هنا كولاج لثلاث مواد بعث بها (للكلمة) الباحث المغربي، تتناول موضوعة الاستبداد وتجشؤات العسكر الوحشية وتلمظها القتل في تشظيات أفانين التعذيب الممارس على المنتفضين العرب. لعل المادة الأولى تذكر البعض بخلاصة "كليلة ودمنة"، والثانية بمقولات "الجحيم" الدانتي والثالثة بتبديات الشمولية لدى فوكو.

أسـد أم ضـبع؟!

ومن ينقذ إذن، الشعب السوري؟ وصور، لن تكون عابرة

سعيد بوخليط

تتحدث بعض الأخبار السرية، عن حالة استنفار قصوى تعيشها جميع الغابات، بعد النداء المستعجل الذي أصدره ملك الحيوانات السيد الأسد، من أجل عقد اجتماع طارئ، بغية الاحتجاج على ما يفعله المدعو بشار الأسد، من تلويث وتمريغ في الوحل لصفة الإستئساد. فالأسد الحيوان، شجاع جداً. وبشار الأسد، جبان بما يكفي. يكشف الأسد الحيوان، عن أسمى درجات الوفاء بهدف حماية محيطه، دونما أن تكون شراسته مكروخبث ثعلب. أما بشار الأسد، فقد استقوى بموقعه، كي يبطش بمن هم تحت سلطته. الأسد الحيوان، صاحب إباء وكرامة وعفة، لا يقبل قطعاً على نفسه، أن يُفرض هكذا على جماعة ترفضه، متوخياً تبوأ مقعد الزعامة عن جدارة واستحقاق، بما يطويه من خصال مقارنة مع باقي الجماعة، بمعنى الطبيعة انتقته بعدالة حسب قوانينها الانتخابية. في حين بشار الأسد، لم يميزه شيء خارق قياساً لباقي السوريين، اللهم كونه ابن حافظ الأسد، لذلك جاز أن يهدى له كرسي الحكم بطريقة رخيصة، جائرة، ضربت عرض الحائط جميع القوانين والأعراف ومواثيق الشرف، حينما أتى به الحرس القديم من لندن على وجه السرعة، وتحويله إلى تمثال ينضاف إلى باقي تماثيل أبيه التي كانت تنمو في سوريا، أكثر من سنابل القمح. فصار، فجأة زعيماً شاملاً مانعاً، تتدفق الحكمة والرؤية الرصينة، شلالات، من ينابيع عبقريته الأريبة وتبصره الاستثنائي.

الأسد الحيوان، يترفع عن صغائر الأمور، ويريدها فقط كبيرة، فتراه يتقزز من الجثث الميتة. لكن، بشار الأسد، تراه يتمتع بالجيف منذ أن استصغر شعبه المسالم، المجرد كلياً من السلاح، ويتباهى بالنط فوق أجساد ذبحت غدراً، برصاص ادخر السوريون ثمنه من قوتهم اليومي، لعقود طويلة في انتظار تحرير الأراضي العربية، والقضاء على الرجعية، إلخ. بالتالي، كان أولى بذخيرته أن تفرغ في صدر المعتدي الإسرائيلي، أو مفسدي الداخل الذين قد يتحالفون مع وحيد القرن، من أجل دك السوريين دكاً، والإبقاء على مصالح يغلفونها مرة بالإيديولوجية (البعث، القومية، الأمة...) وتارة أخرى العقيدة (آل البيت..)، أو الثورة (جبهة الصمود والتحدي...).

الأسد الحيوان، كائن محترم، نيته بيضاء، يواجه بشراسة الأعداء، بغير أن يمس بسوء عرينه. أما بشار الأسد، فقد ورث بدهاء، خطابا شعاراتياً، مضمونه بلا مقابل على أرض الواقع، عنوانه الثورة الدائمة لاسترجاع الأراضي المحتلة، وبقيت الأجيال تترقب دون جدوى.

اشتهر، الجنرال ضياء الحق بقولته، أن الشعب الباكستاني مستعد لأكل العشب في سبيل إتمام المشروع النووي، وبالفعل استطاع الفيزيائيون الباكستانيون، بعد كل التضحيات إدخال بلدهم إلى المعادلة الدولية. خلال نفس الفترة دأب حافظ الأسد، على شحن آذان السوريين والقوميين العرب بمقولة البرغماتية السياسية، فكان تقتيل الفلسطينيين غير الموالين، والقضاء على شوكة العراق بالتحالف مع أمريكا والخليج النفطي، مقابل حفنة دولارات. عقيدة، تحولت معها سوريا إلى مقصلة ضخمة تبتر عليها كل آن الرؤوس الساخنة، التي تحاول بوجه من الوجوه مد أرنبة أنفها نحو مطبخ السياسة. غير أنه، من بين أخطر الوثائق التي تطايرت حالياً في الهواء، بفعل قوة أنفاس الجماهير المنتفضة، أن آل الأسد، لا مصلحة لهم في إنهاء مسرحية الأرض، مادام التحرير مدخل ونتيجة للديمقراطية، وديمومة تلك العائلة وأمثالها يتناقض عضوياً وبنيوياً مع قيام الدولة المؤسساتية.

