الكلام في الأجناس الأدبية مبحث نقدي قديم، يجدد نفسه ما استجد شيء في نقد الأدب، أو علوم اللغة، أو في المعارف الإنسانية بصفة عامة، منذ أن اجترح ذلك أرسطو في كتاب البويطيقا(1)، ومنذ أن استند إلى إلياذتي هوميروس، وإلى تراجيديات الإغريق العظام، ليحدد معالم الكوميديا والتراجيديا، ومقومات الشعر الغنائي والملحمي، وغيرهما من فنون الأدب في تلك المرحلة المبكرة من عمر المعرفة النقدية بصفة عامة. بيد أنه، وهو يفعل ذلك، وبغض النظر عن عمق تحديداته النقدية، كان يموقع الإجراء النقدي خلف الإبداع الأدبي الصرف بمسافة كافية لاستيعاب تطور النوع، أو انزياحه عن نوع سابق، أو استغلاله لمكون جانبي أو جوهري من جنس ما، ليتمخض في صورة مغايرة قاطعة مع السابق كليا أو جزئيا، أو متكونة بكيفية خاصة تستوجب إعادة مفهمته ضمن إطاره النوعي الجديد ذلك.
وإذا كان الشعر لا يخلخل جوهريا سالف تحديداته التأصيلية بسرعة، من حيث هو جنس لا يقع على النقيض من النثر، وفق ما أراد له النقد المدرسي لبعض الحين، وإنما باعتباره جنسا يتقاطب نوعيا مع الرواية التي أتاحت لها ليونة مكوناتها أن تتسع شيئا فشيئا لمختلف الأجناس والأشكال والأنواع، وأن تستقطب بمؤهلاتها الفريدة، ليس القارئ المعاصر من حيث هو مستهلك سريع فحسب، بل القارئ الممتاز الذي هو الناقد في مختلف تمظهراته: التطبيقية الإجرائية أو التنظيرية. ولم تتخلص بعد من قدرتها على القفز الرشيق فوق المساعي المختلفة لحصرها خلف التعريفات الصارمة، ولم تستنفذ بعد مواهبها الذاتية في التجدد والتنوع ومد أسباب الحياة إلى أنواع أخر تستعير آلياتها ووسائلها، و تتشبه بها دون أن تكونها أحيانا، ودون أن تكون سواها في النهاية.
هنا ينصرف الوهم إلى التفكير في جنسين أدبيين ما زالا واقفين على عتبة الرواية، يلجانها أحيانا بعض الولوج، ويفارقانها أحيانا دون أن يتخلصا نهائيا من مقوماتها التي قلداها، أو استعاراها لبعض الحين، أو سطوا عليها قصدا حينا ودون قصد في أغلب الأحيان. أما السيرة الذاتية فقد تحددت لزمن طويل ضمن حدود السرد الاسترجاعي الذي يتوسل الذاكرة في عبور نهر الحياة عكسيا هذه المرة، من مصبه إلى منبعه، بحرص كرونولوجي يكاد يكون توثيقا لوقائع المرجع/ العالم الخارجي، قبل أن تحيد قبل عشرات من السنين فقط عن آلياتها الاسترجاعية الكرونولوجية، لتتاخم الرواية وتلتبس معها التباسا مضللا للنوعين معا، وللقارئ والناقد على السواء. وجدناها تتجنس على سرود متعددة بملافظ مختلفة ومحيرة، سيرة ذاتية روائية حينا، ورواية سيرذاتية حينا آخر، ورواية أوتوبيوغرافية أحايين كثيرة، وفي النادر، توصف توصيفا غامضا لم يستبن النقد العربي، والغربي قبله، ملامحه المائزة بعد: تخييل ذاتي (autofiction). صحيح أن الملافظ الأولى تزاوج بين جنسي السيرة الذاتية والرواية مزاوجة مزجية تسهل التكهن بمضامينها، أو بما يقع قريبا من مضامينها على القارئ غير المتخصص، غير أنها تستفز عقل القارئ المتمرس بالنقد ومقولاته ومفاهيمه عندما تزاوج بين جنسين يختلفان من حيث التعريف، والعقد المبرم مع القارئ المفترض، ومن حيث الآليات والأدوات المتوسلة في تبليغ الرسالة، ولا سيما ملفوظ التجنيس الأخير الذي ينبو على الذائقة المتشبعة بأساليب العربية الفصيحة خصوصا عند توصيفه التخييل بالذات، دون الاتساع لقرنها بشيء تحيل عليه: ذات فرد مخصوص، أو مجهول، أو ذات هوية ما محددة أو معومة. هذا في واقع الأمر وجه واحد من الوجوه الغامضة الكثيرة التي تلزم القارئ غير الحذر بطرح أسئلة كثيرة ملحة، وبالعثور على أجوبة ضرورية تمده بالحد الأدنى من أدوات الفهم والتأويل قبل الانخراط في لعبة القراءة بمستوياتها المتعددة.
1. محاولة تأصيل
1. 1. اللغة والذات
أول ما يجب التنبيه إليه في هذا المدخل، هو أن التخييل الذاتي ممارسة سردية ما زالت تؤسس لنفسها ضمن خريطة الأجناس الأدبية المعروفة، وتلتمس الشفاعة الفنية بغية الانتصاب جنسا أدبيا مكرسا وقارا، على الرغم من أن البدايات الأولى لمجموعة من النصوص التي وصفت نفسها بالتخييل الذاتي تعود إلى بدايات السبعينيات من القرن الماضي، في فرنسا بالتحديد، وقد حظيت باستقبال خاص وباهتمام نسبي في البداية قبل أن تصبح محورا لمباحث نقدية مهمة، ومتنا إبداعيا تأسيسيا عند نقاد فرنسيين كبار نذكر منهم فيليب لوجون وفنسون كولونا(2) وجيرار جنيت(3). وقد أثار التخييل الذاتي، منذ ظهور النصوص الأولى التي انتسبت إليه، أسئلة كثيرة وجدلا واسعا، بسبب وقوفه في المنزلة بن المنزلتين من جنسين أدبيين معروفين ومكرسين هما: الرواية والسيرة الذاتية. يستمد أدواته وآلياته منهما جميعا، في نفس الوقت، وعلى المستوى النصي الواحد، غير منحاز بالكلية إلى أحدهما على حساب الآخر. فمن الأول يستمد مشروعية التخييل، بكل ما يتيحه التخييل من حرية مطلقة في بناء الأحداث والشخصيات والفضاء المكاني خصوصا، ومن الثاني يستمد مشروعية الذات والمرجع. إذ تتأسس الذات محوريا لتصير القطب والمناط والمبتدى والمنتهى، تبصر العالم، وتستعيد الأحداث السابقة، تحللها وتعلق عليها وتستكنهها وتعيد تأويل تفاصيلها وفق منظورها الراهن بمحموله من خبرات الحياة والتجارب والثقافة. تمارس من حيث لا تدري أو لا تدري أسمى تمظهرات النرجسية الأدبية، لأن السارد فيها هو الكاتب نفسه، وليس راويا تخييليا ينوب عن الكاتب نيابة أدبية وأخلاقية، غير أنها وهي تفعل ذلك، تربك المتلقي أيما إرباك، أإلى التخييل ينبغي عليه أن يصرف وقائع النص ومكوناته أو إلى المرجع الحي الواقعي الذي هو بالمناسبة حياة المؤلف عينه المعلن عنه؟
يمثل السؤال السابق، على الرغم من بساطته الظاهرة، جوهر الجدل الذي يثيره التخييل الذاتي، لأنه يحمل الناص والقارئ مسؤولية أخلاقية لا سبيل إلى التنصل منها(4). مهما يكن، فإن الالتباس الشديد الذي يخلفه غياب العقد القرائي بين المؤلف الحقيقي والقارئ، سيظل يدفع بهذا الأخير إلى التوجس، والحذر، والريبة، وإلى أخذ المسرود كمعطى يهيمن فيه المرجعي على التخييلي، مع يحمله ذلك من سوء فهم أو تفاهم بين طرفي العملية الإبداعية: النص والمتلقي. وعليه فإن قابلية هذا الجنس الوليد نسبيا للمقاربة التوثيقية، هي ما يفسر في نظرنا إحجام الكاتب العربي عن المغامرة بالكتابة فيه إلا في الاستثناء النادر كما سوف نرى في موطنه من هذه المقالة. إن سوء الفهم الذي أسلفنا الإشارة إليه هو الذي يفسر التلقي الأولي المرتبك للنصوص المبكرة في هذا اللون، إذ نظر إليها باعتبارها سيرا ذاتية متمردة، تجاوزت حدود نوعها دون أن تتعاقد مع القارئ على أنها كذلك أو على أنها جنس ما محدد يتم تعيينه بدقة.
كل شيء بدأ مع الكاتب والناقد الفرنسي سارج دوبروفسكي سنة 1977 عندما جنس نصه (أبناء(fils (5) بتوصيف: تخييل ذاتي، كجواب عملي على السؤال الفعال الذي طرحه فيليب لوجون في خضم تأسيسه لمشروعه الضخم حول السيرة الذاتية:" هل يمكن للبطل الروائي أن يحمل اسم المؤلف نفسه؟". يجيب دوبروفسكي في رسالته إلى لوجون بالقول:" لقد أردت، برغبة عميقة، أن أملأ الفراغ الذي خلفه تحليلكم، وهي رغبة زامنت فجأة نصكم النقدي مع ما أنا بصدد كتابته."(6). وقد برر دوبروفسكي خياراته الفنية المتمردة على التحديدات النوعية المستقرة ولاسيما السيرة الذاتية، تبريرا أقل ما يقال عنه بأنه فتح الباب على مصراعيه لمختلف المعارف الإنسانية لتسهم في تفسير البروز المفاجئ للأنا إلى صدارة الأدب، معرضة هذا الأخير إلى سلسلة من الأسئلة المربكة وإلى هزات عنيفة مست مفاهيمه الأكثر رسوخا، الواقع، الحقيقة، الصدق الفني، التخييل وغيرها، مستجيبة، تحت ظروف تحتاج إلى المزيد من القراءة، إلى تبني بعض الكتاب لمفهوم التخييل الذاتي بالغ اللطافة والزئبقية والرجاجة، الذي ما زال يستعصي على التحديد المنهجي، متنكبين بذلك عن السيرة الذاتية و الرواية وعن كل أوهام الوضوح المفترضة، إلى دهاليز الذاكرة وأنفاقها الحبلى بالمفاجآت المدهشة.
