والكتاب، وفي المقام الأول، "تشخيص" لـ"هوية الذات" (العربية) موازاة مع دراسة "الغرب" الذي "يتغلغل" في الفكر العربي. ولا يمكن التغافل عن الإنتاج الأدبي في سياق هذا التشخيص نظرا لمكانته اللافتة في خريطة هذا الفكر، هذا بالإضافة إلى أن الإنتاج الأدبي يستند إلى ذات "النسق" الذي ينتظم هذا الفكر. ومن هذه الناحية فالكتاب يندرج ضمن "نقد النقد" شبه الغائب في الفكر العربي، خصوصا وأن الأمر يتعلق بنقد النقد بمعناه الجذري الذي ينأى بنفسه عن "المراجعة" أو "الوصف" أو "الشرح" نحو "التحليل" الجريء أو الصارم الذي يسعى إلى فضح ما ينعته العروي ـ على مدار الكتاب ـ بـ"شقشقة الكلام".

وفي ضوء ما سلف لا يبدو غريبا أن يعكس الإنتاج الأدبي، وفي منظور العروي دائما، لحظات الوعي الثلاث سالفة الذكر. وفي هذا الصدد يعادل الشاعر حافظ إبراهيم (1872 ـ 1932) الشيخ محمد عبده، والأديب المفكر طه حسين (1889 ـ 1973) الليبرالي، والروائي نجيب محفوظ (1911 ـ 2006) التقنوي. ويعلق العروي أن هذا التحقيب عام، ولا يخص إنتاج دولة عربية دون أخرى (3). أجل قد يبدو في هذه المقايسة نوع من "الاختزال"، غير أنه اختزال لا يمكن دحضه بشكل منهجي. وتلك هي طريقة عبد العروي في الكتابة التي تفترض "متلقيا" على دراية بالعديد من المفاهيم، إضافة إلى تلذذ صاحبها بالنقاش وعدم رغبته في "الحسم" المتسرع والمعهود في "التحليلات" ذات المنحى الإيديولوجي التبسيطي. طريقة العروي التي تنأى عن تقديم "الوصفات الجاهزة" رغم تشديدها على "الحداثة".

أسئلة الأيديولوجيا المعاصرة واستقصاءاتها
ولا يتصور صاحب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" النقد (الأدبي) في معزل عن المجتمع، إضافة إلى صور "المثقف" التي تكمن في هذه العلاقة. وكل ذلك في المنظور الذي يصل جميع هذه الأطراف بـ"التاريخ" الذي يستند إليه العروي في النظر إلى "الثقافة". والمقصود، هنا، "وحدة التاريخ الإنساني" التي تضاد "المطلق". والكتاب، كما سلفت الإشارة، ينطوي على إشارات دالة على "نقد النقد". وفي هذا الإطار يتصور العروي أنه "لا مفر لنا إذن من أن نحكم بدورنا على جدوى أحكام النقاد"(4). ويميز، في مرحلة أولى، بين "النقد الجامعي" و"النقد الصحافي" الذي أفاد من النقد الجامعي لأغراض سياسية(5). غير أن ما يهمنا أن نشير إليه، هنا، وأكثر، أن النقد مر، في تصوره، بمراحل ثلاث تعكس نمو الوعي النقدي(6)، وهي: مرحلة "النقد الليبرالي"، ومرحلة "النقد الواقعي"، ومرحلة "النقد التقدمي".

وقبل التوقف عند النقد الأخير الذي يوجه إليه العروي، وبسبب من تأثير "المرحلة الثقافية"، نقدا قويا، وخصوصا في نموذجه المتمثل في كتاب "في الثقافة المصرية" (1955)، لا بأس من الالتفات إلى "النقد المغاير" الذي يوجهه إلى النقد الليبرالي كما كان يجسده خطاب طه حسين. ويتقوم هذا النقد على ركيزة "الحرية" التي لم تكن مقالة من مقالات لطفي السيد، أو "الليبرالي الأصيل" كما ينعته العروي نفسه(7)، تخلو منها. ومن المؤكد، وبالنظر إلى الأسئلة الحارقة التي يثيرها كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، أن يتم التشديد، وبطريقة العروي القائمة على "التكثيف" و"الاختزال"، على كتاب أو "قنبلة" "في الشعر الجاهلي" الذي أصدرته دار الكتب المصرية الأميرية عام 1926. وقد أثار الكتاب ضجة مدوية كادت أن تؤدي إلى أزمة سياسية حقيقية على مدار الفترة الممتدة من 1926 إلى 1932. إلا أن نقد العروي له يغاير نبرة "القراءات التمجيدية" وفي الوقت ذاته "القراءات النقضية" (الغالبة) التي لخصت، ولا تزال، الكتاب في "تحطيم العقيدة الدينية". فالعروي يتحدث عنه في إطار من "تغلغل" الغرب (سالف الذكر)، وعلى وجه التحديد في نطاق الحديث عن "الاستشراق". ومن هذه الناحية يتصور أن "الطريقة الوضعانية الاستشراقية، رغم انتقادنا لها، لا تؤدي دائما وبالضرورة إلى نتيجة سلبية". وفي السياق نفسه يشدد على موقف المستشرق الفرنسي رجيس بلاشير(Régis Blachére) الذي "لم يكن، كغيره، مصمما منذ البداية على الخروج بجواب سلبي"(8). والخلاصة اللافتة التي ينتهي إليها العروي، والتي لا نرى مثيلا لها في سيل القراءات التي عنيت بالكتاب، هي أن كتاب "في الشعر الجاهلي" "مفيد في قسمه العام النهاجي ضعيف في قسمه التطبيقي"(9). غير أن السؤال الذي يفرض ذاته، هنا، هل يمكن النظر إلى كتاب "في الشعر الجاهلي" من خلال اعتماده على "طرائق النقد الاستشراقي" فقط؟ وألم يعتمد صاحبه على "طرائق النقد التاريخي" أيضا؟ أجل لقد كان العميد مفتونا بالتاريخ، بل وكان أول ما سيدرسه للطلاب بعد عودته من الغرب، لكن على طريقة الأدباء!

ويشكل نقد الذات العربية، ومن خلال الإنتاج الفكري، محور كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة". وفي هذا المنظور لا يمكن التغافل عن "الإنتاج الأدبي"، لما لهذا الأخير من دور على مستوى "التعالق" مع "النسق" الذي ظل يلوي بالفكر العربي منذ عصر النهضة. غير أنه لا يمكن النظر إلى النقد، هنا، وكأنه مجرد "تابع" أو "ملحق" بالفكر، لأنه (أي النقد) بدوره ينطوي على "حضور مستقل". وربما توجبت الإشارة، هنا، إلى ما كان قد ذهب إليه الناقد الماركسي تيري إيجلتون من "أن مهمة النقد هي أن يحلل التمفصلات التاريخية المعقدة للبنيات التي تنتج النص"(10). وتكمن جدة العروي، هنا، في كون أنه ينظر إلى الإنتاج الأدبي من خلال مفهوم محوري هو مفهوم "التعبير" (الواعي)... وكل ذلك في المنظور الذي يفضي به إلى البحث في مدى "مطابقة" هذا التعبير، ومن خلال مفهوم "الموضوع"، لـ"الموصوف". وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى مفهوم "التعبير المطابق" الذي سنتحدث عنه بعد حين. وأول ما يستوقف العروي، على طريق التعبير، مسألة "الشكل" التي نادرا ما تم الالتفات إليها في تلك الفترة من الغليان القومي والإيديولوجي، أي فترة الخمسينيات الصاعدة التي كان يتم فيها التعبير عن علاقة الأدب بالواقع من خلال تسميات متعددة: الأدب والثورة، الأدب والاشتراكية، الأدب الملتزم، الأدب الهادف، الأدب الجاد... إلخ.