إجمالا بعد السجال والنقاش وبيانات الاحتجاج، قررت الحيوانات أخيراً، سحب صفة الأسد عن بشار، والإكتفاء له تجاوزا بالضبع. فقد أبان عقله السياسي عن تواضع فظيع، جعله قاصراً عن استيعاب وفهم طموحات السوريين، من تم فردود فعله وزبانيته البلهاء، لن تغرقه بالتأكيد إلا في مزيد من جحيم اللعنة. أما إذا ارتأينا، أن نشفق على حال الضبع من تهمة بشار، فربما تتجه أبصارنا نحو المسكينة الزرافة، لتشابه في السمت، ولشهرتها بالجبن عند المواجهة. هكذا يقبع بشار بين جدران قصره، يتلصص مثلاً على لفيف من جنوده، وقد استفردوا بمواطن أعزل وهم يضربونه ضرباً مبرحاً، ويقذفونه بوابل من الصفع والشتم وتجريب مختلف حركات الكاراتيه، لا لشيء إلا رفضه الهتاف باسم زعيم من ورق، واستبداله بقدسية الوطن وخلوده، موقف يعكس قمة الإجرام. فماذا سيؤاخذون المرة المقبلة في خطبهم البيزنطية على العسكر الإسرائيلي، حينما سيتفنن بدوره في تهشيم عظام الفلسطينين؟. حسب تخميني المتواضع، وبالرغم من كل الأوصاف التي تتوخى أسطرة بشار على بساط الريح (القائد، الموحد، الرجل الخارق) وخاصة أسد، فلا أظنه بقادر على تحمل نصف لطمة دون أن تخونه قواه ويخر مستجدياً.

في إطار السياق الحيواني دائماً، تردد جمجمتي حتى اللحظة صدى، صورة خرجت عفوية من فم أحد الأشخاص، يزمجر غضباً جراء التخادل العربي لمواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982 قال صاحبنا: "المفارقة أننا نتوفر على الفهود (فهد بن العزيز) والأسود (حافظ الأسد) والنمور (جعفر النميري)، مع ذلك انظروا إلى حياتنا، إنها جملة إهانات". مما يطرح مجدداً سؤال العلاقة الماهوية بين النسخة والأيقونة،الدال والمدلول، وقد لعبت ميتافيزيقا الإسم دوراً مفصلياً بخصوص بعض الأدبيات المرتبطة بالأنظمة العربية، فكان الناس يقيسون ممارسات الرئيس على ضوء إيحاءات اسمه .

ما إن نلقي نظرة خاطفة على الإشارات السيرية لبشار، حتى يبرز بجلاء الدحض الكلي، للمعادلة المضللة التي رددها أنصار التوريث، والذين ظلوا ينمقون فرية مفادها، ضرورة التمييز بين القادة الآباء الصقور، الذين لم يتنسموا قط نسائم الحرية في الغرب، ولم يطرقوا أبواب جامعاته، ولم يتمثلوا قبل قصورهم وعشيقاتهم، غير أفق أقبية التكنات والذبابات، فاتصفوا عموماً بالغلظة والصلافة و الصلابة والخشونة. ثم، أولياء العهد الشباب، وهم على العكس من السابقين، درسوا وتعلموا وارتقت آدميتهم داخل محراب العلم، وبين صفحات الكتب، لذلك سيقبلون على السلطة بقلب سليم. حتماً إذن، لن يقبل بشار على نفسه، كوميديا أسد وهمي، وسيكون مرهف الحس وفاء لروح الطبيب التي يفترض،  بأنها تسكنه. وجمال مبارك الاقتصادي، يتأبط مشاريع دولة عصرية، يحكمها وازع العقل واقتلاع لجذور عصابات المافيات. ثم سيف الإسلام، الذي أخبرتنا تقاريره منذ اشتعال شرارة نجمه، بأنه "مبرز" في الثقافة الأنجلوساكسونية و لن يكون سوى برناردشو الليبيين، الذي سيحمل على أكتافه بنيان الحاضرة الحكيمة. لكن ما إن سقطت آخر أوراق التوت، حتى تلمس الجميع بأن الأبناء والآباء من نفس جينة الجنون والعته. وإذا كان بشار، على وشك إتمام نموذج الانحطاط بتفوق، فلا شك أن وغداً حقيراً كسيف الإسلام، لو قدر النجاح لسيناريو القذافي، فأعتقد وقتها أن الحمير، هي التي ستنتفض دفاعاً عن ما تبقى من كرامة للكرة الأرضية. أما جمال، فقد سبق لأحد أساتذته، أن صرح في حقه بما يلي: "أخونا ذا، لا يملك حتى موهبة إدارة شؤون بنك صغيرة، فما بالك ببلد كمصر". وللإنصاف، استمعت للاعتراف على قناة الجزيرة، وحسني مبارك مازال ماسكا بزمام السلطة، تأريخ يمنح الشهادة قيمتها التاريخية والأخلاقية.