يقول دوبروفسكي مفسرا تنكبه عن السيرة الذاتية: "سيرة ذاتية؟ لا...إنها امتياز خاص بالناس المهمين في هذا العالم، في خريف أعمارهم، بأسلوب جميل. أما التخييل(الذاتي)، تخييل أحداث ووقائع شديدة الواقعية، فهو إيداع لغة المغامرة بين يدي مغامرة اللغة، بعيدا عن التعقل وعن القوانين الكلاسيكية للرواية."(7) ويقول في موضع آخر مفسرا هيمنة الأنا، أناه، على نسيج السرد: "إنني أشتاق إلى أناي على طول المسافة، عن (أنا)، لا أدرك أي شيء. في مكاني.. الفناء.. (أنا) ممزق، أخترع نفسي، فأنا كائن خيالي...(أنا)...أنا يتيم من نفسي."(8). بينما صرح بنجامين كونستان بالقول:" لست في الحقيقة كائنا واقعيا."(9).
يبين المقبوسان السالفان شيئين أساسيين، هما في الحقيقة دعامة اللعبة السردية في التخييل الذاتي، أما الأول فهو إحلال الذات محلا إشكاليا يتذبذب بين الواقع والخيال، الوجود والفناء، الغياب والحضور، الغموض والتجلي في الآن نفسه، بما يجعل العملية السردية برمتها محض بحث أبدي عن الأنا المفقود، عن الذات التي أصبحت فجأة موازيا للعالم، والمعنى الذي أصبح مماثلا للحياة في أعمق صورها غموضا، وتخفيا، واستعصاء عن الفهم والتأويل. أما الثاني فهو كما عبر عنه دوبروفسكي ببلاغة ناصعة، إحلال مغامرة اللغة محل لغة المغامرة، أي نقل مركز الثقل من المغامرة/الحكاية إلى الأداة/لغة الحكاية، ومن ثم تنقلب السيرورة السردية رأسا على عقب، لتوغل في لعبة اللغة وإمكاناتها وإغراءاتها اللامحدودة. تصبح الكتابة ذريعة لنفسها لا لشيء وراءها، تحاول أن تتخفى كالزجاج المعشق وراء تشكيلات الرموز عن أداء مهمتها الكشفية عما وراء الزجاج من حياة واقعية، وتتنازل طواعية عن مهمتها التبليغية من أجل وظيفتها الأخرى الشعرية، كما لو أن البحث عن الذات المفقودة كفيل بتبرير كل الانتهاكات(10). نسارع هنا إلى التصريح بأن أهم ما يستفز الذائقة، أثناء المباشرة الأولى لأي نص من النصوص التي اختارت الانتماء إلى هذه الممارسة السردية الفتية، هما مكونان اثنان مهيمنان أشد ما تكون الهيمنة، ذات عليا مركزية أحادية الرؤية، ولغة منفلتة من مختلف الإكراهات التي يفرضها الانتساب إلى النوع.
من البديهي إذن، أن تصبح الكتابة، وفق هذين المكونين، ممارسة ذاتية خالصة، والنص نصا شخصيا حرا ليس ملزما بشيء واقع خارج ذات كاتبه، ينطلق من تجربة واقعية معيشة، أو يفترض أنها كذلك، قبل الاسترسال في بحث استقصائي للتفاصيل والذكريات والأحاسيس الشاردة، بغية ترميم الصدوع وإزالة الخدوش عن صفحة اللاشعور، ورصفا متأنيا لأقصر المسافات المؤدية إلى الهوية المغيبة تحت طبقات رسوبية كثيفة لحياة لم تحفل كثيرا بالذات وأشواقها. ذلك ما يفسر إلى حد كبير في اعتقادنا، ما في التخييل الذاتي من قلة حفاية بإبراز واقعية الأحداث المسرودة، أو تخييليتها، إلا بالقدر الذي يعطي للذاكرة واللاشعور ما يكفي من الدافعية للغوص تحت الكثافة الحسية، والتملص من سلطان العقل وصرامته في ممارسة شخصية للتحليل النفسي وأبعاده الاستبطانية العميقة. تؤكد مادلان والات ميشالسكا بأنه "ليس من المدهش أن يكون التخييل الذاتي الوثيق الصلة بالتحليل النفسي هو جنس الغموض بامتياز، جنس يجمع بين وقائع حياة معيشة واسترسالات التخييل."(11)، ثم تتساءل:" لماذا العودة إلى وهم اللغة (الآدمية) المتعلقة بتناسب الكلمات والأشياء بعد التفكيك الذي أحدثه التحليل النفسي واللسانيات؟. إن الجدلية المتعلقة بالتخيل الذاتي وكشف الذات الأكثر انتشارا ترجع في الحقيقة إلى هذه النظرة الماضوية."(12) صحيح أن الرغبة في الاستبطان وفي تفكيك الكيان الحياتي المترسب عبر السنين، والتفرغ في مرحلة من العمر لمراجعة موقع الفرد من العالم، ومن نفسه، وما الذي حصل بالتحديد لتكون النتيجة في النهاية هي ما هي عليه الذات الساردة أثناء مباشرتها لهذا الحساب السردي العاري من أي ادعاء أو زيف، لأنه ينشد المعرفة و ويروم الإحاطة علما بالمغيب في بعض بمنعرجات الحياة، وأسباب انتكاساتها، وعوامل الضعف البشري، والنقص، وكل مكونات هذا العالم المائج بالمصائر. يبدو ما سبق مبررا جاهزا لتفسير الولع النرجسي بالذات في هذا اللون من الممارسة النصية، بيد أننا سرعان نتدارك الوعي بالمنجز الضخم الذي حققه التحليل النفسي، والانتشار الواسع له في ميادين مختلفة من النشاط الثقافي والأدبي على السواء. ولم يغب عن ذهب الكتاب ولاسيما كتاب السيرة الذاتية بأنه في اللحظة التي تأخذ فيها الحياة شكل النص، منقلبة من ذكريات وأحاسيس وهواجس إلى سرود مسطورة على جسد البياض، تكف الحياة عن واقعيتها وحقيقيتها لتصبح تخييلا صرفا.
لقد كان الوعي بالمسخ الذي يصيب وقائعية الحياة أثناء التنصيص مؤثرا على التلقي النقدي للأدب عموما، ولما يقع في حيز السيرة الذاتية أو قريبا منها خصوصا، فلم تعد الحقيقة عند ألان روب غرييه وعند رولان بارت مثلا هي الكلمة الأخيرة للنص، وإنما هي الكلمة الغائبة عنه. وعليه، هل يمكن اعتبار التخييل الذاتي نسخة حداثية عن السيرة الذاتية القديمة في عصر نذر نفسه للشك في كل شيء؟ "هذا ما ينبغي تأويله كمكون من مكونات الثقافة ما بعد حداثة، بالإضافة إلى انهيار الدوغمائية التاريخانية والتفاسير الميكانيكية الجاهزة، أدت إلى ظهور فكر ذاتي التنظيم، عشوائي، ومتعدد الأشكال."(13).
1. 2. الهوية الأعلاميةonomastique .
تفرض علينا الهوية السردية المؤكدة للتخييل الذاتي أن نحدد الآليات التي ينبني وفقها السرد، والقوانين التي تضبطه إن كان ثمة قوانين، والمكونات التي يلتف حولها غزله السردي وهو ينتسج، والأفضية التي يتحرك ضمنها أو فيها، وغيرها من مألوف مااعتدنا الاشتغال عليه في الهويات السردية المعروفة ولا سيما القصة والرواية. لقد طالعتنا المقاربات الأولى التي اشتغلت على هذه الممارسة السردية الجديدة بمجموعة من التحديدات التي حاولت حصر آلياتها المميزة لها، لم تأخذ بعد صبغة الناجز، ولا صلابة المتن النقدي المنجز حول الرواية، لأنه كممارسة سردية جديدة، ما زال لم يراكم بعد من النصوص ما يكفي لفرز عناصر ثابتة متواترة، تسمح بما يشبه التعيين الأولي لقوانين انبنائه كهوية سردية خاصة، لها من شرعية متنها الإبداعي والنقدي ما يؤهلها لمصاف النوع. وعلى الرغم من ذلك، أمكن لبعض الدراسات الجادة في فرنسا خصوصا أن تشرع في مراكمة قراءات كافية لإضاءة عتمة هذه الممارسة الغامضة والمربكة في نفس الوقت، فقد وجدنا فنسنت كولونا الذي أنجز أطروحته للدكتوراه، تحت إشراف جيرار جنيت، حول التخييل الذاتي، يؤكد بأن المكون الفارق لهذا الأخير هو أنه: "تخييل الذات fictionnalisation de soi (14) أي وضع الذات، ذات الكاتب/ السارد موضع المادة التخييلية، بمعنى آخر، جعل الذات محور جميع التكوينات التخييلية المعروفة في مفاصل الرواية، كأن الكاتب هنا لا يستمد وقائع عالمه التخييلي من الخارج، بواسطة الخيال، بقدر ما هو قصر الخيال على الذات دون سواها، في كل الأحوال، وأثناء جميع المراحل التي تتشكل فيها الحياة وتتخلق في نواة السرد وجسده وروحه على السواء. لا يخفى أن التحديد الذي يورده كولونا يزرع الكثير من الشك في جدوى القراءة المرجعية، بل يميل إلى إلغائها، تماما كما يلغي القراءة النسقية من الأدوات النقدية التي تطمح إلى مقاربة هذا اللون من الكتابة، الذي يظل، في الأخير، صورة رمزية ملغمة عن السيرة الذاتية. صورة أبدعها دوبروفسكي تحديا للتحديدات المنهجية التي وضعها لوجون للسيرة الذاتية، ولمفهوم العقد السير الذاتي بالتحديد، وهو عقد يقوم أساسا على تماهي الهوية الأعلامية(15) للشخصية المحورية والسارد والكاتب. تجدر الإشارة إلى أن الهوية الأعلامية السالفة الذكر هي المكون الوحيد الفاصل بين الرواية والتخييل الذاتي، فإذا كانت السيرة الذاتية تفصح عن جنسها منذ البداية، وتوجه التلقي وجهة مرجعية خالصة، من خلال العقد القرائي المحيل إلى حياة الكاتب الحقيقي دون سواه، بشفافية ووضوح وقصد، فإن التخييل الذاتي لا يفعل ذلك، على الرغم من تقاطعه مع السيرة الذاتية في تطابق أسماء الرواي والكاتب والشخصية، ولا ينتسب كذلك إلى الرواية على الرغم من استعماله لجميع آليات السرد الروائي باستثناء الشخصيات التي تحتفظ بأسمائها المرجعية الواقعية، بما فيها السارد الذي هو الذات/الكاتب في نهاية المطاف. وتتورط الشخصيات والذات الساردة معا، رغم واقعيتها المفرطة، في لعبة سردية تخييلية لها جميع مقومات اللعبة الروائية دون أن تكونها في النهاية.
