زهرة الأوركايد وأخواتها
كم يلزم من الوقت لردم هوة الذكريات وفتح مرآة النسيان العجيبة؟
لا شك أنه وقت طويل طويل قد يلتهم نصف العمر.
قبل أن تصاب بذلك الداء الجليل المسمى "الحرية " كانت مجرد فتاة بلباس محتشم موعودة بالفرح. تثبث عينيها على شاشة التلفزيون في انتظار مسلسلها المفضل.
على كل حال ذلك زمن آخر قد ينحدر العمر فيه نحو حدائق العشرين. ولا شك أن كل إنسان يقدر قيمة تلك السنوات الملأى بالحبور. عندما كان المساء ينحدر على مهل نحو هوته السحيقة أقصد باتجاه حتفه الأزلي. ولم يتح لها بعد لتعرف أن الأحزان الهائلة والأفكار الكبرى قد تولد من تفاصيل بسيطة وربما هامشية حتى لا نقول تافهة. وأنى لها أن تعرف؟
على السجادة الصغيرة وقف أبوها يصلي الوتر ‘إذ بعد الفاتحة شرع في تلاوة الإخلاص بالكثير من التأكيد ". فيما راحت هي تفكر في تفاصيل اسمها.كان اسمها زهرة اسم جبلي بخلفيات ريفية واضحة المعالم ‘ ما سبب لها كثيرا من الإحراج في المدرسة. ثم اتجهت نحو المطبخ لتعد له الشاي كالعادة. و عادت تتعثر في ظلام الرواق الضيق تحمل الصينية الصغيرة بكأسين ‘ واحد لأبيها والآخر لمن يرغب ‘ قد تكون أمها أو إحدى أختيها ‘ سميرة في أغلب الأحيان لتتمكن من مرافقة الليل والنجوم وانتظار القمر الذي تراه خطيبها البعيد ‘ والذي لا تتوانى عن سؤاله كل ليلة كأنه مرآتها السحرية " هل يعود؟ " كان القمر يصغي وفي بعض الأحيان يبتسم في لا مبالاة.
وجمت إذ رأته يطيل السجود ‘ كأنما قرر أن يبقي قريبا من الله. وضعت الصينية فوق الطاولة ‘ ثم هزت كتفه ونادته بصوت خافت " بابا بابا " " بابا بابا بابا با.....بابابابابابا ".
فتحت عينيها ذات أربعاء لترى الغرفتين تتسعان ‘ والريح تهز النوافذ و المطبخ الذي كان يضيق بأربعتهم صار مثل الثوب الفضفاض ‘ والمستودع العاري إلا من الظلام ‘ والبئر الجافة. سميرة تنظر بأسى ‘ فخطيبها لم يكلف نفسه حتى حضور العزاء. " حسنا ليبعث برسالة قصيرة ‘ ألا يتسع يومه لجملة موجزة؟ ! أيعجز عن القول " إنا لله وإنا إليه راجعون؟". منذ ذلك اليوم لم تجرؤ سميرة على مواجهة القمر لإلقاء تحية المساء و التحديق في وجهه.
أما زهرة الفتاة صاحبة الاسم الجبلي فكان لها رأي آخر. إن ترتيبها الوسطي يضعها أمام خيارات صعبة ‘ إذ تتطلع نحو الغد كما تنظر إلى الأمس ‘ هذه هي عقبات الترتيب الوسطي تقول زهرة. تبتسم في أسى إذ ترى سميرة تتطلع نحو الغد كأنها تعد حبات خرز في عقدها الرخيص. تهمس " مسكينة سميرة ‘ لا تعرف أن الخبز والماء والملح والصابون والدواء لا تنزل مع حبات المطر ‘فتتثاءب كالقطة وتنظر عبر النوافذ الصغيرة ‘ ثم تعود إلى جلستها تحلم أمام جهاز التلفزيون القديم ". مالذي تفعلينه الآن يا زهرة؟ قضى والدك فوق سجادة بالية لعله الحظ الوحيد الذي ناله في الحياة. وما ذا ينتظر عامل يومي تتشقق أصابعه ويجف عرقه مرارا قبل تحصيل خبزه القاسي؟ ها قد رحل وتركنا في العراء ‘ لن يرى بيتنا ذو الغرفتين الصغيرتين أجرة.
عند السادسة وقفت زهرة في المحطة تنتظر ‘ تحسست شهادتها في الخياطة داخل الحقيبة اليدوية العتيقة ‘ فكرت هل تجد من يوظفها؟ وهي التي تخرجت من مركز التكوين المهني منذ شهرين فقط ‘ على أمل توفير بعض المال لشراء الماكنة. هل ستقبل صاحبة المحل بتلك التوصية؟
مضت مترنحة داخل الحافلة تعلق ذراعها في السقف وتزاحم التلاميذ والعمال والبطالين ‘ نظر إليها بعض البنائين ثم غضوا أبصارهم. أمام الموت لا يملك الإنسان إلا أن يطأطئ رأسه. وكلهم يعرف من تكون " هي ابنة المرحوم "
اتجهت لمحل السيدة " فتيحة " تحمل توصية من قبل جارة عمتها ‘ الزبونة الأولى في الورشة. بدا الشارع خاويا في الصباح الخريفي الباهت ‘ وخطواتها المتسارعة فوق الإسفلت تعري ارتباك قلبها. ذكرت العنوان من جديد بمحاذاة "السجن الأحمر " خياطة للنساء مع جهاز العرائس.
وحين قرأت اللافتة ذات الخط الأسود الرديء ‘ تأكدت فعلا أنها تقف أمام المحل المقصود فخفق قلبها ‘ وانتظرت إلى غاية السابعة والنصف ليشرع أبوابه.
حسنا لقد قبلتها ‘ فقط عليها أن تلزم الجدية وإلا ستطرد " قالت السيدة فتيحة والله المحل فيه الكثير من الفتيات المدربات ‘ ولكني لا أستطيع رد طلب السيدة مريم ‘ مريم غالية على على قلوبنا ‘ مقامها عال ‘ لا أستطيع رد طلبها ‘ لقد حكت لي عن ظروفك لهذا سأقبلك. يبدأ العمل عند السابعة والنصف وينتهي عند الرابعة والنصف مع نصف ساعة لفسحة الغداء ‘ لا أريد أي تأخر ‘ تعلمين النتيجة لا داعي لتذكيرك. منذ اليوم ستبدئين بكي الملابس وتثبيت الأزرار وقص الخيوط الزائدة وبعدها نرى... "
وعادت مثقلة بالفرح بعد شهرين تحمل راتبا ‘ للمرة الأولى في حياتها تتلقى راتبا ‘ صحيح أنه لا يدثر جميع الأجساد في البيت ولكنه راتب على كل حال. منذ الآن عليها أن تعمل وأن تدخر لتشتري الماكنة. هاهي تسير على خطى والدها لا تأمين ولا عطلة ولا منح. ولكن ماذا تفعل غير أن تعمل؟ ثمة وصفات طبية تنتظر فواتير الكهرباء ‘ أجرة الحافلة لها ولأختها الصغيرة سناء ‘ كتبها المدرسية...
أليست سعيدة بعملها؟ ليس بعملها فقط بل بحريتها ‘ بالصباح الذي تستقبله والهواء المنعش الذي يلامس وجهها ‘ وبقدرتها على خلافة والدها ‘ بالأمانة التي طوقت عنقها ‘ بالراتب الذي تحتال في تجزئته ‘ تضلل الرغبات الصغيرة ‘ الثوب الجديد والحذاء اللماع. تضحك من نفسها ‘ وهل بلغنا هذا الحد من الرفاهية؟ الحمد لله كأني ولدت من جديد " يخرج الحي من الميت " سبحان الله !
هاهي تتقدم، ففي غضون خمسة أشهر أمكنها الجلوس خلف الماكنة الثقيلة ‘ داخل المحل الذي تغطيه الأثواب النسائية الجاهزة ذات البريق والتطريز الذهبي ‘ ألوان من العدس والسمسم والعقاش والخيوط الذهبية والحريرية الملونة ‘ وهاهي تلتف حول عنقها مثل شباك العنكبوت إلى اليوم. كم مضى من الوقت؟ عشر سنوات؟ إثنتا عشرة سنة بالتمام والكمال ّ منذ رحيل والدها. أشياء كثيرة تغيرت. هرمت أمها دفعة واحدة ‘ لزمت الفراش واستأنست بالأدوية. تزوجت سميرة ورضيت بقدرها واستغرقت في الطبخ والغسيل وتقسيم الراتب الهزيل. وهاهي سناء ترقص في حفل تخرجها. وها هي زهرة الفتاة ذات الاسم الجبلي تمد يدها إلى قطع الحلوى تتذوق طعم نجاحها ‘ دون أن تشعر بحرج اسمها.
أكره سندريلا
المقعد الإسمنتي بارد، يتحدى اليوم الشتوي ذا النكهة الصيفية. التمرد قد ينتقل أيضا إلى روح الطبيعة. البرودة الحادة تنفذ إلى عظامها وهي لا تتزحزح، ترابط على مقعد اللحظة المنفلتة، تقطر ذرات فرحها التي تناثرت في الأفق المعوسج.
كانت جميلة، كما تكون النساء في السادسة عشر، بل إنها فاتنة كما تكون فتنة الثامنة عشر،حتى بعد العشرين وفي الثلاثين مازالت بالفتنة المشعشعة ذاتها مع بعض الألق الداخلي الذي يفضح النضج، فما الذي يعيق شفتيها المكورتين الصغيرتين عن الابتسام؟
وكان هو يقاوم الخوف والقهر متحصنا بأذيال جمالها الأخاذ، قد يكون الجمال بلسما،كأن يتهيأ لدى عماد مثلا دثارا ضد النقص، ضد الغرور، وضد الهزائم المكورة عند عتبات البيوت، هزائم الصباحات البائسة في المكاتب وفي قاعات الدرس المضغوطة بالأرواح الهائمة تبحث عن النظائر.الديك أيضا ينتابه مثل هذا الشعور المخدر فينفش ريشه الزاهي. يحتمي من الخوف بموسيقى صوتها المترقرق، برفرفة ابتسامتها، بعطر أنفاس شبابها. وهاهي تغلف أيامه اليابسة بلون وردي، تؤجل كهولته، تقاوم بيديها الطريتين طيورالنحس التي تتربص بأيامه وتهئ سريرا دافئا وقهوة معطرة بالحنين. باختصار كان جمالها عقارا مضادا للشيخوخة التي وضعت بكل حذر توقيعا لطيفا على فوديه، توقيع هو من الرقة واللطف لا يكاد يرى. لهذا وتماشيا مع الوضع، راح يناديها ضاغطا على كل الحروف ــ كعهد من يعرف أسرار الصنعة ــ سندريلا.
