يقلب الباحث التونسي أوجه السجال المتفجر الآن في الواقع السياسي، ويكشف حيثياته الذرائعية عقب جدل أثاره عرض فيلم وثائقيّ عن تعامل التونسيّين المفطرين في رمضان، وعقب حوار إذاعيّ كان الأستاذ محمد الطالبي خاضه مع الشيخ النهضويّ عبد الفتّاح مورو خاصة حين استُدرج للحديث عن حادثة الإفك.

سطوة العقل الأخلاقيّ

أو وجه آخر للبراغماتيّة السياسيّة

مصطفى القلعي

1- في المسألة:
إنّ الدّافع إلى التفكير في هذا الموضوع هو ما أثير في أذهان المفكّرين والمثقّفين والمبدعين من تسآل مأتاه الالتباس الواقع في مفهوم العدالة نتيجة التعامل الذي ارتآه بعض أهل القانون من المحامين مع المبدعين ورجال الفكر في تونس. فلقد تفاعل بعض المحامين مع الجدل القائم، اليوم، عقب عرض فيلم وثائقيّ عن تعامل التونسيّين المفطرين في رمضان مع إفطارهم أثناء شهر الصوم، وعقب حوار إذاعيّ كان المفكّر الإسلاميّ الأستاذ الدكتور محمد الطالبي طرفاً فيه إلى جانب الشيخ المحامي السياسيّ النهضويّ عبد الفتّاح مورو. والحقيقة أنّ الأستاذ الشيخ مورو صاحب حضور سجاليّ إشكاليّ لافت. وقد كان الأستاذ الطالبي قد استُدرج للتحدّث عن موقف الشيعة من السيّدة عائشة. فتحدّث عن حادثة الإفك. وكانت النتيجة أن قام بعض المحامين برفع قضايا عدليّة ضدّ المفكّر(1) وضدّ المخرجة(2). فلكأنّ القضيّتين العدليّتين كانتا تنتظران المفكّر والمخرجة في المنعطف المظلم!! فهل ذنبهما أنّهما لم ينتبها إلى المنعطف؟

إنّ المنطلق في ما أكتب هو الانتصار لحريّة الفكر والفنّ والإبداع مهما كان مصدرها. وإنّما ما أثارني فعلاً في هذا الجدل هو اندراج المحامين فيه اندراجاً واضحاً ومباشراً من خلال الاصطفاف ضدّ المفكّر محمد الطالبي والمخرجة نادية الفاني باعتبارهما خارجين على القانون استوجب القصاص منهما. ولنا أن ننظر في مضمون التهم الموجّهة إلى المفكّر والمخرجة في الواردة في الهامشين الأوّل والثاني لنتأكّد من أنّها تهم أخلاقيّة بامتياز. إنّ تدخّل أهل القانون من المحامين بصفاتهم الشخصيّة والمهنيّة في الشأنين الفكريّ والإبداعيّ هذا التدخّل الأخلاقيّ المعاقِب أمر لافت للانتباه وداعٍ للتفكير وإثارة النقاش لأنّ فيه تداخلاً بين الحدود والحقول والاختصاصات. وفي اعتقادي أنّ هذا التداخل مخلّ بأصل الأشياء.

2- في تعارض الإبداع مع العقل الأخلاقيّ:
لابدّ من الإشارة إلى أنّ من يتابع المشهد السياسيّ والاجتماعيّ التونسيّ المعاصر، يلاحظ بيسر أنّ الاصطفاف الإيديولوجيّ أو السياسيّ الصريحين أو المبطّنين هما ما يحرّك أغلب المواقف المعلنة للعموم اليوم حتى وإن تغلّفت بغلاف الأخلاق. غير أنّي لن أوقف مقالي هذا على البحث في الولاءات السياسيّة الكامنة وراء مواقف المحامين الشاكين. وهي مواقف سجاليّة مسجّلة في الساحتين السياسيّة والثقافيّة التونسيّتين اليوم. وإنّما سأحاول أن أعمل على مراجعة عمليّة تأصيل مفهوم العدالة من خلال المصادر الأمّهات لأمرّ إلى محاولة إنجاز قراءة نفسيّة اجتماعيّة سياسيّة للممارسة الخطيرة التي لا تخلو من رمزيّة، تلك المتمثّلة في استدراج العمل الفكريّ والإبداعيّ إلى خانة الجريمة أو الجنحة اللتين يعاقب عليهما القانون! فهل في ذلك نضال من أجل تحقيق العدالة؟ أم هي ممارسة قانونيّة ذات خلفيّة وأبعاد وأهداف سياسيّة أخطأت طريقها وأدواتها؟ أم إنّ العقل الأخلاقيّ الشوفينيّ الذي يمنح نفسه سلطة الإباحة والتحريم والإفتاء والمصادرة والوصاية يحاول أن يسود؟

إنّ لهذا العقل الأخلاقيّ الذي وصفته بالشوفينيّ مع الثقافة والمجتمع العربيّين وغير العربيّين حكايات وتاريخاً ومدى. يكفي أن نتذكّر ما وقع لكتاب ألف ليلة وليلة من حذف وما عومل به قرّاؤه من وصاية وحجر على عقولهم وأخلاقهم وأذواقهم. والغريب أنّ الكتاب كانت طبعته الأولى في مطبعة بولاق المصريّة سنة 1904 هي الأكمل والأوفى. وهي اليوم مفقودة في العربيّة ولا يرد ذكرها إلاّ في الدراسات المقارنة أو التأريخيّة، في الوقت الذي استُثمِر فيه اكتمالها في نقل الكتاب إلى كلّ لغات العالم فيما لا يقرأ العرب منه إلاّ ما سمحت به سلطة الرّقيب بما رأى أنّه لا يمثّل خطرا على استقامة أخلاق القرّاء.

