(1)
كانت الثانية والنصف من صباح الجمعة التاسع من سبتمبر. مكالمة شأن مكالمات ليلية أخري لا تحصي عبر عشرات طويلة من السنين. لا تخلو واحدة منها مما تختزنه ذاكرته الهائلة من الوقائع والعلاقات وأهل المغني وتواريخ الكتب والناس.
نعم. مكالمة لم أظنها أخيرة، أحاول جاهداً الآن أن ألملمها ولو من دون ترتيب. سألني عن عنوان الجزء الثالث من الكوميديا الإلهية لدانتي، وأنا قلت أظنه المطهر. قال: هذا عنوان الجزء الثاني، قلت: إذن هو الفردوس. (تبينت بعد رحيله أن الثالث هو الجحيم).
كان يكتب مقالته لجريدة الوفد، وقال إنه قام مرتين إلى المكتبة التي لا تبعد عنه خطوات، مع ذلك راح ينهج من التعب. طلبت منه أن يرتاح. وأخبرته أنني بالأمس شاهدت برنامجاً مع مصطفى أمين. وأن الرحل كان ممتعاً، المذيعة التي اسمها ماجدة عاصم أدارت الحوار بذكاء ووعي شديدين، قلت إنها امرأة جميلة جداً رغم أنها أعطت ظهرها للكاميرا معظم الوقت، حينئذ أخبرني أن هذه كانت الزوجة الثانية للمسرحي الراحل كرم مطاوع، ثم انتقل يتحدث عن مصطفى وعلي أمين وسعيهما من أجل تأسيس صحافة تشبههما، كذلك الفروق بين مدرستهما وروز اليوسف العريقة، وتكلم عن صلاح حافظ وكيف أنه كان بوسعه أحيناً أن يحرر وحده صفحات مجلة من الغلاف إلى الغلاف. وعرج إلى محمد التابعي الذي منح الصحفيين مكانتهم الاجتماعية المحترمة بعدما كان بعضهم هزأة بين الناس، وأنه كان أميراً للصحافة وندا للملوك والأمراء، وأسس آخر ساعة وتزوج الممثلة زوزو حمدي الحكيم. ثم قرأ لي فقرة من كتاب سيد قطب "كتاب وكتب" الذي تناول فيه محفوظ والحكيم وحقي وعادل كامل صاحب مليم الأكبر وآخرين. كان يقرأ الفقرة بتأن وينطق العربية مثل شيوخها القدامى من دون أن يلحن أبداً. كانت علاقته قوية باللغة والسير الشعبية والتراث. كثيراً ما خيل إلي أنه ابن شلبي، مثله مثل ابن إياس أو ابن تغر بردي أو ابن الجوزي أو أبن أي واحد مثل هؤلاء.
وجاءت سيرة الأحوال، قال إنه لم يعد عنده اهتمام بالمال مثل زمان: الحمد لله، ربينا العيال، واطمأنينا عليهم. خلاص. الواحد مش عاوز حاجة تانية.
وعند الرابعة صباحاً، توقف الكلام.
(2)
في الشهور الأخيرة كان شيئاً فيه قد تبدل. هدأت روحه كمن احتله الإعياء، أو كمن شعر أن الأيام لم تعد هي الأيام، أو أن البقاء والرحيل يستويان. أصبح يغالي في أحكامه كمن يدفع عن نفسه شيئاً. كان كتوما بطبيعته، إلا أنه كان انفعالياً مثل طفل. وكان الكلام يأخذه، أحياناً، ويقول ما لا يقصد.
(3)
لا أفكر في خيري الكاتب، فهو بذل طاقته غير المحدودة وأنجز عمله للأيام. إنما أفكر في خيري الصديق، الذي صرف عمره كاملاً بين الأوراق والأقلام. كان مرآة وسماعة يملأنا بالبهجة والونسة. والرغبة في المناوشة. والذي عاش واحدة من أقسى وأغنى التجارب التي عاشها واحد من أبناء جيلنا كله، رغم النشأة المتواضعة لأغلبنا.
(4)
كنت انتهيت من تقليب الأوراق وجلست أفتش عن فيلم تجدر مشاهدته. في السادسة تماماً رن جرس التليفون. قلت أنه هو، وجاءني بكاء السيدة زوجته وابنته إيمان يا عمو، بابا تعيش أنت.
(5)
في صالة منزله كنت أجلس بينما السيدة زوجته تتساءل باكية إن كان قد أوصاني بشيء يمكن أن تفعله له قلت أبداً. وعندما قالت: إذا كنت عاوز تشوفه، ادخل له. قلت أنني لن أستطيع رؤيته هكذا، ثم وجدتني أقف فجأة وأطلب رؤيته. أخذني أحدهم من تحت إبطي وأدار أكرة الباب، ودخلت. وجدت الحجرة شبه المعتمة خالية ولا يوجد إلا خيري على الفراش، كانت هناك فقط كوبرتة بخطوط زرقاء شبه ملمومة على النصف القريب من هذا الفراش ولا ترتفع في بعض المواضع أكثر من قبضة اليد. لم أتصور أن خيري يمكن أن يكون تحتها بقامته شبه الممتلئة، اقتربت ومددت يدي فلامست كتفيه، احتضنته، وانحنيت على رأسه مودعاً، وبينما أعتدل، شعرت به كمن يقوم بين يدي. ووقفت وكفاي تغطيان عيني على دفعات، ثم انتبهت فجأة لرجل يجلس كاملاً في زاوية الفراش البعيدة يقرأ القرآن، فامتنعت.
(6)
بدت لي الدنيا من غير خيري شلبي، حين وداعه، أكثر فقراً، وحزناً. والليل من غير خيري شلبي أكثر وحشة، وأرقاً. هذه خمسون عاماً من الرفقة، والمناكفة التي كثيراً ما بادرته بها، عن محبة، وغضباته التي لا تدوم، لأن أحدنا لم يستغن عن الآخر.
(7)
الآن، وقد مرت من الأيام بعضها، بدأ يخايلني متأنقاً على مهل، ووجدتني، ويا للعجب، أستقبله مبتسماً، وأستعيد به أوقاتاً لا تنقضي من البهجة.