اسمها ليلى، اسم له موسيقى وأذيال طرزتها الحكايات، اسم له أجراس وتاريخ مدوزن بالشعر والعشق والأصداء البعيدة والأنات الخافتة، اسم يلتحف غلالة الليل، ورجع نايات في الصحراء، ونشيج طيور و إهماء مطر صيفي. له ماء صاف وجنات أندلسية وحدائق وأغاريد. أحقا كنت كل هذا؟ تسأل نفسها ذات مغيب.
تجلس في الحديقة العامة لا مبالية بعد أن طلبت استراحة يومين، منحها الطبيب عطلة مرضية، وهاهي النظارات السوداء تتكفل بالمهمة وتشرف على بقية التفاصيل. هاربة من العيون، من العالم الموبوء بالغبار والمرض والعاهات. وفي جدران القلب المتصدع أوشام ونقوش ورمال منسربة ومعزوفات ريح خريفية. إلى جانبها ترقد الحقيبة اليدوية الحمراء كانت هديته في زمن التوهج. رمقتها بطرف عينها، كان يفترض أن تكون سوداء، نعم هذا صحيح. تقول في نفسها تبدو الدنيا بخير؟ نعم. ولكنها ليست بخير، المقعد الإسمنتي يحملها بعد إذ أبت سيقانها مواصلة المسير من أجل تغيير عجلة النجدة،يحدث هذا أحيانا في منتصف الطريق وربما في بداية الرحلة، الأسوأ عندما يحدث في النهاية ويسدل الستار وتتوهج الأضواء.
هي ليست على ما يرام، الحقيبة الحمراء تصرخ بالإعلان،كان يفترض بها أن تتجلل بالسواد. حسنا لم السواد؟ فليست حزينة ولا تتوشح ألوان الحداد، فقط هي غاضبة من سندريلا، سندريلا هي من نثرت الرماد الذي ملأ حلقها. وحلت ضفائرها الطويلة فتساقط شعرها كوريقات الخريف الذاوية.
عندما دقت الساعة منتصف الليل ــ ساعة الأخطار والمهام الكبرى ــ انقشعت الكذبة، تناثر ثوبها الأميري أشلاء و ذرات رماد وفي تلك اللحظة الحاسمة أشاح الأمير بوجهه رأى ظلالا قاتمة تحت عينيها. قال لها: أنا ذاهب. في تلك اللحظة الحاسمة كان عليها أن تقول: لا، وبصوت قاطع كأجراس الإنذار. كان عليها أن تقد قميصه من قبل هذه المرة، ليتوقف لأن المكبح كان في يدها فلم أفلتته؟
اليوم وفي الحديقة العامة والعالم يغفي خلف ظهرها، عرفت سر "لا " ومعدنها الأصيل، إذن هي التي تصنع المصائر، وتمنح الرجل طاقة جنونية من أجل مطاردة عطرها ومنع دقات ساعة منتصف الليل اللعينة، ولم لا اقتفاء أثر قدميها الحافيتين، أهذا كثير عليها؟ أهذا كثير على جمالها وشبابها؟ أخ من ينظر اليوم لأزهار الجبل؟
الآن هاهي تراه يذوب في الفراغ، وعيناه خامدتان، موقنة أن الرجال مثل الدنيا ينقادون للحمقى أكثر. لو أنها قالت "لا " فحسب، لتوهج الكون ولاح وميض باهر حملها على جناح غيمة وطوح بها بعيدا في أرض عشتار. ولكنها في ذلك الصيف القاسي حركت رأسها نحو الأسفل: أي نعم. حركت رأسها نحو الأسفل فتوارى أميرها، أمير الثلوج.
ترمقني الآن من علياء شرفات قلبك المترع، أعرف أن الركح لم يعد لي ثمة فراشات كثيرة تدنو من الضوء، لتعلو كومة رمادك، رماد سجائرك اللعينة التي تماهي رائحة الرجولة المفتعلة. وليكن فهناك جولات كثيرة قادمة. حركت رأسها بعزم وزمت شفتيها وقامت من مكانها.
سموك: حب أمريكي
ــ أوه عزيزي جون الطيب: كم هو ظريف! انظر إلى عينيه الوديعتين النجلاوين، ما أجمله! يبدو حزينا.
ــ ما اسمه؟
ــ سموك (دخان)
ــ اسم جميل لا يخلو من موسيقى وجمال. بحق السماء، لا تقل إنك تحن لعهود التدخين يا عزيزي الكولونيل.
ــ كلا يا عزيزتي، مطلقا؛ القصة وما فيها أن المسكين سموك كاد يهلك من فرط الدخان. أوه صغيري المدلل(يربت على ظهره) أحبه يالورا، إنه جميل وظريف، سنعتني به جيدا. سنمضي وقتا رائعا برفقته، لحسن الحظ أن البيطري أكد سلامته، إنه بخير، فقط يحتاج لبعض الراحة والغذاء الجيد. أتذكرين كم عانيت من الشوق، بعد عودتي إلى بسطن، ثلاث سنوات وأنا أتقلب على فراش من شوك وجمر، لا يمكن نسيان تلك الساعات الرهيبة وليلها الطويل. شكرا لوقوفك إلى جانبي في هذه المحنة يا لورا، شكرا لكفك الدافئة التي أعادتني إلى الأرض، لكم بت يقظا أفكر فيه، هل أكل؟ وهل شرب؟ وهل زاره الطبيب؟أتراه نجا من القصف والقنابل؟ أعرف أنه لم ينم جيدا بسبب الانفجارات، ثم إنه يعاني كالأطفال من الكوابيس الليلية، فينهض من نومه وينهقق في منتصف الليل، ولولا حنو كفي لكان قضى.
ــ تعال هنا يا صغيري(تضم لورا رأسه)
ــ لا تبك نحن معك، ولى زمن الخوف. سماؤنا صافية واكلنا وفير وماؤنا عذب فما الذي يشغل بالك يا صغيري؟.
ــ أنت تفرطين في تدليله.
ــ هذه هي طريقة شفائه: الحب.
ــ أمزح فقط يا عزيزتي.
أنسيت الثلاث سنوات التي مرت؟ لكم فكرت فيه وحيدا مهملا في بغداد. تصوري، يوم التقيته، لم أصدق أبدا أنه سيبقى على قيد الحياة على الرغم من توصياتي وإلحاحي تلك البقعة من الأرض تشتعل وقد تحرق كل شئ، هي كالإعصارتقلب جميع الحسابات، ثم إن الناس هناك يأذون الحيوان والحمير بصور خاصة، آه يا عزيزتي، بل يذلونه، والأدهى أنهم يحرمونه حق العيش، فقد يقتل الرجل حماره بسبب الغضب، من يدري؟
حين رأيته وسط الدخان والأشلاء، خفق قلبي بعنف للجحش الصغير الذي راح يقتفي آثار قدمي أمه، أمه قضت أثناء القصف والأحمال فوق ظهرها، هناك لا أحد يرفق به أو يرق لحاله، حتى الصبية الصغيرة التي كانت تتبعها لم تشفق عليها ولا على وليدها الأبيض كالبراءة، المسكينة قضت في الغارة، حتى في لحظاتها الأخيرة كانت تنظر بأسى إلى جحشها لعلها كانت تبحث عن وجه تعرفه لتستأمنه سر طفلها الصغير الوادع، نظرت إلى الصبية فلم ترها، كانت أشلاؤها قد تناثرت في كل الجهات، نظرت لصاحبتها الأم فرأتها ملقاة على وجهها.
ولأن الموت كان مستعجلا حيث تراكمت المهام لم يتسن لها أن تعرف في الحياة غير هؤلاء القرويين الأشقياء، ولسوء الحظ أنهم ماتوا جميعا فلمن تعهد بصغيرها؟ ثم فجأة وفي لحظات الوداع الأخيرة كأنما انتبهت إلي، وأنا حدست الأمر، فيما يشبه الإلهام. تصوري رأيت البريق الخاطف في عينيها، نعم لقد فعلت يا لورا، نظرت إلي ثم نظرت إلى سموك الصغير وأشارت بنظرتها الواهنة، ظلت تنقل بصرها بيني وبينه حتى نفدت آخر ذرة أوكسجين وتمددت كما النائم. وأنا فهمت الرسالة، وأقسمت أن أتعهده بالرعاية المطلقة مدى الحياة مثل حفيد لي
ــ أليس جميلا يالورا.
ــ بلى يا عزيزي كالحلم الأمريكي.
حزمة قوس قزح
هواء ساخن وغيمة يتيمة في شتاء فقير. قليل من الحمق يكفي لقهر كبرياء بلدة يشهد التاريخ بقصة حملها المتجدد لسنابل القمح ‘ هاهي البلدة الصغيرة في شرق الجزائر تتعطر باسمها العتيق " فج الخير" تضع يدها على خدها ‘ تتأمل العمارات الغبية التي ارتفعت من رحمها كمخلوقات مشوهة غريبة ‘ لا تحيد عن رسالتها المرجعية احتضان أسرّة النوم.
الآن وقد تراجع جموح أشجار الخروب التي طالما احتضنت الهواء في الشوارع يمكن القول إن البلاط الذي سيغير وجهه في السنة القادمة قد نام بسلام ‘ باعتباره الكائن الوحيد القابل للتجدد.
هنا كان لمنى بيت. وقبلها كان لها حلم. وقبل الحلم كان الوجود وكانت الطفولة المعتقة في الشمس والغبار والحرائق. وقبلها جميعا ولد مشروعها الكبير أعذرني فلم أجب عن سؤالك الأول: من تكون منى؟
نستطيع القول وبسذاجة منافية لكل النوايا السيئة ‘ وباختصار إن منى هي الفتاة الباسمة. لا تضحك من فضلك ‘ فلست أروي قصة ما قبل النوم لابنتي ‘ ولكني أروي قصة حقيقية عن فتاة عرفتها ‘ أنت لا تفهم ‘ لن أقول فتاة سأقول إنسانة تفاديا للاحتمالات الوهمية المضمرة في الداخل فلم تكن بيننا تلك الارتباطات العاطفية المعقدة التي عادة ما تنأى بنا عن التعبير عن تجليات أرواحنا الحقيقية. بعيدا عن كل تلك الحسابات ذات النهايات التراجيدية غالبا و التي تتربص بالمحبين عند كل منعطف ‘ أستطيع القول ودون مبالغة أننا عشنا الحرية في أبهى صورها ‘ أقول لك إن معرفتي بهذه الفتاة كانت بعيدة عن كل أغراض دنيئة ‘ طبعا ليس من السهل أن تتجاهل فتاة مثلها.