هكذا يتبجح بشار ويتشدق، بأنه الأمين القطري لحزب البعث العربي، المتشبع منذ نعومة أظافره بمرجعيات فكر البعث (طبعاً البعث، كما اشتغل عند هؤلاء القتلة، يلغي كلياً البناء النظري والفكري الذي تركه مؤسسو الحزب ومنظريه كميشيل عفلق، قسطنطين زريق، ساطع الحصري...، كي يأخذ مساراً عسكرتارياً دموياً، فترك الاجتهاد المعرفي مكانه للمشانق). تخرج سنة 1988 طبيباً من جامعة دمشق، ثم توجه إلى بريطانيا قصد التخصص في طب العيون. بعد عودته، انتخب رئيساً لمجلس إدارة الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية، بهدف نشر الوعي المعلوماتي، وتفعيل شبكة الأنترنيت على امتداد البلد، وتعليم الحاسوب، فأتاح بذلك الفرصة أمام عدد من السوريين كي يستلهموا روح العصر. كما اهتم الأسد الصغير، إلى جانب حقلي الطب والتقنيات المعاصرة بالعلوم والفلسفة وعلم النفس والاجتماع. رجل حضاري، يعتمد المنهجية العلمية. شعاره: "أنا جاهز لما يطلبه الناس مني". بالإجماع نطلب منك شيئاً واحداً، أن تحزم حقائبك بدون قيد أو شرط، وتلتحق بالراحلين كي تستقبل بصحبتهم من سيلحق بك، لحظتها ستكون سورياً أكثر انسجاماً مع حضارتها وثقافتها وجمالها. لا أظن بأن رجلاً، يمتلك وجداناً يتفاعل مع تلك المعارف، يمكنه أن يسمح لنفسه بالإشراف على القذارات التي ترسم يوميات سوريا، على الأقل منذ انطلاق الثورة. وأتساءل في هذا الإطار، إن كان بشار قادراً على إبهارنا بكفاءته الطبية، إن وجدت لديه حقاً، لأننا لم نكتشف معه غير سادية فقأ عيون الصغار، عوض أن يكون جديراً بمسؤولية رعايتهم ويستبصر لهم مستقبلاً مطمئناً وسط عالم لا يرحم أبداً. لو كان طبيباً بالتعريف والمدلول، لتملكته روح ابن رشد و ابن سينا و غيفارا وشفايتزر. وإذا عشق، فعلاً الفلسفة والأدب، كما توهمنا سيرته، لاقتفى مثال مثقف سياسي نبيل كرسه الإفريقي سنغور، عندما ترك لهم الكرسي بما حمل. آنذاك ستحبه الجماهير بصدق، وترسم له تمثالاً حياً في قلوبها. لا أعرف حالياً، وفق الشخصية الإجرامية التي أبان عنها بشار، طبيعة تشخيصه لأعراض مرضاه، إذا استطاع يوماً ما، العودة ثانيةً إلى عيادته؟ ولأن الشيء بالشيء يذكر، فحالته، تحيلني على أشباهه من الأطباء المتواجدين عندنا في المغرب، الذين بدورهم لا علاقة لهم بنقاء الطب إلا الوجاهة الفارغة، بحيث ينصب همهم الوجودي على اقتناء السيارات الرياضية والكلاسيكية، والتطاول في البنيان، وقضاء آخر الأسبوع في ميامي أو ماربيا، بينما تتعفن جحافل الفقراء داخل المستشفيات. حدث أن غادرت عجوز عيادة طبيب، سعيدة،  تدعو له بالحفظ والصون، لأنه أحس بمعاناتها. لكن ما إن ولجت أقرب صيدلية، كي تستفسر عن ثمن الدواء حتى أصابها الغثيان من وقع الصدمة. عوض أن يوثق طبيبها الأدوية وكيفية الاستعمال، سيحلق بخياله وقتها إلى مشروع مركبه السكني الجديد، فجاءت الوصفة عبارة عن وصل بطلباته الملحة من كميات الحديد والرمل والإسمنت، إلخ. في إطار الدونكشوتية ذاتها، كل من شاهد مؤخراً بشار وهو يحاور نفسه بغير معنى، عفواً يتحدث إلى صحافيين ينتميان للإعلام الرسمي أو الفضائية السورية، سيدرك تماماً كنه احتقار ولامبالاة الطبيب المشار إليه أعلاه.

 