أليس من السّخرية الجارحة أن يكون أجدادنا قد قرأوا ألف ليلة وليلة مكتملاً أو كاد أن يكون، فيما لم نحظ، نحن إلى اليوم، بهذا الشرف؟ فهل أنّ حريّة الإبداع تتراجع؟ هل نسير إلى الخلف في اتّجاه التخلّف الحضاريّ؟ إنّ مجتمعاتنا تحقّق، في كلّ مرّة، مكاسب ثقافيّة حداثيّة في غفلة من العقل الأخلاقيّ الرّقيب. وحين يتيقّظ هذا العقل وتنفتح عدساته المراقِبة المسلّطة على الأخلاق والقيم والإبداع والفكر، تتراجع هذه المجتمعات عن مكتسباتها، أو لنقل بأكثر دقّة إنّ هذا العقل هو الذي يفقدها مكتسباتها ويجبرها على خسرانها بفعل سطوته. بقي أنّه لابدّ من الإشارة إلى أنّ العقل الأخلاقيّ أوسع من أن ينحصر في فئة أو هيئة أو اختصاص.

فقد مثّلتْه، في حالة ألف ليلة وليلة، المجامع العلميّة ودوائر البحث والتحقيق التراثيّ ذات الثقافة الفقهيّة التقليديّة أو الأكاديميّة الكلاسيكيّة. ويمكن أن نعود إلى كتاب أبي حيّان التوحيديّ الإمتاع والمؤانسة، مثلاً، لنرصد ما تعرّض إليه كلّ ما فيه من مادّة سمّاها أبو حيّان نفسه مجونيّةً من عمليّات حذف مقصود واع عبّر عنه المحقّقان أحمد أمين وأحمد الزين صراحة في الهوامش. ولم يمرّرا منه، على مضض، إلاّ ما أراداه حجّة على الفساد الأخلاقيّ لتبرير عمليّة الحذف. وهذا يؤكّد التعارض بل الصراع التاريخيّ الذي خاضه العقل الأخلاقيّ العربيّ ضدّ الإبداع والتفكير ولا يزال يفعل. وقد كانت من أخطر تجلّياته، في حالة كتاب الإمتاع والمؤانسة، الإحساس الدراميّ لدى المحقّقيْن بتعارض الرّقابة والحذف الأخلاقيّ مع الأمانة العلميّة والأكاديميّة. ومع ذلك، رضخا للأخلاق. وعملا على إرضاخ الإبداع بما فعلاه من حذف لأجزاء من مادّة الكتاب من متنه وحرمان القارئ من الاطّلاع عليها.

كم للتاريخ من أحكام متشابهة! فالعقل الأخلاقيّ في كلّ الأزمان كثيراً ما كان يعمل على تجنيد السلطتين التنفيذيّة والقضائيّة لخدمته. وقد تكفي إحداهما عن الأخرى. وقد تتخفّى إحداهما وراء الأخرى. وقد تضرب إحداهما بيد الأخرى. وقليلاً ما تمتنع إحداهما أو كلتاهما انتصاراً للفكر والحريّة والإبداع. ولنا أن نستعيد تاريخ سقراط أو الحلاّج أو المتنبّي أو المعرّي أو إبراهيم بن سيّار النظّام أو حتى الشافعي أو جاليليه (Galilée)(3) وصولاً إلى طه حسين والطاهر الحدّاد ومحمد أحمد خلف الله صاحب "الفنّ القصصيّ في القرآن الكريم" ونصر حامد أبي زيد، على سبيل المثال، حججاً على شوفينيّة العقل الأخلاقيّ في كلّ المجتمعات والثقافات والأزمنة.

يعتبر العقل الأخلاقيّ الإبداع/ التفكير فتنة وغواية و"بدعة تؤدّي إلى الهلاك". فهو عقل ذو أصول وخلفيّات فقهيّة وأصوليّة. إنّه عقل ضدّ العقل بحكم جموده وسكونه وثباته ومحافظته ورضاه عن نفسه الرّضاء التامّ. إنّه "يؤثر السلامة". والسلامة رآها لا تتحقّق إلاّ في الدعة والسكينة والسكون حيث يُمسي على ما يصبح عليه، أو هكذا يتوهّم على الأقلّ. أمّا الإبداع فقلق خلاّق وتوتّر منشئ ومساءلة مستمرّة للذات ولمسلّماتها ويقينيّاتها، ومحاورة متجدّدة للواقع والكون والعقل والأخلاق والتاريخ والفكر. وهو ما يعني تعارض الإبداع مع العقل الأخلاقيّ تعارضاً فلسفيّاً من حيث الماهية. إنّ سؤال الإبداع هو سؤال وجوديّ متّصل بميزة إنسانيّة ثقافيّة توّاقة إلى الجديد والمبتكر، وليس فقط سؤالاً اجتماعيّاً يتوجّب عليه الانضباط الأخلاقيّ والسلوكيّ. والسؤال المحيّر هو: لماذا، والحالة هذه، يصطفّ المحامون التونسيّون في صفّ العقل الأخلاقيّ التقليديّ المتسلّط على الإبداع؟

3- العدالة أسّ نظام المدينة في الفلسفة الأرسطيّة:
لقد انشغل الفكر الإنسانيّ مبكّراً بمفهوم "العدل" (la Justice) منذ الفلسفة الإغريقيّة لاسيما مع أرسطو في كتاب السياسة(4) خاصّة. فلقد توسّع المعلّم الأوّل في الحديث عن تنظيم الحياة البشريّة داخل المدينة (la Cité). فأرسطو يعدّ المدينة الفضاء الأمثل في نظره لاحتضان الحياة الإنسانيّة. وقد اعتبر العدل  أسّاً رئيسيّاً من أسس الحضارة المدينيّة، إذ اعتبرها قيمة سياسيّة (une valeur politique). وقد قرن بين العدالة والفضيلة  (la vertu) باعتبار الأخيرة قيمة جامعة لمنظومة القيم الإيجابيّة المعلاة في المجتمع المدينيّ. وجعل معرفة الحقّ رهينة بممارسة العدالة. يقول أرسطو: «فضيلة العدالة قيمة سياسيّة. تبعا لذلك، فإنّ العدل هو قاعدة الجماعة السياسيّة بل إنّ ممارسة العدالة هي ما يحدّد ما هو الحقّ»(5).