هذا الالتباس الشديد، وهذا الغموض الذي يكتنف مفهوم التخييل الذاتي، جعل جاك لوكارم يميز بين نوعين كبيرين من التخييل الذاتي، أو بين صنفين مميزين داخله، أولهما: هو ما يصلح أن نطلق عليه التخييل الذاتي الحقيقي، حيث الأحداث والوقائع قد حدثت ووقعت صدقا وفعلا، وفي هذه الحال لا ينصرف التخييل إلى محتوى الذكريات المسرودة، وإنما إلى طرائق السرد وأساليب التلفظ. وثانيهما: هو ما يمكن توصيفه بالتخييل الذاتي العام، حيث يتم مزج الحياة الحقيقية بالمتخيل، فلا المسرود حقيقي كما ينبغي أن تكون الحقيقة في السيرة الذاتية، ولا هو خيالي صرف كما ينبغي أن تكون الوقائع في الرواية، وعلى هذا الأساس اقترح ما سماه بدوره العقد التخييل ذاتي الذي سيكون بالتأكيد متناقضا(16)، بدل ما سماه لوجون العقد السير ذاتي.
أما جيرار جنيت فيميز تمييزا معياريا صارما قائما على أساس الصحة والزيف، وضمن العقد الأعلامي، بين صنفين من التخييل الذاتي:" التخييل الذاتي الحقيقي الذي يمكن توصيف مضمونه السردي بالأصالة التخييلية."(17) ويمثل له برواية الألف (l'Aleph) لبورجيس وبالكوميديا الإلهية لدانتي، أما الصنف الثاني فيوصفه توصيفا معياريا قاسيا باعتباره تخييلا ذاتيا زائفا، لأنه ليس تخييلا إلا من أجل العبور أو الجمركة la douane ، بمعنى آخر، ليس سوى سيرة ذاتية تشعر بالعار."(18). لا يخفى أن جنيت يلغي بتصنيفه هذا أية رغبة للتخييل الذاتي في احتياز التصنيف الأجناسي ضمن خريطة الأنواع الأدبية، ويلغي بالمرة مساعيه الحثيثة إلى بلورة شبكة من الآليات القادرة على تخصيصه وتمييزه عن غيره من الأجناس التي يتماس معها على مستويات إشكالية عديدة.
لقد سلفت لنا الإشارة إلى التبعات الأخلاقية التي يجرها التصنيف على النصوص، وهو بالتحديد ما يحيل إليه المقبوسان السالفان اللذان صنفا التخييل الذاتي ذلك التصنيف المعياري الذي أورده جنيت، مؤكدا على الطبيعة السيرية للتخييل الذاتي بالدرجة الأولى، وعلى طبيعته التنصلية المستعرة من أصلها في الدرجة الثانية، كأنها، كممارسة سردية، تتهرب من الاعتراف بطبيعتها المرجعية، تنصلا من المسؤولية المعنوية، عن تبعات الالتباس بحيوات الآخرين من حيث تحكي حياتها الشخصية، وتتخفى تحت التخييل لصد التهم التي يستتبعها الحفر في بيوت الآخرين، و من حولها، من أجل ذلك صرحت أني إرنو بالقول:"إن التخييل يحمي."(19)، يحمي كحجة واردة كوثيقة تعريف، أو كجواز سفر، يعلن ابتداء عن هويته القائمة على التخييل الصرف، ومن ثم فإن الحفريات، ومختلف أشكال التحليل، والذكريات المتقاطعة بالتأكيد، مع ما لا يحصى من الهويات الإنسانية، التي تقاطعت سبلها مع سبل الذات الكاتبة في معمعان الحياة ومعتركها، هي من حيث التعريف محض تهويمات تستمد الخيال بالدرجة الأولى، تسمح للناص بالاعتراف بدقائق الهواجس الذكرياتية، دون أن يجعل الآخرين يعترفون بدورهم(20)، ودون أن يعرض نفسه لإكراهات السيرة الذاتية التي قد تبلبل حيوات اللاعبين اللاإراديين في مسرح الحياة الشخصية. هنا تكمن الطبيعة (الجمركية) للتخييل التي ساقها جيرار جنيت وأكدتها بصيغة أخرى أني إرنو.
لقد تمكن جيرار جنيت من دفع القراءة النقدية إلى تبني معياري الصدق والزيف، الحقيقي والمفتعل، في مقاربة التخيل الذاتي، منذ تلك اللحظة التي أصبحت فيها الذات محور العملية التخييلية كلها، وأصبح ممكنا التساؤل في ما إذا لم يكن الكاتب يسعى إلى اختلاق شخصية أخرى غير شخصيته الحقيقية، وإلى تشييد عالم ليس بالضرورة أن يكون عالمه الواقعي، وإلى تأثيث فضاء استهواه أو أراده أو تمناه دون أن يكون فضاءه الأصلي، وذلك ما أشار إليه كولونا من طرف خفي عندما صرح بأن التخييل الذاتي "ممارسة تستعمل أدوات التخييل المتمحور حول الذات لأسباب غير سيرية."(21)، مما جعل دوبورفسكي يحتج بقوة على ذلك التفسير الذي يحمل معنى الاتهام، مصرحا بالقول:"إن تصوري عن التخييل الذاتي ليس هو تصور فنسنت دو كولونا (عمل أدبي يقوم الكاتب خلاله باختلاق شخصية ووجود، محتفظا بهويته الحقيقية " اسمه الحقيقي". إن الشخصية والحياة المذكورة هنا هي شخصيتي وحياتي وشخصيات أناس حقيقيين يشاركونني حياتي."(22)
لا يخفى أن معياري الصدق والكذب في الحقيقة يظلان معياريين اعتباريين لا ينبغي إقحامهما في عالم التخييل الذي يظل أساسا ممارسة تستعصي على الإخضاع للمعايير الأخلاقية، بل يتوجب إبقاؤها بعيدا عن هذا المنزلق المحفوف بالمخاطر، فالأصل في العملية الفنية هو صناعة الجمال والدفع إلى تذوقه، وإلى معرفة مواطنه في العالم، وفي التجربة مع العالم. إن تلك الممارسة الواقعة على حواف كثيرة التي يراهن عليها التخييل الذاتي هي قبل كل شيء ممارسة واقعة في منزلة وسطى بين منزلتين حافتين: الصدق والكذب، الحقيقي والزائف، الأصيل والمفتعل. هي ممارسة تريدنا، على رأي روب غرييه، أن " نتقبل الافتراض، الشك، الغموض، والقطيعة، كعلائق عادية مع الواقع."(23). وعلى هذا الأساس لا يطمح التخييل الذاتي إلى قول الحقيقة، ولا يمكنه أن يفعل على كل حال، بقدر ما يدفعنا بتقاطبه الذي ألمحنا إليه إلى الوعي بأن الحقيقة مستحيلة الإدراك، وأن اللعبة التي يمارسها هي في الأساس انزلاق أبدي بين الأصابع الراغبة في القبض على الحقائق الهاربة، وإذا كان الأدب عند كتاب الحداثة هو "البحث عن الحقائق والقيم، فإنها عند كتاب ما بعد الحداثة قد فقدت نهائيا هذه الأبعاد."(24)
المثير للاهتمام حقا، هو أن التخييل الذاتي قد أعاد إلى الواجهة جملة من المفاهيم التي غيبها الخطاب النقدي الحديث تحت ترسانته الاصطلاحية التي أملتها الرغبة الشديدة في إخضاع الظاهرة الأدبية إلى قوانين العلم الذي بشرت به البنيوية والشكلانية الروسية منذ بداية القرن المنصرم، مفاهيم أزيحت ردحا من الزمن من الشبكة المفهومية المنسجمة مع تطلعات السرديات والسيميولوجيا والشعريات بالخصوص، مثل مفاهيم الذات، الهوية، الحقيقة، الصدق وأخيرا كتابة (الأنا) التي أزيحت، كما أزيح المرجع نهائيا أو كاد، تحت مقولة موت المؤلف التي نادى بها رولان بارت. وفكرة موت المؤلف ليست في الواقع سوى إقصاء نهائيا لمتعلقات الذات والذاتية في الأعمال الأدبية، تمكنت من التحكم لعقود متطاولة في سيرورة المقاربة النقدية للنصوص، قبل أن يهل عهد ما بعد الحداثة(25) الذي ظهر التخييل الذاتي فيه مكرسا لما يشبه القطيعة مع مستقر ذلك الخطاب النقدي الصادر في مجمله عن الرغبة العميقة في العلمنة التي لا تنفك تراود الأدب عصرا بعد عصر.