من ينقذ إذن، الشعب السوري؟
لم أكن أتصور قطعاً، أن عناصر الجيش السوري، أو على الأقل وحداته المكلفة بقمع المظاهرات، يتصفون بوحشية نادرة، وأن أفراده يضمرون كل ذاك الحقد لأبناء جلدتهم. لا يشفي غليلهم مجرد التنفيذ الوفي، بتصفية كل من سوّل له كبرياؤه التوجه نحو الشارع، بهدف التظاهر من أجل تغيير نظام بوليسي، أتخم محكوميه هرطقة وبؤساً، بينما فئة قليلة باسم الدفاع عن قلب العروبة، تعيش بذخ الحياة طولاً وعرضاً. تفنن الجنود، في إبداع أشكال التلذذ السادي، والتعذيب القروسطي، مما يكشف فعلاً، على أن سوريا، رزحت طويلا تحت كماشة جرم طغمة من القتلة المحترفين. بغير حساب، تدفقت صور دموية متعددة، تناقلتها وسائل الإعلام والمواقع الإليكترونية، أظن بأن إحداها، تعكس حالة هيجان فظيعة. يستحيل تفسيرها، بالمألوف من السيكولوجية الآدمية، كان المشهد على الشكل التالي: شاب سوري، ملقى طريحاً ينزف. الشارع فارغ تماماً، دبابة جاثمة بالقرب من بِركة دم القتيل، جنود يقتربون من الضحية بحذر، بعد أن أطلق أحدهم رصاصة مميتة. ربما ذاته، من تجرأ ودنا أكثر من الجثة. مد رجله باستعلاء نحو بطن الذبيحة، دفعها بقوة، تململت الفريسة، فـ (طقْ، طقْ، طقْ، طقْ...)، ست طلقات متوالية من مسدس الجندي، توقع نهائياً على شهادة الموت. بنفس صنيع الهنود الحمر، الذين يرقصون تعبداً حول نار مشتعلة، شرع الجنود المنتصرون، يطوفون فوق رأس جثة يأكلها الموت، يتفوهون بكلمات غير واضحة، لكن يفهم منها شتم حاقد شمل عموم سلالات القتيل، صمت رهيب يعمّ المكان، إلا من تبعات دوي رصاصات الرحمة. ارتفع ثانية، منسوب الدم كي يرسم جغرافية البشاعة. أي بشر هؤلاء؟  أفق حتمي، رحيل نظام الأسد، لا محالة، بعد يومين أو سنتين، لا يهم. فالشعب، لا يكذب أو يتوهم. غير، أن السؤال، الذي سيظل عالقاً، يهم طبيعة أحاسيس وشعور الجندي "البارع"، حينما سيتابع مرة أخرى متواليات شريط الجريمة الدنيئة، بعد مرور عشرين سنة مثلاً؟ أظنه، إذا استطاع أنطولوجيا التصالح مع نفسه، فلن يقدر حتماً العيش في هدوء، بالتأكيد سيفقد عقله، إذا عجز عن الارتماء من أعلى طابق في منزله. وقد استوعبنا، من مضامين كتب التاريخ، أنه طال الأمد أو قصر، فلا جريمة بدون عقاب، موضوعي أو ذاتي. بعد ذيوع الصورة، خرجت حشود السوريين، وقد أضافوا شعارا آخر: (حتى إسرائيل، لا تنكل بالجثث). إن الجرائم، التي يفرط الجيش السوري في تقديمها للعالم، تحت راية الدفاع عن النظام، وحماية الناس من "الإرهابيين" سترتقي أيضاً إلى السجل الأسود، لما فعله الأمريكيون بالفيتناميين والعراقيين و الأفغانيين، والصربيين بمسلمي البوسنة والهرسك.

ترسخ، اعتقاد عند الشعوب العربية، مدلوله، أن جيوشها لم ولن تحارب إسرائيل، وهي فقط تشحنها الأنظمة علفاً وغسلاً للدماغ، استعداداً للحظة الصفر، إذا قررت الشعوب التمرد. لذلك، فالواجهة العسكرية فاسدة، لا فائدة ترجى منها، مُختلقة ومُنتفخة بفضل ترهات الحاكم العربي، التي لا تعد ولا تحصى. بالتالي، انتشرت وعمت السخرية السرية من قادة "كبار" للحروب، دون أن يختبروا يوماً موقعاً حربياً والنياشين التي تنبث فجأة، بين زوايا صالونات الليالي الحمراء. حال، أفرغ تماماً مرجعية العقيدة العسكرية من رمزيتها، التي أحدثت فيما مضى انقلابات عسكرية ناجحة أو فاشلة، لكن استندت الجيوش، حقاً على عمق شعبي، ومارست دوراً بالنسبة للحركية المجتمعية. تم تغير هذا المنحى، لصالح آلات عنف غبية، تقسم بأغلظ أيمانها، أن تموت فداء للوطن، والوطن في الأدبيات العربية يعني ببساطة الديكتاتور، المنادي على منوال لويس الرابع عشر "أنا الدولة". بالموازاة، نقف كذلك على شبه تأكيد، استثنى جيوشاً أخرى، لا سيما المصرية والعراقية والسورية، إما لأنها تمتلك رصيدا فكرياً عريقاً أو متفوقة عدة وعتاداً، وأفرزت تاريخياً مدارس عسكرية متكاملة، أو هي في موقع التأهب الدائم، كما استمر الاعتقاد بخصوص السوريين ودرجة تبلور الاستراتيجية القتالية لديهم، وكذا مناوراتهم الدائمة على الساحة اللبنانية حينما كان حافظ الأسد، يدير اللعبة السياسية كيفما شاء.

