يكشف الكاتب السعودي هنا عن المشترك في عدد من روايات الكاتبات السعوديات في تعاملهن مع المكان الأنثوي المهمش، وأساليبهن السردية المراوغة التي يتضافر فيها الواقعي مع الأسطوري، واليومي مع الطقسي، في جعل الأنثى/ المكان هي الأصل، منذ أن كانت «جدّة» هي مثوى قبر الجدّة الأصلية الأولى: حواء.

مقاربة في المكان الأنثوي المهمش

الرمز الأسطوري في السرد النسائي السعودي

سامي جريدي

في البدء كانت المرأة هي الرمز الأسطوري لبعض الديانات، وكانت هي واهبة العطاء والنماء والخصب، فهي السماء، وهي الأرض أيضاً، وعبر المكان تنكشف سرية تلك العلاقة، والتي حاول بعض الروائيات توظيف ذلك واستلهامه والتناص معه بطريقة أكثر وعياً بالتراث وبالرمز الكبير الذي تكتنزه تلك الأساطير. وعلاقة الأسطورة بالتاريخ علاقة وثيقة، "لأن كل أسطورة كما يؤكد (ليفي شتراوس) تروي تاريخاً"(1)، الأمر الذي يؤكد تلازمية الأسطورة والتاريخ في النص الكلي للحياة، وبخاصة أن دلالتهما المكانية لها سمات لغوية تتشابك مع بعضها البعض إلى حد كبير. وإذا كانت الأسطورة هي وقائع يزعم بأنها حدثت منذ زمن بعيد فإن دلالتها السردية تكمن في كونها خطاباً تاريخياً لا يكاد ينفصل عن كونها "منعطفاً للمخيلة الإنسانية"(2) فالروائية السعودية وبخاصة الروائية (رجاء عالم) استطاعت أن تستثمر التوظيف الأسطوري المرتبط بالمرجعية العربية بطريقة تدل على تفجير المكان الآخر المختلف عن بعده السابق ليصبح المكان الأسطوري بعداً ثالثاً تختفي بداخله غايات الشخصيات المنتمية إلى الواقع.

فالدلالة الأسطورية للمكان تمثل في حقيقتها نوعاً من الهروب الذي تمارسه الروائية من المكان الواقعي إلى المكان الأسطوري. كما تحتمل أيضاً عبر تكنيك الروائية لإحساس الشخصية من خلال بطولتها السردية لإخفاء معالم واقعية يصبح الجهر بها في المكان الأسطوري أكثر جرأة وصراحة منها في الواقع.

كما يعتبر بعض الباحثين "أن البناء الغرائبي في بعض المحاولات الروائية مقصوداً لطرح عالم بديل من واقع مرفوض، أو لعرض خطاب بعيد عن رقابة السلطة بكل تجلياته السياسية والاجتماعية"(3). ولهذا فإن دراسة الخطاب تبحث من خلال تجلياته في الوسيط الفني الروائي نفسه، مع اعتبار السياق الاجتماعي والتاريخي لا يبحث فقط عما تقوله الأساليب الفنية، بل يبحث كذلك عما يختفي وراء هذه الأساليب من الغائب والمسكوت عنه. ويرتبط رسم الخطاب الأسطوري عند الروائيات السعوديات بكلام ذكره الناقد نضال الصالح "لقد حقّق استلهام الروائيين العرب للأسطورة إنجازاً نوعياً للخطاب الروائي العربي"(4) .

ومن الروايات النسائية السعودية التي اهتمت بتوظيف الأسطورة، هي: رواية (طريق الحرير) لرجاء عالم عام 1995م، ورواية (حُبى) لرجاء عالم عام 2000م، ورواية (موقد الطير) لرجاء عالم عام 2002م، ورواية (توبة وسليي) لمها الفيصل عام 2003م، ورواية (سفينة وأميرة الظلال) لمها الفيصل عام 2003م، ورواية (غير.. وغير) لهاجر المكي عام 2005م، ورواية (القران المقدس) طيف الحلاج عام 2006م.

