إعداد أثير محمد علي
ليس من السهل حصر عوامل اليقظة ولا تحديد مفعول كل منها على انفراد أو تعيين موعد ظهوره. هذه كلها شؤون تختلف فيها الآراء ولا تتفق عليها كلمة الباحثين. فاليقظة حادث اجتماعي كثير التشعب، عديد النواحي. والحادثات الاجتماعية كثيرة التعقيد بالطبيعة، شديدة الغموض على الافهام، لا يسهل تحليلها وتجريد المؤثرات فيها مهما كان البحث علمياً دقيقاً. كل صورة فكرية لحادثة اجتماعية ناقصة بحكم الضرورة: لأن جذورها ممتدة في باطن الماضي السحيق وثمارها تبقى أبداً في عالم الغيب الآتي حيث لا ينفذ نور الفكر ولا تمتد يد الإنسان. فالبحث يحتم الاقتصار على عدد محدود من العوامل وإهمال ما سواها، وليس في تخير العوامل وصرف الاهتمام إليها ما هو اضطراري، وإلا لما اختلفت الآراء في معالجة القضايا الاجتماعية. فتعدد الآراء وتنوع المذاهب برهان على فقد الاضطرار والالزام في تخير مواد البحث وتصنيفها حسب الأهمية والمرتبة. إن السهولة والبساطة التي اعتدنا عليها في بحث الحوادث الطبيعية لا أثر لها في العالم الاجتماعي. ولكن البحث ممكن بالرغم عما يلازمه من مصاعب، والتحليل مفيد بالرغم من نقائصه. وكل الذين يعالجون الشؤون العامة بحاجة قصوى للإحاطة بما حدث وما هو حادث في البلاد. ولا أعني بما حدث ما هو معروف من الوقائع مما تلوكه الألسن وتتناقله الصحف، بل ما وراء هذه الوقائع من تبدل نفسي في الشعب السوري والأسباب التي أحدثت ذلك.
* * *
بين أجزاء المجتمع السوري تشابه من بعض النواحي وتخالف في البعض الآخر. والقول بوجود مثل هذه الأحوال لا يختلف في جوهره عن التعتيم القائم على الإحصاء، فهو يسهل فهم المجموع وتمييزه ولكنه لا يفيدنا كثيراً في معرفة فرد معين ومميزاته.
نقتصر في بحث اليقظة على تحليل النفسية السورية تحليلاً إجمالياً. ثم نستطرد إلى ما طرأ من العوامل وإلى ما حدث من تفاعل نلمس أثره في الحوادث والوقائع. ونقتصر في كل حال على ذكر الأهم الأعم ولا نتعرض إلى التفضيلات إلا في أحوال خاصة.
إن أبرز ما في النفس السورية هو النزعة الفردية، الاستقلال الذاتي والاعتماد على النفس. والتعاليم المألوفة تمتدح هذه الصفات وترغب فيها. ولكننا في بحثنا لا نقصد مدحاً ولا ذماً. بل نذكر مظهرها وأثرها على علاته سواء كان ذلك مذموماً أو مرغوباً. فمن آثار النزعة الفردية فقد الرغبة في التعاون والتشارك بالعمل. والسوري لا يخضع لضرورة التعاون إلا في الظروف الاستثنائية، ويفضل في أعماق نفسه الاستقلال والانفراد في العمل. فهو شديد الحذر، لا يثق بغير جده ونشاطه، وسعة حيلته وحسن تدبيره. مفهومه للثروة فردي لا اجتماعي. لا يرى في تزييد الثروة العامة الوسيلة لتحصيل ثروة ذاتية. بل ينتزع المال انتزاعاً، ولا يبالي بما هو أبعد من ذلك. السوري لا ينكر ذاته ولا يخفي غايته. لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. هذا ناموسه الخلقي العام.
