يؤكد الكاتب على عفوية الانتفاضة السورية، وبأنها خرجت من المسجد تقليداً واستفادة من تجربة مصر، فهي المكان الذي يسهل نواة تظاهرة. ويرى أن دور «القوى الإسلامية» محدود فيها، وأنها تقول بالحرية وتتطلع لاقتصاد يفارق القائم، الذي يتشارك الإخوان المسلمين تصوره، لأنه يتأسس على النمط الريعي المافياوي.

دور الإسلاميين في الانتفاضة السورية

سلامة كيلة

يبدو أنّ السلطة في سوريا والإسلاميين توافقا على اعتبار الانتفاضة إسلامية. تريدها السلطة كذلك لتخويف الأقليات الدينية، وتبرير القمع الشديد الذي تمارسه، لكن أيضاً لتخويف البلدان الإمبريالية من «الخطر الإسلامي». لكنّني لست هنا في مجال الحديث عن موقف السلطة، بل عن وهم الإسلاميين، الذين صدّقوا رواية السلطة، وعاشوا حالة انتشاء هائلة، إلى الحد الذي جعلهم يحسبون أنّهم السلطة منذ الآن، وبالتالي أن ينشطوا خارج سوريا لترتيب «السلطة الجديدة» لكي تكون سلطتهم.

لا شك في أنّ الملاحظ لمسار الانتفاضة يتلمس مسألتين: الأولى هي انطلاق التظاهرات من الجوامع أيام الجمعة، والثانية ترداد الكثير من التعابير الدينية الإسلامية في تلك التظاهرات. وسيتلمس المراقب أيضاً الكثير من التركيز على الشعارات الإسلامية في وسائل الإعلام التي تنقل التظاهرات، وأيضاً أنّ كثيراً من المواقع التي «تدعم» الانتفاضة على شبكة الإنترنت ذات طابع إسلامي، حتى تلك المسماة «الثورة السورية»، التي بدت كأنّها الناطقة باسم الانتفاضة. وبالتالي، سيكون التقدير هو أنّ سيطرة إسلامية كاملة تحكم الانتفاضة.

جعل ذلك الوضع جماعة الإخوان المسلمين تعتقد أنّها تقود الانتفاضة، وأنّ كلّ المتظاهرين «من أعضائها»، أو على الأقل من المؤيدين لها. وبدأت تتصرف كمن يملك أغلبية الشعب، وأنّ من حقه تحديد طبيعة السلطة الجديدة «ديموقراطياً»، فالحكم هو لـ«الأغلبية»، كما هو متعارف عليه.

طبعاً، ليس المهم ما يقول الفرد أو الحزب عن ذاته، المهم ما يحصل في الواقع. وفي أحيان كثيرة، يقود العجز الذاتي إلى توهمات وتخيلات لا علاقة للواقع بها، تؤسس لعنجهية مفرطة. وبالتالي، يتصوّر المرء ما يريده، لا ما هو عليه. ولا شك في أنّ وجود جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، كان محرّماً بقانون يحكم بالإعدام على كلّ عضو، ولذلك أصبحت في الخارج من دون مقدرة على بناء تنظيمي في الداخل. وأشير إلى أنّ المرحلة التي اشتعل فيها الصراع، تقتضي المحاسبة على تسعير الصراع الطائفي من قبل الجماعة، كما بالرد السلطوي على الأحداث. لكن هل كافأ الشباب الذي يخوض الانتفاضة الجماعة على دورها ذاك، أم أنّه اتخذ موقفاً سلبياً منها؟ فهي خلّفت قتلى ومعتقلين ومفقودين، وتشدداً في القمع، وإهانات.