ولعل المتأمل في بعض تلك الروايات النسائية المستثمرة لدلالة المكان الأسطوري على قلتها وانحصار أغلبها على كاتبتين سعوديتين هما (رجاء عالم) و(مها الفيصل)، سيجد تفوقاً كبيراً في رسم ذلك، بل وقدرة الروائية في أن تعيد الأسطورة مرة أخرى عبر المكان، ولكن بأسلوب جديد، وعبر تكنيك مختلف. ودلالة شخصية (القران المقدس)(5) تتضح من خلال تماهي شخصية ليلى مع الرمز الأسطوري الأنثوي (عشتار) آلهة الحب والخصب عند السومريين كمعادل موضوعي للمرأة تقوم بمعالجتها عبر مغزى روحي لتصل من خلاله لمعالجة بؤس الحريم الذي تصوره أحداث الرواية، الأمر الذي يفضي إلى هناك أكثر من عشتار في كل ثقافة(6)، وأن عشتار ليست واحدة.

وتنقسم الدلالة الأسطورية للمكان إلى قسمين،هما:
1. الرؤية الأسطورية 2. النص الأسطوري.
ومن خلال تتبعنا للنصوص الروائية نجد أن رواية (موقد الطير) تعتمد على اللغة الأسطورية اللامنطقية واستثمارها لأبعاد بعيدة كل البعد عن التوظيف المعتاد والاستلهام، أي أنها خلق جديد للأسطورة، بينما نجد روايتي مها الفيصل (توبة وسليى)، و(سفينة وأميرة الظلال) تعتمد على الاستدعاء النصي للموروث الأسطوري بنوع من التقليد والاستفادة من حضور المكونات التاريخية والأسطورية وإعادتها بشكل مشابهه للقديم. ولهذا أرى أن توظيف المكان الأسطوري لم يكن تعبيراً صريحاً بأن تكون دلالة المكان أسطورية، لأنها تبقى في حيز الاستلهام والتوظيف. ولذلك فإن دلالة المكان الأسطوري لا تنحصر فقط في غرابة وطلسمية أجواء المكان، ولا عبر تشكيله الخارجي في كونه بعيداً عن الواقع. لكنها تبدو في طريقة إعادة تشكيل الروائية للمكان عبر منطق الأسطورة هذا أولاً، ومن ثم من خلال إيجاد ملامح رمزية مختبئة في الهيكل السردي للبناء اللغوي المحجوب. أي أن تشكيل المكان الأسطوري لا بد أن يخضع لمجازفة تعلن فيها الروائية إعادة رسمها لهذا المكان وإن ظهر بعضها ممتزجاً بالتراث. لهذا لم يكن المكان وادي عبقر في روايات رجاء عالم هو نفسه وادي عبقر الموجود في الثقافة العربية، إنه مكان آخر وإن اتسم ببعض وظائفه الأسطورية في كونه مكاناً للجن. أي أن التركيب الأسطوري لا يتكرر.

وتشكيل المكان في رواية (مسرى يا رقيب) يحتمل دلالات عدة يختلط فيها عوالم الواقع بعوالم الأسطورة. وبخاصة حينما تسترجع الشخصية عبر منولوجها الداخلي وعبر ذاكرتها دلالة المكان، فليس وجود المكان الواقعي (مكة) في مفاصل تلك الأحداث إلا دلالة واعية على حقيقتها المقدسة وعلى وعي الشخصيات بطبيعة المكان الهندسي من (حرم، ومنارات، وبئر زمزم، والكعبة، وصحن الطواف) الدالة على المكان المكي. لكن ولوج هذا التشكيل المكاني إلى عوالم أخرى مستعيدة الشخصية أو الراوية ألغازها ومضامينها المجهولة إلا محاولة منها لإعادة بعث المكان في صورة ملتصقة بالتراث العربي.

وتبدو شخصيات بعض تلك الرواية مرتبطة بعالم الأفلاك والحيوان الموجودة في كتاب القزويني "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" من ناحية، و بطيور النيسابوري وفريدالدين العطار في كتابه "منطق الطير" من ناحية أخرى. الأمر الذي قادها في بعض تلك الأحداث إلى مناجاة نفسها كثيراً للسؤال عن أزمتها مع الكون والحياة والوجود وذلك كله عبر تيار الوعي. كما أن مجيء (عبقر) كمكان أسطوري يسكنه الجن يعد إستعادة لفك طلاسم الواقع المعبأ بأحداث غريبة تحتاج إلى فهم. كذلك حركة الطيور وبخاصة طائرا (السمندل) و(الفقعس) وهبوطها في الحرم المكي في صورة دورانية تحتمل رموزاً روحية تتصل باللامرئي، الأمر الذي تدل عليه غاية الأسطورة وطقوس العبادة.