وبما أن الغرب كامن في الفكر العربي فليس غريبا أن تكون "الأشكال" ـ وفي منظور العروي ذاته ـ "مستوحاة" من هذا الغرب، ولعل هذا ما يحتم أسئلة عديدة في مقدمها سؤال "صلاحية" هذه الأشكال لـ"التعبير" عن "الذات العربية". ومعنى ذلك أن العروي يتحرك من خارج دائرة "الأشكال التابعة" أو نقيضها المتمثل في "المضامين القومية للأشكال الفنية" التي شدد عليها البعض في نطاق الرد على "الأشكال التابعة". ثم إن أول ما يلفت الانتباه، هنا، أو بالأحرى يعكِر على صلاحية التعبير سالفة الذكر، هو مسألة "الفلكلور" الذي ينتقده العروي، لأنه ـ في نظره ـ مجال لتكريس "التخلف" أو "التأخر التاريخي". ويقوض الفلكلور من الأساس الذي يتقوم عليه والمتمثل في "وهم" الارتباط بـ"المحلية" أو "الخصوصية". وفي السياق نفسه يتصور أن الفلكلور مرتبط بـ"الثقافة الدخيلة" ولا صلة له بـ"الثقافة العصرية" أو "العقل الكوني" أو "الأشكال التعبيرية الكونية"(11). إجمالا إنه يميز بين الفلكلور والتعبير إن لم نقل بين الفلكور و"التاريخ". ومن الجلي أن يقصي الفلكلور عن التعبير والتاريخ معا. ولا يخلو الفلكلور من صلات بالأدب، وخصوصا ما يعرف بـ"الأدب الفرنكفوني" في البلدان المغاربية أو "الفضاء المغاربي" تبعا لتسمية المفكر الجزائري محمد أركون.
ومن المؤكد أنه ثمة أكثر من مدخل لمعالجة مشكلة "الشكل". وهي مشكلة لا تنحصر في النظر النقدي التقليدي التجزيئي، علاوة على أنها مشكلة تلتبس بأسئلة الفكر الفلسفي. وفي هذا الصدد يشدد العروي على "سوسيولوجيا الأشكال" في "دراسة الدراسات" التي عنيت بالمادة الأدبية في "الإيديولوجيا العربية". وتجدر الإشارة إلى أنه لا ينظر نظرة موحدة إلى الأشكال، إذ يستبعد أشكالا مثل الشعر والرسم والغناء. وفي مقابل ذلك يشدد على الرواية والقصة والمسرح، بل ويشدد على الرواية أكثر بالنظر إلى الشكلين المتبقين كما سنلاحظ بعد حين. ومعنى ذلك أنه يشدد على "الأشكال الحديثة" ومن خارج ما أشرنا إليه قبل قليل تحت تسمية "الأشكال التابعة"، وخصوصا في منظور النقد القائم على النزعة القومية. والشكل، في الفن، هو دوما، كما يقول الروائي والناقد ميلان كونديرا، أكثر من مجرد شكل. وفي هذا الإطار يمكن أن نشير إلى ما كان قد عبر عنه الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك دريدا، في كتابه "هوامش للفلسفة" (Marges De La Philosophie)(1972)، وعلى مستوى أحد العناوين الفرعية، بـ"الشكل وإرادة القول" [في النص](12). والشكل، في تصور العروي، خاضع لتغيرات التاريخ، ومن ثم فهو غير قار. وهو ينطوي على "نظرة إلى العالم" أو على "مضمون تاريخي". بل إن الشكل يلخص النوع الأدبي ذاته، ومن تم فـ"تشاؤم" نجيب محفوظ ـ وسنتحدث عنه كما سلفت الإشارة إلى ذلك من قبل ـ مرتبط بما يعبر عنه العروي بـ"الشكل (الطبعاني) أكثر مما يرتبط بالموصوف أو بموقف المؤلف من الحياة"(13). والشكل، كذلك، وبالنظر إلى "التحليل الثقافي" الذي يسند خطاب العروي، لا يخلو من صلات بـ"تمثلات المثقف" الذي يصل ما بين العمل الأدبي والمجتمع. والمقصود، هنا، "المثقف التاريخاني" الداعي إلى الانخراط في "الحداثة" و"مستوى العصر" على نحو ما صاغ ذلك العروي في كتابه اللاحق "العرب والفكر التاريخي".

تحولات الشكل ومتغيرات الرؤية
على أنه ليست الأشكال بمفردها مستوحاة من الغرب، وإنما تصور عبد العروي ذاته لهذه الأشكال مستوحى من الغرب. والصلة التي يعقدها بين الأشكال والإيديولوجيا تجعلنا نستحضر تلك المرجعية النظرية الهائلة التي أسهم فيها نقاد فلاسفة وفي مقدم هؤلاء الهيجيلي الهنغاري والفيلسوف الماركسي والناقد الأدبي جورج لوكاتش (1885 ـ 1971) وتلميذه الروماني/ الفرنسي لوسيان غولدمان (1913 ـ 1970) وفي نطاق ما يسمى "المدرسة الهيجلية الجديدة" في "النقد الماركسي"، وكل ذلك في المنظور الذي يفضي بنا إلى الفيلسوف الماركسي الفرنسي لويس ألتوسير (1918 ـ 1990) الذي "قطع" مع "التقاليد الهيجلية" أو مع "ماركس الشاب" الذي كان خاضعا لـهذه التقاليد. ودون أن نتغافل، هنا، عن جهود المنظر الروسي ميخائيل باختين (1895 ـ 1975) الذي قدم تركيبا لافتا بين الشكلانية والماركسية في نطاق رصد "الدلالة الاجتماعية" من خلال "العلامة اللغوية". هذا بالإضافة إلى نقاد لاحقين يصعب حصرهم في هذا السياق. وجميع هؤلاء شددوا، وبتفاوت، على الشكل، بل إن هناك من عده "العنصر الاجتماعي الحقيقي في الأدب". غير أن ما سلف لا يحول دون القول بأن هذه المرجعية تنطوي على "خلاف فكري حاد". وعلى هذا المستوى يصعب استخلاص مصادر العروي بحكم "المنطق الجدلي" الذي يستند إليه في "التحليل". إلا أن النقد التاريخي والإيديولوجي الذي يتحرك في نطاقه، وفي تصوره للثقافة الذي لا مجال فيه لـ" اللاوعي" و"اللامكتوب"، يفرض ضرورة الوعي بحدود هذا المجال. ومن هذه الناحية يظل عبد الله العروي، ونتيجة تأثره بالتقاليد الهيجلية سالفة الذكر، أقرب إلى جورج لوكاتش منه إلى ميخائيل باختين الذي شدد على "الثقافة الشعبية" في سياق رصد "جذور" الرواية... أو لويس ألتوسير الذي ركز، ورغم تمييزه بين الفن والإيديولوجيا، على أهمية "اللاوعي" في "الخطاب" أو "التمثيلات الإيديولوجية". لويس ألتوسير الذي سيكون له تأثير في أعمال لاحقة وفي مقدمها عمل بيير ماشري في كتابه "نحو نظرية في الإنتاج الأدبي" (1966)، وسواء من خلال مفهوم "الشكل غير المركزي" أو "لاشعور العمل" أو ارتباط هذا العمل بالإيديولوجيا التي "تصمته" في بعض المواضع. وفي السياق نفسه لا ينبغي أن نتغافل عن الناقد البريطاني تيري إيجلتون الذي تبنى أفكار التيار الماركسي المضاد للنزعة الهيكلية (تصورات لويس ألتوسير وشروح بيير ماشري عليها) على نحو ما يتضح في كتابه النظري "الماركسية والنقد الأدبي" (1976) والتطبيقي "النقد والإيديولوجيا" (1976)(14) ، حتى وإن كان سيتخلى عن "الاتجاه العلمي" لألتوسير بدءا من أواخر السبعينيات نتيجة أصداء أفكار "ما بعد البنيوية"(15)، غير أنه حتى الآن لا يزال، وكناقد ومعلق ثقافي، محافظا على رؤيته المتجذرة في اليسار.