لهذا انطلقنا منذ البداية من نقاط واضحة كأنها معالم في الطريق بعيدا عن أذيال المثالية الحالمة. فقد كانت لي ابنة وزوجة وبيت ومائدة عامرة وفراش دافئ ‘ وهي أيضا كان لها خطيب وأحلام ومشاريع وحجارة تنتظر الترتيب وفجوات بحاجة لخيالها الخلاق. لهذا حينما أطلعتني على مشروعها رحبت به منذ البداية لأن ثمة تحصينات وجدران مقاومة للاختراق وصمامات أمان في كل زاوية
كانت متخرجة جديدة ستلج عما قريب أدغال النفس البشرية لا تتوانى ملامحها ــ عيناها بالخصوص ــ عن الإعلان المباشر عن حضورها الآسر. ماذا كنا نسميها يومئذ؟ نسمة الهواء؟ لا. ندى الأيام؟ لا ‘ كيف سميناها يومئذ؟ حزمة قوس قزح نعم هو هذا. قل لي بربك لم هذه التسمية؟ الأمر بسيط يتعلق بفلسفة رأيناها حينئذ غريبة وبلا هوية.
جاءت إلينا ذات صباح شتوي عابق بالبرد والجليد وقد طوت مطريتها منذ أسابيع داخل حقيبة يدها ‘ محملة بباقة من الورد. وقفت وسط القاعة المشبعة برائحة القهوة والشاي وروائح الجروح والأنات والضعف والشيخوخة ‘ كان الجميع يعرف أجواء المستشفى ‘ وشخصيا كانت ركبتاي تبدآن في الارتعاش كلما ولجت عتبات الباب الخارجي ‘ وطبعا الداء عام حتى أنك في كثير من الأحيان لا تستطيع تمييز الطبيب من المريض أو العكس ‘ كانت حالة الاكتئاب عامة ‘ حتى ولو خرجت إلى الشارع ووسط الأصحاء سترى ودون جهد كبير ملامح الداء بادية على الوجوه والأخطر من ذلك أنه بدأ يزحف باتجاه نضارة الأطفال. لا أحد على الإطلاق فكر في الحل: لم وجوه المدينة بأكملها ذابلة ومتغضنة ‘ كأنما تتهيأ للنهاية؟ وضعت منى باقة ورد على الطاولة وقذفتنا بالسؤال ‘ هل هو الغذاء أم الماء أم الهواء؟
والتفتنا جميعا ‘ كل الأطباء التفتوا نحو الصوت ‘ أعني أن كبار الأساتذة في الطب وذوي الآمال العريضة أيضا فعلوا. بالحركة ذاتها والاستدارة المستغربة. للمرة الأولى أرى منى ‘ بل أنظر إليها بتمعن ولعله كان تحديقا يدفع إلى الريبة. الغريب أنها ظلت تنتظر الإجابة ‘ عيناها تطرفان بهدوء وابتسامة راعشة تحط بلطف على شفتيها ‘ ولون وردي فاتح يكسو وجهها. أنا ــ ولعل الجميع فعل مثلي ــ بقيت أنقل بصري بين منى وبين باقة الورد التي من كل الألوان الوردي والأحمر مع صفرة النرجس و بياض البابونج وخضرة السيقان وأسأل نفسي أيهما منى وأيهما باقة الورد؟
كأنها قد قرصت آذاننا وهي ترى زحف الشيخوخة المبكر نحونا كما لو أنه التصحر يغشى البلدة الزراعية التي تضع يدها على خدها وتتأمل في أسى المخلوقات الغريبة التي طلعت من رحمها فيما ذكرى سنابل القمح تؤرق لياليها الطويلة المليئة بالسهاد.
نقرت منى بأصابعها الرهيفة على الطاولة ‘ الآن أيها الحكماء ألم تقسموا أمام الله بمد يد المساعدة لكل من يحتاج إليها ‘ وهاهي بلدتكم تتوجع من داء غريب ! إذ لا أحد سيعرف سره غيركم ‘ فماذا أنتم فاعلون؟ ألا تسمعون أنينها الخافت؟ وصفرة وجهها كأوراق الخريف؟
أعرف أننا عدنا من الإضراب منذ أسابيع قليلة وبخطى ثقيلة نحو الحاضر لتبرئة المستقبل من الآثام إذ لا بريق يومض في الأفق ‘ سنبقى جميعا أسرى هذا الداء الغريب الذي اجتاح حياتنا ‘ سنسميه ندرة حزمة من فيتامين قوس قز ح وهو المسبب للاكتئاب والمؤدي لاسوداد الوجه وذبوله وارتخاء الركبتين وانطفاء الابتسامة والشيخوخة المبكرة والموت العاجل. لهذا كثرت قوافل الحراقة باتجاه الشمال أقصد البحر. ومن أعراضه الأخرى التنقل بين المكاتب والإدارات لإعداد آلاف الملفات أو الانضمام إلى قائمة مفتوحة برصيد فارغ تسمونها جميعا جيل "الحيطست " أو ربما إهداء البيوت المتحركة التي هي أجسادنا لألسنة النار هل فكرتم جميعا؟ أرأيتم ما أرى؟ وكنا فعلا قد رأينا الداء يزحف نحونا مذكرا إيانا بالطاعون الأسود والمجاعات فارتعدنا ‘ ورفعنا أبصارنا نحو منى فرأينا عينيها تتقدان بشعاع ملون من ألوان قوس قزح‘ وكانت تلك بداية بحثنا عن العقار المضاد للشيخوخة والاكتئاب والموت المبكر وكان يكمن هنا في أرواحنا وقلوبنا وعقولنا ومواضع أخرى ستضاء ذات يوم. فقط لأننا عرفنا أن قليلا من الحمق قد يقتل مدينة بأكملها. ولن يبقى فيها غير وجه البلاط القابل للتجدد. وهواء ساخن وغيمة شتوية عقيمة.
نجمة
هي بالذات لم يكن ذلك متوقعا منها هي الصامتة الضاحكة كما يسمونها، كأنه ليس من حقها أن تمرض. في داخلها كانت تعلن أنها أحق الناس بالمرض، بالتحديد هذا النوع من المرض الغريب، يكفي فقط أن تتطلع كل صباح إلى الغبار الذي ينسج خيوطه الواهية حول النوافذ والبيوت يهيئها لسبات قادم، يكفي فقط أن تلقي نظرة بطرف عينها على الأطفال المعشقين بالذباب، كأنما انتقل الغبار من الساحة ليلبسهم بذلته الرمادية تلك، حسنا دعنا من التفاصيل الهامشية، إذ القرى وأطفالها مشهورون بمثل هذه الخصال ناهيك عن الطرق المتربة وشح الماء وثرثرة النساء في الساحة أو عند عتبات البيوت تقاليد ورثتها القرى أبا عن جد كما يقال. لكن موضوعنا ليس هذا موضوعنا هو الصامتة الضاحكة، أعني نجمة ــ صحيح أنها نجمة القرية ــ ولكني أريد المعنى الحرفي للكلمة أقصد اسم العلم المجرد من كل تلك الأذيال، طبعا لن ننكر الجهد الذي بذلته الأم وهي تلهث تحت ضغط حملها المتثاقل في أشهره الاخيرة وتعصر الذاكرة بحثا عن اسم: إن كان ذكرا ــ لعلها كانت تمني النفس ــ بما يوفر لها بعض الرفعة لتضمد به جروح الرحم الممزقة، ستسميه محمد على اسم أبيها، وإن كانت أنثى ــ تتمنى في سرها ألا يصدق الاحتمال ــ كيف ستسميها؟ ستدع ذلك للحظة، لان لكل لحظة إلهامها.
وعندما صرخ القادم الجديد إلى دنيا الغبار والشمس الحارقة وأعلنت القابلة تفاحة بصوت يشوبه الانكسار: إنها أنثى. فكرت في الاسم. والواقع أنه لم يكن عليها أن تجهد نفسها في البحث عن اسم، سيتكفل الطالب سي أحمد بحل المشكلة، سيمنحها كما لو أنه يهدي سلة من الفواكه ثلاثة اختيارات: خيرة و مليكة و نعيمة.
راحت تقلبها بينها وبين سلفتها التي حضرت لها الغداء طبقا من الشخشوخة الساخنة بقطع من الدجاج الريفي ( العربي) تضحك المرأتان في أيام الصفاء وتنسل بينهما خيوط العداء أيام الشقاء، هذا أمر اعتيادي بين نساء البيت بل إنه يتقاطع مع خصومات الأطفال. خذ لك مثلا فقد يحدث حول مائدة القهوة العامرة بالضحك أن يخترق شجار مفعم بالحقد تلك الرائحة اللذيذة التي كثيرا ماتتبعها مرارة قاتلة. على كل هذا لا يحدث دائما إنها اللحظات المشحونة وحدها المسؤولة عن تازم الأوضاع، كأن تخطب ابنة الجيران بينما السلفة التي تكبرها بثلاث سنوات تظل تنتظر عند عتبة البيت، أو مثلا أن الكنة الصغرى تشتري قطعة ذهبية جميلة فيما الأخرى تتوارى خلف ظلال حماتها المشرئبة نحو السماء. اللحظة كانت لحظة صفاء على الرغم من الغصة الخفيفة المتكورة في صدر النفساء وفيما راحت المرأتان تجربان الاسم في شكل مناداة: يا خيرة، يا مليكة، يا نعيمة، أطلت الحماة وأعلنت بصوت قاطع كل الاحتمالات سنسميها نجمة، أنا رأيتها نجمة عند الفجر الحليبي الذي أطل علي كانت نجمة وحيدة فنذرتها لهذا الاسم.
وبطبيعة الحال كانت نجمة تعرف شذرات من حكاية اسمها التي كثيرا ما اندلقت من شفاه أمها أو عمتها عقيلة أم فارس، ولكنها سمعتها بلذة من جدتها المرحومة زينب في ليالي الشتاء الباردة وفي ضحى الصيف وفي تعريش المساء. هل كانت جدتها زينب تصر على أن لاسمها أصداء، بمعنى آخر هل عليها أن تكون نجمة بالمعنى الحرفي لاسمها؟ فعلا كانت مثل هذه الأسئلة كثيرا ما تراود نجمة في أيام مراهقتها المنهكة بالتعب والطموح في أن تجسد اسمها. على كل حال هذه مجرد ذكرى واهنة تمر الآن لتؤكد لها أن ذاكرتها بخير بل هي قادرة على الذهاب أبعد من ذلك إلى طريق المدرسة الممتدة كالثعبان حتى ليخيل إليها أنها بلا نهاية ومع ذلك كانت رجلاها تستميتان في حملها للوصول بها إلى المقعد الخشبي العتيق، يحدث كثيرا أن تصل عند منتصف الدرس فتنال جزاءها، ويحدث أحيانا أن تغافل المعلم المنشغل بالحديث مع زميله في الحجرة المجاورة، وقد يحدث وهذا هو الأهم أن يكون منهمكا في عقاب واحد من التلاميذ الأغبياء الذين يتعمدون كتابة الهمزة على السطر في كلمة رأس. وهكذا تنفلت من جنون تلك اللحظة وتستريح في مكانها متحاشية نظرات زميلتها التي تتربص بالوشاية على لسانها ويكاد لعابها يقطر بها.
