اتسمت تجربة الركابي الإبداعية بالعودة للتاريخ من البداية، وواصل في رواياته الثمانية المهمة استقصاءاته فيه. هنا يقدم شهادته حول منطلق تجربته الإبداعية التي يعود فيها للماضي من أجل أرهاف وعينا بالحاضر.

الرواية والتاريخ: استلهام الماضي

عبدالخالق الركابي

 

 

لقد عدّ النقد روايتي تلك تاريخية، وهو تصنيف تقبلته بشيء من الحذر؛ ففهمي للرواية التاريخية كان يتلخص بتلك النماذج التي تتناول فترات زمنية تتقاطع تماماً مع الحاضر، كما هو شأن روايات (جرجي زيدان)، روايات (نجيب محفوظ) الفرعونية، فكيف يصح تصنيف روايتي ضمن ذلك الحقل، في الوقت الذي لا تزال آثار الفترة العثمانية شاخصة في المجتمع العراقي بكل جلاء؟ سؤال لم يشغلني كثيراً قدر انشغالي بفكرة روائية جديدة سرعان ما ظهرت باسم (مكابدات عبد الله العاشق) اتخذت فيها من الحرب العراقية الإيرانية ذريعة للعودة إلى الماضي، متتبعاً تقلبات شخصية (عبد الله) على مدى أكثر من ستة عقود من فترة تاريخية حفلت بأحداث جسام، خرج في أثنائها العراق من تحت وطأة السيطرة العثمانية ليقع هذه المرة بين براثن الإنكليز. كان الهاجس الذي شغلني آنذاك هو تجنب التطرق إلى مجريات تلك الحرب التي كان العراقيون يعانون من ويلاتها بشكل يومي، مضفياً على بطلي سمات أسطورية أسهمت كثافة الأحداث في تجسيدها بشكل درامي. و هو أمر أرضاني كثيراً؛ ذلك لأنني نجحت في تلك الرواية بربط الأحداث التاريخية بالحاضر؛ إذ إنني اكتشفت في نفسي نفوراً ـ إلا فيما ندر ـ من تلك الروايات التي تدير ظهرها للحاضر، متخذة من الماضي وحده موضوعاً لها، كأني بها تخاطب عصراً غير عصر القارئ الذي سيبقى المتلقي الحقيقي لكل ما نكتب. كما أنني نجحت، في تلك الرواية، بأسطرة الأحداث التاريخية مضفياً عليها بالنتيجة تلك السمات التي قد تكون السبب الحقيقي في احتفاظ غالبية الأساطير بسحرها حتى الوقت الحاضر.
كان بيتاً بدائياً لم تدخله الكهرباء بعد، يعد فيه استبدال الفانوس (أبو نمرتين) بالفانوس الإنكليزي القديم، ومجمرة النحاس بموقد الطين، والجرة الخزفية بالقربة الجلدية أحداثاً على جانب كبير من الأهمية. والحق أن بيتاً على هذه الشاكلة لا يتخذ سمته الطبيعي بمعزل عن عالم الحكايات، وهنا يأتي دور المرحوم أبي؛ فعند ولادتي كان قد تجاوز الخمسين من عمره ـ وهي مرحلة يكون المرء فيها قد أوشك على استنفاد تطلعاته، فأصبح يعول على ذكرياته ـ فكان من تقاليده الليلية سرد قصص الأجداد على مسامعنا فضلاً عن حكايات الطناطل، والجن الذين يختفون بذكر اسم الله، والدراويش السحرة، والغجر الذين يختطفون الأطفال. كان أبي وريث تاريخ شفاهي موغل في البعد، يستطيع، من خلال سير سلسلة أجداد تحولوا إلى غبار، ابتكار حكايات مؤثرة قد تكون حكاية جدي السادس عرفات من أبرزها: فعقب احتدام المعارك بين عشائر عِنَزَة وشمّر هاجر بعائلته من منطقة الفرات الأوسط ليستقر بها، بعد حياة بدوية متنقلة، في منطقة بدرة الحدودية. وكانت هناك أيضا حكايته التي تتمحور حول شخصه ... لم لا؟ فقد كان من أبناء ذلك الجيل الذي ولد أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ إذ البقاء على قيد الحياة برغم كل تلك الحروب ـ دكة أبن رشيد، السفربر، ثورة العشرين، الحرب العالمية الثانية ـ فضلاً عن الأوبئة والمجاعات والسيول وقوانين الأسماك الكبيرة التي تأكل الأسماك الصغيرة، البقاء برغم كل تلك الكوارث يعد بحق ضرباً من البطولة!