فهذه الرواية (مسرى يا رقيب) لا يمكن النظر إليها من خلال دلالة واحدة، وعزل جزيئاتها عن بعض، وبخاصة أن عوالمها التاريخية للمكان وتوظيفها للتراث العربي القديم جاءت مرتبطة ببعضها، الأمر الذي لا يجعلها تبدو سيرة للمكان من منظور واقعي تاريخي، وليست دلالة أسطورية للمكان الواحد، أو حتى لأمكنة مختلفة كـ(مكة) و(عبقر) وغيرهما. فهي رواية تجمع ما بين التاريخي والأسطوري في تشكيل مكاني تحتضن فيه الشخصية تقنيات تيار الوعي من تذكر واستباق زمني وتداخل وتشتت ذهني ورؤية صوفية ولغة حلمية وغيرها، سيطرت عليها عدمية الاستقرار على شيء واحد، ليحصل الاختلاط والمزج بين فوضى تلك العوالم وتداخلها عبر ذاكرة الشخصية التي أخذت تستعيدها. كما تحتمل الرواية أنها قراءة للمكان الواقعي من دلالتين اسطورية وتاريخية تجمع ما بين الرسم والسرد كمستويين مكملين للنص الواحد: وأنها تجمع بين سيرتين اثنتين:
-      سيرة المكان ــــــــــــ (عبقر)
-      سيرة الشخصية ـــــــــــ (جواهر بنت العابد النارية)

كما يقودنا عنوان الرواية الفرعي (سيرة مسرى جواهر...) إلى أن هناك سيرة ثالثة، هي سيرة المسرى الذي هو مسرى الشخصية الأنثوية للبحث عن (عبقر) المكان الأسطوري المحمّل بطقوس ودواب وكائنات غريبة تتشكل سريعاً كسرعة تشكيل المكان. ولهذا يبدو العنوان الفرعي للرواية أشبه بعناوين تلك السير الشعبية كسيرة عنترة وسيرة سيف ذي يزن وسيرة بني هلال، وسيرة الأميرة ذات الهمة. لكن تلك السير المتبنية لهموم العامة ورؤاهم ومخيالهم الجمعي تفارق نص مسرى يا رقيب كونه يتبنى رؤية تعتمد على منطلقات فكرية مختلفة، تحمل خلاصة تجربة إبداعية مميزة للكون والحياة. وهذه هي طبيعة أغلب الروايات المستلهمة للتراث وللفكر الأسطوري، محاولة البحث عن شيء معين تتصل حقيقته بوجود الشخصيات في الحياة أو للبحث عن المعرفة.

فشخصية هذه الرواية تبدأ رحلتها بالبحث عن (وادي عبقر) مسكن الجن والسحر، تقول: «واستفحلت النقرة (عبقر) على نحر الأميرة حتى أصابتها بحمى البحث عن الوادي المندثر وفتحه لسقيا مدائن البحر»(7) .ومن جهة أخرى تلتقي السير في بنية دلالية واحدة هي بنية (النار) التي تنتمي إليها حقيقة الخلق الناري للجن المتصلة بسيرة المكان (عبقر) ذو الدلالة الأسطورية، كما تتصل بنية النار بنسب الأميرة جواهر بنت العابد النارية لتتوحد بنية النار على مستويات أخرى منها أسطورة الطير (السمندل) في كونه طائراً نارياً تقول: «ودخلا الحرم المكي بريش كما ريش السمندل الذي بحجم الرخمة تسكنه النار ولا يحترق»(8) .وفي هذا المقطع تكمن خصوصية هذا الطائر من كونه لا يحترق من النار، حيث تقوم الروائية بتوظيفه مرة أخرى برؤية أعمق حاملة اسمه ودلالته المكانية في رواية (موقد الطير)، بل وتأتي شخصياتها في تلك الرواية باحثة عبر تيار الوعي عن ذاكرتها المسلوبة والمحترقة بنار مجهولة.