وفي الحق فان جورج لوكاتش، وبشهادة أكثر من دارس، درَس مشكلة الشكل دراسة عميقة، بل هو الذي كان وراء عبارة "إن الشكل هو العنصر الاجتماعي الحقيقي في الأدب" في مقال مبكر له (تطور الدراما الحديثة) يعود تاريخ نشره إلى عام 1909. وهو قول لم يكن يتوقع من النقد الماركسي في تلك الفترة، طالما أن هذا النقد كان معارضا تقليديا لكل أنواع الشكلية في الأدب. وكما تكمن جدة طرح لوكاتش في كون أن الأشكال نفسها هي الحوامل الفعلية للإيديولوجيا في الفن، وليس المضمون المجرد للعمل الأدبي؛ ويشرح تيري إيجلتون هذه الفكرة قائلا: "فنحن لا نرى أثر التاريخ في العمل الأدبي إلا من حيث كونه عملا أدبيا على وجه التحديد، وليس بوصفه نوعا أرقى من أنواع التوثيق الاجتماعي". هذا بالإضافة إلى تشديد لوكاتش على "الوعي"، ذلك أن إدراك العالم الخارجي يقوم على انعكاس هذا العالم في الوعي الإنساني. الوعي باعتباره "قوة فاعلة"(16). ثم إن هذا "الوعي" هو ما سيستبدله لوسيان غولدمان، في كتابه "الإله الخفي" (1959)، بـ"الرؤية للعالم" (Vision Du Monde) التي درس من خلالها "أفكار" الفيلسوف باسكل (1622 ـ 1662) ومسرحيات (مآسي) جان راسين (1639 ـ 1699). والرؤية للعالم ليست معطى تجريبيا مباشرا، ولكنها أداة مفهومية ضرورية لفهم التعابير المباشرة لفكر الأفراد(17). وفي السياق نفسه ألا يمكن أن نصل بين العروي ولوكاتش من ناحية "الواقعية العظيمة" التي قال بها هذا الأخير؟ تلك الواقعية ذات الجذور الهيغلية والتي لم يكن لوكاتش يتصورها "نموذجا" للأدب وإنما "أساسا" له؟ لوكاتش الذي لم يسحره الشعر في مقابل انجذابه إلى الرواية والمسرح. وألم يستبعد العروي بدوره الشعر من "جمهوريته"؟ وألا يمكن القول بأن مبدأ "المطابقة مع الواقع" هو الآخر فكرة تعود إلى هيغل... إضافة إلى أنها كانت بمثابة "بديل مضاد للرومانسية" كما يشرح لوكاتش في كتابه "نظرية الرواية"؟(18)، الكتاب الذي تم توصيفه بـ"الهيجلي" و"الوسيط ما بين المثالية الألمانية ونقد أورباخ"(19).

وفي سياق رصد الخطاب النقدي العربي، ومن ناحية الموقف من الشكل، يتصور العروي أن الخصومة التي جمعت بين طه حسين والمدرسة الواقعية تم فيها "تناسي" ما ينعته بـ"الموقف المبدئي" من الأشكال التعبيرية العربية(20). وفي هذا الإطار يمكن استحضار كتاب محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس "في الثقافة المصرية" (1955). والكتاب ينطوي على "سجال صريح" مع العميد الذي كان لا يخفي نفوره من واقعية محمود أمين العالم. ويشرح جابر عصفور، في "المرايا المتجاورة"، أن ما لم يقله طه حسين هو أن هذه الواقعية خلطت خلطا بين النقد الأدبي و"السياسة العملية"، وجعلت الناقد أشبه بقائد سياسي فرح بنفسه يوزع صفات "الرجعية" و"التقدمية" على من يشاء(21). ورغم ادعاء محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس بأن تصورهما ـ ومن خلال ما أسمياه "بيان الصياغة والمضمون" ـ يراعي انسجام العمل الأدبي وخصائصه الفنية فإن الكتاب ـ في النظر الأخير ـ غلَب "سيولوجية المضمون" على "فنية الشكل"، إضافة إلى أنه استند إلى "منظور أحادي" إذ أن الأدب إما أن يكون "واقعيا" أو "رجعيا" وليس هناك ـ بلغة المناطقة ـ حالة ثالثة لهما. ودون أن نتغافل أيضا عن سقوط الكتاب في أحكام عامة من مثل "الأدب الرجعي" و"المجال المريض والشاحب" و"العجز الفني"... وهي أحكام عامة وأقرب إلى "الحماس النقدي" ـ إن لم نقل ـ بلغة جابر عصفور ـ "العاطفي" منها إلى "التأصيل النظري المتماسك". على أن هذا النقد الذي يوجَه، ومن ناحية "القصور" في "مجال "التأصيل النظري"، لم يكن ينطبق على محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس فقط، وإنما كان علامة على واقعية الخمسينيات وبما في ذلك "واقعية " صاحب "النقد الإيديولوجي" محمد مندور الذي كان من قبل قد دخل في "خصام" مع العميد. إجمالا يتصور العروي أن "النقد الهادف" ركز على مفهوم "الطبقة"، بل واعتبرها "العلة الأصلية الوحيدة".. مما أوقعه في التغافل عن "الشكل" الذي يعده نقطة الارتكاز(22). ولذلك ينتقد، وبشدة، "الواقعية الهائجة". وهو ذات النقد الذي سيواصله الناقد الفلسطيني، في كتابه "الواقع والمثال" (1989)، من خلال ما أسماه بـ"الشكل الناقص" الذي اتخذته الواقعية عند محمود أمين العالم وحسين مروة. يقول فيصل دراج: "قد عاشت الواقعية "معظم زمانها كـ"خردة أفكار" أي أنها لم تكن تعكس أصولها بقدر ما كانت تدعو إلى إنتاج هذه الأصول"(23). والملاحظ أن هذا الموقف سيتواصل في الخطاب النقدي العربي في النصف الثاني من عقد الثمانينيات، لكن بالاستناد إلى منظور ماركسي قومي أقل حدية مقارنة مع سبق(24). غير أن ما لا يمكن التغافل عنه هو تلك "العلاقة" التي كانت تصل ما بين "المنهج الجدلي الاجتماعي" ـ المتبع في كتاب "في الثقافة المصرية" ـ و"أدب صاعد مغاير" وقتذاك كان يمثله يوسف إدريس وعبد الرحمان الشرقاوي وسواهما ممن سعوا إلى "القطعية" مع ذلك النوع من "الرومانسية الإنسانوية المترهلة" السائدة حتى تلك الفترة.