وهكذا عدت في روايتي السادسة (سابع أيام الخلق) إلى مخطوط (الراووق) ملاحقاً أوراقه المبعثرة في شتى البيوت والمكتبات لأجمعها من جديد كأنني بذلك أحاول لملمة تاريخ وطني المثلوم، وهذا أمر أحب الوقوف عنده في خاتمة شهادتي بشيء من تفصيل؛ فبرغم أنني أنجزت، عقب هذه الرواية، روايتين ظهرت أولاهما باسم (أطراس الكلام) قبل ثلاث سنوات، وظهرت الثانية باسم (سِفر السرمدية)، وبرغم أنني نشرت على التعاقب مسرحيتين طويلتين هما (البيزار) و (نهارات الليالي الألف)، فضلاً عن مجموعة قصص قصيرة بعنوان (حائط البنادق)، برغم هذه الإصدارات كلها إلا أن هذه الرواية بقيت أثيرة لديّ لكونها مّثلت النقلة الأساسية في فهمي للرواية المعاصرة. جاءت رواية (سابع أيام الخلق) نتيجة شغف عميق بالتراث العربي الإسلامي؛ إذ إنني في واقع الأمر أطمح، منذ فترة مبكرة، إلى تبني الأساليب التراثية في كتابة رواية معاصرة سعياً مني لترسيخ سمات تضفي على الرواية جمالية خاصة تزيد الأساليب المطروقة تنوعا وثراء. وأنا هنا لا تفوتني الإشارة إلى أنه سبق لأكثر من روائي عربي أن استلهم التراث ـ أساليب المتصوفة، السير الشعبية، المقامات، الحكاية العجائبية، قصص الشطار والعيارين...الخ ـ غير أن المحصلة لم تأتِ بمستوى الطموح؛ فالعديد من تلك الروايات لم تستطع البرهنة على نجاحها في معالجتها الإبداعية تلك؛ فأقصى ما تحقق توقف عند استنساخ الأساليب التراثية وإحالتها إلى قوالب صبت فيها مضامين روايات غلب عليها الجانب الشكلي، فأضحت رتيبة، غير مقنعة، مما أفقدها بالمحصلة التواصل مع القارئ المعاصر لكونها أدارت له ظهرها وانحازت إلى الماضي وحده.
إن استلهام التراث لا يعني الوقوع في أسره باستنساخ أسلوب الجاحظ أو التوحيدي أو الحلاج أو النفري أو ابن عربي... الخ، بل يعني استقراءه وتمثله وصولاً إلى صيغة فنية تحمل خصوصية الذات العربية الإسلامية من دون التفريط بحداثة هذه الذات ومعاصرتها. حاولت في هذه الرواية استلهام كتب التراث بجانبيها الرسمي والشعبي: فإجلالي لمؤلفات الجاحظ والتوحيدي مثلاً لم يحل بيني وبين شغفي بألف ليلة وليلة وسيرة سيف بن ذي يزن. كما أن استلهامي لكتب المتصوفة ـ المواقف والمخاطبات، وكتاب الطواسين، و منطق الطير، و حكمة الإشراق، و الفتوحات المكية، وفصوص الحِكَم، والحكمة المتعالية، والمبدأ والمعاد ـ لم يمنعني من عشقي حكايات الشطار والعيارين. إلا أن المشكلة التي جابهتني تمثلت بأن عملية القراءة هي غير عملية الكتابة؛ فما يسهل التوفيق فيه في الأولى قد يغدو أمراً غير ممكن التحقيق في الثانية؛ إذ في الوقت الذي أستطيع أن أشغف فيه بقراءة حكاية (الحمال والبنات) في كتاب ألف ليلة وليلة إلى جانب شغفي بفصل (في معرفة الحروف) من كتاب الفتوحات المكية، فأنه لا يسعني الجمع بينهما في نص كتابي واحد؛ فهنا يستحيل علي التوفيق بين الحكاية الشعبية بتلقائيتها وبساطتها، والنص العرفاني باصطلاحاته الصوفية الصارمة.