إذن ما هذا الشئ الغريب الذي أصابها عند الفجر الحليبي ــ كما وصفته جدتها ــ لقد استيقظت في مثل ذلك الوقت الغامض والذي كأنه خارج عن عقال الزمن بمعناه الصارم لتجد نفسها ليست هي، إنها لا تحس بوجودها. نعم إن العبارة تتردد على كثير من الألسنة ولكنها تعيشها كواقع ملموس بعيدا عن ذلك المعنى المجازي المحفوف بمداعبات وجودية لامعة، قد ترتسم في أذهان الشعراء والفلاسفة، وهي تحس بالاختناق وبحاجة غريبة إلى شئ ما، جوع غير اعتيادي لا يعالجه الطعام. ولكن ما علاقتها هي بالذات بكل ذلك؟ أهذا هو الجنون؟ أم أنها تمشط حوافه المسننة عن قرب؟ المشكلة ليس في ذلك السؤال الحائر على شفتيها ماالذي يحدث؟ كأنه الفاجعة التي تزحف نحو حياة هي في الأصل قاحلة استهلكها الغبار، ولكن مالعمل؟ لقد نامت على حزن بل إنها باحت ببعض الأسرار للمخدة البيضاء التي رافقتها منذ أمد هدية جدتها زيادة على اسمها. عليها أن تمحو تلك الصفرة التي تغلف الوجود هكذا صارت حالتها الجديدة لتكتشف أن العين وسيط غير دقيق ينقل رؤية الداخل لا أكثر، أما ما تنقله العين وتجتهد في تقديمه على أساس أنه الحقيقة فلا أساس له من الصحة، أين أنت أيتها الحقيقة؟ رفرفي كيفما يحلو لك فوق القمم، نامي مع الآلهة بين أحضان الأولمب فثمة مكانك بعيدا عن أرضنا المعشقة بالغبار والدخان والموت. الحالة غريبة، وأمها كثيرا مانهرتها عن إحراق عينيها العسليتين الجميلتين في الكتب، بل إن أهل قريتها كثيرا ما يجاهرون بأن الكتب تؤدي إلى الجنون، ومن ثم يشرعون في تعداد الأسماء التي أردتها اللوثة، ويستغربون لصمتها وضحكها الدائمين، دون أن ينسوا إهداءها لقبا يليق بمقامها، فالناس هنا تحرص على إطلاق الألقاب كما تحرص على حياتها، وهي محظوظة إذ أفلتت من لقب مضحك يشبه الكتابة على الظهر أو الشتيمة المعلنة أو الرسم الكاريكاتوري.
حسنا ما الحل برأيك؟ وشهوة الحياة تتضاءل والغبار يزحف فيما الوجود من حولها يصفر والناس يزدادون هزالا ووجوه الصبية تتعرى من البراءة يوما بعد يوم.
كظمت حلما غائرا ترددت قليلا ثم أفلتت بعض الجمل في الهواء، وحين تردد صداها ذكرها بموسيقى وإحساس يشبه الشعر. تريثت هنيهة فتردد الصدى ذاته عندها أخرجت قلما وورقا وشرعت في الكتابة: نجمة.
طائر من سماء الوطن
في ذلك المساء، طبعا كان مساء عاديا تعطره رائحة القهوة والضباب الباريسي المختال، كل ما في الأمر أن ديب كان وحيدا في المنزل وحيدا حتى من الكتابة أي أنه بلغ الدرجة القصوى من الوحدة. وفيما ستائر الغرفة مسدلة عن آخرها تحصنا من مروق الهواء الشتوي باغته طيف. في البداية اعتقد أنها ظلال المساء وهذا كثيرا ما يحدث فقد تتراءى أمام المرء بعض الأطياف مجهولة الهوية، ككتلة طويلة سوداء، يحدث ذلك في حالات الضغط، بالتحديد في ذروة لحظاته الجنونية، يحدث أيضا في ساعات الوحدة المريرة التي تهيئ أنيابها لتنهش الذاكرة حسنا، كان ديب في ذلك الوقت عند آخر المساء قد عاد بكل وعيه المشتعل إلى سنواته بالجزائر: هاهي السنوات تزحف دون رحمة قلبها من حديد بارد وقلبه من نار، ثلاثون عاما وأكثر مرقت كالحلم، كيف هي الجزائر؟يقولون إن النار تلتهب بالبيت وقد أحرقت الفراش والأثاث والأطفال، رائحة الرماد تملأ صدره، هاهي الجثث تملأ الشوارع تزاحم المارة بعيونها المفتوحة تارة وتطل عليهم برؤوسها المقطوعة، هذا ليس حديث المخيلة على كل حال، بل هو وجع الكتاب الفارين إلى صقيع باريس، حدث أن استضاف بعضهم في شقته التي اعتقل فيها تلمسان: سجاد تلمساني ومحبس نحاسي ولوحة لمحمد اسياخم وموسيقى أندلسية تئن من المسجل بصوت الحاج الغفور. طبعا وهو ككل إنسان اقشعر بدنه وامتنع عن الطيبات جميعا، وهذا ليس من باب التكلف.لا ننسى أن للكاتب والشاعر حساسية اتجاه النار والدم بصورة خاصة عند هذا المشهد الدرامي عاد الطيف مرة أخرى كان ظلا في أوله جعل ديب يرفع رأسه ليستطلع القادم: طائر كبير مزركش طافح بألوان قوس قزح: الأبيض والأخضر الزبرجدي والأسود والنيلي والأصفر الفاقع. ثبت عينيه في عيني الطائر الجميل الذي ــ ويا للعجب ــ بدوره راح يحدق في وجهه الهادئ ويا للجرأة راح يفتش في عينيه عن سره المعتق، ويتفحصه بالوقاحة ذاتها من رأسه إلى قدميه.
فجأة خيل إليه أنه سمع همهمة ورأى الطائر يحرك رأسه في إشارة ذات دلالة عميقة، بل ولولا خشية المبالغة، لقال إنه رأى الطائر يبتسم، غير أن إعلان مثل هذا الخبر سيكلف الإنسان العادي الكثير من أسهم سمعته فما بالك لو كان كاتبا واسمه محمد ديب. لذلك تريث ولم يبد أي رد فعل معلن. لكن الطائر لم يمهله بل قال له بصوت رقيق واضح: ازو فلاون أي مساء الخير يا شقيقي الكاتب. طبعا لا داعي للتعريج على ردة فعل صاحبنا لأن الأمر متوقع والشرح فيه يطول. وحين استعاد نفسه، رد عليه ديب مساء الخير يا طائر المساء الجميل.
ــ ألم تعرفني يا شقيق روحي؟
ــ لا. رد ديب ــ من أنت؟
ــ قدمت نفسي من البداية، قلت: شقيقك في الروح والغربة.
ــ شقيقي في الروح والغربة؟
ــ حسنا ساشرح لك يا صغيري، سأضع بعض المعالم في طريقك، كأن رائحة البداوة مازالت عالقة بجلدك فأنت لا تهتدي إلا بالنجوم على طريقة الأسلاف. أنا يا صغيري مثلك طائر غريب هجر الوطن وكتب بلسان غيره. هل عرفتني يا كاتبي الوقور؟ أراك ترتدي الصمت قناعا يا صاحبي، ولكني أسألك بحيرة وببراءة الأطفال: هل قدر علينا نحن أبناء هذا الوطن المتعب بالدماء والهجرات والحروب أن نغترب مدى الدهر؟
ــ ولكن بالله عليك عم تتحدث يا صاحبي؟ أجبني من أنت؟
ــ لا تقلق يا رفيقي في المحنة، سأبوح لك، ولكن دعني أداعب بفرشاتي ذاكرتك قليلا، قل من فضلك يا سيدي الوقور هل قرأت " الحمار الذهبي "؟
ــ طبعا وكيف صرت كاتبا، لولا رحيقها ما كان هناك طريق للنحل، هذه أول رواية في التاريخ، ألا تعلم؟
ابتسم الطائر الجميل وأضاف أترى: حققت حلمي، أتدري ماهو؟ لا عليك، صرت طائرا كما اشتهيت، بالطبع لا تعرف معنى أن يصير المرء طائرا؟ يعني أن يحلق في السماوات التي يشتهي حرا طليقا، ينظر من عليائه إلى الأرض والبحر والمروج ــ أرجو ألا تفهمني خطأ لا أقصد التطاول الأجوف ــ كم هو رائع ذاك الشعور وأنت تحلق بعيدا، لا أعتقد أنك تحس مثل هذه اللذة مهما أوتيت من قوة المخيلة، أنظر إلي مثلا في تلك اللحظات النادرة التي حلمت فيها بتحويل كيسوس إلى طائر جميل قادر على تقمص حلمي، في لحظة الفرح الغامر حدثت الكارثة، لا غرابة فكل مغامرة لها ثمن مهما كان، لا يمكن نسيان تلك الفجيعة بأي حال من الأحوال. في تلك اللحظة المنفلتة التي ننتظر فيها أن يتحول كل شئ إلى البياض أو قل إلى الزهري تتجلل الدنيا بثوب أسود قاتم، الأمر ذاته حدث في اللحظة الفارقة التي انتظرت فيها تحليق كيسوس الجميل بخفة،وفيما راح ينفض جناحيه ليطير، تصور ماذا حدث، لا شك أنك تعرف النهاية، صار بكل مهانة مجرد حمار يذيقه الناس ــ جميع الناس على اختلاف طبقاتهم وألوانهم وأشكالهم بل وأجناسهم أعني النساء أيضا ــ شتى ضروب الذل من التجويع إلى الضرب، ومن الضرب إلى حمل الأثقال، ومن ذلك لتحمل عذاب الناس وحمقهم، أي حياة هذه التي يقضيها الإنسان يتجرع الألم والمرارة والعذاب، هل هي حياة برأيك؟ قل.