وقد جهد أرسطو في التفكير في تنظيم المحاكم وفي تقنين مهامّ القضاة وفي تحديد الجرائم المرتكبة في المدينة وفي تفصيل القوانين التي على أساسها يقاضَى المخالفون وتُسنّ الأحكامُ القضائيّة من قبل القضاة في حقّ المخالفين للقوانين الوضعيّة. يقول أرسطو «إنّه لا يوجد سوى ثلاثة أصناف من القوانين. تبعاً لذلك، فإنّ القضايا التي لأجلها قامت الشؤون القضائيّة عددها ثلاثة: الشتم (outrage) والضرر(dommage)  والقتل (meurtre)»(6). والنّاظر في هذه الأصناف من القضايا قد يذهب في ظنّه أنّ المعلّم الأوّل قد نسي التنظير للقوانين والأحكام المتّصلة بجريمتي التفكير والإبداع اللتين يقترفهما المفكّر حين يفكّر ويرتكبها المبدع وهو يبدع، فتدارك سهوه ونسيانه المحامون التونسيّون المعاصرون! غير أنّ العقل القانونيّ قد عمل على إنتاج فقهه؛ فقه القانون من خلال الفصول والأبواب والبنود والاستثناءات والتحيينات والتجديدات بما يتيح له التأويل والتلبيس والتسييس، إن اقتضت الحاجة.

بهذا يمكن للمحامين وأهل القانون تأويل التفكير الاجتهاديّ في قضايا القرآن والنبوّة والوحي والرّسالة والخلافة والشريعة وأصول الحكم والعبادات وغيرها من قضايا الفكر الإسلاميّ ومسائله، وفي قضايا التعبير الفنّي عن الرّأي في الظواهر السلوكيّة الاجتماعيّة، على أنّها جميعاً جنح وجرائم من الصنف الأوّل نعني "الشتم" تتسبّب في جرائم من النّوع الثاني أي "الضرر" المعنويّ بما يمكن أن يؤول إلى الصنف الثالث والأخطر وهو القتل، أ"ليست الفتنة أشدّ من القتل" والإبداع هو الفتنة والغواية عيناهما!؟ هذا التحليل يعني أنّ التفكير والإبداع قد اجتمعت فيهما كلّ أصناف الجرائم التي ذكرها أرسطو. هكذا يعمل العقل الأخلاقيّ على التنظير القانونيّ للجم الإبداع والتفكير وتكميمهما.

ما الذي يغذّي العقل الأخلاقيّ؟ أو بعبارة أوضح: ما الدافع الحاسم في جعل المحامي، الذي يجرّ المفكّر والفنّان إلى القضاء، يبرّر ممارسته تبريراً يرضيه؟ هل هو، فقط، ادّعاؤه المحافظة على أخلاق المجتمع؟ لا نعتقد، إذ أنّ ما يغذّي العقل الأخلاقيّ هو سلطته الأخلاقيّة الاجتماعيّة هذه التي منحها نفسه إلى جانب عوامل براغماتيّة سياسيّة وإيديولوجيّة كالتصدّي ﻟ"مخاطر التيّار العلمانيّ على الهويّة" ومحاربة التيّار الحداثيّ الذي ينتصر للإبداع والتفكير الحرّين وتسليط السياسيّ على الفكريّ والثقافيّ.

4- العقل الأخلاقي ووهم العدالة:
يوهم العقل الأخلاقيّ، المتلبّس برجال المحاماة في هذا المقام، بأنّه يمارس دوره في تحقيق العدالة في المجتمع. غير أنّه لابدّ من الإشارة إلى أنّ العدالة مشروع مجتمعيّ إنسانيّ لا يتحقّق فقط بالقانون. وإنّما تشترك في تحقيقه كلّ مكوّنات المجتمع المدنيّ والسياسيّ والقضائيّ والأمنيّ والثقافيّ وكلّ المؤسّسات. وهذا المشروع لا يجوز الحديث فيه إلاّ في مجتمع يحكمه القانون والمؤسّسات. وتكون فيه مؤسّستا القضاء والصحافة مستقلّتين. وقد تفطّن ميخائيل نعيمة مبكّراً في قصّة "صادق"(7) إلى الدور الحاسم لهاتين المؤسّستين في تحقيق العدالة من عدمه. فصادق بطل القصّة كان على وشك الانتحار بسبب البطالة. ثمّ أسعفه الحظّ بالعمل سائقاً عند محام ثريّ مشهور. وقبل توظيفه، طلب المحامي من سائقه الجديد الالتزام بلائحة من القيم المعلاة كحفظ الأسرار والإخلاص والصّدق والأمانة. وذات مرّة، أخذ المحامي عائلته في نزهة بالسيّارة. وكان يقود بنفسه. فصدم طفلاً. ولم يتوقّف لإسعافه رغم أنّ صادق طلب منه ذلك. فطلب المحامي من الجميع الكتمان. وصادف أنّ أحد المزارعين دوّن رقم السيّارة. وتداولت وسائل الإعلام خبراً مفاده أنّ سائق المحامي فلانٍ قد سرق سيّارة مشغّله وأخذ صديقته في نزهة. فقتل طفلاً. وهرب. وبعد أشهر، وُجد صادق الضايع مشنوقاً في زنزانته وفي جيبه ورقة كتب عليها "تبّاً لدنيا لا مجال فيها لصادق".