1. 3. البعد المرجعي/ البيوغرافي
إذا كانت الذات هي محور العملية التخييلية، ومادتها ومضمونها معا، تغذي السرد، وتؤطر الحكاية، وتستعيد التجربة الحياتية عن طريق الانتقاء والحذف والاختيار بغية تأسيس ملفوظ قادر على غواية القارئ، بمختلف مستوياته، واستدراجه إلى الانخراط في القراءة والتأويل استكمالا لدورة العمل الأدبي كما يعرفه النقد المعاصر، فإن القوانين التي تحيط بهذا الجنس التأسيسي إلى حد الآن لم تلغ المرجع إلغاء نهائيا، ولم تستطع حصر السيرة الذاتية عن التسلل إلى حدوده، بحكم الذات الكاتبة أولا، وبحكم القوة المهيمنة للمعيش الذي يغذي السرد، وينميه، بل بحكم الموقع الابتدائي الذي يحتله المعيش في هذا اللون من الكتابة، فهو مبررها، وسببها، وعلة وجودها، وبحكم عجز الخيال نفسه عن التخلص نهائيا من رواسب الذات وتجاربها مهما أمعن في التجرد والاتساع والانتشار والبعد عن المصدر. قال جيرارد دو نرفال:" أن نبدع، هو في الحقيقة، أن نتذكر."(26) وقال صموئيل بيكيت: "إننا لا نخترع شيئا، نعتقد بأننا نخترع، نهرب، ولكننا لا نزيد على أن نتلعثم بدرسنا."(27) بمعنى آخر: "حتى عندما نلفق قصتنا، فإننا نظل دوما صادقين."(28) ثم إن" سر الشخصية العميقة، لا نتوصل إليه بمجهود التذكر، ولكن بفعل الكتابة."(29) وعلى هذا الأساس التبست الكتابة في التخييل الذاتي بمقومات خيالية مرهفة تمارس سحرا مضللا للناص والمتلقي على السواء، ترق، من جهة، وترهف إلى حد ملامسة أدق المواطن حميمية في الروح، فتصبح الوسيلة المثلى للغوص على الهارب والممتنع عن البوح على سرير الطبيب النفسي، بينما يؤاتى الكتابة ويذعن لسحرها النبيل بصورة مثيرة للدهشة، هي ربما ما يفسر لوحده سطوة التخييل الذاتي وقدرته على المراوغة والمماطلة، والاستمرار على الرغم مما يحفه من ضبابية وغموض.
أما الجانب الآخر من الكتابة، الذي يقف على النقيض من دورها السحري النبيل في التسلل إلى أشد مواطن الذات حميمية فهو انتهاؤها إلى الوقوع في قلب التخييل ولحمته وسداه، من خلال دورها الخلاق في إعادة صياغة الواقع وإخضاعه لمقتضيات التخييل الذاتي الذي لا يختلف كثيرا من هذه الناحية عن الرواية وآلياتها في بناء عالمها الخاص، منتهية بالقارئ، في الممارستين، إلى اليأس من الحقيقة التي يبحث عنها في السيرة الذاتية، وإلى الاستسلام لغوايات الخيال المحلق بعيدا عن الواقع القريب، والحقيقة المأمولة. من أجل ذلك لم يخف لوجون إنكاره للوضعية الشاذة التي يخلفها التخييل الذاتي باحتماله لإمكانيتين متناقضتين داخل المسمى الواحد، إمكانية الإخلاص للمرجع، وإمكانية الوقوع بالكامل في مغبة الاختلاق البعيد بالكلية عن الحقيقة والواقع، يتساءل: "كيف يمكننا الجمع تحت اسم واحد بين أولئك الذين يعدون بالحقيقة كلها(أمثال دوبروفسكي) وأولئك الذين يلجؤون إلى التلفيق والابتكار؟"(30) مهما يكن، فإن التلفيق والابتكار لا يمكنهما بأي حال أن يلغيا نهائيا نصيب المرجع في العملية، فليس هناك، في ما نعلم، تخييلا مجردا كل التجريد عن الواقع والمرجع، وإنما الاختلاف في درجة الوفاء للواقع/ التجربة الذاتية الخالصة هنا، وهو شان السيرة الذاتية، أو الوقوف عند مقدار تغذية المخيال بروافد من التجربة الذاتية، بقصد أحيانا، ودون قصد في أغلب الأحيان، كما هو الشأن في الرواية.
لابد من الإشارة في هذا السياق، على هامش الاستفهام الإنكاري الذي صرح به لوجون، إلى الوضعية المأزقية التي تضعنا فيها الأنا الساردة. أنا زئبقية رجراجة، شديدة التأرجح والحركية، أبدية البحث عن نفسها. تتماسك أحيانا وتستسلم لكثافة العالم حتى تصير موجودا حيا قابلا للتموقع والتشكل، وتستسلم أحيانا للرغبة الذاتية، والطموح الشخصي، في تمثل أشد الحالات خيالية، يسندها اللاشعور، ويغيب عنها الوعي. بمعنى آخر، نقرأ تعابير الأنا الراغبة في بعدها المرادف للاوعي والكبت والغرائز المقموعة، وليس أنا الوعي المدرك لخصوصية الذات في الزمكان الكوني، بيد أن وقع الوضعية اللسانية للأنا المتكلمة في النص، يعطي ثقلا مرجعيا مهما للحظة السردية المستندة على أسماء الأعلام الحقيقيين بمقتضى الشرط النوعي لهذه الممارسة الجديدة، بما يجعل تجاهل البعد المرجعي التوثيقي للنص ضربا من التحامل غير المبرر. كما إنه من الصعب أن لا تؤدي الوضعية السردية للأنا المشار إليه آنفا، إلى وضعية معنوية محرجة عندما تحيل إلى هوية ذاتية يصعب أن تتنكر للهوية الجماعية المتمثلة في المجتمع الذي تنتمي إليه الذات الساردة.
الواقع إن هذا البعد الجمعي للذات الساردة هو وحده ما يبرر وجود التخييل الذاتي ضمن نسيج الأدب، لأنها تعرفنا بموقع الآخر وبتجربته في الوسط الإنساني العام، من حيث تعرفنا بموقعها الخاص، وتتكاثف رمزيا لتحيل على الحياة، وعلى العالم برمته، وإلا لبثت ممارسة نرجسية قد لا تعني إلا صاحبها، من أجل ذلك ربما، ليس عبثا أن تبني الرواية المعاصرة، حسب إميل بنفنيست، أسسها على" الوضعية اللسانياتية للذاتية."(31) وهي وضعية تسعى التي إثبات الآخر في مواجهة الأنا، دون أن تصادر حقه في الوجود منذ اللحظة التي أثبتت ذلك الحق لنفسها بالانطلاق من ضمير المتكلم (أنا)، وعليه لم تعد الرواية المعاصرة، ومعها الممارسة السردية التي نحن بصددها، تهتم بإيراد رؤية خاصة للعالم بقدر ما تهتم بإثبات مشروعية وجود الأنا بإزاء الآخر(32).
مهما يكن من أمر، فإن التخييل الذاتي، الذي أبنا عن الثقل المرجعي لمضامينه، وعن مركزية الأنا والحياة الشخصية وهيمنة الذاكرة والذاتية فيه، لا يخرج عن كونه ممارسة إشكالية محورة عن السيرة الذاتية، إشكالية من حيث إخلالها بالعقد الأوتوبيوغرافي الذي حدده لوجون لهذا النوع من الكتابة، ومحورة عنها من حيث التزامها بأهم مكونات السيرة الذاتية المتمثلة في الهوية الأعلامية للشخوص، وفي الحرص على الوفاء للحقيقة والواقع ما أمكن الذاكرة نفسها أن تكونه، مع الأخذ في الاعتبار بشتى العوامل النفسية والعصبية والفنية التي تتحكم في صياغة الاسترجاع والتذكر، وفق قوانين الكتابة وآلياتها ومقتضياتها. هل يمكن اعتبار التخييل الذاتي سيرة ذاتية ما بعد حداثية كما اقترح دوبروفسكي إذن؟(33) لقد حدد جملة من الشروط التي ينبغي أن يتوفر عليها النص لكي يصح عليه ذلك الإطلاق، وهي شروط ضيقة ومتطلبة، من الصعب أن تستجيب لها كثير من النصوص المنتسبة إلى التخييل الذاتي في واقع الأمر، باستثناء نصوص دوبروسكي نفسه. أول تلك الشروط هو ما أطلق عليه اسم الإشارات المرجعية، وتضم الهوية الأعلامية، اسم المؤلف الحقيقي، وأسماء الفاعلين النصيين الحقيقية كذلك، مع الحرص على سرد الحقيقي والواقعي من حياة الكاتب، وعلى البوح المطلق بحقيقة الشخصية الحميمية، مع تقبل ما يجره ذلك من مخاطر. وثاني الشروط هو إثبات السمات الروائية، في الصفحة الأولى من الرواية، في موقع العنوان الثاني يجب أن يثبت التحديد التجنيسي (رواية)، بالإضافة إلى تبني استراتيجية الرواية في السرد وفي بلورة إجراءات التلقي، أما الشرط الأخير فيتعلق بالاشتغال على النص، بالبحث عن الأساليب السردية المبتكرة، وتجنب التكوين الخطي للزمن، عن طريق الانتقاء، التكثيف، التشذير،
التداخل وتعدد الطبقات(34).
1. 4. البعد التخييلي الروائي
ما يعنينا هنا هو الشرط الثاني الذي حدده دوبوروفسكي، والذي يسطر الطابع الروائي في مستويين مهمين في اعتقادنا، مستوى التجنيس الذي يفصح عنه في عتبة النص الأولى، التي يجب أن تحمل الطابع النوعي للرواية دون الطابع الأوتوبيوغرافي أو التخييل الذاتي الذي ينتمي إليه النص في واقع الأمر، ومستوى استراتيجيا الكتابة وآليات النص التي أكد على وجوب انبنائها وفق النمط الروائي المعروف باتساعه لشمول مختلف الأنماط والأنواع والأشكال الكتابية، من الرسالة إلى الشعر، إلى المذكرات الشخصية، إلى الرحلة. نمط قادر على استساغة الروغان، واللعب الأسلوبي، ومختلف الصياغات المتأرجحة بلباقة بين مختلف المستويات والوظائف التي توفرها لعبة الرواية التي جعلت هذا الجنس الأدبي قادرا على القفز اللبق فوق التحديدات الصارمة، بما جعلها نوعا متجددا ومنفتحا على جميع الإضافات التي ما زالت تبدعها قرائح الكتاب، في شتى اللغات، وفي شتى بقاع العالم، حتى ليمكن اعتبار الرواية نمطا أدبيا استطاع أن يكرس العولمة الأدبية والثقافية في أعلى مستوياتها.
