"فالمشكلة ليست في الاستشهاد بإدوارد سعيد، والاستعانة بسلطته الثقافية، أو ترجمة وطباعة أعماله، بل في ممارسة النقد المرّكب للواقع، وفي الاعتراف بحقيقة أن العقل الإنساني محافظ بطبيعته، وأن الممارسة الثقافية تعني نقد ونقض البداهة. أليس كذلك؟"
حسن خضر
لقد أحلنا، في مقالاتنا السابقة، والمكرَّسة لثورات العالم العربي، وفي أكثر من مرة، على "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي راحت تفرض ذاتها، وبشكل متزايد، داخل العالم الأكاديمي، على مدار العقود الثلاثة الأخيرة. وقد حصل ذلك، وعلاوة على ما سلف، نتيجة اقتناعنا بمدى "أهميتها المعرفية" على مستوى دراسة موضوع في حجم موضوع ثورات العالم العربي التي جاءت بعد نصف قرن من الزمن ظل العالم العربي خلالها يعاني "استعمارا داخليا" بشعا بسبب من الاستبداد والاستحواذ والاستعماء والنهب والتحقير... لشعوب، عربية، بأكملها ومن قبل "ديكتاتور" بلغ حدا لم يقنع فيه بأن يحكم مدى الحياة فقط، وإنما أصرَّ على إشراك عائلته وبطانته في هذا "الحكم" أيضا. ثم إن "الإنجاز الوحيد" الذي "نجح" فيه الديكتاتور العربي هو "تحصين" حكمه من أي ثقب، ولو صغير، يفضي به إلى انهيار أكيد. وقد استمرت الحال على ما هي عليه إلى أن فعلها المواطن التونسي البسيط (والعالمي فيما بعد) محمد البوعزيزي عندما لم يجد، ووسط غابة أو أدغال التحقير، من غير أن يضرم النار في جسده النحيل، يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010، ويشعل ــ بالتالي ــ ثورات العالم العربي.
وإذا كان المحلل الفرنسي الأبرز (من أصل بلغاري) تزيفتان تودوروف (وصديق إدوارد سعيد، للمناسبة) يتصور، في كتابه "الأمل والذاكرة" (تبعا لعنوان الترجمة العربية)، أن "الاستعمار" كان، وعلى مدار القرن العشرين، "الحدث المؤثــِّرَ" في القارة السمراء مقارنة مع "النظام الشمولي" الذي كان، وفي المنظور السالب دائما، وعلى مدار القرن ذاته، "الحدث المؤثــِّرَ" في القارة الأوروبية، فإنه في حال العالم العربي ظلَّ الحدثان، ومعا، مسترسلين، وظل العالم الأخير يعاني منهما إلى نهاية مختتم العام 2010. وحصل ذلك من خلال حكام حرصوا، وبعناد معلن، على تأسيس أنظمة تعلو على المجتمعات، ولا تجعل من الدولة إلا أداة من أدوات "الافتراس السياسي". وكما لخـَّص المفكر والشاعر أدونيس: "هكذا أسَّسوا نظاماً ولم يؤسِّسوا مجتمعـاً"؛ وحتى نوضـِّح أكثر: نظاما شموليا واستبداديا وفاسدا. ومن هذه الناحية فقد تقاربت الأنظمة العربية فيما بينها وسواء كانت جمهورية أو ملكية أو حزبية أو طائفية أو خليط من هذه الأنماط.
لا يبدو غريبا، إذا، أن نركـِّز، هنا، على الأكاديمي الأمريكي والكاتب الفلسطيني الأبرز والأشهر إدوارد سعيد (1935 ــ 2003) وفي هذا السياق بالذات الذي هو سياق "الربيع العربي" كما اصطلحت عليه ماكينات الإعلام التي كان سعيد نفسه أدرى بتغطياتها ومقالبها. ولا يبدو غريبا أن نستأنس، هنا، بإدوارد سعيد على الرغم من أنه كان قد فارق الحياة قبل ثماني سنوات على انطلاق ثورات العالم العربي ودونما اطلاع على ما حصل ولا يزال يحصل من وقائع أذهلت الجميع وجعلت كثيرين، وسواء من المتحمسين للثورة أو الناقمين عليها، يفركون، ولأول مرة، أعينهم لعدم تصديقهم للحدث الذي أعاد الاعتبار، ومن جوانب كثيرة، للعالم العربي.