ولا يفهم العروي تداول هذه "الواقعية" في معزل عما سلفت الإشارة إليه من قبل تحت تسمية "الدولة القومية. ولقد أفضى معيار الدولة القومية، في النظر إلى الأدب، إلى نتائج سريعة. وكما أفضى مفهوم "التمرين"، وفي ظل الدولة ذاتها، إلى انتشار الكتب التعليمية والتحليل الهزيل ... إلخ(25). ومن ثم كان ضياع الشكل، يقول العروي: "إن مسيري الدولة القومية ينتمون إلى البورجوازية الصغيرة. يسيطر على ذهنهم اتجاه عملي. يودون أن يولد الكتاب بالتدريب والتأهيل كما يدرب ويؤهل صناع الحديد والفولاذ. يتهيبون التدقيق في مغزى الأشكال الفنية، لما في ذلك من تعقيد وبالتالي من تأخير لتحقيق الأهداف المرسومة.. إلا أنه بدون ذلك النظر وذلك التدقيق، سيبقى مشكل التعبير غامضا، وسيجهد عبثا الكتاب العرب للنبوغ داخل إطار أشكال متقادمة"(26). ولعل هذا ما يذكرنا بفكرة ستالين حول "الكوادر" التي تصنع كل شيء بما في ذلك "الأعمال الأدبية". وكل ذلك في المنظور الذي نتج عنه ذلك "الموقف العدائي اللاهب" من كل ما كان يمت بصلة إلى مرتكز "الشكل"، وخصوصا في المنظور الذي يجعل من المضمون مجرد وظيفة لهذا الأخير. وهو ذات الموقف الذي حتم على "الشكلانيين الروس" ـ في عشرينيات القرن المنصرم ـ إما إلى "تغيير" مواقفهم أو "الصمت" أو "الانتشار" خارج روسيا الستالينية كما فعل أحد أهم أقطاب هذه الحركة رومان ياكبسون (1896 ـ 1982).

وعلى ذكر كتاب "في الثقافة المصرية" فقد رأى فيه القارئ العربي (وقتذاك) "فتحا جديدا" في مجال النقد العربي، بل ومحاولة لإنقاذ هذا النقد من "الانطباعية". وتصور آخرون أن العديد من النقاد العرب خرجوا من "معطف" هذا الكتاب الذي كان مرجعا كاسحا في الخمسينيات والستينيات. وكما أنه تم الرفع بالكتاب إلى مستوى "المجاز" كما يقول فيصل دراج(27)، إضافة إلى أن القارئ كان "يقرؤه" قبل أن "يقرأه" على ما في هذا القول من تناقض ظاهري. والكتاب كما قال عبد الله العروي لم يتجرأ أحد على مناقشته جديا رغم أن مكامن الضعف فيه كثيرة جلية، ورغم أنه برنامج للبحث ومجموعة تقريرات منهجية أكثر منه دراسة تحليلية لأعمال بعينها. وكما ينتقده من ناحية "المرجعية" الناظمة له والمتمثلة في "الواقعية الروسية" (تشيخوف وغوركي) التي نشأت في "مكان آخر" (28). والكتاب قد ارتبط بمرحلته، ولذلك كان فيه "الكثير من جدانوف" كما يقول فيصل دراج(29).

ومن الجلي أن المشكل ليس في "الماركسية" ذاتها ("الماركسية الموضوعية" تعيينا) التي هي، وفي نظر العروي، وهو المطلع عليها في مظانها وتعدديتها، "تمهيد تاريخي" للخروج من "التأخر التاريخي"، إضافة إلى ما تقدمه من "إيديولوجيا" "مستقلة نسبيا" و"قادرة" على رفض "التقليد" ودون أن تبدو خاضعة لأوروبا... وإنما المشكل في "سوء استعمال ماركس" الذي "يعكر" (إيديولوجيا) على "التمهيد" سالف الذكر. لكن "مثقف العالم الثالث"، كما يتصور العروي، يتعرف على ماركس خاص؛ إضافة إلى أن اهتمام هذا المثقف بماركس لا يعدو أن يكون استغلالا تاكتيكيا وتظاهرا بالمعرفة وتحذلقا فارغا(30). على أن "الماركسية الموضوعية" سالفة الذكر هي قرينة ما ينعت بـ"الماركسية الغربية" التي تتسم بـ"المرونة" مقارنة مع "الماركسية اللينينية" التي أفاد منها محمود أمين العالم، بل إن هذا الأخير يقر بأن كتاب فلاديمير لينين "المادية والنقد التجريبي" "لخبط" حياته(31). هذا بالإضافة إلى أن الماركسية الغربية شددت على "البنية الفوقية"، مما جعل البعض ينعتها بـ"ماركسية البنية الفوقية". وهو ما يتأكد من خلال التأثير الذي مارسه لوكاتش في هذه الماركسية، وخصوصا في بعض أعمال مدرسة فراكفورت التي تأسست عام 1923 والتي ستلقى، وإبان الفترة النازية، وبسبب من منحاها الهيجلي، ترحيبا لافتا في الولايات المتحدة الأميريكية. وفي هذا الصدد لا ينبغي أن نتغافل عن اسم آخر كان له أبلغ الأثر على هذا المستوى وهو دارس الفلسفة الألماني كارل كورش (1886 ـ 1961)، هذا بالإضافة إلى المنظر الماركسي الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي (1891 ـ 1937)(32). وعلى الرغم من بعض الاحتراس الذي يبديه العروي بخصوص هذا الأخير (33)، وسيرا على "الاحتراس" الذي يبديه على لوكاتش، فقد كان لصاحب "دفاتر" أو "رسائل" أو "كراسات السجن" "حضور" بارز في الفكر المغربي الذي ينخرط فيه العروي نفسه، ويظهر أن كتاب "غرامشي في العالم العربي" يعكس جانبا من هذا الحضور(34).

التعبير المطابق: بنيات الأدب وهياكل الواقع
فالشكل، هنا، لا يلخص مشكلا نقديا معزولا فحسب، وإنما يختزل جانبا مهما من مشكلة الماركسية في العالم العربي أيضا. وماركسية "في الثقافة المصرية" لا تمت بصلة سواء لـ"الماركسية المنهجية" (ألتوسير...) أو "الماركسية الإنسية" (لوكاتش وغرامشي...)، إنها أقرب إلى "الماركسية الدوغمائية" التي تتعارض جذريا مع "الماركسية الليبرالية" التي يدافع عنها العروي في "العرب والفكر التاريخي". أجل إن الكتاب لم يكن بعيدا عن "المناخ الماركسي" كما يتصور البعض؛ غير أن المشكل، هنا، في ما ينعته العروي بـ"النتف الماركسية"(35) التي تتعارض مع الأصول النظرية (أصول المذهب) التي لم يكن المثقف العربي يرهق نفسه للاطلاع عليها. وعلى ذكر "الماركسية الإنسية"، التي كانت أكثر "انتشارا" في "العالم الثالث" كما يسجل العروي نفسه(36)، لا بأس من استحضار ناقد مصري لم يكن يتحرك خارج الدائرة نفسها. ويتعلق الأمر بالناقد المصري لويس عوض (1915 ـ 1990) الذي لم يكن "ماركسيا" بالمعنى التقليدي أو حتى بالمعنى الصارم كما يقول الناقد المصري جابر عصفور، غير أن دعواه المتمثلة في "الإنسانية الجديدة" ظلت منتمية إلى "اليسار"(37). وليس غريبا أن يعد عبد الله العروي لويس عوض "استثناءا" بخصوص قضية "الشكل"، يقول: "وهذا أمر [أي دراسة الأشكال] لم يقدم عليه أحد من المفكرين العرب المحدثين باستثناء لويس عوض الذي تأثر بمستجدات دراسة شكسبير والذي يوحي باستحياء أن الشكل قد يحمل في ذاته فلسفة ونظرة إلى العالم بصرف النظر عن المادة المروية"(38). وفي الحق فإشارة العروي هاته تحمل أكثر من دلالة، لأنه رغم الأهمية التي أولاها لويس عوض لـ"الصياغة" أو "القضية التعبيرية" كما عبر عنها البعض(39)، فإنه جرت العادة أن يصنف ضمن تيار "النقد المضموني". إلا أن اهتمام لويس عوض بـ"الشكل" لا يمكنه أن يكون حصيلة "التأثير الأجنبي" فقط وإلا أين يمكن أن نضع تشديده على "اللغة العامية" التي كتب بها بعض نصوصه؟ وألم تكن هي الأخرى ذات صلة بـ"القضية التعبيرية"؟
وعلى مستوى آخر يميز عبد الله العروي بين "الموضوع" و"الموصوف"، لكن دون أن يقطع بينهما. والموصوف، هو بمعنى من المعاني، الواقع الذي يتم، في نظر العروي، تناوله انطلاقا من زاويتين: زاوية "التحليل" النقدي، وزاوية "التخييل" الروائي. وكل ذلك في المنظور الذي يفضي إلى الموضوع. ويعلق صاحب "العرب والفكر التاريخي" أن النقد أغفل قضية الموضوع الذي يظهر ـ في تحليلات العروي ـ قرين "المضامين المتعقلة" في سعيها إلى "النفاذ في التاريخ". إضافة إلى أنه يقيس "فقر الرواية" من ناحية درجة حضور الموضوع. ثم إنه لا يعارض "التجريب"، بل إنه ذهب في نطاق الرد على سؤال لمحمد برادة (حول ميل الإنتاج الروائي بالمغرب إلى "التجريب" وعدم تحقيق هذا الإنتاج لتراكم يستجيب لما ينتظر من الرواية في سياق المجتمع بالمغرب) إلى أن الرواية المغربية لا يمكنها أن تكون إلا "تجريبية"(40). إضافة إلى أنه بدوره انخرط في دائرة التجريب منذ أعماله الروائية الأولى، غير أنه يشترط أن يكون هذا الأخير قرين موضوع متعين(41). والشكل ـ الذي تحدثنا عنه من قبل ـ يقع في صميم التحول من الموصوف إلى الموضوع. هذا بالإضافة إلى أن "البحث عن الموضوع" هو وجه من وجوه "البحث عن الذات" الذي يكرس له العروي كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة".