ــ لا أبدا ليست حياة تلك التي يمضيها الإنسان في الذل والعذاب والمرارة، أبدا يا أبولينوس العزيز. لك أرفع قبعتي ــ رد ديب بوقار ــ
يا بحر غزة
منذ فجر طفولتي والأحد كالوخز في حلقي‘ والشوكة الواقفة في صميم القلب. لماذا الأحد على وجه التحديد؟ ربما لأن طائرات العدو قتلت أختي ذات أحد‘ أو لأن أستاذ الرياضيات كان يأتي غاضبا ويصفعني كل أحد. أم لأني أصر دائما أن الآحاد والعشرات نفسها لا تتجاوب مع أحزاننا؟ لا أدري منبع هذا الإحساس بالضبط‘ ربما أيضا لأن جدتي كانت تكره
الأحد فورثتني الإحساس ذاته في جملة الميراث الثقيل الذي عهدت به إلي‘ كأن أحب لون الليمون الأخضر ما حييت‘ لأنه وحسب اعتقادها الضارب في العمق ما يعني أنني سأحظى بعمر طويل وصلابة‘ ربما يحدث ذلك‘ ربما يبقى في العينين بعض البصيص‘ لنرى‘ لنرى السماء بشمس وعصافير بدل المروحيات‘ ولنرى الأرض تخضوضر بأغصان الزيتون بدلا من الجرافات و الدبابات والمجنزرات والجنود المدججين بالحزن والحقد الثقيل الرابض على قلوبهم منذ عهد التلمود. قد تتنافى أحلامي مع الواقع وتتجاوزه في تهويمة سريالية‘ أشبه بالإغفاءة ولكن الحلم سلاح الحياة الأخطر على كل حال وما أنا متحرر منه على الأقل في المدى القريب. وأبي قال: إنهم اعتقلوه بسبب حلم‘ وضعوه في الزنزانة ستة أعوام لأجل حلم ولم أجد المبرر الكافي لأسأله عن هذا الحلمع ولم السؤال فحلمنا واحد يتشظى ملايين القطع ويضئ ليأخذ كل حصته‘ فكان أن قتلوه قبل أن يرى حلمه أو ربما لأن حلمه كان في مرحلة النضج وهكذا عجلوا بقتله حتى لا يقطفه. أمن العيب أن يحلم الإنسان بأرضه وبيته ومطبخه وبساتينه؟ أكثيرهذا على الحياة؟
لهذا حين مرت كوابيس الأحد‘ استفقت رائقا وابتسمت للشمس ولنسمة الهواء البحرية وللطفلة القابعة غير بعيد عني في الخيمة المجاورة تتنسم أخبارالحمائم التي تحمل في مناقيرها الوردية العشب والماء. الطفلة تبسط يديها الطريتين مثل وردة وتميل رأسها مع الأهازيج التي انطلقت منذ أيام.
اسمها ياسمين وعمرها سبع سنوات وعيناها عسليتان يتألق فيهما غروب مريع. ياسمين اليوم تتطلع نحو الشمس وتبتسم لأن الأحد رحل بكوابيسه الثقيلة وأحزانه وتوقعاته التي تصب دائما في الضفة الخفية القابعة خلف قشرة الابتسامة‘ وياسمين تجاهد لتبعد فلول الظلام التي تسعى من أجل الطفو والاندفاع نحو الأعلى كبقعة الزيت لاكتساب صفة الدوام‘ الظلام الذي يتأهب ليجتاح عالمها الأبيض بالرغم من كل شيئ‘ ولكن ياسمين تقف كالجدار وتبتسم تقاوم السواد برفيف ابتسامة‘ لا تبدو القوة متكافئة بالطبع كما في كل المواجهات. أكثر ما أتقنت فن الابتسام. شفتاها ترتعشان تتفتحان كفجر تلألأت خيوطه البيضاء‘ تتوكأ ياسمين على يديها‘ وأندفع نحوها لأرفعها قليلا قليلا‘ لترقب البحر. لماذا ترقبين البحر اليوم في هذا الفجر الراعش ياسمين؟ وياسمين لا تجيبني‘ تترك عيني تنزلقان مثل الحرير إلى ما كان يسمى من قبل ساقين أعني قبل القصف.
ياسمين الجميلة! تزحف نحو بحرغزة تتلمس الرمل الناعم ورائحة أعشابه التي تحيلها على زمن آخر أقل سطوة بالطفولة دون أن تتخلى عن حرفتها الأصيلة: الحلم‘ على الرغم من كل شيئ تحلم بالطيران كعصفور‘ تتطلع عبر الموج إلى الأفق حيث سيأتي الضيوف‘ كانت تحلم أن تقيم للضيوف الوليمة كما جرت العادة‘واكتفت بالنظر إلى الأفق الغائم لتبتسم وتحلم‘ بما تحلمين يا ياسمين الجميلة؟ لا أجرؤ عل السؤال أعرف مسبقا حلمها المريع مثل كابوس‘ و ياسمين تتشبث بثوب أمها المزخرف والمذيل برسومات قريبة تماما من أوراق الزيتون وتسألها وهي تحني رأسها دون أن تكف عن الابتسام: سيأتون؟ ما هيك يما؟ سيأتون مع الفجر سيأتون...
يحملون الشموع في أيديهم وأغصان الزيتون وريش الحمام...
ــ وأقلاما ملونة وأوراقا جميلة وبالونا صغيرا يما؟
ــ وبالونا صغيرا يما...
ــ وهل سيمنحونني الكرسي ذا العجلات؟
ــ نعم يما والكرسي ذا العجلات...
تتألق ابتسامة ياسمين الصغيرة وتنظر نحو الفجر الراعش يزحف ببطء يتحرر من غلالته الشفافة قليلا قليلا كما هي قاعدة الحياة. هنا القليل دائما يكفي: بعض الماء و الخبز‘ بعض الحليب بعض الدواء بعض الكساء... وبعض الحب أيضا يكفي. قليل من الحب يكفي‘ ينير دروب السنوات الطويلة الحالكة‘ قليل من الحب لقهر الظلام. أتريث أتنسم هباته المترقرقة وينشرح صدري. وياسمين وردة داخل السياج الشائك‘ تنظر نحو الأفق وتبتسم لأن الأحد قد انصرم بكوابيسه وثقله وقهر ساعاته الرمادية الطويلة.
دائما كان الأحد يوما مشبعا بالألم والموت وتمارين الرياضيات الشائكة والمعلم الغاضب وحتى الجوع كان له مذاق أشد مرارة. لهذا حين دقت الساعة منتصف الليل ابتسمت ياسمين ملء روحها كمن تخلص من كابوس ثقيل لأن تباشير الإثنين هلت. الإثنين يوم تشتعل فيه الذاكرة ويتلألأ القلب. لأسباب مجهولة‘ كنا نحب الإثنين لأنه يذكرنا بشموع المولد وحنائه ولأن حصة الرسم تكون في الصبيحة وتختفي الرياضيات ــ هذا احتمال وارد ــ بينما تحل الأستاذة اللطيفة بأثوابها وألوانها المزركشة بدل المعطف الثقيل كالجدار العازل. أنا اليوم سأضحك‘ سأضحك كثيرا لأن المعلمة ستقول: دعيني أرى ما رسمت اليوم ياسمين.
ــ رسمت القدس؟
ــ ممتاز ياسمين! وتمسح شعري بيديها الناعمتين كفرشاة سحرية.
هي اسمها سحر ودائما تبتسم‘ وتنظر إلى الشمس وتقول ارسموا الشمس ولا تملوا‘ ارسموا الشمس دائما من لا يرسم الشمس لن يحصل على علامة جيدة. وأنا رحت أرسم الشمس بألوان كثيرة مرة أراها ذهبية متوهجة ومرة برتقالية ومرة بنفسجية ومرة رمادية بين الغيوم. وذات مرة رسمتها حمراء قانية‘ وحين سألتني سحر: لم رسمت الشمس حمراء؟
قلت لها: يا أستاذتي‘ إن الطائرات قصفت حينا وقتلت أخي ورأيته يلتف في شمس حمراء‘ صدقيني لقد رأيتها شمسا حمراء ولم توبخني سحر‘ مع أنها لم تبتسم خلافا للعادة.
قالت: معك حق‘ فالشمس هنا كثيرا ماتكون حمراء. وردّ حازم من آخر الصف: ياسمين معها حق‘ فالشمس هنا دائما حمراء.
لسبب غامض أطالت سحرالغياب لم تعد طلعتها تطل علينا لتحيينا بابتسامتها وألوانها وشموسها. وحين سألت عنها. قالوا هاجرت. إلى أين هاجرت؟ عا أمريكا؟ سحر لا تهاجر. أعرف هي لا تستطيع حمل شموسها الملونة والرحيل بها نحو العالم. ولكن سحر فعلت‘ قالت إن على العالم أن ينظر إلى شموسها التي لا تشبه كل شموسه وحملت توقيعي معها ياسمين. ومنذ ذلك الحين أضفت ألوانا جديدة للشمس‘ لعل أشدها وجعا اللون الأسود‘ حين أغمس فرشاتي داخل بحيرة السواد أتمزق وتتناثر أشلائي في كل بقعة. كم أخاف هذا السواد‘ ولكن الشمس أيضا يمكن أن تصير سوداء. تنهد حازم وصرخ بأعلى صوته كالمعتاد من آخر الصف‘ صحيح الشمس أيضا قد تصيرسوداء. لكن سحر لم تكن موجودة لتهتف: برافو! أحسنت‘ أحسنت حازم.
كانت سحر تغيم في أفقي وهم يصرون على هجرتها إلى أمريكا ويتفادون ذكر رعشات أصابعها أمامي. أما أنا فرأيتها تصعد نحو السماء تلتحف الغيوم وتجرجر وشاحها المقدسي الشفاف داخل شمس هائلة أحلم برسمها ذات يوم.
وفجر هذا الإثنين راحت تناديني: ارسمي الشمس ياسمين بكل الألوان‘ لتتمكني من الطيران أليس ذلك حلمك؟
وغير الإثنين وشاحه المترقرق وارتدى لونا أصم كالجدار العازل وعلى وجهه قناع من فولاذ‘ وأطلت سحر عبر ثقوب دقيقة ونادتني من بعيد:" ها هي الشمس‘ اختاري لونها العصي على الغياب..."
واستفقت واستفاقت ياسمين وحملقت نحو الأفق. كان الفجر المتوحش يغزو الأشجار والهضاب ويجتاح البحر‘ رأيت ذلك في فجيعة النوارس ووجوهها الحزينة‘ وحين التحقنا بالساحة حيث نصبت شاشات التلفزيون كانت الأنباء قد بدأت تصل تباعا قتلوا أهل القافلة لقد اعتقلوا النساء والرجال وصادروا الدواء والكراسي ومواد البناء وصادروا الحب...
قالت ياسمين: ألن يكون لنا بيت؟
ردت الأم: سيكون لنا بيت...