سوريا بلاد عريقة في التمدن تشتغل بجد ونشاط. وشعبها نشيط، مكافح يكد ويكدح بلا تذمر ولا ملل، يهب مبكراً فيعمل حتى المساء، ثم يستأنف عمله بغير توان ولا كسل. ويعيش السوري في دائرة عمله مبتهجاً مسروراً، وأقصى رغائبه أن لا يتسرب إليها ما يخلّ اضطراد حركتها في دورته المعتادة المألوفة. يرى من واجبه أن يكد ويكدح. ومن حقه أن يستقل بنتاج سعيه. يأبى المشاركة في العمل لأنه لا يستسيغ المشاركة بفوائد المسعى. يكدح طلباً للعيش ولجمع قليل من الثروة تضمن له استقلال وتحفظ له مكانته الاجتماعية. حرصه على الثانية لا يقل عن حرصه على الأولى. قليل العناية بما يمر في سماء الحياة العامة من زوابع وعواصف، لأن معالجتها تفوق قوة الفرد وهو لم يألف التعاون. السوري مخلص لعائلته، شديد التعلق بها. وعائلة السوري عالمه الحقيقي، حيث يعيش عيش السيد ويمارس حقوق السيادة كاملة.
تصح هذه الأوصاف بصورة خاصة على الجماعات العاملة المنتجة. ولكنها لا تصح فيها بدرجة واحدة. فالصانع السوري يمثل الطبع السوري أفضل تمثيل، ويليه المتاجر رجل البيع والشراء. ولا ينطبق بذات الدرجة على الفلاح. ولعل أهم أسباب ذلك أن الفلاح لم يتحرر ولم يتوفق إلى الحصول على استقلاله، لأنه لا يملك الأرض على الغالب ولأن ما حلّ بعالم الفلاحين من رزايا، كانت المدن السورية في نجوة نسبية منها، أنزلت به من الأذى ما حال دون بلوغه منزله مثيله الصانع والمتاجر.
لن نعترض لذكر الأسباب التي كونت النزعة الفردية في سوريا وعملت على تأصلها ورسوخها. ونكتفي بالقول بأن مثل هذه النزعة سادت دهراً طويلاً في الجزء المتمدن من العالم، أوربا والشرق الأدنى والهند والصين. ولم تأخذ بالانحلال إلا بعد ظهور الثورة الصناعية، فقد حتمت هذه إقرار التعاون في الانتاج والتشارك في توزيع المنتوج.
إن المؤثرات والعوامل التي طرأت على الحياة السورية، فأحدثت فيها الأثر الذي تمخض عن اليقظة، يمكن جمعها تحت عنوانين: الاستعمار والثروة الصناعية.
ليسن الثروة الصناعية بنت الأمس، ولكن سوريا لم تتعرض لمفعولها في زمن مضى كما حدث منذ عهد ما بعد الحرب. قبل ذلك كانت سوريا جزءاً من الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، وكانت هذه وحدة اقتصادية، وكانت نبضات الحياة فيها أضعف وأبطئ، وكانت حاجات المستهلكين غير ما صارت إليه. ولم تكن سوريا مستقلة قبل أن تقع تحت نير الاستعمار، ولكنها لم تكن معرضة لخطة استثمارية محكمة كما حصل بعد ذلك. ليس استثمار كنوز الأرض وخيراتها ما أعني، بل استثمار جهود الشعب وأتعابه.
قبل خوض الموضوع والاحاطة بأثره في حياة الشعب المنتج العامل، نذكر أن الاستعمار والثروة الصناعية لم يتخذا في هذه البلاد شكلاً يستفز الشعور الديني. فلم يحارب الاستعمار الدين، ولم يحاب محاباة دين على دين، ولكنه أمعن في اظهار عوامل التفرقة والتباعد الموجودة في كل دين. اعتمد الاستعمار بعض الرجال ممن ينتسبون لدين أو لطائفة معينة، ولكنه لم يلمس النقاط التي تتبارى بها الأديان، ولم يعلن تفضيله لواحد دون الآخر. والثروة الصناعية لا أثر مباشر لها في حياة الروح ولا في تنظيم المؤسسات الروحانية، وإن كان أثرها غير المباشر في كل ذلك عظيماً. ولذا لا يصح تفسير الحوادث الأخيرة وتأويلها تأويلاً دينياً، إذ لم يطرأ على العوامل الروحانية ما هو جديد. وأثر الدين في اليقظة سلبي على الأكثر: أي أن أثره لم يكن ناتجاً عن تدفق الشعور الديني وتجسده بعمل أو أعمال معينة، أو أنه صبغ الحياة العامة بصباغ جديد. إن ما حدث من هذه النواحي أملته الضرورة والحاجة. وقد وقع ولم يرده من يتجسد فيهم الدين. لذا لا يعتبر أن الشعور الديني قوة دفع في اليقظة السورية. بل أن الأمر لا يزيد عن زوال بعض العقبات – حقيقية أو وهمية – مما كان يعترض السبيل.