إذا أقررنا بقدرة الآلية الروائية على إمداد التخييل الذاتي بإمكانات لا حصر لها في بلورة مشروعه التخييلي، فإنه لا يمكننا أن نغفل عن العقد المضلل الذي تمارسه عتبة(الرواية) المسجلة في غلاف النص، حيث تهمل البعد الأوتوبيوغرافي الذي أبنا عن عمق حضوره في ممارسة التخييل الذاتي، وتوجه القراءة وجهة أخرى غير تلك التي ينبغي أن تأخذها القراءة المعاصرة الإيجابية بدورها التفاعلي المشارك في بناء العمل الأدبي المعاصر. ولم نجد من جانبنا تفسيرا لهذا المنحى سواء عند دوبروفسكي أو كولونا أو جنيت، غيرهم من النقاد الذي اشتغلوا على التخييل الذاتي(35)، ولم نجد تفسيرا للغفلة عن هذه القضية الواقعة في قلب الإشكال الذي يثيره التخييل الذاتي بطموحه إلى التكريس ضمن الخريطة الأجناسية للأدب المعاصر، باستثناء اعتبار الأمر اعتبارا جزئيا وتفصيلا لا يغير من الطبيعة الجدلية لهذه النصوص، التي قد يكون تجنيسها ضمن نوع الرواية بمثابة الضرورة التسويقية للمنتوج تحت علامة أدبية متداولة وراسخة بدل المغامرة بعلامة لم تثبت نفسها بعد.
الواقع إنه بقدر ما يبدو التفسير التسويقي الآنف مغريا ومريحا، فإن النظريات التي تبلورت طويلا حول الرواية والسيرة الذاتية تجعلنا نحجم عن الاستنامة إليه باطمئنان، إذ أكد لوجون على الطبيعة التخيلية للسيرة الذاتية نفسها عندما صرح بالقول:" إذا عرفنا معنى الكتابة، فإن فكرة العقد الأوتوبيوغرافي تبدو وهما، ويا لسوء حظ القارئ الساذج الذي يؤمن به. فإن الكتابة عن الذات هي قدريا اختلاق للذات."(36) ويؤكد أندري موروا بدوره بأن: "السيرة الذاتية، بدل من أن تمكن من معرفة الذات، تدفع بكاتبها إلى خيانته لذاته بطريقة يستحيل تجنبها."(37) لا يخفى بأن الشك الذي يورده لوجون بخصوص العقد الاوتوبيوغرافي هو شك ملغم بالدرجة الأولى، لأنه يقوض فكرة العقد القرائي التي يرجع الفضل إلى لوجون نفسه في ابتداعها، ويلغي الحدود الفاصلة بين الأنواع ويعيق جسر القراءة الذي يبسطه العقد بين القارئ والعمل الأدبي، حتى كأن لوجون يمهد لفكرة انفجار الأنواع الأدبية وتشظيها وتداخل الحدود بينها تداخلا يجعل الغموض سيد الموقف، والقراءة مغامرة في معميات النصوص وسدمها المبهمة.
بالإضافة إلى المنحى التقويضي الذي يمارسه المقبوس السالف، فإنه يعيدنا إلى المربع الأول المتعلق بآليات الذاكرة في الاسترجاع والانتقاء والحذف والتضخيم والتجزيء في عملية كتابة الذات التي تستحيل إلى مجال رحب للخلق والإبداع والإضافة والتحوير والاختلاق والتخييل، محيلة السيرة الذاتية نفسها المعلنة عن نفسها صراحة إلى مجرد ذريعة نفسية للكتابة من حيث هي استسلام مبدئي لغوايات اللغة والخيال. وعليه يصبح التخييل الذاتي، كذلك، هو ما أعلنه جوستاف فلوبير في عبارته الشهيرة: (مدام بوفاري هي أنا)، وما أعلنه أندري مالرو:" ليس حقيقة، وليس كذبا، ولكنه معيش."(38) وما ألمح إليه أندري جيد: "ليست المذكرات مخلصة للحقيقة إلا جزئيا، مهما كانت الرغبة كبيرة في التزام الحقيقة، الأمر أكثر تعقيدا مما نصرح به، ربما نكون أقرب ما نكون من الحقيقة في الرواية."(39)
إن الاستحالة التي يمثلها الالتزام بالحقيقة والوفاء للمرجع تجعل التخييل الذاتي ممارسة مراوغة بما تجسد من تناقض بين "الواقع والتخييل، ولا سيما بتمييع العقد الأوتوبيوغرافي."(40) تمييعا يتحدى القارئ ويحدد خياراته القرائية، بين التقبل أو الرفض، وبحسب ما تمليه هويتها السردية وخياراتها الجمالية. من أجل ذلك لم يتوان جنيت عن إطلاق صفة التخييل الذاتي على رواية مارسيل بروست الشهيرة (البحث عن الزمن الضائع)، إذ أكد بأن " الطريقة التي لخص بها بروست عمله ليست طريقة كاتب نصوص ضمير المتكلم أنا مثل جيل بلاس، ولكننا نعلم، وبروست يعلم أحسن من غيره، بأن هذا العمل ليس سيرة ذاتية. يجب إذن استحداث مفهوم وسيط (للبحث عن الزمن الضائع)، وأحسن مفهوم، بدون شك، هو المفهوم الذي أطلقه دوبروفسكي على أعماله الخاصة: تخييل ذاتي."(41) يدفع جنيت، بموقفه السالف من (البحث عن الزمن الضائع)، سواء عن قصد أو عن غير قصد، إلى تكريس الشك المنهجي كقاعدة أولية في مقاربة كثير من النصوص التي اعتبرت نصوصا روائية مستقرة في جنسها لدهور طويلة، ولم يعد يكفي انطواؤها النوعي تحت جنس الرواية ليجنبها السؤال التفكيكي عن شرعية الانتساب الذي ينبغي أن تسنده مبررات داخلية من لحمة النص ذاته، فقد تورطت الرواية والتبست مع أجناس قديمة، وأخرى ناجمة، في خضم التداخل النوعي المتشظي تحت نظريات ما بعد الحداثة التي قوضت يقينيات شتى باستثناء يقين الشك والارتياب والمساءلة إن صح القول. ويصبح التصنيف الجديد الذي اقترحه جنيت للبحث عن الزمن الضائع أكثر وجاهة إذا علمنا بان بروست قد انتظر وفاة والديه قبل أن ينشر أعماله، كأنه كان يشفق على هؤلاء من الاطلاع على الجانب الأوتوبيوغرافي المؤكد لروايته تلك، وعلى الحميمية ووجهات النظر الشخصية التي كانت ربما قد تسيء إلى حساسيتهما الأبوية الخاصة، ويزداد الأمر وجاهة إذا علمنا بأن بطل روايته (السجينة La Prisonnière) كان يحمل اسم الكاتب نفسه(مارسيل)(42). وعلى هذا الأساس يصبح البحث في مشروعية الانتساب المشار إليها آنفا أكثر من مشروع، بحث يمكن التساؤل فيما إذا لم يكن التخييل الذاتي ممارسة قديمة أسيئ تصنيفها أو على الأقل لم يمتلك كتابها الشجاعة للاعتراف بمركزية الذات وتجاربها في بناء عوالمها التخييلية.
مهما يكن، فإن الروائيين لم ينكروا استنادهم إلى الخبرة الذاتية وإلى التجربة الشخصية في تأثيث عوالمهم الروائية في ما نعلم، غير أن مدار الأمر في النهاية، هو ما تتيحه النصوص ذاتها من خيانات، إن صح القول، لمساعي التعمية والتغميض والإرباك التي يشوش بها الكتاب حفريات القراءة، و أساليبها البوليسية في اقتفاء آثار الإدانة المؤدية إلى إثبات التهمة. وإذا لم يكن في مستطاع الحفريات القرائية أن تثبت بكيفية ما زيف الوقائع أو صدقها، مهما بدا ذلك ممكنا بعض الحين، مع بعض الروايات خصوصا، ومع بعض الكتاب تحديدا، فإن مراقبة الهوية الأعلامية للشخوص تبدو أقرب منالا وأيسر سبيلا، فطالما حمل السارد اسم الكاتب ذاته، والشخصيات أسماءها الحقيقية في الحياة والواقع، أمكن التصريح بأن النص تخييل ذاتي، مهما بدت روائية الأساليب، ومهما نبغ الكاتب في بلورة الأنماط السردية وفي تكثيف طبقات السيرورة النصية، ويصح القول نفسه إلا قليلا على نصوص محسوبة على الرواية في تراكمات الكتابة السردية وفي عالم الأدب عموما.
ما يثير الانتباه والدهشة معا، في سياق الجهل بممارسة التخييل الذاتي، التي ألمحنا إلى إمكانية وقوع كتابات قديمة تحتها، بحكم تكوينها طبعا، هو أنه في سنة 1980م، وبعد ثلاث سنوات من نشر دوبروفسكي لنصه (أبناء(Fils الذي يعتبر النص التأسيسي لممارسة السردية التي أطلق عليها توصيف التخييل الذاتي، وجدنا ايف فلوران تصرح بخصوص رواية جوزلين فرانسوا Joue-nous Espaòa(43) بأنها "الرواية الوحيدة التي يحمل فيها السارد علانية اسم المؤلف، ومع ذلك فهي رواية."(44)، مع العلم بان الأدب الفرنسي حافل بروايات حمل السارد فيها اسم المؤلف حرفيا، ولم يكن في إمكان المقاربات النقدية التي تناولتها أن تحدد فيما إذا كانت أسماء الشخصيات حقيقية أم لا، ونشير هنا إلى رواية الكاتب البولوني ويتولد كومبرويك (Ferdydurke) (45) المترجمة إلى الفرنسية والمنشورة سنة 1938، ورواية الثلاثية الألمانية(46) للويس فرديناند سيلين، ورواية فرانسوا نوريسيي أزرق مثل الليل(Bleu comme la nuit)(47) المنشورة سنة 1958، ورواية أنتوان بلوندين (السيد قديما أو مدرسة المساء(Monsieur Jadis ou l'école du soir (48)، ورواية Le Têtard لجاك لنزمان(49) المنشورة سنة 1976، أي بسنة قبل نشر دوبروفسكي لنصه التأسيسي الذي أسلفنا إليه الإشارة.
تبين العناوين السالفة الذكر مدى السهولة التي قابل بها النقد نصوصا كثيرة تمكنت مبكرا من الخروج عن طوق الموروث الروائي الكلاسيكي إلى فضاء أشد رحابة وأكثر تجريبا. وتبين، من جهة أخرى، عمق المأزق الذي انحدرت إليه القراءة والنقد جميعا، بإزاء النصوص الروائية المبكرة التي انزلقت نحو التخييل الذاتي، وتبنت أدواته، دون أن تصرح بذلك، لسبب ربما يفسره حرج البدايات واحتشامها أو الإشفاق من الاتهام بالذاتية والنرجسية الرخيصة.