كان لابد لي من الوقوع على مصدر ثالث يوفق بين ذينك القطبين المتنافرين، وقد تمثل هذا المصدر بكتاب (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل) لعبد الكريم الجيلي، إذ يعمد هذا العارف الكبير إلى تطوير بعض أفكار ابن عربي ـ ولاسيما فكرة وحدة الوجود التي أثارت الكثير من اللغط ـ مضفياً عليها المزيد من خياله الخلاق، ليتوصل بالمحصلة إلى أن السالك طريق العرفان يمر بثلاث مراحل في عروجه صعوداً قبل أن يفنى في الحق، وهذه المراحل هي: إشراق الأسماء، وإشراق الصفات، وإشراق الذات. وفي الوقت نفسه يتنزل الحق ليلتقي بذلك السالك ماراً بدوره بمراحل ثلاث هي: الأحدية والهوية والإنية. وقد شفع الجيلي تلك المراحل الست ـ صعوداً ونزولاً ـ بشروح مسهبة أنا هنا في غنى عن التطرق إليها؛ فما يهمني إيضاحه هو إظهار كيفية استثمار تلك الأفكار روائياً. كان علي منذ البدء ألا أنسى أنني روائي معاصر ولست عارفاً يستلهم المعرفة (اللدنية) من مصدر غيبي، فكنت ملزماً بإبعاد ذلك الجاني الميتافيزيقي المتعلق بالحق والخلق مستبدلاً به علاقة الروائي بشخصياته الروائية: فهو بدوره (خالق) شخصيات من خياله تعيش وتتنفس في (كون) حروفه وكلماته المحصورة بين غلافي روايته. وهكذا تبلورت لدي (ثيمة) روائية تستند في خلفيتها إلى فكرة الخلق.
يتمحور موضوع هذا القسم حول معاناة الروائي في خلق روايته وذلك بالوصول إلى الصيغة الصحيحة والكاملة لمخطوط باسم (الراووق) اعتوره الكثير من التزييف والحذف ـ بحسب الأهواء والمصالح والمشارب ـ على مدى قرون. أما القسم الثاني من الرواية فيمثل المتن الحكائي، وموضوعه مضمون مخطوط (الراووق). ويتألف هذا القسم من ذينك المعراجين الصوفيين الذين سبقت الإشارة إليهما: أولهما عروج الشخصيات الروائية صعوداً نحو المؤلف، وثانيهما تنزل المؤلف هبوطاً نحو الشخصيات الروائية، ليحقق الطرفان وحدتهما بـ(الفعل) في الرواية بوساطة الحروف والكلمات. وقد تمكنت من تجسيد عمليتي الصعود والنزول بطريقة (الإسناد) التراثية المعروفة: فالصعود يبدأ بأول رواة المخطوط، في حين أن النزول يبدأ بسادس الرواة، فمتن المخطوط في عملية الصعود يبدأ بالصيغة الآتية: (حدثني شبيب طاهر الغياث في ما كتب به إلي قال: وجدت بخط ذاكر القيم عن بعض القيمين على المزار عن السيد نور قال: سمعت عذيب العاشق قال: سمعت مدلول اليتيم قال:
سمعت عبد الله البصير قال: .......) أما متن المخطوط في عملية النزول فيبدأ كما يأتي: (حدثني شبيب طاهر الغياث في ما كتب به إلي قال.....) وهكذا تتكرر هذه الصيغة في مفتتح كل فصل من فصول المتن، حاذفاً في كل مرة اسماً من أسماء الرواة ـ في عملية الصعود ـ ومضيفاً اسماً من أسماء الرواة ـ في عملية النزول ـ ليحقق الطرفان وحدتهما في سفر النون من الحكاية الإطارية، وذلك ما سأتطرق إليه لاحقاً.