ــ أماتوا جميعا يا يما؟
ــ لا‘ يما‘ لقد طاروا إلى الجنة.
ــ سيلتقون سحر؟
ــ نعم يما.
ــ سحر لم تمت‘ صح يما؟ لأنها قالت لي هذا الفجر:" لا أحد سيمنعك من الحلم‘ حتى الصهاينة لا يقدرون على اعتقال الحلم‘ لأن الحلم لا يموت ولا يعتقل. ارسمي الشموس يا ياسمين ارسمي الشموس بكل الألوان ليبتسم العالم.
01ــ 6 ــ 2010.
أصابع زرياب
يكفي أن تتبعثر النجوم لتحرس نهر اللحن.
في ليل بغداد الراسي على الريبة كنا ثلاثة أيقاظا: شاعر يتلهى بتقليم أظفار اللغة
وامرأة أرهقها ترويض سرير من شوك غربتها الناعم، وأنا، أتعرف من انا؟ يحق لعيني ألا تنام، الغفوة قد تعني في جملة ما تعنيه قطع رقبة مؤمنة.
خلف الليل الباسط كفيه تولد الحكايات، تتجهز سفن التاريخ وتعلو دكة السلطان ويهرق دم العشاق وتخاط جلابيب السياسة وعمائم الفقه، وخمرة الليل دوما جاهزة، هو الليل النشوان بدلق الأسرار يفتح عينيه ويبسط الفرش والزرابي والنمارق الموشاة، يمد بسط السمر وأحاديث الشعر وضحكات جذلى كما لو كانت ماء زلالا يترقرق، طبعا هذا عهدي الأول بقصر الخلافة، ووجه هارون الذي تغمره هالة، وعين الفقير ترى الألوان متوهجة في غمزات النجوم الراحلة عند ارتعاش الفجر والعيون الناعسة من طول السهر، لولا العباءات السوداء والسيوف التي تقطر بالدم، والعيون التي تطل من عتمة الزوايا وهمس الجواري، لقلت إن الجنة جنتكم عرضها ما بين البحرين.لكن عين الليل لا تنام، وعين العدو أيضا محترسة لا تنام.
أجل، قال لي لا تنام هي هكذا عين العدو، هل تعرف من أنا؟ أيها اللحن الموعود ليطرز ليل بغداد الآتي. هيت لك. أنت تشرب من كأسي؟ كأسي ملأى يا هذا، الكأس لي وحدي، الكأس كأسي والخليل خليلي. كنت قد عرجت من القصر نحو زقاق جانبي، حين رفع اللثام عن وجهه تحت ضوء مبعثر لقمر راحل: قال وكأنه يؤدي مقطعا من أغنية: و كنت خيرتك بين بغداد والموت، أنا لست إسحاق بن ابراهيم الموصلي، أنا بغداد، أنا السلطان الأول، أنا الغناء. أنا دهرها الأبدي وشعرها المتموج على لساني أنا جواريها الحسان أنا دجلة والجسر. هل تسمع في قلب الليل رجفة يا زرياب يا صوت الطائر الأسود؟ فأيها تختار بلاد الله أم الموت؟
ليل قرطبة عامر بالشجن والعطر بالرياحين والخزامى والنجوم الضاحكة: مناديل، مناديل ترقص لمواسم جديدة مطرزة بالمحبة.
الرصيف المسحور يتزاحم فيه العرب والعجم، اليهود والنصارى والمسلمون، النساء والرجال، السيدات والجواري، القادة والشحاذون، السادة والخدم. هو ليل قرطبة ولا عجب. الثغور المفتوحة كبوابة الشمس،النوافذ المعشقة بالنشوة، الليل الذي كف عن الانين أعلنها فسحة للفرح، النوافذ الصغيرة تتسع، الله ما أعظمك يا زرياب! المملكة نفسها تتسع ــ همس الخليفة ــ والنجوم التي كانت تغمز هذه المرة رقصت دون خجل، والجسور المنحورة الخصر طاب لها أن ترقص، لك الله يا زرياب، الهاجرة هاجرة الروح والظلال ظلال إسحاق. العود يضيق والشمس تتفتق ونهر قرطبة يندفع من قلب زرياب والمدينة الصاخبة كالطفل مشدوهة مشرعة العينين ترضع الشهد المصفى.
إذن لا بد من مخرج للروح يقول زرياب بثوبه الزاهي وعطره السحري وبسمته الأنيقة وطلعته العالية كمآذن قرطبة، الرجل الفحل لا بد له من أنثى لا تخيب مخضبة الروح بالحناء و النرجس. فيما تتحسس أصابعه الراعشة صدر العود، والعود يجري فيه نهر البوح. كيف أغفيت يا زرياب والورق في الأيكة تترقب لحنك الموفور الصحة؟ كيف أغفيت يا زرياب والنسور تمدك بالزاد؟ من قال أن رهف الخشب يحرك العود؟ قوادم النسور تنطقه بالهوى. الأميرة المسحورة تدور في الغرفة الخلفية المطلة على الشارع حيث جياد الحرس وظلالهم المتراقصة تحت الضوء. في قلب الأميرة داء قديم لا تعرفه غير جاريتها الإشبيلية العجوز: هذا الطائر الأسود القادم من بغداد هو داء الأميرة منذ وضع قدمه في القصر. والأميرة إذ تسمع اللحن الحزين الذي يخلع قلبها تحس أن النشوة لم تكتمل ثمة بؤرة لا تقوى على إفلات دموعها المخبأة من سنين، تلك كانت عقدة الأميرة أن تبكي. طبعا إذا كان البكاء هو زاد النساء الذي لا ينضب فتلك مشكلة الأميرة الشابة التي لا تقوى على البكاء، أمر محير حتى الأطباء عجزوا عن تفسير اللغز. لقد غادر الأحبة غادروا مقهورين يتلوى بعض الشعر في صدورهم دون أن يجرأوا على البوح به. هي كانت تعرف، العيون تقول قبل اللسان، الفتى الفقير قتل في الحرب ولم تجد متسعا للبكاء حينها. كانت العيون كلها تحاصرها. ولأنها لم تبك في لحظة السخاء تلك فقدت سر قلبها وتراكمت البؤر السوداء ومات أبوها وماتت أمها ولم تقو الأميرة على تعاطي الدموع، راحت تنظر بعينين زجاجيتين ناحية الشارع عبر النافذة الصغيرة وتتأهب لتعلن سرها، تلفعت لباسا رجاليا، عمامة وقميصا من الحرير ثم انصرفت خلسة إلى زاوية الشارع حيث سيمر موكب زرياب. أوقفته عند الفجر دون أن تغير من رنة صوتها: قالت له: ثمة خلل في اللحن أنت لا تقوى على دفع الدموع إلى عيني، هذا رهانك القادم.
كان مؤذن الفجر قد رفع صوته عاليا وهو ينادي قرطبة كلها للصلاة وللرزق القادم على أكف الملائكة: هلموا ليوم جديد وعمل صالح ورزق مبارك وخير وفير، المقعدون لن ينالوا إلا الفقر والمرض. توضأ زرياب وأدى الفريضة في الجامع، ومن ثم دلف إلى الفراش مسكونا بالسر الغريب: إذن أنت يا زرياب لم تقدم شيئا، لعل أصداء الموصلي مازالت في حلقك، ليل بغداد مازال يسكنك. وماذا بعد يا زرياب؟ ثمة زاوية لم تمشطها الشمس بأذيالها الرفيعة، ثمة مرضى ينتظرون العلاج. لا تبدو المهمة يسيرة، والطالب عال المقام على ما يبدو.
بعد العشاء يدلف نحو قصر الخلافة يسبقه العطر والمناديل، وفي روحه علق وخز غريب، الذين استمعوا إليه في تلك الليلة أدركوا الغصة، حيرة مجهولة تغلف لحنه الحزين وما كان زرياب غير صائد فرح ماهر. حتى الأميرة نفسها ارتعشت عند آخر الليل في فراشها واهتزت مرارا ولكن زرياب لم يبلغ المبتغى أنبأته الجارية عند الغداء: إنك تدنو يا سيدي. أطرق زرياب: كما تعرف دموع النساء كأمطار الصيف تطهر القلوب هي خيمياء الجسد الأنثوي. وغابت خطوات الجارية في الرواق بحيث كان لها وقع حوافر الإبل البطيئة.
بعد الظهر حمل زرياب عوده بين أحضانه، داعب أوتاره وغنى لحنا سمعه من جارية في السوق. كان اللحن جميلا، ولكنه بالفعل أحس تلك الثغرة التي حدثته الأميرة عنها. فكر وقضى الليلة عند الخليفة يطربه أشجى الألحان وفي نفسه توق وريبة وحمى غريبة تقول إنك لم تضف شيئا، أنت صدى ابراهيم، زرياب كان يعلم أن آثار الأستاذ قد امحت من روحه لا محال، ولكن الذي يشغله أمر يتجاوز ابراهيم وبغداد والأندلس، إنما يتسع ليملأ ممالك الدنيا بأسرها.
من جديد حمل زرياب عوده وشد أوتاره ونقر بأصابعه فتكلم كالخادم المطيع، للمرة الثالثة يحس بتلك الثغرة التي راحت تتسع محدثة شرخا بين اللحن الذي يصرخ في داخله وبين ردة فعل عوده. كانت الأوتار تضيق ونهر زرياب يتسع يعلو و ينخفض وينحسر ثم يفيض جارفا الربوة العالية ثم يشرع في الانحدار قليلا قليلا، لينبسط ويمتد ثم ينساب رقراقا صافيا لا يكاد يرى. في تلك الخلوة الليلية لمعت عينا زرياب كما النجوم، لقد عرف السر،كأنه يخرج من الماء، ليضيف وترا آخر من معي رفيع سيسميه الوتر الخامس، فقط من أجل أن تبكي الأميرة الحزينة.
خيوط العنكبوت
خطوات واثقة تمرست على الدرب، القامة المديدة تحترف الاندفاع إلى الأمام تستعجل الغد، رتوش وتفاصيل أخرى تؤثث بقية المشهد؛ حذاء لا مع وحقيبة دبلوماسية أنيقة تضفي المزيد من المهابة كما تقتضيه الضرورة، كل شئ يكمن في التفاصيل في لغة المظهر: ثلاث درجات ثلاث خطوات، اثنتان، واحدة.
في آخر السلم يخطر بباله أن يلتفت، ثم ينهى النفس عن هذا الهوى. يجلس بجوار النافذة، يتأمل المدرج وأسراب الطائرات المتأهبة، يحدق في الساعة: الخامسة وثلاث وعشرون دقيقة وبعض الثواني المهروقة التي لا تسمح بإعلانها، سبع دقائق لينفصل عن الماضي ويلتحم بالمستقبل.