إن السياسة الاستعمارية أثقلت عاتق الطبقة العاملة المنتجة بالضرائب، وتجاوزت بذلك حد الطاقة. وضاعفت عدد الطبقة المتطفلة التي تعيش على مجهود الشعب وأتعابه، وأضافت إليهم عدداً غفيراً من أبنائها تكلف الشعب نفقات باهظة. فطرأ خلل شديد في توزيع المنتوج السوري العام، واختلت النسبة في التوزيع بين الفئة المنتجة والمتطفلة على الإنتاج لمصلحة هذه الأخيرة. ولما كانت الحياة الاقتصادية السورية في عهد تقلص واحطاط، لا في دور توسيع وانبساط، تضاءل نصيب المنتجين كثيراً وانحط مستوى معيشتهم إلى حد غير مألوف.
وأثر الثورة الصناعية انضم إلى ما أحدثه الاستعمار من أثر. فتبادل المنتوج بين سوريا والبلاد الصناعية ليس مما يساعد على رفع مستوى معيشة الشعب السوري باستمرار كما هي الحال في البلاد الصناعية. وخاصة عند حدوث أزمات الكبرى، إذ أنها تصيب على الغالب سوق المواد الأولية أكثر مما تصيب المنتوج الصناعي فيختل التوازن ويهبط مستوى المعيشة لمنتجي المواد الأولية.
لن نتجاوز في بحثنا هذا الحد من أثر السياسة الاستعمارية والثروة الصناعية على المنتج السوري. ولن نتعرض إلى التفصيلات، ولا نذكر الخطوات التي تصل بين المؤثر والأثر ما بين العوامل المذكورة وهبوط مستوى المعيشة في سوريا. فالحادث الأخير من الأمور الواقعة التي شعر بها كل إنسان واعترف به. ولن نلتفت لتنفيذ الآراء التي تعلل هذا الهبوط بأسباب تختلف عما ذكرنا. ولكننا سنوضح أثر هذا الحادث في الشعب السوري.
إن حياة الشعب المنتج، أي الفئة التي تحتاج أن تعمل لأجل أن تعيش، هي في الدرجة الأولى كفاح لأجل العيش. وهذه الفئة تتحمل الأذى الشديد بصبر وأناة، وبدون اكتراث مادامت تكتسب عيشها بالقدر المنتظر. وهي بعد تعتاد مستوى من العيش ترى من حقها الاحتفاظ به وعدم النزول عنه. وإذا كانت تنتظر ارتفاعه ولم يتحقق لها ذلك استاءت كما لو لم يتحقق احتفاظها بالمستوى الذي ألفته والذي تراه عادلاً مشروعاً.
والفئات العاملة المنتجة في سوريا وسواها لم تكن تنتظر الاحتفاظ بما وصلت إليه من مستوى المعيشة فحسب، بل كانت تطمح إلى أكثر من ذلك. إن الانفصال عن الترك، وهم المتهمون بكل سوء أصاب البلاد، وبالفساد الذي ساد الحكم، كان في نظر كل إنسان فاتحة عهد جديد سعيد. فالحكم التركي أحدث من الأثر في هذه البلاد ما يحدثه حمم البركان الذي يعطي السهول الخصبة الممتلئة حياة وبهجة. إنه قضى على كل شيئ ثمين في البلاد: مدينة العرب وحيويتهم.