ولكون رواة عملية الصعود يمثلون الشخصيات الروائية فقد جاء أسلوبهم في سرد الأحداث "شفهياً" يدور حول "مطلق" بطل الرواية المحوري.. في حين أن رواة عملية النزول يمثلون أقنعة للروائي، فجاء أسلوبهم في سرد الأحداث "كتابياً". تلك هي أبرز خطوط الرواية، وثمة عشرات من الأمور التي لا يسعني ضيق المجال ذكرها. إلا أن ما يهمني الإشارة إليه في هذا الموضع هو أن أحداث الرواية تجري في مدينة خيالية مفترضة تحمل اسم "الأسلاف" أتتبع تاريخ نشوئها من قرية صغيرة إلى مدينة يتخطى عدد سكانها المليون، محاولاً أن أجعل منها رمزاً لمدن العراق كلها؛ فهناك أكثر من سوق وشارع يشبهان أسواق بغداد وشوارعها، فضلاً عن وجود مواضع أخرى تكاد تنسخ مواضع من بعض المدن العراقية المعروفة مثل الموصل والبصرة وكربلاء وواسط وأهوار العمارة بالإضافة إلى مدينتي الصغيرة "بدرة". كما أن "مطلق"، بطل "السيرة الشعبية"، يمر على امتداد حياته بأطوار متعاقبة حاولت بها اختصار تاريخ البشرية: فهو في البداية يقترن بالإنسان الأول وتوزعه بين محوري الخير والشر الذي يحسم بخروجه من جنة "الأمان" إلى جحيم "القلق"، أي أن نعيمه وجحيمه يبقيان حالتين وجدانيتين أكثر من كونهما واقعين ماديين. وكذلك الأمر معه حين يمر بدور قابيل و هابيل؛ فقد جسدت الأمر بانتصار حرفة الزراعة على الرعي. وهكذا تستمر التحولات: الطوفان والقحط و وباء الطاعون، إذ بعده يغدو "مطلق" بشراً سوياً كالآخرين، فيموت تاركاً للرواة من بعده مهمة تأليف سيرته التي تظل تنمو على مدى مئات السنين، يضيف الرواة عليها ويحذفون منها بقدر ما تسعهم مخيلتهم ـ شأن رواة كتاب ألف ليلة وليلة ـ لتغدو في آخر الأمر نصاً مفتوحاً لا يعرف التوقف عند حد، وتتعدد نسخه بعدد كتّابه ـ وإحداها رواية سابع أيام الخلق نفسها ـ مستثمراً في ذلك فكرة عرفانية على جانب كبير من الأهمية في الفلسفة الإسلامية وهي فكرة "الكمال والنقص" التي تطرق إليها ابن عربي في موسوعته الكبرى الفتوحات المكية غير مرة، فعد العلم بالكمال والنقص في الوجود النوع الرابع من علوم المعرفة، قائلاً في ذلك: "اعلم أن كمال الوجود وجود النقص فيه، إذ لو لم يكن لكان كمال الوجود ناقصاً بعدم النقص فيه"، وذلك ما يعقب عليه أحد المفكرين العرب المعاصرين بقوله: " من كمال الإنسان إذن أن يعلم عجزه وفقره إلى الله...وكمال العالم يتطلب وجود النقص فيه حتى تتحقق حكمة الله في الكون".