أجواء رمضان والاستعداد لعيد الفطر تطغى على رام الله، فمنذ ما بعد الإفطار تصبح الشوارع مكتظة بالعربات والباعة المتجولين، ويضيف المشاة ازدحاماً هائلاً لشوارعها الرئيسة، خصوصاً حين تم إغلاق الشوارع الرئيسة في وسط المدينة في وجه المركبات، لترك الحرية للمشاة والمتسوقين والباحثين عن قليل من الراحة النفسية، بعد جهد الصيام والجو الحار نهاراً.
فضلت الخروج من هذه الأجواء والاستجابة لدعوة من مسرح المجد الحيفاوي، دعوة وصلتني من بطل العرض إياد شيتي لحضور المسرحية على خشبة مسرح القصبة، وإن كنت قد عانيت منذ فترة بتدني مستوى عدة مسرحيات حضرتها، ولكني أملت أن تمنحني مسرحية (حرية) بعضاً من جماليات المسرح التي افتقدتها منذ فترة، وتمنح قلمي حرية الكتابة بعد توقف عن كتابة قراءات عن المسرح.
خشبة المسرح كانت تمتلك ديكوراً ينطق مسبقاً عن حيثيات العرض، فالحبال وواحد منها يحمل شكل عقدة المشنقة كانت على خشبتين تمثلان الديكور الأساس، وبرميل فارغ وآخر نصف برميل، ومجموعة من الأكياس، إضافة إلى بعض القطع خلف الحبال، وكذلك اسم المسرحية، كانت تشير بشكل أو آخر إلى العرض وماهيته، وكنت أنتظر كيف سيجسد النص مع الممثل فكرة الحرية التي حملها اسم المسرحية.
المسرحية وهي تأليف وإخراج ناظم شريدي كانت عبارة عن خمسة وعشرين مشهداً صورت المشهد الفلسطيني منذ العام 1935 حتى مرحلة الستينيات من القرن الماضي، قام بها جميعا الممثل إياد شيتي، فصورت مشاهد النضال الفلسطيني والمعاناة، من التظاهرات ضد الاحتلال البريطاني مروراً بمشهد إعدام أبطال فلسطين جمجوم والزير وحجازي، وصورت مشاهد لثورة 1936 وزنازين الاستعمار البريطاني، وصولاً إلى مرحلة الهجرة وبيان بعض أسبابها، وتمسك البعض بالأرض حتى لو كان الموت ثمناً للتشبث بالأرض، وصولاً إلى بدء الحركات النضالية بأشكال مختلفة ممن تبقوا في فلسطين، والقمع الذي واجهوه من قبل سلطات الاحتلال الذي مورس منذ البدايات ولا يزال مستمراً.
لعل كل لوحة من هذه اللوحات تمثل بحد ذاتها عملاً فنياً مختصراً، يصور مرحلة من مراحل مسيرة الشعب الفلسطيني، قبل وبعد نكبة فلسطين وضياع معظم الوطن وتشرد الشعب الفلسطيني في المنافي والشتات، ويلاحظ أن النقد للعديد من الممارسات في تلك الفترة كان يختبئ في مشاهد المسرحية، إضافة إلى تأريخ المراحل الزمنية، فقد تمت الإشارة إلى أن أحد قادة الثورة كان يحكم بالإعدام على المناضلين لمجرد الشك في وطنيتهم أو بمجرد الوشاية عليهم بدون التحقق والبحث، ويلاحظ أن المسرحية ركزت على دور بلدة أم الفحم من خلال التركيز على دور أحد أبنائها المناضلين قبل وبعد مرحلة النكبة، وركزت على دور الشيوعيين في تلك البلدة، وهذا أعطى المسرحية في مشاهد ما بعد النكبة بالذات توجهات خاصة وليست عامة، فأم الفحم شهدت حركات نضالية متعددة بعد وقبل النكبة، لم تقتصر على الدور الذي قام به الشيوعيون الفلسطينيون.
الإخراج كان متميزاً في المسرحية، فعلى الرغم من العدد الكبير للمشاهد إلا أنني لم ألمس حصول قطع بين مشهد وآخر، وهذا يدلل على تركيز المخرج على كل لحظة في المسرحية، وأن يكون التواصل بين المشاهد قائماً على الرغم من اختلاف المشاهد عن بعضها، مضافاً إلى ذلك أن اللهجات المستخدمة في المسرحية وخصوصاً اللهجات الفلسطينية لم تشهد خللاً في الأداء، إضافة إلى أن القوة في الأداء وحجم الإتقان للأدوار المختلفة التي أداها إياد شيتي كانت متميزة، وتدلل على قدرات رائعة لدى الممثل.
وفي النهاية أجد أنه لا بد من الإشارة إلى أن المسرحية قد تمكنت أن تخرجني من حالة الملل الذي سببته لي العديد من المسرحيات الضعيفة فنياً في الفترة الأخيرة، فحلقت بي في أجواء قناعاتي أن المسرح يجب أن يكون له رسالة، وأن هذه الرسالة يجب أن تصل إلى أعماق المشاهد، وتتركه بعد العرض لا يتوقف عن الحديث عن العمل الفني، واستعادة المشاهد والبحث عقلياً عن رمزية العمل والمشاهد، وأعتقد أن دعم المسرحية من قبل كل من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "ايسيسكو"، واللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، كان دعماً يستحق الاحترام والشكر، آملاً أن يتاح لهذه المسرحية أن تعرض أكثر من مرة وخصوصاً في البلدان العربية وفي مخيمات الوطن ومخيمات الشتات، فهي مسرحية تستحق من حيث الأداء والمضمون، وكي يبقى حلم الحرية مستمراً على الرغم من رداءة الأوضاع السياسية التي يمر بها شعبنا تحت الاحتلال.
(رام الله 26 آب 2011)