بعد انطلاقة مواسم الربيع العربي، ستتجلى حتى الآن بوضوح ثلاث نماذج. المعطى التونسي، حيث يرجع في حقيقة الأمر لجيش بلد البوعزيزي، فضل تدشين الحقبة الجديدة، بدعمه للشعب وعدم الانقياد وراء جشع وبلاهة بن علي. موقف الجنرال رشيد عمار وفيالقه، رجح كليا الكفة للشعب التونسي واختزل عليه مآسي ليبيا وسوريا .انقلاب أبيض، مهد كثيراً لهروب الديكتاتور. قد يفسر، بأن ثقل الأخير، يستقي أساساً روافده من جهاز الشرطة وبالأخص البوليس السري، بحكم انتماء بن علي إليه، وافتقاده لـ "كاريزما" معينة وسط صفوف الجيش. في مصر، لم يكن السيناريو أيضاً محتملاً بالطريقة المعروفة. جحافل الجماهير التي احتشدت على امتداد ساحة التحرير، كانت مستعدة لكل شيء. وبعد التجاء الشرطة إلى الذخيرة الحية، ثم هجوم ما بات يعرف بـ"موقعة الجمل"، وسيادة الفوضى في جلّ أنحاء مصر، بدا الالتفات نحو الجيش، الذي استمرت علاقته بالمصريين نظيفة، لكن المفارقة أن مبارك ينتسب إلى المؤسسة العسكرية، من ثمة افترض مبدئياً بأنها ستقف إلى جانبه، وتقضي على المتظاهرين بأي وجه. ولعل أهم الأخبار التي تسربت لحظتها، أن المشير طنطاوي المعروف بوفائه وامتثاله لمبارك، سيلتزم مضطراً بحياد الجيش المصري، فقط بسبب ضغط القيادة العسكرة الشابة التي رفضت قطعاً توجيه فوهة المدفعية نحو صدور المصريين، ولعل ما يثبت هذا الكلام أن طنطاوي في أوج التظاهر أظهرته الفضائيات، يتفقد الجنود المرابطين في مواقع بالقاهرة، كي يشد أزرهم بعبارة من "أجل مصر" التي تعني بقاء نظام مبارك. إذن، لو لم تتغلب الحكمة، لحدثت مجزرة رهيبة، ستؤدي إلى انشقاقات كبيرة واندلاع حرب أهلية. ساد الظن، بأن الموقف الوطني والمتحضر، للجيشين التونسي والمصري، سيؤسس مرجعية موجهة لباقي جيوش الشعوب المنتفضة، لكن التطورات في ليبيا واليمن وسوريا، غيرت الأمور رأساً على عقب، وخلقت مستجدات بخصوص تراكمات الثورة العربية، لعل أبرزها درجات شروط التحديث، وممكنات المجتمع المدني، وكذا نوعية النخبة التي تخلق آفاق التفكير.

هكذا بالنسبة لليمن، ورغم بعض الانشقاقات في صفوف الجيش، فقد كان للبنية القبلية كلمتها والانتماء العائلي المشترك لضباط العسكر، فأغلبهم ينحدر من بيت عبد الله صالح، كما أن أهم مكوناته أي الحرس الجمهوري، يوجد تحت إمرة ابنه، دون نسيان فائدة الدعم اللوجستيكي والعمق الاستراتيجي، كما وفرهما النظام السعودي. نفس التصور قد ينطبق على ليبيا، في ظل غياب مؤسسة عسكرية بالمعنى الحديث للكلمة، وتعلق الأمر فقط بأجهزة استخبارية شرسة وكتائب" ثورية" هدفها الأساسي، حماية بكل السبل، لمن أضحى في قمة خبله ملك الملوك.

يوم الجمعة 9 شتنبر، تظاهر السوريون كالمعتاد، وهم يصرخون بأقصى ما ملكت حناجرهم، للمطالبة بحماية دولية، لقد تخلى الجميع عنهم، وغطرسة عصابة الحكم، لم تجد بعد رادعاً، فتجاوزت كل المعايير الأخلاقية. الموقف الدولي محتشم جداً، وليس له من تفسير سوى الرغبة الضمنية في إبقاء الأسد على رأس السلطة، ربما، تهيباً من عراق ما بعد صدام. أما النظام العربي الرسمي، فيستحيل الرهان عليه، رغم المسرحية المضحكة، لتصريحات التنديد النابعة من هنا وهناك. الجميع يتحسس رقبته، مادام أن السقوط، يشبه في روحه قواعد لعبة الدومينو. صحيح، أن الشعب السوري حسم منذ الأسابيع الأولى، المجال الذي ابتغاه لثورته، حيث الوطن أسمى من كل شيء، بالتالي، لا ولاءات طائفية أو فئوية أو خارجية. التعبير نتاج قناعة داخلية، هدفه إعادة بناء سوريا من الداخل، على أسس دولة عصرية. سعي، لا يتعارض فيما أظن مع استنجاد السوريين بالضمير الأممي النبيل، القادر وحده على وقف تغول الوحش الكاسر. يقف، الشعب السوري، عارياً، أعزل، مجرداً من كل سلاح، غير إيمانه الروحي بمصيره، وشجاعة شامية استثنائية أذهلتنا وأبهرتنا جميعاً، وهو يصارع كل صبيحة آلة بطش جهنمية. الإشكال، أن رموز المعارضة السورية في الخارج وعلى رأسهم برهان غليون، عبروا عن رفضهم المبدئي لفكرة التدخل الأجنبي، لماذا؟ لأن الثورة في سوريا وطنية، شعبية، بينما الاستعانة بالغربي سواء كان فرنسيا أو أمريكيا، لابد أن يحكمه منطق المصلحة والمقابل. من جهة ثانية، ينبغي استحضار طبيعة الصراع في المنطقة مع إسرائيل، والحساسيات الطائفية المتأهبة، وتعدد بؤر التوتر بجوار سوريا، العراق، فلسطين، لبنان، حزب الله، إيران، حماس،  ستشعل كل الشرق الأوسط، حرباً. مع ذلك كيفما جاءت التأويلات، لا أحد منا بوسعه إنكار فضل الناتو في اقتلاع مخالب القذافي، وكأنه يكفر عن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها سابقاً وهو ينصاع بغير هدى للعربدة الأمريكية في العراق. طبعاً الأمر ليس بهذه المثالية، لأنه يوجد خلف الأكمة ما يوجد، من بترول وغاز وفواتير الحرب ومشاريع إعادة التعمير، إلخ، لكن ماذا كان على الليبيين فعله في غياب حلف عربي داعم؟ العاجز دائماً، ثم العاجز، منذ خروجنا من بطون أمهاتنا. هل تحتم عليهم، أن ينتظروا، كي يبعث ثانية المجاهد عمر المختار من قبره ويمدهم بخطط التحرير؟ في غنى عن الصليبي والمستعمر الجديد. لكل شيء ثمن، والمهم أننا استعدنا بلداً وشعباً، واكتسبنا تجربة بكل تلويناتها، ستتكلم عنها الأجيال طويلاً.