بيده اليمنى يمسح البدلة ذات الزرقة الكحلية، تلك التي اقتناها بفخر من أحد محلات ساحة أودان في العاصمة الجزائر. كان يكفيه فقط بطاقته الشخصية، بطاقته الخاصة بالأعمال هو ياسين الاسم المتبدد في الفراغ، صنع لنفسه هوية تقفز على كل الحواجز. وسائله كانت بسيطة، لا تعدو بعض الورق والحبر السري و الزئبق ليصبح ابن شخصية نافذة. يعرف طبعا أن الاسم هو كلمة المرور لفتح الأبواب. كيف ولدت الفكرة؟ يبتسم، هاه... يوم دخل المسابقة رقم ألف ليحصل على وظيفة، ولم يجد في قائمة الناجحين إلا بعض الأسماء ذات الرنين الخاص والموسيقى المثيرة، يومها بدأ عقله يعمل كآلة حادة: بدلة أنيقة مع حقيبة دبلوماسية، طبعا يومها استنفدت آخر ثروته التي لم تتجاوز في أحسن أحوالها ثمن السجائر الرخيصة وهلام الشعر. حسنا من أي الميادين يبدأ التحرير؟ ميدان السكن أم ميدان الوظيفة؟ كلها صالحة للاستثمار. حسنا سيدي لا تحزن عليك بإحضار الملف كاملا، أنا في الخدمة، ما يهم الزبائن هو الحصول على المبتغى. إذن عليك سيدي أن تدفع حق الأتعاب، الحصول على الوظيفة هذه الأيام يتطلب معجزة... طبعا طبعا ستحصل على الشقة اطمئن حاجتك قضيت، من فضلك لا أستطيع تسديد ثمن شقتك، أنا دلال خير، أتوسط لك لدى الكبار من أصدقائي ومعارفي، أنت تعرف الأسعار تلسع كالنار، تتلاشى الابتسامات الباهتة وينتقل المبلغ من اليد العليلة إلى اليد السافلة. الخبرة تأتي مع الوقت، ومن السهل مثلا أن تقول وتماشيا مع مظهرك: أنا ابن الوزير، وإذا كان سقف طموحك عاليا كحالي يمكن أن تقول وبفخر: أنا ابن رئيس الحكومة ولم ابن رئيس الجمهورية لتفتح لك الأبواب السرية العجيبة ويحملك الناس على أكتافهم هاتفين باسمك، ويحدث أحيانا أن تتواضع عندما يطغى عليك الماضي ذي الوجه المبرقش بالكلف والنمش. على كل حال هكذا كان الانتقال وارتقيت درجات السلم وصرت رجل المال والأعمال: السي ياسين، الذي يحمل كلمات المرور السرية التي تحظى بها الفئة المختارة. ربما كانت تلك الوجوه المتيبسة الشفاه ذات النظرة المسكونة بالقلق تتجرأ على زيارتي أثناء وضع رأسي على المخدة يحلو لها في بعض الأحيان أن تعبث عند منتصف الليل، ولكن هل كان عليها أن تطلب الدخول عبر النوافذ الخلفية؟ هل حكم علي أبي لأدمن مثله الاستدانة عند منتصف كل شهر وأمد رقبتي للمقصلة؟
ينتبه لصوت المضيفة الرقيق لتعليماتها، لارتجاجات الطائرة فوق المدرج لاندفاعها العنيف نحو الأفق نحو السحاب حيث تتضاءل الأرض ويضيق البحر ويبدو البشر
كالأقزام.
نيو لوك
منال امرأة الصباحات الصاخبة، بهذا الاسم وتماشيا مع امتلائها الدائم اطلقت عليها معلمة الحي التسمية. بالتأكيد هناك أسباب لا تراوغ المنطق لتتجرأ معلمة اللغة العربية نسيمة على إطلاق أجنحة اسم هو بكل تأكيد يطابق حامله. ببساطة شديدة حدثت الأمور، لأن نسيمة الملتفة في الصمت ماهي إلا الجارة الجنب لمنال وذويها، ولأن صخب منال كان يتجاوز جدران البيت الواسع ويتردد صداه في الحديقة بل إن صوتها اللاذع ليدق أذني المعلمة وهي تصحح الفروض والواجبات. ليس هذا فحسب، فمنال دائما ترافق صخبها نحو الخارج إلى غاية البوابة. فلابد أن يلقي ثوبها الصارخ اللون تحيته الصباحية على العابرين ولابد أن يقوم شعرها الطويل المرسل على هواه والمصبوغ بلون الرمان أن يقوم بالواجب.
من البوابة الخارجية تعلن منال أن صباحا جديدا قد بدأ، لهذا عليها أن تزعج الصمت قليلا، بوجهها الضاحك و فستانها القصير و حذائها ذي الكعب العالي، طبعا دون أن يتأخر طلاء أظافرها وأحمر شفاهها وعدسات عينيها المتحولتين، بعض الاطفال أيضا كانوا يسمونها المتحولة، لأنها لا تثبت على شكل.
ومنذ بلغت السادسة عشر وأهل الحي يستيقظون على صباحاتها المبهرجة، كثير منهم كان يتجنبها دفعا للشبهات، ولكن منال كانت تلقي بكل النظرات المتلصصة أو حتى الوقحة خلف ظهرها، وتطلق ضحكتها المفرقعة في الفضاء. ومن ثم تسدل نظاراتها السوداء فوق عينيها دون مبالاة.
لعلها آفة الأحياء الشعبية، حيث يستحم الجميع في مستنقع واحد، الاستثناء التي أبت الغطس هناك كانت منال، على الرغم من عتاب والدها الحاج اعمر، طبعا لم يكن من صالح زوجة أبيها التعليق أبدا، وعلى الرغم من تهديدات شقيقها، مضت منال في دربها متفوقة على الجميع و ساخرة من الجميع وربما من الحياة نفسها.
ذات إثنين لم يخرج الصباح المبهرج، حل ضباب وعلا لون كئيب في الأفق، تساءلت معلمة اللغة العربية: لم الصباح رمادي هذا اليوم؟ والتفتت بذعر كمن يفتقد عادة ما: أين اختفى الصباح الصاخب؟ فيما غمزت الفتيات بعضهن.
وتساءل الشبان المبكرون نحو العمل و الجامعة:
ــ لم غاب الصباح المبهرج؟
أما الأطفال فأعلنوا بألم أن المتحولة لن تؤنس طريقهم نحو المدرسة.
في حين علق المتسول عند الزاوية بجانب المحطة عينيه على طلتها المباركة.
في المساء كان الجميع مكدرا: لعلها مريضة، ألا تستحق الزيارة؟ أليس حق المريض عيادته؟ أليست جارتنا منذ سنوات؟ وأنتم تعرفون حق الجار.
ــ وما أدرانا أنها مريضة؟ قد تكون مسافرة، ربما طلبت إجازة أو عطلة مرضية، من يدري؟ أليست بشرا من لحم ودم؟ ألا يحق لها أن تغيب عن أعيننا؟
انشغل أهل الحي جميعا بغيابها المفاجئ عن الخروج للعمل وتزيين صباحاتهم بفرشاة ألوانها الزاهية. وناموا وفي صدورهم غصة عدم تكحيل أعينهم بمنظرها البديع، على الرغم من انزوائها داخل متاهات ذاتها، إذ لا أحد منهم تجرأ على تقديم تلك الهبة العظيمة المسماة صداقة، بما في ذلك زميلاتها السابقات في المدرسة، بل إن صديقات طفولتها آثرن الانسحاب في صمت من ساحة لعبها، كأنما كانت تلعب بالديناميت، أو تتعاطى الممنوعات.
بعد ثلاثة أيام من الغياب عادت منال إلى مساحتها المعتادة وعرجت ــ كما كانت تفعل دوما ــ على زاوية المتسول، ثم وقفت منتصبة كالنخلة، طبعا لا أحد من الحاضرين تعرف على منال، ببساطة لأنها تحجبت.
أتوشح المساء.
ترمقني عمتي من علياء برجها الخمسيني الباذخ. أعرف تلك النظرة المستفزة، أعرف مهاتراتها، هي لا تبوح تستكثر علئ راحة صغيرة. ولكني أقرأ السر بطريقتي أسرقه من حركة شفتيها الخفية، تقول عمتي من خلف الصمت: " الحلم يا صغيرتي ليس فاكهة ناضجة، لكنه فسيلة نحن نربيها بأيدينا وندلل خضرتها".
تضيف عمتي في صمتها المنزوي: الحلم يا صغيرتي شجيرة تمد عنقها نحو الشمس لترضع الضوء. الحلم كالجنين له آلام ومخاض وزقزقة، لأنه بداية الحرية. والحرية يا فتاتي الغريرة دربها أغبر ولكنها تتلألأ هناك عند القمة.
تضج كلمات عمتي وأنا خلف الستارة أرقب شجيرة الحلم الصغيرة تتنشق نسائمها الأولى وتعرش بوجل وتمد وريقاتها على استحياء. تدفعني عمتي من الخلف وتفتح النافذة، أعني مجرى الضوء والهواء وتطوح بالستارة بعيدا. واقفة تضع وجهي بين راحتيها: " اقرئيني، أنا كتابك المفتوح. هل سمعت؟ أنا كتابك المفتوح، ثم امرقي كالعصفور نحو الضوء، لأن الأحلام تموت خلف الجدران والستائر. اقرئيني فاسمي حورية أو حرية ــ حسب النوايا الطيبة لأمي ــ وكما تعلمين فتاريخي مفضوح ولدت عند فجر الاستقلال وفي زحمة الفرح وفيما أمي تتبرك بطيور الحرية الوافدة دخلت الواو سهوا أو خطأ فحدث الالتباس والواو علته، لأن الواو تعني الوهن، لذلك أسقطتها الحرية، طبعا بغض النظر عن نوايا أمي التي كانت بكل تأكيد تقصد الحرية بعيدا عن واو الوهن وتردداتها.وأنت اليوم با صغيرتي تزرعين حلمك، تنظرين في عيني وترين أني مازلت عند النقطة الأولى مع أني أتسلق أبراج الخمسين.