كيف اتّفقت كلّ المؤسّسات على رواية واحدة؟ إنّها رائحة المؤامرة التي لا تعيش إلاّ في إطار فاسد. فلقد تآمرت على صادق كلّ المؤسّسات التي كان من المفروض أن تحميه وتدافع عنه؛ مؤسّسة العائلة والصحافة والقضاء. فضاع الصّدق. وانكشف زيف القيم الاجتماعيّة. وساد الظلم والجريمة. وتاهت العدالة. وانتكس العقل الأخلاقيّ دون أن يسقط. وكان السقوط الأوّل هو سقوط مؤسّسة المحاماة. فبوقوعها وقعت بقيّة المؤسّسات. هذا يعني أنّ هذه المؤسّسة ليس لها أن تنتكس عن معركتها من أجل العدالة التي تعدّ شرط الحضارة البشريّة. فدونها تسود قوانين الغاب. هذا ما أثبتته قصّة ميخائيل نعيمة الطلائعيّة. فهل يعرف المحامون الشاكون بالمفكّر والمخرجة شيئا عن هذا؟

وفي تونس المعاصرة، لافتةٌ هي سيطرة المحامين على المشهد السياسيّ المعاصر في كلّ الهيئات والأحزاب والجمعيّات وفي الفضاءات الإعلاميّة المرئيّة والمسموعة والمكتوبة وحتى في مكوّنات الدولة والحكومة المؤقّتة. ولقد استبشر الكثير برؤية أهل القانون يستولون على المشهد ليفسّروا للنّاس القانون الدستوريّ والمخارج منه وله ولنا، وليطرحوا عليهم البدائل الممكنة قانوناً، وليصنّفوا لهم جرائم النظام المخلوع والعقاب المترتّب عليها. فهلّل النّاس. واستبشروا. وتسارروا: أخيراً، صار الحديث في الممنوع مباحاً. ثمّ رأينا المحامين يفتحون الملفّات السياسيّة والجنائيّة ويلاحقون الوزراء والمستشارين والمسؤولين السابقين في النظام النوفمبريّ الفاسد المخلوع، فانتشينا وسكننا الاطمئنان. فقد أدّى المحامون، عن اختيار ومسؤوليّة، أدواراً تخلّى عنها أصحابها. غير أنّ مكوث المحامين في صدر المشهد قد طال. وبدأت تطرح مسائل جماليّة متّصلة بهذا الطول، منها التكرار. ومنها التلاسن والتلاحن بينهم. فلم يتعوّد النّاس أن يروا محامييْن يتلاسنان. ولم يألفوا رؤية محام وقاض يتلاحنان. ولم يسمعوا، أبداً، قاضياً وقاضياً يتشاحنان ويتبادلان التّهم.

القانون هو الكلمة الرّاجمة التي تبكّت الجميع. إنّها العصا التي تلوّح بها السلطة التنفيذيّة. ويلوّح بها الخصوم، أيضاً. فالعامل بالقانون قد يكون جاهلاً به إذ أنّه يُدَرّس ولا يُحفظ. والذكيّ من أهله ليس من يحفظه بل من يوظّفه بتأويله التأويلَ الذي يخدم قضيّته. القانون واحد. وتأويلاته لا تحصى. القانون واحد والمتخاصمون فيه عديدون. لا يعذر الجاهل به. ويمدح المتحاذق فيه والمتذاكي عليه. والثابت تاريخيّاً أنّ كلّ الأنظمة الديكتاتوريّة الشموليّة أو الديمقراطيّة، الملكيّة أو الجمهوريّة، المنتخبة أو المورّثة، كلّها تعمل بالقانون. فهي توظّفه وتخدم به ولا تخدمه، تُخضِع به ولا تخضع له. هذا يعني أنّ القانون لا يعني العدالة. فقد يحقّق القانون العدالة. وكثيراً ما لا يفعل. والدّليل على ذلك كثرة الأبرياء الذين سلّطت عليهم عقوبات. فمن السّهل في ميدان السياسة أو المال أو حتى في المجتمع حبك المؤامرات وتقديم الأبرياء قرابينَ. القانون لا يحمي الأبرياء. وإنّما يحكم القاضي بما يتوفّر لديه من إثباتات.

فما هي إثباتات الجريمة الإبداعيّة والفكريّة؟ وهل يعاقب الناس على أفكارهم في المجتمع التونسيّ الثائر المتطلّع إلى المعاصرة والعدالة والديمقراطيّة؟ هل ضاقت العدالة بالمجرمين والوصوليّين والانتهازيّين والمتآمرين والخونة واللصوص والمهرّبين والقتلة في هذه المرحلة الانتقاليّة العاصفة لتنصبّ قوانينها على المبدعين والمفكّرين؟ ما الخيط الفاصل بين حريّة التفكير و"الجريمة" الإبداعيّة أو الفكريّة؟ هل توجد جريمة فكريّة تستحقّ العقاب؟ مَن يملك سلطة تحديد هذا الخيط؟

لماذا ينخرط المحامون وأهل القانون في سجال فكريّ بعضه إبداعيّ صرف وبعضه فكريّ أو أكاديميّ؟ أين تقف حدود القانون وأهله؟ وهل للإبداع حدود؟ وهل من تقاطعات بين الإبداع والقانون؟ وهل القانون إبداع أم سلطة ذات سطوة؟ وهل على المبدعين أن يخافوا من القانون وأهله وهم يمارسون إبداعهم؟ وهل يمكنهم أن يبدعوا أصلاً وعصا القانون تترصّدهم؟ هل يمكن أن يزدهر الإبداع في ظلّ الخوف؟ هل يمارس أهل القانون رقابة بوليسيّة مخابراتيّة على الإبداع؟ هل هذا من أدواره أو واجباته أم لا؟ هل للقانون الحقّ في محاسبة الإبداع ومعاقبته؟ هل ظلّ المُشرِّع (nomothète) فيلسوفاً، كما كان، أم أنّه تحوّل إلى مجرّد تكنوقراط يكتفي بحفظ القوانين والفصول؟ هل يثري القانون الحياة كما يفعل الفكر والإبداع أم أنّه يصحّرها؟ هل يمكن أن يدفع العقل الأخلاقيّ  إنتاج نوع جديد من اللجوء في الأعراف الدوليّة هو اللجوء الإبداعيّ أو الفكريّ قياساً على اللجوء السياسيّ؟