هذا هو الرأي السائد في ذلك العهد. ولذلك كان السوري ينتظر عهداً ذهبياً، وإن يكن يجهل العوامل والأسباب الصحيحة لوقوعه. فزوال الحكم التركي لا يمكن أن يعني أكثر من زوال عقبات وموانع، ولا يكفي وحده لبعث تفاؤل وأمل شديدين. ولكن الناس لم يبالوا بتمحيص معتقداتهم، وقلما يفعلون ذلك. بل اغرقوا في تفاؤلهم كأن يد العناية ستمتد لتنهض بهم إلى حيث يحبون.
سواء كانت الآمال التي علقها السوريون على الانفصال عن الترك مرتكزة على الحقيقة أو الواقع، أو كانت قائمة على الوهم والخيال، فإن ذلك لا يبدل كثيراً في مفعولها. فقد كانت موجودة وكانت النفوس متطلعة إلى تحقيقها. أن ما حدث بعد ذلك فأمره معلوم، وكانت النتيجة على عكس ما انتظره السوريون: فقر بدل الغنى وذلّ وتحكم بدل الحرية والاستقلال.
وقد بلغ من شدة التفاؤل ورفعة الأمل بتحسن المستقبل بعد زوال الدولة العثمانية أن قامت الحركة الوطنية السورية على أسس تكاد أن تكون خلواً من النداء للمصالح الاقتصادية. فقد رفعت عقيدتها للدفاع عن الثقافة واللغة، وعن الكيان العربي بمعناه النفساني التاريخي. ولم تعر الشؤون الاقتصادية اهتماماً يتناسب مع حقيقة أهميتها. فخطر الاستعمار في نظرها كان منحصراً في تهديده الكيان الثقافي المعنوي، ولذلك كان النداء منصرفاً لإيقاظ الشعور وإلهاب العواطف بالرجوع إلى ذكريات التاريخ وإثارة روح الشمم والإباء.
ما كانت الحركة الوطنية لتسلك السبيل الذي سارت عليه، مهملة شؤون البلاد الاقتصادية، لولا أن الطقس السائد كان مفعماً بالتفاؤل بحسن المستقبل الاقتصادي. ولو كان رجالنا أكثر معرفة بالعالم الحديث وحدها، وما أوصلت إليه البلاد من فقر وإملاق عم أكثر الناس، هي التي فتحت الأعين إلى هذه الناحية الهامة المهملة، فأخذت أهميتها بالتعاظم وبدأت تشغل منزلة رفيعة في الحركة الوطنية. واستفاد الاستعمار من غفلة البلاد الاقتصادية فسار في خطة استثمارية سيراً حثيثاً، دون ممانع ولا مراقب. فزاد هبوط مستوى المعيشة سرعة في البلاد السورية، وأخذ شعور الشعب بفشل الآمال وخيبة الرجاء يزداد وضوحاً. في هذا الشعور بالخيبة الشديدة الذي ساد وعم مختلف الطبقات والجماعات الشعبية نجد المفتاح لحل لغز الحوادث الدامية والاضرابات الكثيرة التي حدثت في البلاد.
الفقر والمجاعات تحدث في الجماعات أمرين لا يسهل في كل الأحوال معرفة أيهما أقرب للحدوث بطريقة تحليلية صرفة. قد تثور الجماعات، أو قد ينهك الفقر قواها، فلا تستطيع غير الرضوخ والاستسلام، وعندها تسير إما ي سبيل الفناء أو العبودية. فالجماعات السورية لم ترضخ وتستسلم، بل ثارت بتأثير الفقر. فقد شعر السوري المجدّ الكادح بوطأة الظروف عندما توقف دولاب العمل، فأرسل بصره يستعلم ويستفهم، ولم يفعل ذلك منذ عهد بعيد. كان نظره قد علق بالمادة التي يتجسد فيها عمله، وبيديه المتحركتين في عملية الخلق والابداع، كان متفائلاً ممتلأ أملاً ورجاء، ينتظر عهداً منيراً، فإذا به يرى نفسه في ظلام الفقر واليأس. حيرته شديدة لا يعرف إلى أين تسير به. وكلما خلا لنفسه سألها عما بدل العالم غير العالم، وعما أصاب الكون فأوقف دورة الدولاب التي لم تقف منذ عهد يذكره؟! إن وطأة الظروف دفعت السوري المنتج إلى الثورة.