كذلك يأتي حيوان (التنين) ككائن ناري يرتبط بتلك العلاقات النارية:
- «وكان يربى في القلعة أصناف التنين الناري»(9) .
- «لنيران التنين تكشط ملامحها»(10) .

ولم يقف الأمر عند ذلك فقد اكتسبت طبيعة هذه الكائنات وغيرها في الرواية دلالة أسطورية تربطها بنشأتها الأصل في انتمائها إلى النار، وهو ما أعادته وتذكرته الشخصية عبر المكان. تقول: «في بيضة من نسل نار السموم، من إحدى وثلاثين بيضة تفلقت منها القطارب والأبالس والغيلان والسعالي والهوام والحماميص.»(11)

وتوظيف الكائنات الأسطورية ـ في المكان الأسطوري ـ كالسمندل وطائر الرخ وغيرها ظاهرة تتجلى في كتابات رجاء عالم منذ مجموعتها القصصية الأولى (نهر الحيوان)، مروراً بـ(طريق الحرير) وانتهاء بـ(موقد الطير). وهذا أمر يدل على أن تشكيل المكان الأسطوري في تلك الروايات كان مشروعاً سردياً تتكئ عليه الروائية للتعبير عن تصورات ورؤى تجعل من التراثي والأسطوري مكاناً يتسم بالحرية والإتساع وهو ما لم تسمح به أمكنة الواقع. ومن يتتبع حركة المكان (عبقر) في الرواية يجده ملتصقاً بحركة الشخصية الأنثوية (الأميرة جواهر) وذلك من حيث الوجود الإشاري لرموز أكثر ارتباطاً بالفكر التراثي المتعلق بقصة سحرة فرعون مع النبي موسى عليه السلام، تقول: «وبلغت فأرسلت في المدائن حاشرين عمن يأتيها بدليل يقود لمصاب وادي عبقر».(12) وليس تذكر الشخصيات لما حدث لها في بداية الرواية وحيرتها وقلقها الداخلي من خلال قولها: «فلقد أفقنا والقافلة محمولة على جناحي رخ، وقذفت في صحراء لا نعرف.»(13) إلا طريقاً لمناجاة الأميرة الداخلية عبر الاستباق الزمني لمعرفة مظاهر هذا المكان لتولد رغبتها السرية في البحث عنه، والذي لا يكون زمن الرحيل إليه إلا ليلاً، تقول: «وتحسباً لوعورة الرحلة صوب عبقر استعصمت الأميرة بخلواتها أعواماً.»(14) فكانت فكرتها (المسرى)، ولعل السبب في ذلك يعود في كون الليل يحتضن رموزاً موغلة في الحكي الأسطوري من خلال كونه رمزاً للغطاء والغموض والخفاء والابهام والاستتار، الذي هو تشكيل المكان (عبقر)، لأن هذا المكان خفي مبهم ومستتر، ولأن الجن كائن خفي مستتر. كما يلتقي اختفاء المكان (عبقر) عن الوجود مع تلك العوالم الخفية من جن وكائنات، الأمر الذي جعل شخصية الرواية تعود إلى منولوجها الداخلي كنوع من الاخفاء والستر، لتقول: «لكنها استعانت على ما رأت بالكتمان وأهالت على السر قواشع الأوهام».(15)

