هذه تأملات وعي نسوي عن يتوبيا الأنوثة بمناسبة يوم المرأة. تتناول المناخٌ النفسيّ الذي بدأ يسود عالم النساء، فالمرأة تحولت من موضوع إلى شاهد، ومن مادة للكتابة إلى كاتبة، ومن بطلة رواية إلى روائية، وخرجت من اللوحة كي تحمل الريشة.

يوتوبيا الأنوثة

في الثامن من مارس/ آذار

بريهان قمق

ستغرب شمس الثامن من مارس /اذار وسينقضي يوم ذكوري آخر بعد أن امتلئت الدنيا بالاحتفالات وتطاير البالونات ورذاذ التهنئات وباقات الورود وكلمات التشجيع*. بعد ان امتلئت الصفحات بمختلف الصيغ والكلام المتأنق المنمق المنمنم بالاعتذارات عن آلاف السنين الضوئية قد دخلت بنا العدم والوأد الاجتماعي بمختلف صيغه. ستغرب شمس الثامن من مارس/ اذار لتندس خرزة أخرى في نون الغبشة تتأرجح بين مسافات النسيان والذاكرة. الحكاية أكثر تعقيدا من هذه الطقوس، فالحرية ليست ابنة الأقفاص، ونساء العالم لم يعدن بالسذاجة لانتظار ورود مستنبتة اصطناعيا بلا عطر ورائحة، ولم يعد بمقدورهن النظر إلى السماء والاكتفاء بعناق الثامن من مارس/ اذار، وقد جربن جلجلة الأجراس والصراخ الذي يحفر الماء، مشتبكا بالتاريخ البالغ الخشونة والصلابة الممتد كل هذه القرون بذكورية مجروفة في خلاء.
كنّ على الدوام: الجغرافيا، التي احتوت الطبيعة، وكل الكائنات الحية، كنّ على الدوام نونا مُنتهكة..! الثامن من مارس/ اذار لن يعيدنا أمازونيات، والذكور قد اتخذوا مواقعهم وتخندقوا عميقا في اللامكان واللاتأسف والتكدس في هاوية واحدة. لكن الحرية لا تُعطى بل تؤخذ تلبية لاستحقاقات بشرية يحسمها تفتح وعي في حدائق النفس المتثائبة.
يقينا لا نريد العودة كأمازونيات، رغم معرفتنا أنها الانتفاضة الأنثوية الأولى في تاريخ الظلم الاجتماعي البشري. وايضا لا نريد ان نكون "ملهاة وتسلية الرجل"بمنطق جان جاك روسو، ولا دمية "آبسن " التي علق بها وعي الذكور ونتاجهم الصناعي في الحداثة وازداد تعمقا في زمن ما بعد الحداثة. وقد بشّر فوكاياما بهيمنة إيدولوجيا السوق عبر الجسد. وها هي تبتلع كل شيء لتخرجه سلعا "البشر الاعلام الجنس" وها هو وثن الجسد يصير ديانة في تكريس مذهل لإقصاء الأنا عن كليّتها، إلاعن قشرة هيكلها السطحي الخارجي الذي يداعب الهباء. وباتت هذه الذات متمركزة فقط فيما هو بيولوجي بوصفه مُنتجا للجنس. بلعبة ومنطق ومصالح السوق، وبالتالي فإن كل قيم التحرر لن تجدي نفعا، ما لم تجد فكرا يؤنسن ويستعيد الجسد الأنثوي من آنيته المؤقتة المتمركزة في بيولوجيته إلى منطقة أخرى أكثر قيمية وإنسانية.
سترحل شمس الثامن من آذار والعالم منفتح على احتمالات جحيمية، وفي كل بقعة ركوع ودموع مرّة، ودماء بلون القطران، وأشلاء تشتهي الانقراض.فهل ثمة سر في أن يكون مارس اله الحرب والرمز الذكوري، هو ذاته نداء الحرية لليوم الأنثوي في مفارقة الطبيعة حيث ربيع شمال الأرض ينحت ايقاعا لخريف الجنوب!؟ هل ثمة سر في هذه المصابيح المنغرزة هنا وهنالك في الخافية تكشف حمى الزهور في الحدائق الغافية على كتف الليل!؟
المدهش أن السلام مناط بالأنوثة وكذلك العدالة الحرية والإبداع، ولكن المحزن أن الأنوثة ـ كمفهوم ـ تعاني التباسا وتحقيرا لما علق بها من كبت ودلالات سلبية تأسست على اختزال المرأة وكينونتها الإبداعية الإنسانية الكونيّة كوجود للحياة مكتملة النصاب، إلى مجرد: بالونة مملوءة بالريح والقهقهات الماجنة. رغم انها هي الحبيبة، الزوجة، الأم، الابنة، الأخت، الخالة، العمة، الجدة، الصديقة، الجارة، الزميلة. هي الرئيسة، الوزيرة، الكاتبة، الإعلامية، المخرجة، الفنانة، الطبيبة، العالمة، المدرسة، الشرطية، المهندسة، الصيدلانية، الخياطة، الكوافيرة، السائقة ... إلى آخر المهن التي كانت بالأمس القريب حكرا على مطرزات الذكورة. يتوبيا الأنوثة تعبرنا بصفاء عبر الشوائب التي صيغت بالسيف والبارود. ترتب مواثيقها في مؤانسة مقذوفة بالوحشة.