لأن الحالة النفسية العامة في سوريا هي حالة ثورة بالرغم عن مظاهر الهدوء. فالخيبة التي نفذت لقلوب السوريين تسربت فيها إلى الأعماق عظيمة، لأن الأمل الذي كان يثر النفوس كان كبيراً. وعمق الخيبة يتناسب مع عظم الأمل. فالحوادث التي وقعت ليست سحابة صيف، بل هي غليان المرجل لكثرة الوقود المتزايدة.
إن أبرز ما تتصف به الحوادث الأخيرة هو كونها شعبية اشترك فيها عدد عظيم من الناس من مختلف الهيئات والجماعات. فهي لم تكن فردية، ولم تكن منظمة، بل كانت عفوية، ظهر فيها السوري بمظهر التعاون والتشارك لأجل تحقيق غاية مشتركة وادراك هدف عام. هذا أمر لم نألفه من السوري قبلاً. فقد عرفناه متخاذلاً لا تعاونياً. لا شك أن ظروفه كانت قاسية حتى استطاعت أن تدفعه إلى انتزاع فرديته، وهجر صومعته العائلية ليبرز إلى ميدان العمل المشترك، فيتكل ويعمل مجتمعاً بعد أن كان يعمل منفرداً. إن روح التعاون والتشارك ظاهرة جديدة وفتح جديد في حياتنا القومية. وعلى استمرار هذه الروح وتغذيتها يتوقف النجاح فيما سيواجه الحركة القومية من مصاعب وعقبات.
الحالة الحاضرة في سوريا، وهي ما نسميها بيقظة، تمتاز بصفتين: الأولى انتشار روح الاستياء الشديد، القائم على الشعور بالخيبة والثانية ظهور روح التعاون والتشارك بمقياس لا عهد لنا به من قبل. وهذه اليقظة حادث اضطراري لم يكن منه بدّ. فهي ليست نتيجة الاختيار والتفضيل، ولا البحث والتنفيذ. فقد حدثت كما ينفجر الديناميت المضغوط حينما تتصل به شرارة. قد ألبسها بعض من عالجها غير ثوبها وأظهرها على غير حقيقتها، فأفقدها أخص ما تمتاز به، وهو طبيعتها الالزامية، وجعلها نتيجة مكائد وأحابيل، ولكن طبيعة الحوادث لا تتبدل بسردها على غير حقيقتها، ولا تتأثر بالطريقة التي يحيكها بها الفكر. أن اليقظة السورية حادث طبيعي يجعل البلاد على أبواب عهد جديد لا تزال تجهل خصائصه ومميزاته. إن التوازن القديم والعلاقات اليت قام عليها قد وهنت وتقطعت. وطبيعة العهد الجديد لاتزال كلمة في صدر الغيب. كل استرسال في الحديث عن المستقبل مجازفة فكرية وقفزة في المجهول، لأن المستقبل مفعم بمختلف الاحتمالات والممكنات. فالعالم الحقيقي، عالم الحركة والواقع، موطن المفاجآت. كل شيئ فيه ممكن.
وإذا لم يكن من المستحسن أو بالإمكان الجزم بالسبيل التي ستسير فيها الحوادث القريبة ويقتفيها التاريخ الحاضر. فإن بالاستطاعة بحث ما نريد وما ينبغي أن يكون. وهذا غير مكتوب في يقظة الشعب بأحرف بارزة لا تقبل الالباس. فاليقظة نتيجة الخيبة والاستياء. واستياء الشعب بدفعه إلى طلب التغيير في أوضاعه وحياته. أما اتجاه هذا التغيير ومداه فغير واضح في نفسه. والأمر الثابت هو أن الشعب لا يريد العودة للأوضاع القديمة، فقد استنفذت هذه مبرراتها واستهلكت قواها وكل ما يمكن تحديده وتلخيصه في هذه اليقظة هو أن الشعب يرمي إلى توطيد كيان بلاده لتصبح في مأمن من موجات الاستعمار، ثم محاربة الفقر ورفع مستوى المعيشة. إن استخراج هذه المبادئ من اليقظة الشعبية لا يحتاج استدلالاً مطولاً لإقامة البرهان على صحته. فهو للفكر السوري من الحقائق الأولية والبديهيات. ولا ينتظر أن يثير بحثاً أو جدالاً، ولكن العقدة لم تحلّ واللغز لم يفسر، والصعوبة تظهر من جديد عندما نخطو الخطوة الثانية في البحث، وهي تحقيق هذه الأهداف. والجواب الاجمالي على هذا السؤال لا يشفي غليلاً.