1. 5. مأزقية التلقي
وضعت نظرية القراءة، كما بلورها روبرت ياوس وآيزر، مجموعة من القواعد التي يمكن اعتبارها بيديهيات، أو مقولات أولية توجه طبيعة العلاقة التي يكونها القارئ مع أي نص من النصوص، منذ لحظة اللقاء الأولى التي تحددها العتبات النصية الظاهرة كفضاء الصفحة الأولى والعنوان الرئيسي والعناوين الفرعية والعقد القرائي المصرح عنه بالانتماء إلى جنس مخصوص من الكتابة، غيرها من المكونات التي تشكل ما يسمى بأفق الانتظار. فقارئ الرواية يتوقع منذ البداية الانخراط في مغامرة نصية تخييلية بالأساس، تنطلق من الخيال وتعود إليه دون تطلع استثنائي نحو حقائق سوى الحقائق التي يثبتها النص ويتوصل إليها داخل لعبته الخاصة ووفق نظامه الخاص. وقارئ السيرة الذاتية يتوقع التعرف على وقائع مجهولة من حياة صاحبها يشترط فيها الصدق والحقيقة بالاستناد إلى العقد المرجعي المبرم بينه وبين النص منذ البداية، ومثل قارئ السيرة وقارئ الرواية، ينطلق قارئ السيرة الروائية الحذر من المزاوجة بين الأدبي والمرجعي، التخييلي والكنائي جميعا في ترصيص طريقه داخل الشبكة السردية المعقدة التي جهزه العقد المبرم لمواجهاتها منذ الإعلان التجنيسي في الصفحة الأولى.
وحده التخييل الذاتي لا يقترح أي شكل من أشكال العقد القرائي، باستثناء التموقع (التسويقي) تحت عنوان الرواية الذي يزيد من تغميض الممارسة وتوريط المتلقي في مساءلة لا نهاية لها، فبعض النصوص من تلك الممارسة استقبلت كسير ذاتية أو كشذرات من السيرة الذاتية، وبعضها استقبل كنصوص روائية وفية لتموقعها خصوصا تلك التي أظهرت براعة كبيرة في تشغيل الأدوات الروائية المعروفة، انطلاقا من هنا يمكن تمثل المأزق الذي يضع فيه التخييل الذاتي أفق انتظار القارئ بواسطة تكوينه الفصامي الذي يطلب من هذا الأخير مباشرة النص كتخييل وكأوتوبيروغرافيا في نفس الوقت، وتزداد هوة المأزق غورا إذا أخذنا في الحسبان استحالة الطمع في التوصل إلى ما يقرب من حدس الحقيقة واستشعارها في ممارسة يتقاسمها تكوينان لا يلتقيان: التخييل والمرجع الواقعي.
بناء على ما سبق، يبدو التخييل الذاتي ممارسة مضللة ومحيرة ومربكة في الوقت نفسه، ليس لأنها تضع القارئ في مواجهة تحديات صعبة، وفي موقع منتهك نقديا فحسب، بل لكونها لم تستطع أن تؤسس لنفسها أفق انتظار خاص، ولا أن ترسي أخلاقيات استقبال قادرة على احتضانه ضمن خارطة الأنواع القارة. من هنا نستطيع القول بأن أصل الإشكالية المأزقية التي يجد التخييل الذاتي نفسه داخلها، كممارسة سردية جديدة، هي عجزه عن الرقي إلى مصاف الجنس الممتلك لاعتمادات نوعية عامة قادرة على احتواء التمفصلات والتنويعات الجزئية التفصيلية ضمن إطار النوع الشامل. هل يمكن اعتبار التخييل الذاتي إذا ممارسة هامشية؟ أم نبتا غير شرعي لم يحز اعتراف المؤسسة الأدبية الرسمية؟. لقد صرح تودوروف بأنه يمكن إطلاق توصيف النوع "على أصناف النصوص التي اعتبرت كذلك في سياق التاريخ فقط."(50) وعليه، هل ينبغي إذا إقصاؤه وإهماله بالكلية، أم ينبغي النظر إليه كنوع منفصل عن السيرة الذاتية ما زال ينمو بعناد وإصرار وفي غفلة من الجميع؟ يجيب فنسنت كولونا عن التساؤلات السابقة بالنفي المطلق لصفة النوع عن التخييل الذاتي للأسباب التالية:" لم يعترف به القراء، ليس له مكان في المشهد الأدبي، وليس له تجذر تاريخي، ومن ثم، يجب اليأس من كل تصنيف يستمد مفهوم النوع."(51)
من الصعب ألا نجد في أنفسنا قليلا من الاعتراض، وكثيرا من الدهشة بإزاء الجزم (الأكاديمي) الذي يمثله ملفوظ كولونا الذي يتخلى نهائيا عن الحذر العلمي وهو يجزم ذلك الجزم، ويفصل حكمه ذلك التفصيل. لقد علمنا تاريخ الأدب، وتاريخ الأفكار والحياة عموما، بأن كثيرا مما كان (مضطهدا) في مرحلة من التاريخ، سواء تعلق الأمر بالأدب ومذاهبه واتجهاته ومناهجه، أو بغيره من الإيديولوجيات والنظريات، قد أمكنه أن يستقر ويتمكن ويحتاز شرعية الوجود، بل وينتصب نوعا فارقا يمارس إغراءه وجاذبيته. لقد كان حريا بالناقد أن يعتبر التخييل الذاتي ممارسة وليدة لم يتحقق لها بعد ما يكفي من تراكم، وحضور كفيل باستدراج القارئ وغوايتهن والاستحواذ على ذائقته، ومن ثم الاندماج في المشهد الأدبي الذي أشاد به كولونا واتكأ عليه في حكمه الصارم. أما التجذر في التاريخ الذي أعجز التخييل الذاتي ودفع به إلى إقصائه، فإنه ليس كل ما نعرف من أنواع أدبية وغير أدبية، مما نقبل عليه، ونستسيغه وربما نهيم به أيما هيام، قد سلف في التاريخ وتجذر حتى انتهى إلينا قديما جديدا من وراء أحقاب الزمان. نذكر على سبيل المثال حساسية الرواية الجديدة في فرنسا التي أرساها آلان روب غرييه، والتي صدمت الذائقة الأدبية المتمرسة بكلاسيكيات القرن التاسع عشر وسليلاتها التي كرسها أناتول فرانس وأندريه جيد في النصف الأول من القرن الماضي. فلم تتقبل إلا بعد لأي، قبل أن تصبح ممارسة روائية منتشرة في فرنسا وأوروبا والعالم كله، وقبل أن يقبل النقد عليها ليفرز مكوناتها وعوالمها المميزة. ولم يكن الأدب العربي طوال تاريخه العريض بمعزل عن المعارك التي تثيرها نوازع التجديد، فقد عرف ذلك قديما وعرفه حديثا، وما زال الجدل التي أثاره الشعر الحر يملأ الأسماع والمكتبات، قبل أن يستقر استقرارا دفع بالشعر العمودي، خصمه العنيد، إلى ظل وقرار عميق.
نريد أن نستمسك هنا بشمولية الرؤية وبقدر عال من النسبية التي تفرضها المعرفة بحتمية التطور والتجديد التي تعتري شؤون الفكر والحياة، خصوصا في عصر ما بعد الحداثة الذي ينسرب الآن بين أيدينا وتحت أقدامنا بوسائل الاتصال الرهيبة التي شتت اليقينيات القديمة، ونصبت الذات سلطة مركزية في كينونة الأدب الذي تخلى تدريجيا عن رغبته في إصلاح العالم، وانصرف إلى الذات الفردية يعطيها سحره ونبله وأدواته الفنية الفعالة، لتنكب على بحث طويل في أعماقها، عن سرها المغيب تحت رسوبيات الزمن الحاضر الاستهلاكي المسعور بانسيابيته وإيقاعه المجنون. لم يبق شيء كثير، في واقع الأمر، لم يوفره راهن ما بعد الحداثة ليجعل من التخييل الذاتي فرس الرهان في مضمار الأدب المعاصر المنذور للذات والذاتية المتسقة مع التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، حيث الانهيار الكلي للحدود بين الأنواع وحيث يتم استبدال انسجام العمل الأدبي ووحدته " بتشذر شيزوفريني تتعذر عليه معاني الوحدة والانسجام."(52)
من الصعب حقا ألا نلاحظ انزلاق الممارسة السردية المعاصرة، رواية وتخييلا ذاتيا وسيرة بكل أنواعها، نحو نرجسية ضيقة جعلت كلود أرنو(53) يؤكد بأننا نعيش عصرا استثنائيا يمكن أن نطلق عليه عصر (تخييل الأنا (l'ego-fiction، فكاتب السيرة الذاتية، والتخييل الذاتي بالخصوص، لا يستنكف من التصريح بأنه يعري ذاته الحميمة، ومعها ذوات الآخرين، كما يراها أو كما تصورها له أوهامه، ويدفعه البحث المحموم عن هويته:(من أنا؟) ـ بفعل غياب أو ضعف اليقينيات الدينية أو الفلسفية وحتى الإيديولوجية ـ إلى الذاتية الصرف، يقول:" بمساعدة السوسيولوجيا والتحليل النفسي بدأنا نعرف أنفسنا من خلال تفاعلنا مع الآخر، داخل الفضاء المهني أو العاطفي أو الشخصي أكثر مما نعرف أنفسنا بالقياس إلى أجدادنا. كما أخذت التصورات المتعلقة بالتنمية الذاتية حيزا مهما في حياتنا مثلها مثل التساؤلات المتعلقة بأسس الذات."(54)
لقد شهد العالم في السنوات الأخيرة انهيارا كليا لمنظومة القيم الموروثة عن عصر الحداثة، كما شهد تنامي وهيمنة منظومة قيمية أخرى تنتمي إبستيمولوجيا إلى ما بعد الحداثة، متشعبة في اتجاهين مختلفين أشد الاختلاف، ففي الوقت الذي بدأ فيه العالم ينزع ظاهريا نحو الشمولية والعولمة، ووحدة النمط الحياتي والثقافي، كان في العمق يبلور منظومة قيمية موغلة في الذات والذاتية، كالنرجسية، والنزعة الفردية، ونزعة الشك، ومبدأ اللذة، وتشذر الهوية، وقد أثرت النزعة الأخيرة أكثر من غيرها في التصور المعتاد للأدب وقضاياه وظيفته الاجتماعية خصوصا، حيث أدت إلى ظهور لون جديد من الكتابة المتجاوزة للقواعد والحدود والقوانين، وقد تمكنت من التعبير عن نزعتها التجاوزية تلك عبر التخييل الذاتي كلون أدبي جديد تمكن من الاستثمار في الجهاز المفاهيمي الذي جاءت به ثورة ما بعد الحداثة، وأن يتكرس كممارسة إشكالية أعادت صياغة جملة من القضايا كالعلاقة القائمة بين الذات والآخر والواقع والتخييل، وغيرها من المفاهيم التي غيبها الجموح البنيوي لسنوات الخمسينبات والستينيات، وتشريد لمؤلف وتجريده من عمله وإبداعه عبر مقولة موت المؤلف، مما جعل هذا الأخير يعلن عن حضوره الطاغي بسلسلة من الكتابات الأوتوبيوغرافية الدافعة بالذات إلى أقصى مداها عبر التخييل الذاتي وغيره من الممارسات المتجاوزة للحدود الأجناسية الضيقة " قصص معيشة، تخييل أو سرود واقعية."(55).