 لازالت المعركة متواصلة، والمطلوب حالياً على وجه السرعة، نجدة السوريين.

 

صور، لن تكون عابرة

(1)

منذ الشروع في محاكمته، والرئيس المخلوع ممدد على سرير، يغط في نوم ليس بعميق، لكنه بالأحرى سينمائي. لو توفر الريس على نسبة من الوسامة، لصار بالإمكان أيضاً منحه لقب الأمير النائم، تيمناً بالسندريلا النائمة، إلى جانب ما اشتهر به من نعت البقرة الضاحكة. بوسع الديكتاتور أن ينام حالياً، وقد حرم أجيال المصريين من نعمة النوم، لمدة ثلاثين سنة. قضى، الليالي الطوال، يدبر وزبانيته الفاسدة المكائد، وينسجون خيوط المحاكمات الصورية، كي يزجوا بالآلاف في الزنازين والمعتقلات. ربما، يحق للعالم أن يشهد على نومه، لقد ظلمناه!؟ فلم يكن يغمض له جفن، هوساً، ببناء مصر وعزة مصر وتطور مصر، ألا تلاحظون النتائج؟ فقر وبغاء وغباء. يخاطب الحاكم العربي شعبه: نم، يا حبيبي قرير العين، واسترح هنيئاً مريئاً، فأنا حارسك، ونفسك وأنفاسك. نم، فما فاز إلا النوم. بعد حين، سيجعل من البلد صحراء مقفرة، لقد سرق كل شيء واختفى. ثم، Wanted! حياً أو ميتاً. يحدثنا، نوم مبارك: طزْ، فيكم واللي خلفوكم، جوابي لكم نوم، فنوم، ليس لديكم عندي حاجة. من أنتم؟ ألا تعرفونني، أنا الريس مبارك أبوكم جميعاً، وزعيم العرب الأوحد. ألا تذكرون؟، في مثل هذا الشهر من السنة الفارطة، ولأني شخصية ثقيلة، من ثقل وزني، بفضل عشاءات وليالي الأنس في شرم الشيخ، والعمولات التي كانت تسقط علي يميناً وشمالاً: إيش عراق! إيش فلسطين! وإيش كرامة مصرية! كان لابد، أن أتقدم أوباما ونتنياهو وعباس والملك عبد الله، فجميعهم صبايا عندي، أنا الحكيم. لكن حبل الكذب قصير. شهور قليلة، ثم تهاوت قصور الرمال. حالياً، أنا عايز أنام، أنا غلبان. نم، يا خويا، فنوم الظالم عبادة.

(2)

الإسلاميون يريدون من العلمانية السيارات الفخمة، والهواتف المحمولة آخر موديل، والفيلات الراقية، والأرصدة في البنوك، بل والشقراوات الجميلات، نتذكر جميعاً الهجرات الجماعية السابقة صوب البوسنة والهرسك، من أجل العودة بغنائم النساء. الإسلاميون يتوخون من العلمانية الحاسوب، والفيسبوك، والمناصب، والوظائف، والمدرسة الخصوصية لأبنائهم، والأسفار، والطائرات والفنادق وأشياء كثيرة حلوة وجميلة، عند هذا الحد يكفي. الإسلاميون ذاتهم، ستجري الأسود في دمهم، ويقسمون بحلق لحاهم وشواربهم، إذا حاولت الانتقال بهم إلى مصدر وأصل كل تلك النعم، أي العلمانية كاختيار مجتمعي متكامل، ذلك ما حصل، لأردوغان خلال زيارته الأخيرة لمصر. الرجل معروف بصراحته وصفاء سريرته، أدلى ببساطة عما يشعر به. الإخوان المسلمون، الذين اشتهروا برفضهم للسياقات، انتشلوا كلامه عن موضعه، فانقلبت المحبة إلى عداوة. حقيقة تؤكد، بأن الأفق السياسي العربي، لا زال في حاجة ماسة إلى عقول أكثر نضجاً كي تتعامل مع المفاهيم والوقائع.