من الواضح أنّ الانتفاضة عفوية، وعمادها فئات اجتماعية مفقرة بالأساس (مع مشاركة واضحة لفئات وسطى)، وهي محرَّكة من الشباب الذي يمثل نسبة كبيرة في المجتمع، ومن العاطلين من العمل. وهؤلاء لم يتعاطوا العمل السياسي، ومعلوماتهم السياسية محدودة أو حتى معدومة (سوى نخب الشباب الذي له علاقة ما بالسياسة). ولقد بدأ الخروج من الجوامع تقليداً لتجربة مصر، واستفادة منها، إذ ظهر أنّ ذلك هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يجمع ما يمثّل نواة تظاهرة. ومن بدأ ذلك هم شباب يساري أو علماني، كشكل من أشكال الدفع لتفجير انتفاضة ما، تأثراً بما جرى في مصر وتونس (وطبيعة معتقلي أيام 15 و16 آذار توضح ذلك). بعد درعا، بدأ انضمام الفئات الشعبية، لكن ظلّ فعل هؤلاء قائماً نتيجة التوسع البطيء للانتفاضة، وأصبح هناك مدن وقرى تشارك بكاملها تقريباً، رغم أنّ العبء الأساس بقي على الشباب المفقر والمهمش، وفي الغالب البسيط الثقافة، مع مشاركة من بعض كادرات أحزاب المعارضة اليسارية، أو من كادر يساري مستقل، وهو ما كان يلوّن التنسيقيات بالتشارك مع إسلاميين ليسوا مسيسين، ولا على توافق مع الإخوان المسلمين.

ظهر إسلاميون ينتمون إلى الإخوان المسلمين، وأيضاً إلى حزب التحرير، لكن حضورهم كان هامشياً. ولقد كان وجود حزب الاتحاد الاشتراكي في الانتفاضة أكبر، مثلاً. لكن كل الوجود السياسي ظل محدوداً في خضم انتفاضة من المفقرين والمهمشين والبسطاء، الذين تقوم الانتفاضة على فعلهم العفوي، الناتج من الحالة الاقتصادية التي فرضها نهب المافيات في ظل استبداد حقيقي. كان واضحاً لهؤلاء المفقرين أنّهم في صراع مع السلطة، سلطة تلك المافيا.

إنّ غياب الثقافة السياسية عموماً، وغياب الأحزاب عن البيئة الشعبية (وانحصارها في نخب)، جعل عفوية النشاط ترتبط بشعارات تمتح من الوعي التقليدي. وذلك أمر طبيعي في تلك الحالات، ولا يعبّر بالتالي عن انتماء سياسي. وكان ذلك يختلط بشعارات تطرحها نخب الشباب التي لامست السياسة بصيغة أو أخرى، فظهرت شعارات الحرية والدولة المدنية، وضد الاستبداد والفساد. لقد حرّض خطاب السلطة الذي اتهم الانتفاضة بأنّها سلفية وبأنّ الإخوان هم من يحرّكها، على رفع شعارات مثل «لا سلفية ولا إرهاب، الثورة ثورة شباب»، وأيضاً «لا سلفية ولا إخوان». شعارات ترددت في المدن والمناطق التي كانت محسوبة على الإسلاميين (بانياس وتل كلخ وحمص وحماة والتل، وحتى حوران التي لم تحسب عليهم). وتكررت تلك الشعارات يوم الجمعة التالي لإعلان الإخوان المسلمين المشاركة في الانتفاضة، بعد أسابيع من انطلاقها، وظلّت تتكرر بعدئذ، وهو الأمر الذي كان يشير إلى رفض الربط بالسلفية وبالإخوان المسلمين، وتوضيح حقيقة الحراك كحراك عفوي شعبي يطرح مطالب دون خلفية فكرية أو سياسية. وكان الشباب يتقصّد توضيح ذلك ليس تقية، بل نتيجة موقف واضح بأنّ المسألة تتعلق بالوضع الذي يعيشه، وبضرورة التحرر من السيطرة الشمولية للسلطة.

ما لا بد من توضيحه هو ضرورة التمييز بين الوعي الذي يحكم الانتفاضة، ويجعل الشعارات أو الهتافات إسلامية في كثير من الحالات، وبين أنّ ذلك هو نتاج انتماء سياسي إلى حركة الإخوان المسلمين من معظم تلك الجموع. فليس الشعار الإسلامي هو ملك الحركة، ولا الخروج من الجوامع هو نتاج قصد سياسي مسبق. رفعت تلك الجموع شعار الدولة المدنية، وشعارات رفض التدخل الإمبريالي، وأكدت أنّ الشعب السوري واحد، من دون تمييز على أساس ديني أو طائفي أو إثني، وهذا هو أساس المواطنة التي لا تتسق مع الدولة الدينية أو ذات المرجعية الدينية.