مهما يكن من أمر، فإن التخييل الذاتي قد انتهى إلى نتيجة لم يكن يتوقعها في بداياته المحتشمة، حيث أصبح رائد الممارسة الروائية المعاصرة التي تخلت عن طموحاتها التجريبية الخالصة من أجل تخييلات بيوغرافية قائمة على محكيات مترددة بين التأكيد وعدم التأكيد، الصحة الزيف، الحقيقة والاختلاق، وترتكن إلى الذات والتجاوز قبل كل اعتبار آخر، الذاتية بالإعلان عن الاغتراف الصريح من التجربة الشخصية وتوسل الذات في شعريتها الحميمة، والتجاوز برشاقة الجنس الروائي القادر على القفز بين الأنواع وفوقها، دون أن يخسر جوهر العملية التخييلية والسردية المتمثلة في استدراج القارئ والزج به في خضم عواملها وأفضيتها وفق آليتها القرائية القائمة على التحليل والتأويل وإعادة البناء.
2. التخييل الذاتي في الأدب العربي
يفرض واقع الأدب العربي ونقده أن يرتب هذا المبحث في هذا الموقع بالذات من القراءة، فقد كف الأدب العربي ومعه النقد، عن الريادة منذ أحقاب متطاولة، فلم يعد بالإمكان توقع العثور على إبداع جذري ضمن هذا اللون من المعرفة الإنسانية إلا في حدود القالب المستورد، والشكل القادم من بعيد، ووفق البناء المعماري الجاهز الذي لا يتبدل جغرافيا، باستقدامه إلى محيط غير محيطه، سوى بالمادة التي تعمر تجاويفه، وبالألوان المحلية التي تصطبغ بها سقوفه وجدرانه. لقد قدمت الرواية إلى ثقافتنا العربية من عالمها الغربي بفعل المثقاقفة التي سمينا بها تأثر العربية بالثقافة الغربية، وقدم إلينا النقد الحديث، بكل أشكاله، ومدارسه، ومذاهبه، لم يراع فيه سوى قدرته على التمطط والاستطالة والقدرة على استيعاب الأدب العربي وهمومه الخاصة. لا نقول هذا حطا من شأن الأدب العربي، ولا من شان النقد العربي، وإنما تأكيدا على أهم ملمح من ملامح المعرفة الأدبية والنقدية في اللغة العربية، وهي وقوفها على بعد مسافة يسيرة وراء المعرفة الأدبية والنقدية في الغرب، فلا يمكن التأريخ لمذهب أدبي ونقدي في العربية دون الرجوع إلى أسسها الغربية الخالصة، نفعل ذلك مع الألوان السردية وأنماطها، بالدرجة نفسها التي نفعلها مع الأنشطة النقدية ومدارسها.
من أجل ذلك سعينا في هذه المقالة إلى الاشتغال على التخييل الذاتي في موطنه الفرنسي الأول الذي شهد ميلاده الفني والنقدي معا، فقد كان دوبروفسكي أول من اجترح هذا اللون من الممارسة أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وكان القارئ الفرنسي في مستواه الاستهلاكي العادي أو العلمي الأكاديمي أول من انتبه إلى التحديات الموضوعاتية والبنائية التي تطرحها، فاشتغل عليها بدوره في طروحاته ومتونه النقدية التي تعرضنا إلى بعضها في ما تقدم من هذه المقالة، وقد آن لنا أن نتساءل من داخل المعرفة النقدية العربية هذه المرة عما إذا كان التخييل الذاتي قد شق له طريقا إلى العربية، تحت أي اسم؟ وبأية كيفية؟ وإلى أي حد استطاع أن يثير التساؤلات عن الإشكاليات ذاتها التي أثارها في الفرنسية؟ أم استثار أسئلة خاصة فرضتها عليه سياقات العربية اللغوية والثقافية وحتى الأخلاقية؟ المؤكد أن الكاتب العربي مثله مثل الثقافة التي ينتمي إليها ليس معزولا عن التغيرات التي تعتري العالم وثقافته وهمومه وقضاياه، لا سيما والعالم يعيش لحظة تاريخية كونية لم يعشها طوال تاريخه الممتد إلى آلاف السنين من تقارب واتصال واشتراك في المصير الكوني الذي عبرت عنه العولمة أحسن تعبير في هذا الشق المصيري المشترك على الأقل، الأمر الذي جعل الكاتب العربي يستشعر الهزات الكونية نفسها التي يستشعرها الكاتب الغربي، ويستشعر الرغبة نفسها في البحث عن أدوات تعبيرية جديدة تناسب التغيرات الجوهرية التي أصابت العالم والإنسان والحياة معا.
لقد وجد الكاتب العربي نفسه ملزما بمراجعة الكثير من المسلمات القديمة لا سيما أولئك الكتاب التقدميين الذين كانوا يحتلون صدارة المشهد الأدبي والنقدي في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، فقد خلخل انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط جدار برلين كثيرا القناعات الإيديولوجية التي ألزمتهم بالبحث عن قنوات تعبيرية وعن بدائل إيديولوجية جديدة، فاتجه بعضهم إلى استثمار الموروث التاريخي بحثا عن أصالة موضوعاتية ممكنة، واكتفى البعض بنقل الواقع المعيش نقلا فجا لا يعكس أية رغبة إبداعية حقه، بينما انهمك البعض الآخر في إحلال قطيعة جذرية مع كل ما يمت إلى الرغبة في تمثل الواقع بصلة، على غرار الرواية الواقعية كما عرفتها الرواية العربية إبان المد الواقعي، والسيرة الذاتية التي مارسها كتاب قلائل جنحوا فيها إلى الالتزام الأخلاقي الصارم بالواقع والنزاهة والصدق.
لقد كانت الفئة الأخيرة من الكتاب، يسندهم جيل من الكتاب الشباب الذين ينتمون زمنيا إلى التسعينيات من القرن الماضي وإلى الفترة الحالية من القرن الواحد والعشرين، هي الفئة الأكثر تأثرا بنوازع ما بعد الحداثة، تنطلق أدبيا من مفهوم اللانعكاس إن صح القول، بمعنى آخر، انتفاء الرغبة في تمثل الواقع أو نقله أو إصلاحه، فوقعت في قلب القلق النوعي المميز للرواية المعاصرة، من غياب البطل، تشذر الهوية، تحويل الحياة تخييل، الشك، القلق والتردد، الأنا العاري من كل إحالة مرجعية، تحطيم الحدود المائزة بين الأجناس الأدبية، البوح، الاستبطان والتعري السيكولوجي، وهي المقومات نفسها التي تميز التخييل الذاتي التي أسلفنا شرحها، غير أن النقد العربي، على الرغم من وجود مختلف التمظهرات الشكلية في النصوص الأدبية، لم يطلق عليها توصيف التخييل الذاتي، لمجموعة من الأسباب، أولها هو أن هذه النصوص جاءت مصنفة تحت التجنيس الروائي، وثانيها ربما هو أن التخييل الذاتي ما زال لم يقتحم المتن النقدي العربي بعد، وثالثها هو أن الكاتب العربي، بالنظر إلى الخصوصية الثقافية للمجتمع الذي ينتمي إليه، ما زال غير قادر على تحمل تبعات البوح عن الذات، وممارسة لعبة التعري حتى وإن كان تعريا فنيا متخفيا تحت جملة من الستر المحيلة دون ثبوت التهم.
بيد أنه، وعلى الرغم من جميع المحذورات، ومن مختلف الأعذار المبررة لإحجام الكاتب العربي عن المغامرة بممارسة التخيل الذاتي، على الرغم مما عرف عن هذا الأخير من يقظة لما يعتري المشهد الثقافي والأدبي في العالم الغربي على وجه الخصوص ، ومن مساعي تحديثية لا شك فيها، ورغبة أكيدة في إضافة إسهامه الشخصي ومن ثم إسهام الثقافة العربية في المشهد الثقافي الكوني بصفة عامة، من أجل ذلك أمكن تسجيل التصريح الأول عن الكتابة في هذا الجنس الجديد في المغرب الأقصى، عند محمد برادة تلميحا في نصه (مثل صيف لن يتكرر) الصادر سنة 1996 وعبد القادر الشاوي بنصه (من قال أنا؟) الصادر سنة 2006 تحت توصيف: تخييل ذاتي. أما في الجزائر فإننا نجد واسيني الأعرج أكثر الكتاب العرب قربا من حدود التخييل الذاتي، سواء بنصوصه التي نحا فيها منحى روائيا خالصا، بتشويش الهوية الأعلامية للراوي والشخوص، بما يجعل تجريدها من صفتها الروائية أمرا تعسفيا بالغا، أو ببعض النصوص، الأخيرة منها خصوصا، التي تقع بقوة خياراتها الفنية ضمن دائرة التخييل الذاتي، حتى وإن استنكف الكاتب من تصنيفها ضمن التخييل الذاتي كما فعل عبد القادر الشاوي الذي يبقى الكاتب العربي الوحيد الذي نحا ذلك المنحى في حدود علمنا. أما نصوص واسيني الأعرج التي تفرض مقاربتها من منظور التخييل الذاتي، فهي نصوص وقفنا عندها وعرضنا مكوناتها الموضوعاتية والفنية على مكونات التخييل الذاتي التي أبنا عن بعض تفاصيلها في مستهل هذه المقالة، وهي (ذاكرة الماء) و(طوق الياسمين)(56) و( أنثى السراب)(57).