(3)

لا أعرف من سبب وجيه، وراء كره الديكتاتوريين للشعْر الطويل، مسألة تجلت بوضوح، عبر صورة لبعض جلادي بشار، وهم يمارسون مختلف أشكال الإهانة على شبان سوريين وقعوا في الأسر. بعد الركل والرفس والصفع والشتم وتقييد الأيدي بالأرجل، أسرع جلاد إلى مقص وبدأ يقص شَعْر شاب معتقل. بالمناسبة، صاحب المبادرة أصلع تماماً، تظهر على ملامحه القسوة الزائدة، يشبه شخصية "شقيف" في إحدى المسلسلات السورية الشهيرة. استحضرت مشهداً من وقفات حركات 20 فبراير في مدينة الدار البيضاء. استفرد رجال الشرطة بصبي لا يتعدى عقده الثاني، كان شَعْره كثيفاً، شرع شرطي يضربه، صارخاً بهستيرية: "اتاّ يحرق بوك وامك، شوف بن الزّا مْل لاخُرْ، كيف داير لي لشعرو..." الشعر الطويل، كان دائماً معيقاً للديكتاتورية في سعيها لتعضيد ثوابت المجتمع الأبيسي الذكوري. إذن شعر، بهذه الكيفية، سيخصب كل معاني ومعالم الحرية ويدحض قواعد التنميط العقائدي التوتاليتاري، حيث الجميع يخضع لقالب واحد. يرسم رؤية حالمة للعالم، نذكر هنا حركات الهيبيين سنوات الستينات والسبعينات والغيفاريين.

(4)

ما معنى أن يصب جنود سوريون، بجنون منقطع النظير، كل نيران بنادقهم على قطيع وديع من الحمير؟ هو الذهان الهدياني إذن، والبارانويا، حيث الديكتاتور يصرخ في وجوههم، مردداً على لسان ستالين: "لا أثق في أي كائن، حتى نفسي"، و"القتل، يحسم كل المشاكل". كانت الحمير بغير ذنب، تتساقط الواحد بعد الثاني. بدت أرقى وأنبل من قاتليها، وقد استحمرهم واستغباهم رؤساؤهم. ربما قصدوا الأمر، بقوة كي يقتلوا رمزياً ما يسمى بالنزوع الحماري عند البشر، مع الاعتذار الشديد لأخينا الحمار. حينما يغزو البرابرة والهمج حاضرة ما، يأتون على البشر والحجر والشجر. أتمنى، أن تلعب الصدفة دورها، وتصل صورة الحمير السورية وهي تُعدم، إلى أعين الممثلة الفرنسية بريجيت باردو، فتقيم الدنيا ولا تقعدها، ثم لابد لسلطتها المعنوية أن تحرك المساطر والمتابعة القانونية وأصوات الاحتجاج.

(5)

بالنسبة للعالم العربي، أن تكون وزير الداخلية أو الخارجية أو الثقافة، فالوضع لا ينزاح على أنك مأمور بأمر الحاكم. في أحسن حالاتك تستحق منه إهانة، ولا يحق لك أن تقلص عضلات وجهك، وإلا قطعوا رأسك. بالتالي، لا يتوفر تراثنا على ثقافة استقالة المسؤولين، ولا نقد ذاتي للسياسيين، ولا تصادم الرؤى، ولا سجالات سياسية من الطراز المفهومي الرفيع. المهم، أن تنبطح، وفقط. إذن ماذا يفعل وليد المعلم إلى جانب بشار، وقد بلغ بطنه من التكرش والانتفاخ، شأناً؟ هذا الديبلوماسي الذي محا أوروبا عن بكرة أبيها بكلمة منه، يصلح أكثر، بقيمته البطنية وشراهته الابتلاعية، ما دام ابتلع كل أوروبا بسرعة رفة جفن، إلى أن يشتغل طباخاً. دبلوماسيته الاستئسادية، يلزمها مرق وبهارات وتذوق. أتساءل، على سبيل المعجزة، ماذا لو استطاع نظام الأسد القضاء على الثورة الشعبية، واستعاد زمام المبادرة ثانية؟ كيف، به أن يحيي أوروبا من جديد؟ لاشك، سيتكفل المعلم، ببعثها ثانية من بطنه، كما وقع ليونس مع الحوت. لكن التاريخ، لا يرجع إلى الوراء.

(6)

لم يخطر، ببال المرحوم فوكو، وهو يصنف أهم وسائل التعذيب التي سادت القرون الغابرة، أن يلتجئ ذات يوم، ساديون سيكوباتيون إلى ما بات يعرف بجز الحنجرة. أو ما كنا نسخر به، بالدارجة عندما نريد زرع الرعب في قلب شخص، لسبب من الأسباب: "والله، تايْ حيد ليك بلحوحتك". أحاول، بكل حواسي ومشاعري، تمثل لحظة المعاناة الشديدة، كما يقاسيها من لفظوا أنفاسهم الأخيرة، على أيادي أفراد الاستخبارات السورية، جراء استئصال حناجرهم.

(7)

بقدر، الدور الريادي الكبير، الذي لعبته قناة الجزيرة من أجل تحرير الليبيين، فاستمرت صوتاً إعلامياً متميزاً للثوار. قدر ظني، بأنها ستعيد الكرة بنفس المستوى، ودون قصد لإشعال حرب أهلية، وتفكيك وحدة الثوار. فمنذ الساعات الأولى لتحرير طرابلس، شرع إعلاميوها يهيؤون مواضيع بهذا الخصوص، تدس الأصابع في عش الزنابير، حينما حولوا النقاش صوب الانتماء الجهادي لعدد من الثوار، وتسرب عناصر القاعدة إلى ليبيا ما بعد القذافي، من ثمة، النموذج الطالباني والصراع مع الليبراليين والدولة المدنية، إلخ. نقاش، تنطبق عليه القولة العامية: "تيْفيق الحمق، بضريب الحجر". صحيح، هي قضايا شائكة ومطروحة، لكن لا ينبغي النفخ فيها عبر المواجهات الفضائية، وصب الوقود على النار، وذر الملح فوق الجرح الغائر. الوضع انتقالي، استثنائي، يسعى إلى الخروج من ماض مظلم. لذلك ينبغي، أن يركز الليبيون، أساساً على البناء والتحديث والرقي والتعليم والتنمية وتشكيل جيش وطني، ثم تجاوز النقاشات السوفسطائية. ولعل الاختيار، قد حسمته تصريحات جلّ أعضاء المجلس الانتقالي، بأن الليبيين شعب متدين، إسلامه وسطي معتدل. بالتالي، لا داعي لمزيد من إدخال اليد في أعماق ظلمات الجحر، فقد تتلقى لسعة ثعبان، مميتة.