***

الحديث عن الثامن من مارس /اذار كرمز عالمي ـ والذي حددته هيئة الأمم المتحدة تخليدا لانتفاضة نساء نيويورك ـ يثير الكثير من الشجن باعتبار أن الانتفاضات النسائية ليست وليدة قرن ونصف، وأن إيقاظ التواريخ وكشف الحشرجات ستكشف مرة واحدة مطحنة بلا لجة حملت الرجل ذنوبا وخيبات في انسانيته تتذرع بمفاهيم الملكية التي تغولت عبر آلاف السنين، وآلت إلى ما هي عليه اليوم بالدهاء والخبث والانانية. ففي العهود الغابرة ومن ضباب الأزمنة تبرز حكاية المرأة المقدسة في كل شيء ـ وليس الانجاب كما يشاع بأنه أوجد قدسيتها ففي ذلك قول مغلوط ـ كل الدراسات الانثروبولوجية تشير إلى ان الآلهة الوثنية كانت أنثى، فالأم الكبرى التي هي الأخت والزوجة والعشيقة والخالقة والمعذبة من أجل البشر. صورة كبرى مشتركة لدى جميع الشعوب القديمة دون استثناء سوى تغيير في المسميات بذات الدلالة. ويجمع علماء الانثروبولوجيا على أن عهد سيادة المرأة كان يمتاز بالسلم والرخاء والمحبة. فلا قتال ولا حروب، وكل الخلافات كانت تجد حلها ببساطة متناهية في المعبد حيث الكاهنة، أي رمز الأم الكبرى/الارض وذلك بسبب فهمها العميق بالطبيعة.
أول ملكية جرى نزاع عليها كانت ملكية الأولاد التي كانت من حق الأم. ثم انتقلت إلى الأب وبذلك ظهر المجتمع الأبوي/ البطريركي، فانقلبت القيم رأسا على عقب، وكل مقدس بات مدنسا، وتسلل الذكور بنشوة التملك والمُلكية ـ بذورالفكر الرأسمالي ـ إلى كل الأماكن والتنظيمات الأمومية، بما في ذلك سلك الكهنوت. ولم يكتفوا باخراجها من المعابد كحكيمة وكاهنة، بل استعدى المرأة ـ وما زال حتى اليوم ـ وباتت قصص الشرور تجد رسوخا في الميثولوجيا. وحوربت بذلك رموزها بشناعة. وأنتج المجتمع الذكوري كل الأساطير المضادة، وما ليليلت الا واحدة منها، يرددها الغربيون عبر موسيقى واغنيات مذهلة، كما نرددها غناء ومواويل في ثقافتنا عبر الذاكرة الجمعية المتوارثة: يا ليل يا عين، أي يا ليليت ايتها العين الساهرة، يغنيها العرب طوال الليل، وفي ذات اللحظة يخون الحبيب حبيبته، ويقتل اخته، ويغير على القبيلة الأخرى للسيطرة على الموارد! إن الحديث عن سحق وعي المرأة مؤلم فما الأسطورة الشهيرة ليليت، انما هي تكثيف لمعنى كيف تجري التحولات، وكيف تتحول مربية وحبيبة الأطفال إلى قاتلة، وكيف يغدو البرئ مُدانا.