5- مطاردة الأب العارف:
يعدّ المفكّر الأستاذ محمد الطالبي أباً من حيث السنّ والمكانة وامتلاك المعرفة. إنّه يتعرّض للمطاردة من قبل السياسة والقانون بإطلاق، قبل أن نفصّل بعد حين. وما حدث معه مؤخّراً يتطلّب وِقفة متأنّية وتحليلاً وتأويلاً لرمزيّته. فالأستاذ الطالبي رجل فكر وكاتب وأكاديميّ بارع، له صيت عالميّ. درج على التحرّك في أروقة الجامعات والكليّات ومراكز البحث والمنتديات. وألف الحديث مع الأكاديميّين والباحثين والعلماء. بمعنى آخر هو رجل نخبويّ وجد نفسه مؤخّراً في أكثر من مرّة في فضاءات لم يألفها، لها بريقها وإسارها، ولها، أيضاً، إكراهاتها. وهي الفضاءات الإعلاميّة. وهي فضاءات شعبيّة جماهيريّة لا يأتيها من يريد ومن تُريده هي أن يأتي كالفضاءات الأكاديميّة، وإنّما هي التي تذهب إلى الجميع دون استئذان فتطال أسماعهم وأبصارهم. وقد تحرّك عقولهم أو غرائزهم أو عرقيّتهم أو مذهبيّاتهم، والأمر يعود إلى مكانة الشخص وثقافته ورؤاه.

شخصيّاً قرأت أكثر من حوار مع الأستاذ الطالبي في الصحف الورقيّة والإلكترونيّة. ورأيته في أكثر من فضائيّة تونسيّة. ورأيته في أكثر من برنامج، منها ما يسمّي نفسه فنيّاً، ومنها ما يسمّي نفسه حواريّاً، ومنها ما يدعو نفسه ثقافيّاً. وليس بينها الأكاديميّ ولا العلميّ. وقد تكلّم الأستاذ الطالبي فيها جميعاً بكلام الباحث الجامعيّ الأكاديميّ النخبويّ. وهو الخطاب المُتقِنه والمبرّز فيه. وكم كان صادماً للعامّة بفعل ملامسته المسلّمات والمطلقات واليقينيّات والدوغمائيّات!(8) وهذا هو مأتى الإشكال: الخطاب في غير محلّه. فالكلام عن حادثة الإفك كلام مألوف بل ممجوج في مجاله النخبويّ. لكنّه حين ورد في وسيط إعلاميّ شعبيّ موجّه إلى جمهور من العارفين ومن غيرهم هو الرّاديو أحدث ما أحدثه من هرج ولغط لم يخلُ من توظيف سياسيّ إيديولوجيّ واستغلال قضائيّ سننظر فيهما فيما يلي.

نعود إلى تفصيل الإطار الذي تكلّم فيه الأستاذ الطالبي وتأويله. لقد حضر الأستاذ في حصّة إذاعيّة مباشرة على الهواء برفقة القياديّ في حزب حركة النهضة الإسلاميّة الشيخ عبد الفتّاح مورو. وإنّ من يتابع تدخّلات الشيخ مورو في وسائل الإعلام لابدّ أن ينتبه إلى أنّه محاور ذكيّ (malin) يعمل على استدراج خصومه إلى المناطق التي يتفوّق فيها عليهم. وهو يختار كلماته وعباراته بدقّة. وهو يجيب على ما يريد من الأسئلة بشكل مباشر. ويداور على غيرها ويلتفّ. وقد يعترف بشيء سرعان ما ينكره في المحاوَرة نفسها.

في هذا الحوار، نحن أمام مفكّر أكاديميّ إسلاميّ ممتلئ بعلمه ومادّته لا يطمع في شيء، من جهة، وسياسيّ إسلاميّ خبير طامح في الحكم من جهة ثانية. أمّا رجل الفكر فإنّه ناس أنّه يتكلّم في الرّاديو بما وصفناه. وأمّا السياسيّ فإنّه مدرك تمام الإدراك بمكان جلوسه وبخطورته. كان المفكّر غافلاً (innocent). وكان السياسيّ مستعدّاً مخطّطاً باحثاً عن فوز سياسيّ. ذنب الأستاذ الطالبي أنّه ليس سياسيّاً(9). وخطأ الشيخ مورو أنّه بحث عن الفوز السياسيّ في من لا فخر له في الفوز عليه. استدرج الشيخ السياسيّ مورو المفكّرَ للحديث عن موقف الشيعة من السيّدة عائشة. فأجاب المفكّر إجابة الأستاذ طالبه. فتحدّث عن حادثة الإفك. واستشهد ببعض أقوال الشيعة. وله، طبعاً، مراجعه. وقد كان الأستاذ المفكّر على أرض ملغومة يتحرّك.