ونستطيع عبر تلك الروايات أن نحدد بعض الملامح البارزة لتشكيل المكان من خلال الدلالة الأسطورية، فمثلاً تستثمر بعض الروائيات المكان التراثي لرسم عالمها السردي بصورة جديدة. لكن هناك بعض الظواهر المشتركة في الخطاب الأسطوري والتاريخي لتلك الروايات، منها: فكرة (الرحلة) وهي فكرة موجودة في الروايات التالية كرواية (توبة وسليي) و(سفينة وأميرة الظلال) لمها الفيصل، ورواية (مسرى يا رقيب) لرجاء عالم، وهي فكرة أصلية في التراث والتاريخ العربي. وفي رواية (حُبى) لرجاء عالم يحضر تشكيل المكان من خلال فكرة (الرحلة والسفر) وذلك عبر رسم سردي لصورة الشخصية الأنثوية وحالاتها العشقية المتعلقة بطبيعة الطقس الأسطوري المهيمن على أجواء هذه الرواية الذي يتسم بالسفر والخفاء. وليس العالم الغرائبي الذي هيمن على هذه الرواية إلا مستوى من مستويات استثمار الوجود المكاني المحجوب الذي سعت الشخصيات الروائية إلى تأثيثه بطريقتها الخاصة، أطلقت عليه اسم (مقا) الذي اعتقد بأنه اسم آخر للمكان الواقعي (مـكة) ـــــــ (مقا) ــــــــ (مكة). ولعل السبب الذي جعلني اعتقد ذلك هي طبيعة المحتوى السردي لرسم مكان مقدس، وكذلك النغمة الصوتية بين مقا ومكا كتشابه صوتي في النطق والدلالة السيميائية للكلمة.(16)

وتغيب الشخصية مع المكان في صورة تستمد فاعليتها من الحضور السردي لفهم التراث، تقول: «خرج، عرف أنه قد خرج ما أن غابت ملامحه واكفهرت صار يغيب عن نفسه».(17) والخروج والغياب هي ملامح مكانية استمدتها الشخصيات داخلياً وظاهرياً، بل وتحاور الشخصية (حبى) نفسها فتقول: «أنت التي رافقتني بهيئة البدري، وأنت التي طلعت في الصورة المقلوبة بسماء مقا، أنت هي حبى».(18) إن الاحساس بالتشكيل المكاني وجعلها كصورة مقلوبة هي التي تحدد الطريقة السردية التي قامت بها الرحلة عبر مستويين: للمكان وللشخصية في مرآة الوجود، تلك العاكسة للهيئة الواحدة على حد فهم الروائية للبناء اللغوي المحتضن للرواية كعالم محجوب لا تدركه سوى اللغة وعوالم السرد الأسطوري.  كذلك الأمر في رواية (موقد الطير) التي تبدو رحلة إلى مكان في السماء يتضح فيما بعد أنه جبل الرخمة الذي تسكنه الطيور حيث عنوان الرواية.

وليس تشكيل المكان بالتشكيل الثانوي في تلك الروايات من خلال هذه الفكرة "أسلوب الرحلة"، بل ظهرـ في الغالب ـ هو الأساس، والمشكلة الأولى من طلب الرحلة، حيث تغادر الشخصية مكانها إلى مكان آخر، وتمر بتجارب صعبة من أجل "البحث عن المكان"، ليغدو هذا المكان في النهاية مسألة أكبر من أن تعثر عليه أو تصل إليه. وهذا أمر موجود في رواية (سفينة وأميرة الظلال) في بحث شخصيتها عن مدينة العلم، وبحث شخصية مسرى يا رقيب عن وادي الجن. بحيث تناجي الشخصية نفسها كثيراً وتتساءل عن طريقة بحثها للمكان، وهو شعور يتطلب المحادثة النفسية المتعددة وبخاصة حينما تمر الشخصية بأمكنة عديدة، ولم تصل إلى مرادها الذي تبحث عنه، وفيه تبدو الشخصية عبر منولوجها الداخلي أو محادثتها لنفسها مظهرة صورة للمكان متسمة بالعظمة والعلو، وفي أحايين أخرى يبدو بعيد المنال، غير واضح خفي. وتعظيم المكان شعور نفسي تطلقه الشخصية لتحس بعظمتها، ولكي يعطيها دافعاً قوياً للبحث عن هذا المكان وجعله الغاية الرئيسة. ويبدو هذا بارزاً في روايتي (موقد الطير)، و(توبة وسليي).