وفي السياق نفسه يدرج العروي الموضوع في نطاق مفهوم "التعبير المطابق". ومن ثم فإن تمييزه السالف الغاية منه هي "التقدم على طريق التعبير المطابق"(42). تلك المطابقة التي تصل ما بين بنيات الأدب وهياكل الواقع رغم الانفصام بين الوعي والواقع وعلى صعيد المجتمع ككل في العالم العربي. هذا بالإضافة إلى أن المثقف، وبسبب من أن المجال الذي يتحرك فيه هو مجال "الوعي"، يعيش بدوره هذا الانفصام. على أن المطابقة، وكما يبدو جليا في كلام العروي، أبعد من أن توحي بأي شكل من أشكال استعارة "الانعكاس"، طالما أنها تفترض، وفي النطاق الصلة التي تصل ما بين العمل الأدبي والواقع الاجتماعي، وفي إطار من الفكر التاريخي، نوعا من "الوعي" المشدود إلى ما ينعته العروي بـ"وحدة الاتجاه" (الماضي ـ المستقبل)(43). ويمكن أن نختم، في هذه النقطة، بأن التعبير لا يشغل خطاب العروي النقدي فقط، وإنما يمتد إلى ما ينعت في الرطان النقدي المعاصر بـ"الخطاب الميتانقدي" داخل النص الروائي. وفي هذا الإطار يمكن التشديد على نص "أوراق" الذي ميز فيه بين "الموضوع" و"الموصوف"، بل إن شخصية إدريس المحورية، في النص/ التخييل، فارقت الحياة نتيجة "العجز" الذي حصل لها على مستوى "التعبير". ودون أن نتغافل عن أن "المطابقة" لا تنحصر في خطاب العروي النقدي والتخييلي فقط، وإنما تشغل حيزا مهما في نقده المفاهيمي أيضا. ومن هذه الناحية فالمطابقة تقع، ونتيجة "آلياتها الذهنية"، في صميم مفهوم "الإيديولوجيا" التي افتتح بها صاحب "الغربة واليتيم" سلسلة كتبه المفاهيمية، ونقصد هنا إلى كتابه حول "مفهوم الإيديولوجيا". وأليست "الإيديولوجيا" هي "التعبير عينه" بلا منازع كما قال عزيز العظمة في سياق مناقشة العروي؟(44)

ويبدو جليا، من خلال ما تقدم، مدى أهمية الرواية على طريق "التعبير المطابق"، وخصوصا من ناحية ما تنطوي عليه من إمكانات على مستوى "تشخيص" الموضوع. وميل العروي إلى الشكل الروائي لا يبدو جليا من خلال خطابه النقدي فحسب، وإنما من خلال نصوصه الروائية العديدة التي "لجأ" إليها بدافع من ما عبر عنه بـ"فك الغموض"(45) الذي يلازم تحليلاته التاريخية والإيديولوجية. لقد كان سباقا إلى ما سيتم التعبير عنه، في النقد العربي مع مفتتح التسعينيات، بـ"زمن الرواية". غير أنه يدافع عن رواية من نوع آخر، "رواية جامعة" تتداخل فيها أشكال السرد المختلفة. إضافة إلى أنه يشترط، في الرواية مكونين،هما: المكون الطوبوغرافي (المدن الكبرى) والمكون الاجتماعي. ودون أن نتغافل عن "الثقافة الموسوعية" التي يشترطها في الروائي والناقد أيضا. ولعل في هذا التصور المركب ما جعله يتساءل، وعن حق، حول ما إذا كان لدينا "موضوع روائي"(46). ورغم ميله للرواية تظل الأقصوصة، في نظره، الشكل الأدبي المطابق لمجتمعنا المفتت حتى وإن كانت بدورها لا تسلم من نقده الأساس المتمثل في "مطابقة الشكل للمضمون"(47).

ولعل أبرز موقف يلفت النظر، في كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، هو النقد الذي يوجهه العروي للروائي المصري نجيب محفوظ الذي كان منذ مفتتح الستينيات قد تحول إلى "مؤسسة" ونال بالتالي شهرته الواسعة... لكن بعد "صمت" (نقدي) دام سبعة عشر عاما، واللافت للنظر أن من كسر هذا الصمت هو سيد قطب بمقال له حول رواية "كفاح طيبة" نشرته مجلة "الرسالة" عام 1944. وهذه الشهرة ستكون قرينة ما عبر عنه لويس عوض ـ وقتذاك ـ بـ"كورس النقاد" الذي كان ينطلق مع أي إصدار جديد لنجيب محفوظ. ومن ثم فإن نقد نجيب محفوظ لا بد من أن يلفت الأنظار، خصوصا حين يتعلق الأمر بنقد متضمن في كتاب من حجم كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة". ويظهر، في مستوى أول، أن العروي ينتقد نجيب محفوظ في ضوء النقد الذي يوجهه للتحقيب النقدي، وعلى وجه التحديد المرحلة الثالثة: مرحلة النقد الماركسي الذي صوب سهامه لنجيب محفوظ وخصوصا مع عبد العظيم أنيس الذي تعلم في نفس المدرسة الابتدائية التي تعلم فيها نجيب محفوظ. ومعنى ما سبق أن العروي يستند إلى استراتيجية "نقد النقد" التي قلنا إن الكتاب ينتظم في إطارها. غير أنه، وبخصوص نجيب محفوظ، يتخلى عن دائرة نقد النقد لفائدة دور "الناقد"؛ لكن على طريقة العروي القائمة على "التكثيف" كما يمكن أن نستدل على ذلك بمثل هذا الحكم الجزئي المستمد من كتابه "ثقافتنا في ضوء التاريخ" الذي يقول فيه عن نجيب محفوظ: "ربما ينجو هؤلاء الليبراليون المتطرفون بعقيدتهم، لكن تزداد عزلتهم يوما بعد يوم. وهذا بالضبط هو موضوع ثلاثية نجيب محفوظ"(48).