ولكمْ ذكّرني ما حدث بباب الأسد والثور من كتاب كليلة ودمنة! فلقد كان الأستاذ الطالبي يعتقد أنّه يفيد النّاس ويؤدّي دوره في التثقيف وفي التخفيف من وطأة الدوغمائيّة على الأذهان والمعتقدات. غير أنّه كان فريسة للبراغماتيّة الإيديولوجيّة السياسيّة المتوثّبة للانقضاض على أيّ فوز على أيّ خصم حتى وإن كان عالماً عالميّاً لم تنجب هذه الأرض منه سوى القليل النّادر. يتأكّد هذا المعنى من خلال أطوار ما حدث بعد الحوار الإذاعيّ. فلقد نسي النّاس الإطار والحوار والمُحاور والسياق الذي ورد فيه الحديث عن حادثة الإفك وإلحاح الشيخ مورو على المفكّر في الحديث عنها. وتذاكروا فقط كلامه منزوعاً عن سياقه وعن نيّة صاحبه. واصطفّ الأستاذ مورو في صفّ المدافعين عن الإسلام العائبين على المفكّر "انحرافه" عن الجادّة. أمّا المفكّر فقد وُضع في خانة المعتدين الواجب التصدّي لهم!

وسرعان ما انتظمت التجمّعات الشعبيّة التي ظهر فيها المدافعون عن الإسلام يتكلّمون عن الاستعداد للدّفاع عنه وعن رموزه(10) من أعدائه لاسيما الملحدين والحداثيّين والعلمانيّين(11)، وهم يقصدون الأستاذ المفكّر محمد الطالبي. فكيف تحوّل المفكّر الإسلاميّ، بعد أكثر من نصف قرن من التفكير والبحث في الإسلام إلى عدوّ له؟ هذا ما فعله الرّاديو والإسلام السياسيّ بالأستاذ الطالبي. وعلينا أن نقرّ بخطورة هذه الأجهزة الإعلاميّة الشعبيّة، اليوم، في توجيه الرّأي العامّ وفي تشكيل وعيه.

غير أنّ كلام الأستاذ الطالبي لم يكن غنيمة للسياسيّ فقط. بل كان كذلك للمحامي، فارس العدالة. فانقضّ على الحدث. ورفع قضيّة عدليّة ضدّ المفكّر بتهم: "القذف العلنيّ وهتك شرف إنسان والاعتداء على الأخلاق الحميدة". هكذا يعود من جديد إلى السّاحة التحالف المريب بين السياسة والسّلطة التنفيذيّة لضرب حريّة المفكّرين والمبدعين ولجمها ولمطاردة الأب المفكّر العارف. فهل يعني ذلك ألاّ مكان في تونس المعاصرة، بعد الثورة، للفكر والإبداع؟ أم أنّ الخوف من الفكر والإبداع لم يزل، وإن زال أشدّ الخائفين منهما؟ أم أنّ رجال السياسة والقانون لا يقبلون بمن ينافسهم في المشهد فاتّفقوا ضمنيّاً على كنس البقيّة من صدارته إلى هوامشه؟ ألا ينبئ هذا التأويل بإمكانيّات كبيرة في إنتاج ديكتاتوريّة جديدة؛ ديكتاتوريّة رجال القانون لاسيما المحامين؟

6- الأنثى الأفعى:
أعتقد أنّ ما حدث لفيلم «ni Allah ni Maitre» ليس مأتاه خطورة محتوى الفيلم ولا تهديده للمقدّسات، كما يروج. وإنّما سببه بكلّ بساطة أنّ منتجته إمرأة. تحدّث الكاتب الصحفيّ توفيق بن بريك فقال إنّ نادية الفاني لا تمتلك الأدوات ولا القدرات لمناقشة هذا الموضوع. أنا لا أختلف معه. ولكنّي قد أضيف ألاّ أحد يمتلك هذه الأدوات لا من النساء ولا من الرّجال لأنّ الإشكاليّة ليست ذاتيّة شخصيّة. وإنّما هي شأن عامّ لا يقرّره إلاّ المجتمع بتحوّلاته الدّائمة التي لا نراها في حينها وإنّما ندركها عندما تتحوّل إلى ظاهرة. غير أنّه لا يغيب عنّا أنّ مثل هذا الإشكاليّات قد أثيرت كثيراً في الكتابات، لاسيما فيما كتبه الأستاذ عبد المجيد الشرفي وصادق جلال العظم وحسين مروّة وغيرهم، على سبيل المثال. وهي كتابات متداولة ومعروفة. وهي أكثر عمقاً وجرأة من منجز المخرجة.

مرّة أخرى، علينا أن نعود إلى السياق. ففي تونس، اليوم، يثار جدل حول حقوق المرأة ومكتسباتها ومكانتها ولباسها. البعض يدعو إلى المراجعة. والبعض الآخر إلى المحافظة. والبعض الثالث إلى التدعيم والتحيين والتحديث. في ظلّ هذا الجدل حول المكانة والمنزلة، تطلع على المشهد الثقافيّ التونسيّ إمرأة حليقة الرّأس وفي جرابها فيلم وثائقيّ عن المفطرين في رمضان. بمعنى آخر، لكأنّ المحافظين والرّاديكاليّين قد صدموا صدمة منهجيّة. فما كانوا بصدد وضعه على طاولات النقاش ينتفض ويتكلّم في مواضيع لم يأت أوان إثارتها، بعد. فالمرأة تقدّمت عليهم. ولم تحترم الجدول الزمنيّ للنقاش. إذن، نقطة نظام منهجيّة: نتحدّث عن المرأة، أوّلاً. ثمّ نثير مسألة العبادات، ثانياً. ثمّ نقرّر من الذي يتكلّم أوّلاً، ثالثاً.

فيلم نادية الفاني، بقطع النّظر عن جودته الفنيّة، أثار مشكلة منهجيّة، أوّلاً كما رأينا، وثانية نفسيّة مصدرها ميثيّ وتيولوجيّ. فلقد اتّفقت الأساطير الشرقيّة والتوراة على أنّ من سرق زهرة الخلود كانت أفعى مؤنّثة، ومن أكل تفّاحة الخلود كانت أيضاً أفعى مؤنّثة. إنّ الأفعى تجني ثمار الفعل والجهد. فتفوز، فيما يخسر الباقون. في هذه الذهنيّة الميثيّة التيولوجيّة تمترس بعض المحامين. وقرّروا معاقبة الأنثى على إخلالاتها بالتراتبيّة الجنسيّة وبالنظاميّة المنهجيّة، فيما المجتمع المدنيّ التونسيّ يتحرّك في يقظة وانتباه(12) إلى السّطوة على الفعلين الإبداعيّ والتفكيريّ التي يعمل العقل الأخلاقيّ على ممارستها في تونس المعاصرة.