وعلى مستوى آخر اتضح أن تشكيل المكان ذو الدلالة الأسطورية عند الروائية السعودية اتسم بصفة البطولة، فقد جاء المكان في أغلب تلك الروايات بطلاً يضاهي بطولة الشخصيات كـ(عبقر) مثلاً ينتصر في نهاية رواية مسرى يا رقيب على الشخصية، ومن قبل كان مهيمناً على فكر الأحداث، كذلك الأمر لرواية (موقد الطير) يهزم هذا المكان الأسطوري ذاكرة الشخصيات ويحرقها كحرقه للطيور الساكنة فيه. كما أن عدم وجود الشخصية لـ(مدينة العلم) في رواية (سفينة وأميرة الظلام) ليس إلا دليلاً قوياً على انتصار المكان على الشخصية. كما أن صورة الحلم وظفت في بعض الروايات ذات الأبعاد الأسطورية وشكلت ملمحاً فيها، بل ظهر الحلم وكأنه عنصراً أساسيا لحركة وسير الشخصية في المكان. «واللغة الأسطورية تقترب من لغة الأحلام».(19) على حد قول أحد المفكرين والفلاسفة، لأنها تحتضن خواصاً لا تكاد تكون إلا بينهما، حيث يرى بعض الباحثين: «أن الحلم يشتمل في جوهره على تداخل بين الأزمنة والأمكنة والشخصيات، وفيه يحدث المستحيل من خلال آليات التفكيك والتكثيف»، وهذا التفكيك جزء كبير منه ملمح نجده في النصوص الأسطورية. والحلم يعتبر إحدى تقنيات تيار الوعي بحيث نستطيع أن نجده في عدة روايات منها رواية (سفينة وأميرة الظلال) التي حكت شخصياتها أحداثاً من داخل الحلم مثل قولها: «فنمت، فرأيت أنني أسير في صحراء لم أخبر أفظع منها».(20) وفي رواية (توبة وسليي) التي بدأت مجرياتها بالحلم تقول: «بقيت وأنا أحدث نفسي بأن ما رأيت ما كان إلا حلماً».(21) وليس عودة الذات إلى نفسها عبر لغتها الحلمية إلا تكملة للرؤية الأسطورية التي احتضنتها الرواية، ليصبح الحلم تكنيكاً آخر في رواية تيار الوعي للتعبير عن العوالم الخفية.

وفي رواية (ستـر) لرجاء عالم تستحضر الشخصية كلاماً للجدة يمثل أسطورة للمكان (جدة) تقول: «لغات تلك الأحياء تتحداك أن تصاب بالخرس أو تضل حواراً يكلمونك بكل لسان كما تؤكد جدتها: أهل الحواري الضيقة أهلُ الغريب، في حارة المظلوم والشام والمسكين والكندرة وشارع قابل والميناء ومن قديم حفروا ودفنوا مفتاح "لسان آدم" الأول، قبل أن بتبلبل في أثنتي عشرة عين ولسان. إن تأخر ابنك في النطق فتمشى به في الحارات ساعة العصر، هناك حتى الحجر ينطق».(22) وكأن الأمكنة الواقعية المتعلقة بالحواري ذات اتصال مباشر بالقدرة السحرية ففيها يختبئ (مفتاح آدم) هذا الرمز الأسطوري الذي يقودنا إلى مسألة الخلق الأول لآدم في تعلّم اللغة وهو موجود في قوله:{وعلـّم آدم الأسماء كلها} الآية. والأسطوري لا يقف عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى فك طلاسم المقدرة السحرية التي جعلت من النطق طريقاً للتخاطب من أمكنة بسيطة تعود حقائقها إلى زمن آخر تختفي فيه أسماء الحواري وجنسيات البشر وهذا كله في رمزية المفتاح، إنه المفتاح السحري. فالاجتماعي لا ينفصل عن الأسطوري في تلكم الروايات، وهو أمر يربطنا بقول ميشيل زيرافا الذي يرى أن الرواية ترجمت الأسطورة، وقربت مضمونها من الحياة الاجتماعية المعاصرة.(23)