غير أن كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" لا بد من أن يلفتنا إلى مفهوم العروي المحوري حول "التعبير المطابق" الذي يقع في صميم الأفق التحليلي الذي يلوي بالكتاب. وبالنظر إلى موقفه السالف من "الواقعية" لا يبدو غريبا أن ينتقد نجيب محفوظ. وفي هذا الصدد يشدد على مسألة اللغة التي لا يحفل بها ـ في نظره ـ صاحب "الثلاثية"، وهو رأي يشارك العروي فيه الكثير من نقاد نجيب محفوظ. وفي هذا السياق أمكننا فهم تشديد العروي على الكاتب المصري يحيى حقي (1905 ـ 1992) الذي كان في بعض الأحيان يعيد كتابة الجملة الواحدة ثلاثين مرة. غير أن مسألة "الشكل" أو "التقنية" لا تفارق، في تصور العروي، "الفكرة". هذا بالإٌضافة إلى أنه يتصور الرواية "جهدا فكريا"، ولا مجال فيها لـ"التلقائية" أو "العفوية". وربما في هذا السياق أمكننا فهم إشارته إلى فكرة "صراع الطبقات" التي استقاها كارل ماركس من المؤرخين والكتاب الفرنسيين(49). وغير بعيد عن هذا السياق يمكن فهم ما ينعته (العروي) بـ"العقدة التاريخية"، أي ذلك التأثير الذي يخلفه التاريخ على مستوى الموضوع(50). ومعنى ذلك أن الشكل، هنا، أبعد ما يكون عن أي نوع من "العدمية".

سوسيولوجيا الشكل ومسألة التجريب
غير أن السؤال الذي يفرض ذاته في هذا السياق: لماذا تغافل نجيب محفوظ عن قضية الشكل؟ وألم يكن ذلك التغافل عن قصد وإلحاح؟ وألم يؤكد نجيب محفوظ نفسه، وفي أكثر من حوار من حواراته العديدة، على أنه ليس في حاجة إلى "الأشكال الحديثة"، وأن الاهتمام بالشكل هو من باب "الموضة"؟(51) وكيف يمكن لنا أن نصل بين "موضة الشكل" عند نجيب محفوظ والفكر الذي يتصوره عبد الله العروي "مسؤولية" لا "موضة"؟ غير أن العروي لا يتوقف عند النقد السالف، وإنما يوجه انتقادات أخرى لنجيب محفوظ حيث يأخذ عليه "التكرار" و"المعاودة" وإلى حد "التخمة". ويواصل بأن عنوان رواية "السراب" (1948) يصلح "كعنوان عام" لجميع روايات نجيب محفوظ(52). وكما يرجع "انتشار" رواياته إلى "نفسانية" المتلقي، وخصوصا من "الشباب". يقول: "إذا كانت روايات نجيب محفوظ تستحوذ على مخيلة معظم الفتيان في البلدان العربية، فما ذلك إلا لأنهم يجدون فيها وصفا دقيقا شافيا للصعوبات التي تواجههم وهو يبحثون عبثا عن مهنة. عرف المؤلف كيف يصف تلك الوضعية البئيسة لأنه جربها بنفسه، إذ عاش سنين طويلة فقيرا مهملا كموظف في وزارة الأوقاف، مصلحة الوثائق، وهو وضع عرفه جيل بكامله تخرج من الجامعة ليجد أسمى المناصب محجوزة لأبناء العائلات، الطارئة على البلد في معظمها"(53). وللحق لم يشدد العروي بمفرده على هذا المأخذ عند محفوظ، وإنما نجده عند نقاد مصريين أيضا مثل عبد العظيم أنيس وعبد المحسن طه بدر (1932 ـ 1990)... وتحت تسميات مختلفة من مثل "التغافل عن دواعي الأمل" و"اليأس الفولاذي"... إلخ.

إلا أن موقف العروي قوبل بما لم يقابل به أي موقف من هذه المواقف. لقد رأى فيه البعض، ومن المصريين طبعا، نوعا من "الشماتة" و"التشفي" في مصر. والظاهر أن موقف العروي من مصر، ورغم تشديده على "إخفاق" نخبتها "المفكرة" أو "المثقفة"، لا يخلو من "عطف" يبدو واضحا في نص المقدمة التي خص بها تقديم الترجمة العربية لكتاب "الإيديولوجية العربية المعاصرة" (1970). وألم يقل في ذات المقدمة "عندما جاءت الهزيمة تألمت أكثر وأكثر للشعب المصري الذي سبق كل الشعوب العربية إلى الإصلاح والرقي والتنمية..." و"أن الكارثة المصرية كارثة العرب جميعا، وإذا لم تستدرك عواقبها، ففي انتحار مصر انتحار العرب جميعا". غير أن ما سلف لا يحول دون التشديد على بعض حالات الاستثناء بين النقاد المصريين وفي مقدمهم جابر عصفور الذي لم ير في نقد العروي، وسواء للنخبة المثقفة أو نجيب محفوظ، أي نوع من "الشماتة" سواء في مصر أو المصريين(54). بل إن هذا الأخير يبدو متأثرا بعبد الله العروي، وخصوصا من ناحية الانخراط في "آفاق العصر" من أجل "الإسهام في صياغة معناه الإجمالي".

وللحق فالعروي ينتقد الرواية المصرية ككل، ويأخذ عليها ما ينعته بـ"نسخ الرواية الأجنبية" الذي يقوم به في نظره الكثير من الروائيين المصريين. غير أن ما يلفت الانتباه أكثر حفاظه على ذات الموقف من نجيب محفوظ على الرغم من المتغيرات التي حصلت في عوالم الكتابة عند هذا الأخير نتيجة انفتاحه على "أدب الرحلات" و"ألف ليلة وليلة"... بل و"السريالية" وما "بعد الحداثة" كما تقول الدكتورة فاطمة موسى في كتابها الدال بعنوانه "نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية". وهو ما لا يغيب عن "محلل" في حجم العروي. يقول عن طه حسين وفيما يشبه نوعا من النقد الذاتي: "أعترف أني قسوت على المؤلف [أي طه حسين] لكن كقاص ومؤرخ لا كناقد ومترسل"(55). وأما بخصوص موقفه من نجيب محفوظ فقد ظل مصرا على ما أسماه بـ"خيبته"(56) تجاه هذا الروائي. وهل يدخل مثل هذا الموقف في نطاق "الاطمئنان الوثوقي الشامل" الذي سجله بعض النقاد على عبد الله العروي؟(57)

ولكن ألا يمكن الاعتراض على هذا الموقف من نجيب محفوظ ومن ناحية "سوسيولوجيا الشكل" ذاتها التي يستند إليها عبد الله العروي في "مطابقته المفترضة"؟ وألا يستند صاحب "الثلاثية" بدوره إلى "شكل محدد" وإن كان "شكلا طبعانيا" كما ينعته العروي؟ وألا يستجيب هذا الشكل لأفق نجيب محفوظ الروائي والثقافي؟ إن السؤال الذي لا يجيب عنه العروي هو ما إذا كان هذا الشكل، وحتى نحافظ على قاموس جورج لوكاتش، "مفككا"(58) أو غير "مفكك"؟ الظاهر أن العروي لا يكترث بمثل هذا السؤال، طالما أن محفوظ لا يستند، أصلا، إلى "الشكل" الذي يروقه. إضافة إلى أن جل "الإنتاج الأدبي الروائي العربي"، وعلى نحو ما يمكن أن يستخلص من كلامه، يظهر أنه بعيد عن أن يعكس إحدى "المراحل التاريخية" لـ"الواقعية العظيمة"، تلك المراحل التي لا يمكنها التحقق في ظل غياب ما ينعته جورج لوكاتش بـ"الأعمال الكبيرة" التي تسعف على بلورة نظرية للرواية(59). وفي هذا الصدد فقد غلب العروي منظور"النماذج الروائية العالمية" وعلى نحو يباعد بين هذا المنظور ودعواه إلى "تمثل " قيم "العقل الكوني"، بل إنه في ضوء هذه النماذج كان ينظر إلى الإنتاج الروائي العربي؛ مما أوقعه في "أحكام قاسية" ولاسيما على نجيب محفوظ.