هوامش
1. نشير هنا إلى تأكيد تودوروف على أن مسألة الأجناس تعد " من المشاكل الأولى للبويطيقا منذ القدم حتى الآن، فتحديد الأجناس وتعداداها ورصد العلائق المشتركة بينها لم يتوقف عن فتح باب الجدال وتعتبر هذه المسألة حاليا متصلة بشكل عام بالنماذجية Typologie البنيوية للخطابات، حيث الخطاب
الأدبي ليس إلا حالة نوعية. ".ينظر: T.TODOROV et D.DUCROT : Dictionnaire ensyclopidique des sciences du langage, Ed : Seuil, Paris, 1972, P :193.
2. Vincent Colonna, L’Autofiction. Essai sur la fictionnalisation de soi en
littérature, Thèse inédite dirigée par Gérard Genette, EHESS, 1989
3. Gérard Genette, Fiction et diction, Paris, Seuil, 1991
4. من طرائف الوقائع التي ارتبطت بجنس التخييل الذاتي، مع ورد في جريدة Le Monde الفرنسية الصادرة بتاريخ 05.03.2003. في مقال كتبه ميشال كونتا تحت عنوان " التخييل الذاتي،جنس خِلافي" عرض فيه القضية التي رفعها، أمام المحاكم الفرنسية، زوج الكاتبة كاميل لورنس إثر صدور روايتها "الحب رواية L’amour roman " يطالب فيها بمنع نشر الكتاب بدعوى أنه يكشف حياته الحميمية، معتبرا أن الرواية قد تجاوزت حدود المسموح به. يتساءل كاتب المقال، بعد ذلك، عن الحد الذي يمكن أن ينتهي إليها الكاتب في عرض حياته الخاصة وحياة معارفه. وهكذا يتكشف جنس التخييل الذاتي عن تماسه، ليس مع الأخلاق فحسب، بل مع القانون كذلك.
5. Serge Doubrovsky, Fils, Paris, Galilée, 1977.
6. Lettre du 17 octobre 1977, citée par P. Lejeune dans le chapitre
« autobiographie, roman et nom propre » in Moi aussi, Seuil, coll.
« poétique » 1980.
7. Serge Doubrovsky, Fils, Paris, Galilée, 1977, quatrième de couverture.
8. Serge Doubrovsky, le Livre brisé, Paris, Grasset, 1989, p. 212.
9. Cité par Alain Girard dans Le Journal intime, Paris, PUF, 1963, p. 520.
10. أريد أن أشير هنا إلى ما لاحظته خلال قراءتي لكتاب دوبروفسكي(متروك للحكاية) من ولع رهيب باللغة ومفرداتها، وجري لاهث وراء السجع والجناس والطباق وغيرها من صور البديع التي تجعل القراءة عناء مستمرا، والأسلوب سلسلة مفككة التقاطيع شديدة المعاضلة. لم يخل الأمر عبث الأمر وأنا أتذكر بقراءتي في كتاب باللغة الفرنسية حقبة من تاريخ الأدب العربي في عصر الضعف، عندما كان مناط أمره وغاية أربه التلاعب بالألفاظ وبمحسنات البديع. ينظر:Serge Doubrouvsky : Laissé pour conte, Ed :Grasset &Fasquelle, Paris 1999.
11.Madeleine Ouellette-Michalska, autofiction et dévoilement de soi, Montréal,
XYZ Editeur.
12. المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
13. Daniel Madelénat,"La biographie en 1987", in Le Désir biographique,
Colloque de Nanterre,1988,dir. Lejeune, n°16 des Cahiers de sémiotique
textuelle,Paris,Publidix,1989, p.18.
14. Thèse de Vincent Colonna sous la direction de Gérard Genette
« L’Autofiction,essai sur la fictionnalisation de soi en littérature »,Paris
EHESS,1989.
15. نقصد بالهوية الأعلامية اتحاد أسماء كل من السارد/الرواي، الكاتب الحقيقي/المؤلف،والبطل. هو
ترجمتنا للمفهوم الفرنسي. L’identité onomastique
16. Jacques Lecarme, " l'autofiction : un mauvais genre ?" in Autofictions & Cie ( Colloque de Nanterre, 1992,dir. Serge Doubrovsky, Jacques Lecarme et Philippe Lejeune ),RITM, n°6, p.242.
17. Gérard Genette, Fiction et diction, Paris,Seuil,coll."Poétique"1991, p. 87.
18. المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
19. Annie Ernaux, " Vers un je transpersonnel ", in Autofictions & Cie, مرجع سابق، ص:219.
20. لقد سبق لجورج ساند أن عاتبت جان جاك روسو على جعله مدام دو وارنس تعترف بدورها ضمن اعترافاته الشخصية الشهيرة، ينظر: George Sand reproche à Rousseau " d'avoir confessé madame de Warens en même temps que lui ", Histoire de ma vie, Paris, Calmann-Lévy, t. 13, p. 11 .
21. Vincent Colonna, L'Autofiction. Essai sur la fictionnalisattion de soi en littérature, op. cit.p.390.
22. Serge Doubrovsky, " textes en main " in Autofictions & Cie,
مرجع سابق ص:22
23. Alain Robbe-Grillet, Le Miroir qui revient,Paris,Minuit,1985p.146.
24. Manet van Montfrans," vers une issue de l'impasse postmoderne: à proposde Robbe-Grillet "in Littérature et postmodernité,études réunies par A.Kibédi Varga,Crin, n° 14,1986, p.82
25. سنعقد مبحثا خاصا ضمن هذه المقالة لقراءة الدور الذي لعبته مقولات ما بعد الحداثة في إيجاد التخييل الذاتي كممارسة سردية مكرسة لتلك المقولات.
26. Gérard de Nerval,Les Illuminés,in Oeuvres,Classiques Garnier,1966,p.29.
27. Samuel Beckett, Molloy, Paris,10/18, 1963, p.40.
28.Danielle Deltel" Colette: l'autobiographie prospective" in Autofictions & Cie,مرجع سابق،ص:126
29.A.Henry" Table ronde dirigée par Charles Grivel" in Autobiographie et
biographie,éd. Mireille Calle-Gruber,Arnold Rothe,colloque franco-
allemand, Heidelberg, 25-27 mai 1988, Nizet, p. 220.
30.Philippe Lejeune"Autofictions & Cie.Pièce en cinq actes "in Autofictions &
Cie مرجع سابق،ص:08.
31.Emile Benveniste, Problèmes de linguistique générale 1,« tel » Gallimard,
1966.« De la subjectivité dans le langage »P.258 .
32. Revue « Les moments littéraires » n°13, 1er semestre 2005.
33. S. Doubrovsky, L'Après-vivre, 1994, p. 302.
34. لا يذكر دوبروفسكي من الكتاب الذين تستجيب كتاباتهم لهذه الشروط، ولا سيما الشرط الأخير، سوى: سيلين و كريستين أجنو.
35. سوف نلاحظ في المبحث القادم بأن بعض الكتاب المغاربة قد آثروا تجنيس أعمالهم بعنوان (تخييل ذاتي).
36. Philippe Lejeune:"Nouveau Roman et retour à l'autobiographie"in l'Auteur et le manuscrit,dir.Michel Contat,Paris,PUF,coll."Perspectives Critiques " 1991, p. 58.
37. André Maurois,Aspects de la biographie,Paris,Au sans pareil,1928.Citation rapportée par Marie-Claire
Grassi," Rousseau,Amiel et la connaissance de soi" in Autobiographie et fiction romanesque,Actes du Colloque international de Nice, 11-13 janvier 1996, p. 229.
38. André Malraux,la Condition humaine,Paris,Gallimard,coll."Folio",1990,p:
39. André Gide, Si le grain ne meurt, Paris, Gallimard, coll."Folio", 1991, p.280.
40. Jean-Michel Adam"Mémoire et fiction dans Remise de peine de Modiano" in Autofictions & Cie, op. cit.p. 56.
41. Gérard Genette, Palimpsestes,(1982 ), Paris, Seuil, collection " Points "1992, pp. 357-358.
42. Marcel Proust,La Prisonnière (1923),Paris,Gallimard,coll" Folio ",1977.
43. Jocelyne François, Joue-nous" Espaòa ",Paris,Gallimard,coll." Folio",1982.
44. Yves Florenne, Le Monde, le 21 / 11 / 1980 .
45. Witold Gombrowicz,Ferdydurke, trad. du polonais par Georges Sédir, Paris,Union générale d'éditions,1973.
46. Louis Ferdinand Céline, D'un château à l'autre ; Nord ; Rigodon, Paris,Gallimard, Bibliothèque de la Pléiade, 986 .
47. François Nourissier, Bleu comme la nuit, Paris, Librairie générale française, coll. " Le Livre de poche " 1983.
48. Antoine Blondin, Monsieur Jadis ou l'école du soir, Paris, Rombaldi, coll." Bibliothèque du temps présent ", 1973.
49. Jacques Lanzmann, Le Têtard, Paris, Club français du livre, coll. " Le Grand livre du mois ",1976.
50. Tzvetan Todorov, Les Genres du discours, Paris, Seuil, collection " Poétique ",1978,p.49.
51. Vincent Colonna, L'Autofiction. Essai sur la fictionnalisation de soi en littérature. thèse inédite, dirigée par Gérard Genette, EHESS, 1989, p. 502.
52. Daniel Madelénat,"La biographie en 1987", in Le Désir biographique, Colloque de Nanterre, 1988, dir. Lejeune, n°16 des Cahiers de sémiotique textuelle, Paris, Publidix, 1989, p.18.
53. Qui dit je en nous ? Grasset, 2007.
54. ينظر المرجع نفسه،ص:33.
55. «Poétique» septembre 2007, n151.
56. – ذاكرة الماء ( محنة الجنون العاري )، ص:23، منشورات الفضاء الحر، سنة/2001، ط/1،
الجزائر. - طوق الياسمين ( رسائل في الشوق والصبابة والحنين)، المركز الثقافي العربي، المغرب-لبنان، ط/1،سنة/2004.
57. – انثى السراب (سكريبتوريوم)، مجلة دبي الثقافية، ط/1، دار الصدى/عدد29. أكتوبر/2009.