(8)

هناك، شيء عظيم جداً، اسمه الحفاظ على الكرامة، وهو إحساس لا يوزن بماء الذهب. لذلك، أضحك ملء فمي، حينما يتوجه السوريون واليمنيون إلى حكامهم، بطلب وحيد لا غير، ارحلوا. فيردوا عليهم، بأن يبقوهم على الكرسي إلى غاية كذا؟ أو المواجهة، ثم تتشبث الشعوب بحقها، فيكون الجواب مرة أخرى، اتركونا فقط حتى موعد؟ قمة الذل والإهانة. لعل من شروط الحكم، أن يحبك شعبك، بقدر اعتزازك بنفسك. هنا، تكمن القوة الحقيقية.

(9)

صاحبنا الشريف، الذي ظل سنوات الاحتقان السياسي، ينعت من طرف صحف المعارضة اليسارية بمسقط الطائرات، صار الجميع يتودد إليه حالياً بـ مولاي، وسيدي، وسيدْ الشريف. أغلب ضيوفه، ممن أضحوا قياديين للشعب، بين عشية وضحاها. يضفي، صاحبنا الشريف، عليهم هالة من الأوصاف، تشعرك بزلزال يسري تحت قدميك. هكذا يغدو، الضيف مناضلاً ابن مناضل، يفطر نضالاً، ويتعشى نضالاً. أدخله أبوه الحاج المقاوم، إلى الكُتّاب. لكن الطفل، عبقريته طافحة وينغل نضالاً، فارتقت به وزارة التعليم مباشرة إلى الأقسام الثانوية ثم البولتيكنيك. الضيف، لم يبدأ اسمه في اللمعان و لم نسمع عنه، إلا عندما نقلته طائرة، مباشرة من حجراته الباريسية إلى مكتبه الوزاري في الرباط، فجمع ما لم يجتمع لغيره، وزير محنك وقائد حزبي صلب، وفاعل جمعوي لا يشق له غبار. ينتفخ الضيف كالديك الرومي، محركاً رأسه بتؤدة الرضا والإيجاب، لكنه يعترض على شيئ واحد في التقديم: "الله يعطيك، الخير، أمولاي، اسم زوجتي "لمياء" وليس "ندى"، "ثم، تبدأ حكايا الحداثة والهشاشة والبشاشة... حقاً، في كثير من الأحيان، يعجبني "مولاي"، حينما ينقلب بغتة على "المناضل، شكارة"، فيتقن جيداً دور الناطق المخزني باسم الشعب. يحصره في زاوية، وهو يلكمه بسلسلة تناقضات: "قلتم، فعلتم، ذهبتم، اعترفتم".

(10)

أن يسكر البرلماني أو غير البرلماني، فذاك شأنه، ولا يحق لأي كان محاسبته. لكن، أن يعربد داخل مؤسسة برلمانية، إن استحق فعلاً برلماننا هذا الاسم، فالموقف مختلف. في هدا الإطار، تواردت إلى مسامعي، بعض تعاليق المراكشيين، لما اكتشفوا الخبر: "شرابي، خرابي"، "حاميها حراميها"، سكران وسايق تران "أي قطار"، "طوبّة سكرانة، ولابسة مغانة (ساعة يدوية)". بالنسبة إليّ، أريد أن أعبر عن تأويل مغاير، مفاده، بما أن الخمر مشروب روحي، فغالباً ما يزيل عن الفرد كل الأقنعة ويجعله واضحاً صادقاً مع نفسه. لذلك، إذا سكر البرلمانيون وهذا من باب الكاريكاتور فقط، أو الذم بما يشبه المدح، فلربما سيتوقفون عن الكذب والنفاق والتمثيل الممل والمقرف. بهذه المناسبة، أذكر حكاية أستاذ جامعي، كثير الهرطقة واللغط، ظاهرة صوتية بامتياز لا يتوقف عن النفخ في ذاته، فقد جالس كبار الأدمغة وقارعهم الحجة بالحجة، فاعترفوا له بريادته العلمية، كما أنه مشهور في الغرب أكثر من المشرق، ذات يوم شرب حتى شرب، رفع سماعة هاتفه، واتصل بأحد خصومه وهو يبكي "أنا لست بمثقف ولا عشرة حمص، أنا مجرد مهرج فارغ، وهماز مشّاء بنميم" استمع الطرف الثاني بانتباه، حتى أنهى مكالمته، بعد أن أدرك جيداً بأن الخمرة من فعلت فعلتها، وحتماً في اليوم الموالي سيعود المشتكي إلى عاداته القديمة.

 

Boukhlet10@gmail.com

مراكش-المغرب