ضجر الموتى
لم يفهم سوى أن رصاصة ساخنة استقرت داخل جمجمته للحظات كالوميض، سمع أزيزها كدبور ثم تلاشى. قضى الليل في العراء ينهش البرد لحمه، طبعا كانت الطبيعة الواجمة على قدر معتبر من التأهب لتقيم الوليمة حول رجل ميت.كانت رائحة الدم قد وجهت بطاقات الدعوة للمقربين أولا من الدود والنمل، حدث هذا قبل شروق الشمس، لا يعلم لم تأخرت الذئاب في الخلاء الخاوي إلا من الغربان وأزيز الحشرات الصيفي المفتوح. ربما ابتسم في سره، إذ رأى تلك المخلوقات تدنو منه وتشرع في تأدية مهامها بصمت، لولا أنه سمع وقع خطى بعيدة وصرخات، تلك الصرخات التي قادت خطاه إلى هنا قرب البئر، البئر التي شغلت حيزا من وقته وخياله معا. لم يكن سوى فلاح ناشئ هجر المدينة وجاء ليغرس أحلامه الهاربة في رحم الأرض. لا شك أنه التهم وقتا طويلا يسند الجدران ــ كما يفعل أمثاله من الشباب خريجي الجامعات ــ في انتظار ولادة فكرته، وحين ولدت الفكرة بطريقة قيصرية طبعا، كان عليه أن يمزق الكثير من الأحذية التي مر عصر موضتها، متنقلا من مكتب لآخر ومن إدارة نحو إدارة ومن ثم إلى البنك. أخيرا حصل على القرض، من أين يبدأ؟ سيحفر البئر أولا، البئر موجودة منذ زمن، قال أبوه تحتاج لبعض التنظيف و الإصلاح فقط. حسنا كأن الدنيا تبتسم لشجيرات الزيتون الموعودة، جاء مبكرا عند الفجر على عادة الفلاحين الأصليين، وسمع الصراخ، لم يتبينه أول الأمر، وقف يميز الصوت كان واضحا في المرة الأخيرة صوت نسوي يطلب النجدة، تقدم إلى الأمام، رأى في غلالة الفجر امرأة بشعر طويل يغطي كامل جسدها لم ير في حياته التي جاوزت الثلاثين امرأة بمثل ذلك الشعر حتى في أفلام الخيال العلمي.وقف مشدوها ولا يدري بالضبط من أي سلاح انفلتت الرصاصة. سقط بطريقة ألية وظل ممددا حتى الظهيرة، لم يفهم بالضبط كيف انتقل من الخلاء العاري إلى الحفرة، هاهو يستريح مستعيدا بشئ من وخز الضمير نواح أمه وأخواته، من حسن الحظ لم تكن له زوجة لتندب رحيله وإلا كان انتفض في كفنه.هاقد وضعوه بلطف ــ في حياته كلها لم يلق مثل ذلك الحنان إلا في حضرة الموت ــ بعد أن داعب الغسال بوقار جسده بالماء والصابون والعطر. سمعهم أيضا يذكرون العريس هل كانوا يقصدونه، لا شك في ذلك، أمه كانت تقول هو يوم عرسه وتحث الناس على الأكل. تمدد منتظرا الامتحان تمنى أن يكون خفيفا، على الأقل لأنه كان يصلي ويصوم ويتصدق ويعتقد أنه لم يؤذ أحدا، أمه بصورة خاصة، ربما كانت له بعض الموبقات على نحو ما مثلا أنه عبث بمشاعر ابنة الجيران أخت صديقه وكثيرا ما تسللت يده دون قصد منه بالطبع لتلامس عنقها وشعرها، ولكنها تزوجت بعد أن هجرها مباشرة، الله غفور رحيم، وهفوات الشباب كثيرة، لعله من الفئة المحظوظة على فقرها لم تقرب الخمر وأخواتها، تناهى إلى سمعه صوت مألوف ومد يدا طرية راحت تمسد شعره، بالتحديد مكان اختراق الرصاصة الغادرة: لبيت النداء يا بني، منذ خلفتك ورائي وأنا أنادي عليك: يوسف،يوسف، ماذا تفعل هناك في أرض الخراب والذل؟ الخدمة بالبيسطو والزوالي ما يعيشش، ههه لبست الدابة السباط والهجالة تحفر بقادوم الذهب وتقول ماربحتش. يومها كنت تعرض عن ندائي، تقول يعز عليك الرفاق. دع عنك، عن أي رفاق تتحدث والرصاصة جاءتك من الخلف،من يد غادرة تعرف خطواتك وأنفاسك. ألم تمل الانتظار؟ تريد عملا من أجل بناء بيت وإنجاب أولاد سيأكل الشقاء أعمارهم كأبيك وجدك. يا جدي العزيز قلت له وأنا أمسك يده، لم أسمع نداءك. يضحك جدي بصوت شاب. أقول له أنا لا أراك، يقول لي أنا أراك، مازلت مجرد طفل كما تركتك، أضحك بدوري يكاد شبابي يمضي وأنا مازلت طفلا يا جدي. ستضئ الملائكة قبرك وتعطره، تحتاج لبعض الانتظار، قل فقط ألم تقرب النساء. أتلعثم،نعم لا، لا، نعم. ماذا تقصد؟ ما معنى لم أقرب النساء، رضعت ثدي امرأة. لا أقصد تلك، النساء النساء الحقيقيات، الفتنة يا بني حيث القلب معلق على شجرة مرة مثل هذه، انظر أمامك وفجأة برزت أمامي امرأة البئر لولا أنها كانت تضحك بصوت عال وتنساب عبر ضحكتها موسيقى لذيذة: قال جدي هذه حورية من حوريات الجنة أنا أرسلتها إليك لأختبر شهامتك. أمسكتني من يدي، قالت لي مسكين أنت لم تعرف المرأة، لم تعرف لذة الحياة وسرها. المرأة هي ملتقى الليل والنهار. هل تعرف الحوريات فلسفة الحياة؟ قلت في نفسي. أجابتني وأجابني جدي نعم وضحكا معا. إذن صرت عاريا حتى مشاعري مكشوفة. قالا لي: لا أسرار هنا. رب العزة أقر هذا في كتابه المكنون عن الخلق والحياة والمصير، ويوم خلق الدنيا وصور الخلق وبعثهم يدبون على وجه الأرض أخد على نفسه عهدا لأكشفنكم يوم تعودون إلي فرادى صاغرين. تمسكني الحورية الجميلة من يميني تقول لي تماسك عند السؤال ستمضي بعد قليل إلى مصيرك، ثق في قلبك وأنت تذكر السراط. لقد عشت ما كتب الله لك متوازنا لم تسرف في الكره وأغدقت الحب على كل من حولك على ضيق ذات يدك، الزيتونة الوحيدة التي غرست يداك تهديك سلام الأطفال الذين يقيلون تحتها، هذا أنت قلب معطاء على الدوام أخضر كالزيتون أبيض كالحليب والأطفال يقرؤونك السلام لأجل الأبقار التي تركت في الحضيرة. أمك توزع الحليب كل صباح. كيف أدركت وصيتك التي لم تقلها؟ ذاك قلب الأم لا يخطئ الحدس، الله تعالى أودع فيه سرا من نوره، لهذا ترى وجه الأم يتلون بين الإشراق والانقباض في ومضات خافتة لا يحسها أحد غيرها
قلت لها من أنت أيتها الحورية؟ ضحكت وقالت أنا آمة الله. أنا أيضا كنت بشرا
مثلك ومثل جدك وسائر الخلق، كنت مجرد فتاة في الثامنة عندما اعترض سبيلي بعض الرجال الغرباء الذين جزوا شعري الطويل المتلألئ تحت الشمس كشلال من الضوء ثم نقلوني تحت قدمي شخص غليظ. قالوا سنهديك لأميرنا، والأمير سعد بالغنيمة. ومن ثم لم أفهم ماالذي حصل بالضبط فقط كأن مدية ساخنة راحت تخترق جسدي فيما بقع الدم تتناثر، ولم أدر بعدها أبدا سوى أني مت وأمي تصرخ وأبي يبكي بحرقة، إلى هذا الحد أنا لا أعرف شيئا ذاكرتي مرت عليها ممحاة عجيبة كأن الله تعالى ورأفة بي محا ذلك القسم المظلم فيها، أذكر كل شئ لم أنس حتى لحظة موتي ورمي في الوادي لكن لحظة الألم الفظيع التي تبدأ بمجيئ الرجال انطفأت، طبعا لم يكن ثمة وقت لأقترف ما تقترفه الفتيات من متع وملذات كإطلاق شعورهن في الهواء وألق عيونهن في صباحات الحب المشرقة و انكسارهن في مساءاته الحزينة، كل شئ إلى زوال، الفناء هو درس الحياة الأول، وحدها الكلمات تلك الكلمات العذاب التي قالها الشعراء تبقى موشومة في القلوب لعلي لم أكن محظوظة في هذا الجانب ولكن الله تعالى برحمته عوضني عن كل ذلك بهذا الجمال الدائم والشباب الأبد ي، أنت تعرف أن الأطفال مرفوع عنهم القلم وهم لا يخضعون لحساب أو عقاب خصوصا تحت العاشرة، أنا يومها كنت مجرد فراشة صغيرة تحوم حول البئر، ومكافأة لي على ذلك العذاب المر وهبني العلي القدير جناحين أحلق بهما في أرجاء الجنان، وداعا يا صديقي أتمنى أن نلتقي، حان الموعد، ها هي سلالم السماء ترخى والنور يدنو وداعا وداعا. وغابت في لجة من نور، فيما بقيت أنتظر، كان طعم الانتظار قد تغير وكأن القلق تلك العاهة الإنسانية قد انطفأت،كنت على صورة نفسية جديدة لا أنا سعيد ولا أنا حزين، كأني أسبح في بحيرة فضية تبعث شعورا لذيذا استقر في أعماقي، والزمن لم يعد له ذلك الطعم المر الذي خلفته ورائي في الفانية كان زمنا آخر لا يفنى، زمنا سديميا بلا بداية أو نهاية، قال جدي ذلك قبل أن ينقطع صوته. عرفت أني وحيد وأن ساعة الامتحان زفت، تململت في الظلام، فجأة رفسني حافر حصان على وجهي من أين جاءت الضربة الغادرة، شعرت بسخونة في أنفي مددت يدي أبحث عن الفاعل اللعين، لامست جسما غريبا يتملل وأنفاسه تقترب: من أنت؟ صحت به، عدوك ــ أجابني متحديا ــ ليس لي عدو. هههه يضحك ساخرا، أنا عدوك. أصرخ: ليس لي عدو، ليس لي عدو. صوت هامس ينادي: يوسف، يوسف، كان صوت أمي يأتي من بعيد من خلف العتمة.
الفهرس:
ــ زهرة الأوركايد وأخواتها
ــ أكره سندريلا
ــ سموك: حب أمريكي.
ــ حزمة قوس قزح
ــ نجمة
ــ طائر من الوطن
ــ يا بحر غزة
ــ أصابع زرياب
ــ خيوط العنكبوت
ــ نيو لوك
ــ أتوشح المساء
ــ ضجر الموتى