وفي رواية (غير. .وغير) لهاجر المكي يأتي المكان الأسطوري كمستوى للتعبير عن حقيقة الشخصية التي استثمرت (مقبرة حواء) في (جـدة) كوجود أسطوري استعادت من خلاله ذاكرتها لتلتقي بذلك ذاكرة الشخصية الإنسان بذاكرة المكان. وهذه الاستعادة هي بمثابة حفر في التاريخ المكاني للبحث عن الحقيقة الوجودية التي تنطوي على الملامح الداخلية لفهم الماضي كنوع من الهروب من مادية الحضارة وآلية التقنية التي جعلت من البشر كائنات استهلاكية. وتشكيل المكان الأسطوري يبدو من خلال طبيعته المصاغة له، في كونه مقبرة متسعة شاملة تحفها طقوس السحر والغياب والتكهن، تقول: «يقولون عثروا على جدة ترجع لعصر حواء، تحت هذا الزحام، هناك أسبله وقلاع من جسد حواء».(24) إن أسطورة هذا المكان لا تكمن في كونه تاريخاً سرياً لجدة، بل تكمن في كون هذه الأسطورة المكانية هي تاريخ لأنثى، وكأن المرأة بذلك لها الحق في أن تأخذ تاريخها كاملاً من الخطاب الذكوري الذي لم يفصح في لغته عن سبب تسمية (جدة) بذلك، من كونها مأخوذة من أم البشر (حواء) التي دفنت في هذا المكان. وهذا الأمر هو الذي جعل الشخصية تسأل نفسها لتقول: «يا إلهي، من هذا الذي ينبش، يُحاصرنا بتاريخ أنثى».(25) والروائية بذلك تعترف بحقيقتها التاريخية المتصلة بما قبل السلالة لتجعل من سلالة المكان سلالة أنثوية، تتجاوز فيها بناء الرجل الحديث للمكان. والرؤية الأسطورية في هذه الرواية تكمن في الوجود المكاني الذي إليه تنتمي مقبرة حواء، ومدى ارتباطها بالحدث الروائي المتصل بتاريخ جدة الممتد إلى حضارة البدايات وذلك من خلال إثبات حضورها أنثوياً، حتى ولو كان ذلك في غياهب الزمن والذي أعلنته المرأة عبر سياق أسطوري مهمش.

 

ناقد وفنان تشكيلي سعودي مقيم ببريطانيا

 

هوامش البحث ومراجعه:
(1) كلود ليفي شتراوس، مقالات في الإناسة، ترجمة حسن قبيسي،(بيروت:دار التنوير،1983م)،47.
(2) صموئيل هووك، منعطف المخيلة البشرية "بحث في الأساطير"، ترجمة صبحي حديدي، ط3،( اللاذقية: دار الحوار 2004م)،6.
(3) رزان محمود إبراهيم، خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة،(عمّان:دار الشروق،2003م)،11.
 (4) نضال الصالح، النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، (دمشق:منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2001م)، ص6.
 (5) طيف الحلاج، القران المقدس، (البحرين: دار فراديس للنشر،2006م.
 (6) فراس سواح، لغز عشتار- الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، (دمشق:دار علاء الدين، ط8، 2002م)، ص28.
 (7) رجاء عالم وشادية عالم، مسرى يارقيب، (بيروت،المركز الثقافي العربي،1997م)، ص25.
 (8) السابق،ص12.
 (9) السابق،ص46.
 (10) السابق،ص49.
 (11) السابق، ص57.
 (12) مسرى يارقيب، رجاء عالم، ص37.
 (13) السابق، ص6.
 (14) السابق، ص8.
 (15) السابق،ص7.
 (16) انظر كتابنا: الرواية النسائية السعودية، خطاب المرأة وتشكيل السرد،(بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2008م)، ص366.
(17) رجاء عالم، حبى،(بيروت: المركز الثقافي العربي،2000م)،213.
(18) المرجع السابق،311.
(19)  ك. ك. راثفين، الأسطورة، ترجمة جعفر صادق الخليلي، (بيروت،منشورات عويدات، 1981م)، 122.
(20)  شاكر عبدالحميد، الحلم والرمز والأسطورة، دراسات في الرواية والقصة القصيرة في مصر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م)، 68.
(20) مها الفيصل، سفينة وأميرة الظلال، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 2003م)،69.
(21) مها الفيصل، توبة وسليى،(بيروت:المؤسسة العربية للدراسات،2003م)،7.
 (22) رجاء عالم، ستر (بيروت،المركز الثقافي العربي، 2005م) ص93.
 (23) ميشيل زيرافا، الأسطورة و الرواية، ترجمة صبحي حديدي، اللاذقية: دار الحوار،1985م.
(24) هاجر المكي، غير..وغير،(بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005م)، 32.
(25) المكي، مرجع سابق، 33.