***

لعل أول الانتفاضات النسائية التي عرفها التاريخ كانت الحروب الأمازونية. وباتت في كل مكان تثور فيها النساء يسمونهن فاقدات الثدي، أي الأمازونيات أو المسترجلات كشكل من الاهانة والتحقير. وأعظم الحروب الانتفاضية التي خاضتها الأمازونيات كانت في آسيا الوسطى بغية استعادة ملكية الأبناء. وبالمقابل شارك في قيادة تلك الحروب تسيوس وهرقل وأخيل، ولوحقت النساء المطالبات باستعادة حقوقهن في أماكن عديدة، وعانين الخسائر والمجازر المتوالية بلا رحمة.
منذ ذلك العهد حاربت الذكورة بضراوة للحفاظ على ملكية الأولاد على اعتبار أن الأبناء سلعة مريحة في الزراعة والصيد والرعي والحرب، وصارت تدل على الغنى والقوة. وبذلك تحولت الأنثى إلى وعاء الإنجاب، ووسيلة لترسيخ قيم القوة التي تصب في مركزية الذكورة. كان الصراع شامل، ولم يقتصر على مكانتها المقدسة. بل أسقط عنها كل هالة قدسية في كل ما يتصل بها. ولذلك تغيرت المواقف وانقلبت إلى نقيضها. فالقمرالذي كان مقدسا و دليل التحام المرأة بدورة الطبيعة، تحول عبر العصور إلى معاني الجنون والتدنيس. وانقلبت كل رموز المرأة للسلم والوداعة مثل النعامة واليمامة والحمامة فباتت رموزا للجبن. انساقت آلاف النجمات العالمات بالأسرار مكبلات في حكايا الليل بما تقشعر له الآبدان. وارتكبت بحقهن مجازر محاكم التفتيش، ففي اسبانيا وحدها تم قتل ثلاثين الف امرأة لمجرد أنها شاعرة أو رسامة أو تمارس فعلا فكريا، أو تمارس طقوس ديانة قديمة سرّانية. إن المصالح المتشابكة بين المؤسسات الذكورية السياسية والدينية عبر منظومة الملكية ازدادت رسوخا والمعركة في حقيقتها باتت عميقة شاملة منذ آلاف السنين، وحتى عصر التقنية وثورة التفجر المعرفي، وكلما انتفضت النساء/ المجتمعات التي تطالب بتحقيق العدالة و الحرية، تم سحق المحاولات بقسوة.