* * *
ذكرنا أن اليقظة السورية، وليدة الخيبة والاستياء، هي تطلع للتغيير، فالشعب لا يطيق بعد الآن صبراً على العلاقات والروابط التي سادت في المجتمع السوري حتى اليوم. والصلابة المأثورة في عهد الغفلة، وهي التي تحول دون التحوير والتبديل، قد استبدلت مجال من الليونة تمكن القادة من إحداث أثر عميق في الحياة العامة لم يكن ممكناً بالأمس. الأمر الذي يجعل للقيادة أهمية خاصة في هذا الدور. إذ أن النجاح أو الفشل يتوقف بالدرجة الأولى على ما تبديه القيادة من كفاءة صحيحة.
ليس المستقبل مطواعاً ليسهل التحكم فيه كما يفعل الصانع بالخزف، ولكنه ليس محدوداً صلباً مقرراً لا تبدل فيه إرادة ولا تحول مجراه قوة، فهو غير متحجر كالماضي، وليس له شكله النهائي. طبيعته غير محدودة الشكل ولإرادة الإنسان سلطة في تكييفه، وإذا توفرت في القيادة السورية الكفاءة الصحيحة والإرادة المتينة تحكمت في مستقبل البلاد السورية إلى حدّ بعيد.
إن الشعب في حالته الحاضرة مهيأ للتطور السريع، فهل بمقدور القادة أن يحققوا له أرفع ما ينطوي عليه المستقبل من الممكنات؟
إن منشأ بعض المخاطر التي تتعرض لها اليقظة السورية خارجي، ولكن أكبرها وأعظمها شأناً هي ما يهددها من ناحية القيادة، فبحث هذه المخاطر وتحليلها أمر هام ولكننا لم نحاوله الآن، وقد نفعل ذلك على حدة.
نقتصر الآن على ذكر أمر واحد، وهو أن ليس في سوريا تقاليد للقيادة سامية يمكن الاطمئنان والركون إليها، فالمعروف عنها أنها شديدة الحرص على ما اكتسبته من حقوق وما فرضته من واجبات على الشعب، والخطر الكامن من هذه الناحية هو أن يحسب القادة أن مهمتهم تنحصر في اخضاع الشعب وإرغامه وحمله على ما يردون، وأن يكون ما يريدون هو ضالة من قبلهم: المال والسلطة والجاه.
إن الجديد في تكوين القيادة السورية الحاضرة هو تسرب الشعور الوطني فيها، ولكن هذا لم يبدل فيها تبديلاً عميقاً ويصوغها صياغة جديدة. إذ أن الحركة الوطنية في معظم أدوارها، إن لم يكن في كلها، لم تخرج عن موقفها السلبي في كل شيئ، ولذلك لم تلمس الأمور الحيوية في حياتنا القومية، بل تركت كل شيئ على حاله، فالتطور الذي حدث في الشعب حتى الآن ليس من أثر تلك الحركة وحدها، وهو أعم وأبعد مما فكرت به، ورمت إليه، فقيادة الحركة الوطنية تسير الآن في المؤخرة لا في الطليعة، وتأثيرها يكاد يكون مما يعيق الحركة لا مما يسهل سيرها. والخطر الكامن من هذه الناحية بعد أن تكون القيادة رجعية، فلا تحسن العمل تحقيق أفضل ما هو ممكن في مثل الظروف المحيطة والحالة النفسية التي وصل إليها الشعب السوري.
(الطليعة، ع. 8، س. 2، تشرين الأول/ اكتوبر، 1936)