وفي ضوء ما سلف لا يبدو غريبا أن يقول العروي: "تكلم نجيب محفوظ عن عدة أشياء: القاهرة الجديدة والقديمة، التراث الشعبي ومسجد الحسين إلخ. ولكن مع ذلك لا أجد فيه تلك العبارة المنيرة للعقدة المصرية التي أجدها عند طوماس مان"(60). ومعنى ذلك أن العروي يوجه انتقادات للرواية العربية بالاستناد إلى تصور مستخلص من نماذج عالمية للرواية تبلورت، وحسب وجهة نظر ناقد متمرس في الرواية، وهو الأستاذ محمد برادة، بعد ممارسة طويلة ... بينما تجربة الرواية العربية لم يكن قد مضى عليها، في تاريخ صدور "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" (1967)، أكثر من ستين سنة(61). وهو ذات النقد الذي كان قد وجهه محمد برادة للكتاب نفسه من قبل (1983)، يقول (ونستحضره نصه على طوله لأهميته): "لقد طرح العروي مشكلية الحداثة في الأدب والنقد العربيين المعاصرين، محددا عدم ملاءمة التعبير الأدبي (في الرواية والمسرح والقصة) للواقع العربي بغياب نقد للأشكال الأدبية، انطلاقا من إنجاز سوسيولوجيا الشكل. نتيجة لهذا الغياب، اعتقد الكتاب والنقاد أن ضعف الأدب العربي الحديث راجع أساسا إلى عدم التمكن من التركيبات الفنية وأسرارها كما تتجلى في الآداب الأوروبية والعالمية، ومن ثم فإن موضوعة تعلم الأشكال أصبحت هي الموجه للإبداع والنقد. فالأشكال الأوروبية الفنية يتم التعامل معها بدون نقدها ووضعها موضع التساؤل، وكأنها بدون جذور وتاريخ وقابلة للتعميم. وإنه يكفي أن تتقن صنعتها لتعبر بواسطتها عن واقعنا، نتج عن ذلك أن الجزء الأكبر من المسرحيات والروايات والقصص العربية المعاصرة جاءت استنساخا باهتا لأعمال أوروبية، لأن الأشكال المقتبسة لا تطابق الواقع المعبر عنه وخصوصيته المبعثرة المتشابكة... وبدون الشكل الجديد لا يمكن تجلية المضمون الجديد"(62).

يبدو من خلال ما سبق أننا اختزلنا تجليات النقد الأدبي في خطاب عبد الله العروي في الفترة التي تشغل ما بين "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" (1967) و"العرب والفكر التاريخي" (1973). وفي الحق، وحتى إن كنا قد شددنا على هذه المرحلة أكثر، فقد أثرنا مواقف عديدة تتجاوز هذه المرحلة بل تبدو أكثر صلة بحاضر النقد العربي والمغربي. ومن بين هذه المواقف أو الآراء مسألة "الحضور المستقل" للنقد الأدبي ذاته، ودور هذا الأخير ـ وطبعا من خلال نماذج عالمية ـ على مستوى "توجيه" الأدب والأدباء، وعدم جدوى "صنمية" أو "فيتيشية" المنهج، وشرط "الموسوعية" في الناقد والأديب معا، هذا بالإضافة إلى مسألة "التجريب"... ثم مسألة "سوسيولوجيا الأشكال" التي لا تزال مطروحة رغم "تقليعة" ما راح يعبر عنه خلال العقد الأخير ـ في النقد العربي المعاصر ـ بـ"النقد الثقافي" في سعيها إلى "محو" الفوارق بين الأشكال و"التسوية" ـ بالتالي ـ بين النصوص. وكل ذلك في المنظور الذي قادنا إلى اعتبار عبد الله العروي "ناقدا أدبيا"، وهي صيغة قد تبدو في شكل "نشاز" داخل سياق "الفكر القرائي" المكرس لـ"خطاب" عبد الله العروي.

وعلى الرغم من أن خطاب العروي ينطوي على آراء نقدية لافتة (وقد سلفت الإشارة إليها) فإن النقد الأدبي لا يمثل داخله إلا "وحدة سياقية صغرى" ضمن "وحدة سياقية كبرى". ومن ثم فوحدة النقد (الأدبي) لا يمكن استيعابها إلا في نطاق وحدة الثقافة/ التاريخ وبالمعنى الذي يباعد بين هذه الوحدة ومنظور النقد الثقافي سالف الذكر وفي مستنداته التصورية والمنهجية التي لا مجال للحديث عنها هنا. وهذا النص، الذي آثرنا أن نختم به هذه الدراسة، جدير بأن يعكس مكانة النقد الأدبي ضمن هذه الوحدة، وخصوصا من ناحية "المنهج" أو "المناهج" التي كثيرا ما تم تلخيص النقد الأدبي فيها؛ وهي كلها مناهج لا يمكنها أن تصمد أمام "مدفعية" المنهج التاريخي عند عبد الله العروي. يقول: "وإذا قبلنا بالمنهج التاريخي فإن قيمته لا تظهر إلا من خلال تشغيله لتفسير نقط معينة في تاريخ المجتمع أو تاريخ الثقافة. وفي نظري ضعف الثقافة العربية والمغربية الحالية وضعف مثقفينا عموما يأتي من كونهم يطيلون الكلام حول القضايا المنهجية، معتقدين أن النقد خلاق في حد ذاته. النقد الخلاق ليس هو النقد الأدبي ولا نقد النقد أو نقد المدارس والاتجاهات، بل إنه الدراسة التحليلية للواقع الاجتماعي أو للموروث الثقافي. وهذه الدراسة المباشرة والمحتكة بموضوعها هي التي توحي بمفاهيمها ومقولاتها أو تفرضها، أي أنها تصنع ضمن منهجها"(63). أجل إن العروي يطرح، هنا، فكرة في غاية من الأهمية، وهي قضية "صنمية" المنهج التي سلفت الإشارة إليها قبل قليل؛ ومعنى ذلك حضور المنهج بشكل "مسبق" في العديد من القراءات، مما يفضي إلى نتائج معكوسة بل و"تشويه" للنصوص والقضايا. والظاهر أن العروي يدافع عن المنهج بمعناه الفلسفي/ التصوري لا بمعناه التطبيقي الديداكتيكي الذي يجعل من "النص" مجرد "ذريعة" أو "مطية" لـ"البرهنة" على "صلاحية" المناهج. فالأساس هو "بناء الموضوع" وفي المنظور الذي لا يحيد عن قواعد المنهج التاريخي. غير أن السؤال الذي يوحي به نص العروي: هل قدر النقد الأدبي أن يكون مجرد "ملحق" أو "تابع" بـ"الدراسة التحليلية للواقع الاجتماعي"؟