***

اليوم بمواجهة متغييرات مخيفة في قلب ديانة تتشكل ـ التكنولوجيا وهو دين حرب وعنف وغزو، أي امتداد للمعتقدات الذكورية تلك التي بدأت بمنطق السيطرة ـ هل يمتلك رجال اليوم لحظة مراجعة وتأمل؟ ليمنحوا الطبيعة حرية استعادة أنوثتها وعدالتها، كي نحمي أنفسنا ـ رجلا ونساء ـ وأرضنا وكل الكائنات الحية من الهلاك!! البلاد تبكي والرجال يساقون للموت والأطفال مقتلعون من الحضور، والأنثى اليوم أرض لانزياح المرارة والأوجاع المتورمة، كأنما صورة الاقتلاعات والهزيمة الاولى بحق انسانية الانوثة باتت مزمنة تسيج أرواح البشر.
يتوبيا الأنوثة حارسة الحضور الغائب تقلب أوجاعها تحت وطأة الحديد، الذي هو بالتأكيد ليس حريرا. فالمرأة ما قبل اكتشاف البرونز ليست هي ذاتها المرأة بعده، اليوم تنفض التراب عن قفل الصندوق المملوء بحكايا أوهام الشرور "باندورا" لتتحول من ظل إلى فاعل/ة وتطرز تاء التأنيث بكثير من الصعوبة، إلاّ أنه وللمفارقة العجيبة لم يعد الرجل بالعموم إشكاليتها، بل لابد من الاعتراف أن الأنثى الأكثر شعورا بالاستحقاق تعاني اليوم من تلك الأخرى المضادة المُستلبة المُجندة ضد ذاتها وباتت حامية للفكر والمنطق الذكوري القروسطي.
أعترف بأن ثمة مناخٌ نفسيّ بدأ يسود عالم النساء، فالمرأة تحولت من موضوع إلى شاهد، ومن مادة للكتابة إلى كاتبة، ومن بطلة رواية إلى روائية، وخرجت من اللوحة كي تحمل الريشة، وتعصر قلبها فترسم غابة مغسولة بالمطر، أو تقتنص شعرا لرفة جناح فراشة سريعة تتيح الفرص لتبادل الامتدادات التي لا يدركها سوى ذوات ممتلئة بالحياة نفسها. لم يعد قاسم أمين ينوب عنها، فهي التي تسعى بنفسها عبر المتاح في سيرورة تحولات ذاتية من نائب فاعل إلى فاعل/ة. تذكرني هذه التحولات بالتشكيلي المبدع كريستيان لي مولت وأنثاه الحشرة في رسوماته التي أخرج حكايتها من مجاهيل الأمازون. فتحولت إلى كائن متفرد في هيكل أنثوي، يحتوي على مزيج هائل من الصمت التأملي المدهش واللزوجة الانتقالية والاشارات السرّانية. وبتعبير بسيط سيرورة الذات وانتقالها عبر مراحل مختلفة من بيضة إلى يرقة إلى حشرة مكتملة العطاء الكلي.
صحيح أن الرياح اليوم عاتية وتجري بما لا تشتهيه سفننا إلاّ أن المرأة في عالم الجنوب تريد الهجرة من محطات الانتظار والصدأ والصدى إلى نطاق الصوت الفاعل، تقاوم اختزالها وتحاور أسباب تهميشها. فلم تعد قانعة بقائمة مدنساتها وبخرافة قصورها ونقصانها الذي دفعها قرونا للتخلف. قد تصاعدت وتيرة الصوت العربي والعالمي للمرأة ولكنها في ذات الوقت باتت منشغلة بفخ الذكورة التي وقع بها الرجل نفسه، هي وهو في إشكالية من نوع جديد. فقد تحول الجميعُ شظايا لمفاهيم "المُلكية" القابلة على تطوير ذاتها كالفيروسات وباعصاب باردة تدوس حقوق البشر.
اليتوبيا الأنثوية لم تعد تناضل من أجل عدم السماح بتشيئها فحسب، بل باتت معنية وبطاقة استثنائية عدم تشييئ الانسان ككل في زمن تصدعت فيه قيم الإنسانية. إن كان يوم الثامن من مارس/ اذار شمس ترتجف، وتبكي من البهجة وهي تعبر المهرجانات وتلملم بعثرة الأفكار، فلا تسمحوا للغيوم أن تحجب نورها، ولا تسمحوا للقمر أن يغار منها فيؤدي إلى كسوف طويل.


* الاهداء: إلى الزميلات والصديقات الإعلاميات العربيات ولكل امرأة أعرفها ولا اعرفها تحلم بالحرية والعدالة ولكل رجل يحب المرأة الحرّة محبتي التي لا أملك سواها.