 

كاتب من تونس

 

الهوامش والإحالات:
(1) المحامي الأستاذ فتحي العيوني، الكاتب العام للفرع الجهويّ لهيئة المحامين بتونس وممثّلها في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسيّ والانتقال الديمقراطيّ، وأمين عام حزب الأمانة، »رفع شكاية إلى وكالة الجمهوريّة التونسيّة بالمحكمة الابتدائيّة بتونس في القذف العلنيّ وهتك شرف إنسان والاعتداء على الأخلاق الحميدة ضدّ الدكتور محمد الطالبي«. (جريدة الشروق التونسيّة، الشروق الثقافيّ، الأربعاء 6 جويلية 2011، ص 7). وقد شاهدنا الأستاذ العيوني على قناة "حنّبعل" الفضائيّة الخاصّة في حصّة مباشرة وهو ينسب هذه التهم للأستاذ الطالبي، وكان الأستاذ العيوني متحمّساً أشدّ الحماس. ويزيد عليها تهمتيْ الخرف والخبل الذهنيّين. وقد طالب بالحجر على الأستاذ المفكّر محمد الطالبي.
(2) كما أنّ "النيابة العموميّة بالمحكمة الابتدائيّة بتونس قرّرت فتح بحث جزائيّ ضدّ المخرجة نادية الفاني. كما أذنت بسماع العارضين الشاكين المتقدّمين بالقضيّة، وهو ما يعني استدعاء المتّهمة في مرحلة ثانية لاستنطاقها تمهيداً مبدئيّاً لتتبّعها من أجل التّهم المنسوبة إليها وفق ما صرّح به لنا الأستاذ أحمد بن حسّانة وهو المحامي القائم بالقضيّة إلى جانب محاميين آخرين. وكان المحامون الثلاثة قد تقدّموا بهذه الشكاية يوم 5 جويلية الماضي إلى وكيل الجمهوريّة بتونس قصد مقاضات (كذا في الأصل!! والأصحّ، طبعاً، مقاضاة) نادية الفاني من أجل جرائم سبّ الجلالة والاعتداء على الأخلاق الحميدة وازدراء الأديان والنيل من الشعائر الدينيّة ونشر أفكار قائمة على التطرّف الدينيّ والدعوة إلى التباغض بين الأديان على خلفيّة إخراجها لفيلم «ni Allah ni Maitre» أحدث (كذا!!) عرضه في قاعة "أفريكا آرت" بالعاصمة تونس مؤخّراً ضجّة عندما حاولت بعض الأطراف منع العرض واعتدت بالعنف على بعض المتفرّجين". جريدة الشروق التونسيّة، الشروق القضائيّ، الثلاثاء، 12 جويلية 2011، ص 24.
(3) جاليليه (Galilée): هو فيزيائيّ وفلكيّ إيطاليّ (1564- 1642)، وهو أحد مؤسّسي الآليّة الحديثة.
(4) ARISTOTE: Politique; livres I à VIII, texte etabli et traduit par Jean Aubonnet, préface de  Jean-loui Labarrière, Editions Gallimard, Paris, 1993
(5)  Ibid, livre: I , 2-3 , p 11
(6)  Ibid, livre: II , 7, p 52.
(7) ميخائيل نعيمة: "أكابر"، دار صادر، بيروت، د.ت.
(8) الحقيقة أنّ أفكار الأستاذ الطالبي كانت صادمة حتى للنخبة. وأنا أتذكّر محاضرته الشهيرة في كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة 9أفريل بتونس، سنة 1994، حول "نظريّة النشوء والارتقاء في القرآن". وكان قد افتتحها بالبسملة والشهادتين مؤكّداً أنّه مؤمن ممارس طقوسه الدينيّة موضّحاً أنّ الإيمان لا يجب أن يتعارض مع البحث العلميّ. وفعل ذلك درءاً للبس والشبهة وسوء الفهم.
(9)  كان الأستاذ الطالبي واعياً بافتقاده لخصال السياسيّ. وقد عبّر عن ذلك صراحة في قوله: "إنّي لم أمارس السياسة، علماً وأنّ السياسة بحر لا ساحل له. وأحكام ممارسي السياسة وتحليلاتهم كلّها تنبع من قاعدة معرفيّة أصبحت اختصاص علماء السياسة، وهي قاعدة غريبة عنّي لأنّني لست بباحث في القضايا السياسيّة. وبالتالي يستحيل عليّ أن أدخل في ميدان لا أعرفه ولا أفيد فيه شيئاً." مع محمد الطالبي: عيال الله: أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه وبالآخرين، إنجاز: منصف ونّاس – شكري مبخوت وحسن بن عثمان، دار سراس للنشر، تونس، 1992، ص 101.
(10)  وكم ذكّرني ما حدث للأستاذ الطالبي بما وقع للمفكّر المصريّ محمد أحمد خلف الله صاحب "الفنّ القصصيّ في القرآن الكريم" تلك الرّسالة الجامعيّة التي حرمت من المناقشة العلميّة في رحاب جامعة القاهرة! (محمد أحمد خلف الله: الفنّ القصصيّ في القرآن الكريم، مع شرح وتعليق: خليل عبد الكريم، سينا للنشر ومؤسّسة الانتشار العربيّ، لندن/ بيروت/ القاهرة، ط4، 1999). فما أصاب الباحث كان من قبل "علماء" خدمة للنظام السياسيّ، لم يتوانوا عن استعداء الجماهير على الباحث وعلى استثارتها ضدّه. يقول خلف عن أحمد أمين، الكاتب والباحث المصريّ المعروف، مثلا: "حرص الأستاذ أحمد بك أمين على أن يجنّب صديقه السنهوري باشا كلّ ما يعكّر صفو الحكم وملذّاته، ولذا نراه ينصح عميد الآداب ومدير الجامعة بالنيابة الدكتور عبد الوهاب بك عزّام بأن يأخذ في هذه الرّسالة رأي المسؤولين قبل ان يأخذ رأي العلماء. وبعبارة أخرى ينصحه بأن يأخذ رأي السنهوري باشا. ومن هنا نستطيع أن نقول بأنّ الأستاذ أحمد امين قد كتب تقريره على الأساس السياسيّ لا على الأساس العلميّ ولا على الأساس الدينيّ."(ص 17- 18)