وإذا كان الوعي السياسي بما هو وعي البديل غائباً، فإنّ ما هو مرفوض من قبل المنتفضين واضح وأُشير إليه في الشعارات، وهو لا يسير في اتجاه دعم تيار ديني، أو حتى دعم كلّ المعارضة، بل لا يزال يعبّر عن مكنون الطبقات الشعبية، من دون شكل سياسي متبلور. وربما ذلك هو سياق تطور الصراع في المرحلة المقبلة، إذ لا بد من أن يتبلور ذاك الشكل لكي يصبح ممكناً انتصار الانتفاضة بشكل نهائي.

إنّ التفسير الشكلي لما يجري، جعل الإخوان المسلمين ينشطون في الخارج لصياغة بديل تحت سيطرتهم، انطلاقاً من أنّهم على الطريق إلى السلطة. وإذا كانت مسألة المشاركة في السلطة الحالية مطروحة عبر وساطة تركية منذ سنتين تقريباً، وهو ما جعلهم يوقفون «الصراع» مع السلطة، ويؤكدون وطنيتها، فإنّ الأمور تجري الآن انطلاقاً من أن تصبح الحركة هي أساس تحالف يؤسس مجلساً «وطنياً»، أو انتقالياً، أو حكومة انتقالية لكي يجري الاعتراف الدولي بها، بديلاً من النظام. وهي تعقد المؤتمرات وتناور للوصول إلى ذلك. وقد تنشط في إطار «التوافق» الذي جرى، لكي تصبح حركة الإخوان المسلمين جزءاً من «النظم الجديدة» التي تؤدي الإمبريالية الأميركية دوراً في تكوينها. فقد رفعت الإمبريالية الأميركية «الفيتو» على مشاركتها في النظم التي هي قيد التكوّن، وأصبحت تعتقد أنّ «معجزة إلهية» قد حدثت ومهّدت لها الطريق إلى السلطة.

المشكلة هي أنّ كلّ ذلك ينعكس سلباً على الانتفاضة، لأنّه يعزز من ادعاءات السلطة بالطابع الأصولي للانتفاضة، كذلك فإنّه يظهر الإعداد الخارجي لـ«السلطة الجديدة»، ما يستتبع التصوّر بإمكان تدخل إمبريالي، يتعزز ببعض التصريحات التي تطلق في الخارج، المرتبطة ببناء تشكيلات سياسية تؤكد ذاك التصوّر (مثل المجلس الوطني أو المجلس الانتقالي أو الحكومة الانتقالية). يعزز ذلك من تردد وتخوف فئات اجتماعية يجب أن تكون في صلب الانتفاضة، نتيجة وضعها المفقر، فقط لأنّ ذلك «البديل» يخيفها، رغم أنّه وهمي، وبالتالي، نتيجة فشل المعارضة في الداخل في توضيح طبيعة الصراع وأدوار القوى، وانغماس بعض «النخب» في الخوف من البديل الأصولي أو من الحرب الطائفية.

ما يمكن أن يقال هو أنّ دور «القوى الإسلامية» محدود، بل هامشي، في الانتفاضة، وأنّ تضخم دورها الخارجي هو نتاج تلك الهامشية الداخلية. وكما في تونس ومصر، ليس من إمكان لمشاركتهم في «النظم الجديدة» إلا من خلال التوافق مع المافيات الحاكمة، وبتوافق إقليمي و«دولي». أما الانتفاضة فبديلها مختلف جذرياً، ويتأسس على تغيير كليّة النمط الاقتصادي القائم. ذلك النمط الذي سيعطى كلّ بركات الإخوان المسلمين لكي يستمر كنمط ريعي مافياوي، ما يجعل الصراع واضحاً مع «النظام الجديد».

 

كاتب عربي من سوريا