1 ـ بنسالم حميش: معهم حيث هم (حوارات)، بيت الحكمة، الدار البيضاء، 1988، ص42.
2 ـ يتصور البعض أن اهتمام عبد الله العروي بـ"مفهوم الدولة" (1981) تزامن مع تحوله عن إيمانه بدور النخبة في عقلنة المجتمع العربي، وتجديد رهانه على الدور الحداثوي الكبير للدولة، والحاجة إلى بناء "نظرية في الدولة"... انظر في هذا الصدد: تركي علي الربيعو: المثقف الانتقائي بين الدولة والديمقراطية؟/ جريدة "الحياة"، 26/09/2005. والحال أن مفهوم الدولة، وربما بسبب من تأثير هيغل، "مصاحب" في "تحليلات" العروي وبدءا من مرحلة "النقد الإيديولوجي" التي ينتظم في إطارها كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" (1967).
3 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1995، صص217ــ 218.
4 ـ المرجع نفسه، ص228.
5 ـ المرجع نفسه، ص221.
6 ـ المرجع نفسه، ص228.
7 ـ عبد الله العروي: مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، 1993، ص 51.
8 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص 128.
9 ـ المرجع نفسه، ص131.
10 ـ تيري إيجلتون: النقد والإيديولوجيا، ترجمة فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، 1992، ص60.
11 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص223.
12 وهو في الأصل دراسة نشرها جاك دريدا من قبل، انظر:
LA FORME ET LE VOULOIR-DIRE, Note sur la phénoménologie du langage, Jacques Derrida, Revue internationale de philosophie, 1967-3, n° 81.
13 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص231.
14 ـ والكتابان مترجمان إلى العربية: الأول (الماركسية والنقد الأدبي) ترجمة جابر عصفور، وقد صدر في طبعتين: الأولى بالقاهرة عام 1985 (مجلة "فصول"، المجلد الخامس، العدد الثالث)، والثانية بالدار البيضاء/ المغرب عام 1986 (منشورات عيون ). والثاني (النقد والإيديولوجيا) ترجمة فخري صالح، وقد سلفت الإشارة إليه قبل قليل.
15 ـ رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار الفكر للدراسات والنشر، القاهرة، 1991، ص78.
16 ـ تيري إيجلتون: الماركسية والنقد الأدبي، ص27 ص31 صص53ــ54.
17- Lucien Goldmann : Le Dieu Caché, Ed. Gallimard, Paris, 1959, P 26.
18 ـ جورج لوكاتش: نظرية الرواية وتطورها، ترجمة نزيه الشوفي، دمشق، 1987، ص23. غير أن هذا الوصل الذي نقيمه بين العروي ولوكاتش لا يفيد البتة أي نوع من "التماهي" بينهما، طالما أن هذا الأخير ينتقد الأول في بعض المواضع وخصوصا من ناحية "قضية الواقع والواقعية في الأدب"/ انظر: العرب والفكر التاريخي، ص107.
19 - Jean Yves Tadie : La Critique Littéraire Au 20 siècle, Belfond, 1986, P157.
20 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص234.
21 ـ جابر عصفور: المرايا المتجاورة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1983، ص113.
22 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص233.
23 ـ فيصل دراج: المثال والواقع، دار الفكر الجديد، بيروت، لبنان، 1989، ص60.
24 ـ انظر في هذا الصدد ما كتبه الناقد المصري سيد بحراوي:
ــ "الشكل التابع كمعوق لوظيفة الأدب"/ مجلة "أدب ونقد"، العدد 28، يناير 1987
ــ "المضمون القومي للأشكال الأدبية"/ مجلة "أدب ونقد"، العدد 42، نوفمبر 1988. وانظر: نص الحوار مع سيد البحراوي: المضمون القومي للشكل: إشكالية جديدة؟ أم عودة لإشكالية قديمة؟/ الطريق، العدد الأول فبراير 1989، السنة: 48، المجلد: 48، صص 182 ـ 198). وانظر أيضا مقاله اللاحق: التبعية الذهنية في النقد العربي الحديث في مصر/ "أدب ونقد"، العدد104، أبريل1994.
25 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص237.
26 ـ المرجع نفسه، ص232.
27 ـ فيصل دراج: دلالات العلاقة الروائية، مؤسسة عيبال، فبرص، 1992، ص291.
28 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص183 ص234.
29 ـ فيصل دراج: دلالات العلاقة الروائية، ص329.
30 ـ عبد الله العروي: العرب والفكر والتاريخي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 1985، ص171.
31 ـ محمود أمين العالم: في الثقافة العربية (حوار)/ آفاق، اتحاد كتاب المغرب، العدد 1، ربيع 1989، ص71.
32 - George Lichtheim : LUKACS, Tr : Sylvie Dreyfus, Seghers, Paris, 1971, P85.
33 ـ يقول العروي: "ويجب على القارئ أن يحتاط حتى فيما كتبه أنطونيو غرامشي حول فئة المفكرين والنخبة العضوية الطبقية لأنه يتكلم عن بلد نصف مصنع متأخر. يجب تمحيص مقالاته مع أنها أنفع ما كتب في المؤلفات الماركسية بالنسبة لحالتنا الخاصة"/ العرب والفكر التاريخي، ص156.
34 ـ انظر: طاهر لبيب: غرامشي في خطاب المثقفين العرب في كتاب "جرامشي في العالم العربي" (جماعي)، تحرير ميشيل بروندينو والطاهر لبيب، ترجمة كاميليا صبحي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002.
35 ـ عبد الله العروي: العرب والفكر والتاريخي، ص46.
36 ـ المرجع نفسه، ص202.
37 ـ جابر عصفور: الاحتفاء بالقيمة، دار المدى، سوريا، 2004، ص267.
38 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص231.
39 ـ انظر: عبد الرحيم الكردي: قضايا التعبير الأدبي عند لويس عوض/ المشروع الثقافي لويس عوض (جماعي)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، صص285ــ 300.
40 ـ عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحب (حوار)، نشر الفنك، الدار البيضاء، 1996، ص44. وعلى ذكر الرواية المغربية لا بأس من الإشارة إلى "مركزية" المغرب في تحليلات عبد العروي، لإيمانه بـ"اختلاف" الأوضاع في الوطن العربي. يقول: "إن الأوضاع جد مختلفة، ولا تنفع فيها إلا الدراسات العميقة، الجدية، الطويلة الأمد والمركزة محلياــ فملاحظاتي تنطبق أساسا على المغرب الكبير وبالخصوص على المغرب الأقصى وإذا عممت فلأن الموضوع يقتضي ذلك التعميم ضمنيا"/ العرب والفكر التاريخي، ص212.
41 ـ عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحب، ص44.
42 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص228.
43 ـ عبد الله العروي: العرب والفكر والتاريخي، ص206.
44 ـ عزيز العظمة: التراث بين السلطان والتاريخ، الطبعة الثانية، دار الطليعة، بيروت، 1990، ص121.
45 ـ عبد الله العروي: التحديث والديمقراطية (حوار)/ مجلة "آفاق"، اتحاد كتاب المغرب، العدد3/4، 1992، ص148.
46 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص239.
47 ـ المرجع نفسه، ص243.
48 ـ عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 1992، ص161.
49 ـ عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحب، ص83.
50 ـ المرجع نفسه، ص44.
51 ـ جهاد فاضل: أسئلة الروايةــ حوار مع الروائيين العرب، الدار العربية للكتاب، (د، ت)، ص239.
52 ـ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص242 ص246 ص226.
53 ـ المرجع نفسه، ص226.
54 ـ جابر عصفور: آفاق العصر، دار المدى، دمشق، 1997ن ص202.
55 ـ عبد الله العروي: مذكرات حجرة في العنق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005، ص250.
56 ـ عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحب، ص45.
57 ـ انظر: بنسالم حميش: نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2004.
58 ـ جورج لوكاتش: نظرية الرواية، ص68.
59 ـ المرجع نفسه، ص29.
60 ـ عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحب، صص45ــ 46.
61 ـ المرجع نفسه، ص28.
62 ـ محمد برادة: اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة/ فصول، العدد الثالث، 1983، صص19ــ 20.
63 ـ بنسالم حميش: معهم حيث هم، ص39.