ويقول لبقيّة المهاجمين: "بقيت كلمة أقولها لهؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم أبطالاً في الدين وفي سبيل القرآن الكريم من الجامعيّين وغيرهم، كلمة أقولها لهم جميعاً هي أنّهم حتى في هذا الموقف الذي ينشدون فيه البطولة الدينيّة قد اعرضوا عن الإسلام وتعاليمه وعن هذى القرآن الكريم، وأقبلوا كلّ الإقبال على تلك الخطّة التي كان الجاهليّون في وثنيّتهم الأولى يحاربون بها النبيّ عليه السلام ويعارضون بها القرآن الكريم. أعرضوا عن الإسلام وتعاليمه لأنّ القرآن الكريم ينصح النبيّ عليه السلام وينصح جماعة المسلمين بأن يجروا مع مخالفيهم في الرّأي والعقيدة على سنّة المجادلة بالتي هي أحسن ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن﴾ (سورة العنكبوت، الآية 46) وليس يخفى أنّ هذه السنّة كانت تحتّم عليهم ان يقدّموا الرّسالة للمناقشة.
وأقبلوا كلّ الإقبال على الخطّة الجاهليّة لأنّهم اعتمدوا في كسبهم للخصومة في الرّأي على استثارة الجماهير. وذلك هو ما صوّره القرآن الكريم عن خطّة الجاهلين ﴿لا تسمعوا لهذا القرآن واْلغوا فيه لعلّكم تَغلِبون﴾. يا أيّها المخالفون؛ إن كنتم حريصين حقّا على الإسلام وعلى القرآن الكريم فقارعوا الحجّة بالحجّة وأبطلوا الدّليل بالدّليل. أمّا استثارة الرّأي العام وتحريك عواطف الجماهير فأمر لا يليق بالعقليّة الإسلاميّة ولا يليق بأبناء القرن العشرين." ص 21. فهل ما حدث مع الأستاذ الطالبي يعني، فكريّاً على الأقلّ، أنّنا مازلنا في نقطة محمد أحمد خلف الله، يعني خمسينيّات القرن العشرين؟ أعتقد أنّ الثورة جاءت لتتغاير مع ذلك الواقع الرجعيّ المتخلّف، جاءت لنتقدّم لا لندبر.
(11) في إحدى ليالي رمضان 2011، رمضان الأوّل بعد الثورة التونسيّة، كنت بصحبة صديق إيطاليّ وصحفيّة إيطاليّة تجري لقاءات وحوارات مع مثقّفين تونسيّين حول واقع تونس وآفاقها بعد الثورة، فالتقينا بأحد السياسيّين اليساريّين الحداثيّين لم أكن قد التقيت به من قبل هو السيّد طارق الشعبوني المسؤول عن العلاقات مع الأحزاب والعلاقات الخارجيّة في حركة التجديد والقطب الديمقراطيّ الحداثيّ، وهو صديق صديقي الإيطاليّ. فاغتنمت الفرصة وسألت السيّد الشعبوني عن سبب تأخّر الأحزاب السياسيّة، لاسيما التقدميّة منها، عن طرح مسألة العلمانيّة للنقاش. ففاجأني قائلاً: نحن قطب ديمقراطيّ حداثيّ فقط!! فقلت له: هل يعني ذلك أنّ الحداثة شيء آخر غير العلمانيّة؟ هل تخافون من أن تخوضوا في العلمانيّة؟ أيّ حداثة هي الحداثة التي تحملونها شعاراً لقطبكم؟ فأجابني بشيء من الانفعال: لكم أنتم المثقّفين أن تثيروا ما تشاؤون من القضايا والمسائل والإشكاليّات. أمّا نحن فقطب سياسيّ نحسب خطواتنا جيّداً، ولا نخوض في المسائل الإشكاليّة. فعلّق صديقنا الإيطاليّ المشترك: إنّه يتحدّث عن العمل المرحليّ. وطبيعة هذا العمل تفرض عليهم تأجيل بعض المسائل الإشكاليّة تجنّباً للتحريض السياسيّ عليهم من قبل خصومهم السياسيّين. إنّهم يؤثرون السلامة الآن لأسباب براغماتيّة سياسيّة.
(12)  خرجت مكوّنات المجتمع المدنيّ من أحزاب سياسيّة وجمعيّات وفنّانين ومثقّفين وصحفيّين ومن عامّة النّاس في مسيرة ضخمة يوم الخميس 7 جويلية 2011 انطلقت من ساحة باستور بتونس العاصمة وجابت شارع محمد الخامس الطويل إلى حدود ساحة 14 جانفي، للاحتجاج على ما سمّاه المحتجّون من خلال لافتاتهم وشعاراتهم؛ "التهديد الذي تتعرّض له حريّة الرّأي والتعبير" في تونس اليوم. وجابت أخرى شارع الحريّة يوم الخميس 21 جويلية 2011 للتنديد بالتطرّف والتعصّب.

mustapha.kalii@yahoo.fr