فإدوارد سعيد من الصنف المطلوب "حيا أو ميتا"، ومن الصنف الذي يزعج في حياته أو في مماته، ومن الصنف الذي يتجدد التفكير فيه مع المستجدات والوقائع الكبرى. فهو "شبح" (Spectre) وبالمعنى الذي أعطاه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا لكارس ماركس في كتاب "أشباح ماركس" (Spectres de Marx) (1993) أو "أطياف ماركس" كما في ترجمات أخرى، وكل ذلك في المدار الذي أفضى بدريدا، وفي غابة التفكيك والتأويل، والدوران، إلى الإشارة إلى أنه "لا مستقبل بدون ماركس". ومن ثم فإن مفهوم "الشبح"، وفي حال التأسيس المعرفي له، ينأى بنا عن "التأليه" و"التباكي" و"الاستعمال"... في أثناء التعامل مع "القامات المعرفية الكبرى" كما في حال "نموذج إدوارد سعيد" الذي لا تزال "كتاباته"، ورغم خلفيتها الأكاديمية الغربية، تفيد في تدبّر قضايا العالم العربي المنهك بمظالم "الاستعمار الداخلي" و"الأصوليات الاستبدادية" و"الهويات العمياء".
ويفضي بنا موضوع "إدوارد سعيد وثورات العالم العربي" إلى أن نستحضر جملة من الأفكار يهمـُّنا، هنا، أن نركـِّز على ثلاث منها. وتشير أولاها إلى أن الجانب الأهم في "المنجز السعيدي"، وهو ما كان ينصح به إدوارد سعيد نفسه، يتعلق بتفكيك خطاطة "الثقافة والإمبريالية"، وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق ما يمكن نعته، ونتيجة تنوع اهتمامات الرجل، بـ"جبهة نقد الاستشراق". الاستشراق الذي لا يزال، وفي حال العالم العربي، متواصلا ... ومن خلال كليشيهات سياسية وتنميطات عنصرية. والفكرة الثانية ذات صلة بـ"خلفية" سعيد الغربية التي سلفت الإشارة إليها قبل قليل ... ولعل هذا ما لا يستحضره كثيرون في العالم العربي من الذين عادة ما يلخـِّصون سعيد في "المدافع عن العرب والمسلمين" في الغرب وسيـَّما في نيويورك "العاصمة ــ العالم" حيث "اللوبي الصهيوني" وحيث "صناعة القرار" وحيث "التلاعب بالعقول" ... إلخ. أما الفكرة الثالثة فنربطها بـ"الطابع النقدي المركـَّب" الذي تتـَّسم به كتابات سعيد في مجالاتها المتنوعة. ونتصور أن مثل هذه الأفكار جديرة بأن تسعف على نوع من "التعامل النقدي" مع موضوع ثورات العالم العربي.
وفي الحق لا داعي لكي نستعيد قصة انتماء سعيد للعالم العربي، وتدرّجه في هذا العالم (فلسطين، مصر، لبنان) قبل أن يحطَّ الرحال بجامعات (برنستون وهارفارد دارسا) وكولومبيا بنيويورك مدرِّسا إلى أن خطفه الموت الغادر، ونتيجة المرض اللعين، في الخامس والعشرين من سبتمبر العام 2003. فلا داعي لكي نستعيد القصة سالفة الذكر، لأن هذا ما كنـَّا قد سعينا إليه من خلال كتاب مستقل لنا تحت عنوان "الوعي المحلق ــ إدوارد سعيد وحال العرب" كان قد صدر خلال العام الماضي في طبعتين بالقاهرة ("دار رؤية"، والهيئة المصرية العامة للكتاب" (2010). غير أنه، ورغم هذا التحفظ، ثمة أكثر من خيط يجعلنا نصل إدوارد سعيد بالعالم العربي؛ لكن من خارج دائرة أي نوع من "الهويات المنغلقة" أو "القاتلة" تبعا لتصور مدرسة فرانكفورت التي كان سعيد معجبا بأعلامها ولا سيما أدورنو وفالتر بنيامين. ومثقف في حجم سعيد، ومن حيث هو مثقف انشقاقي ونقدي ومترحـِّل بين اللغات والثقافات، لا يمكنه أن يستقـِّر على هوية من النوع الأخير. ولذلك فإن التقاط ما يفيد العالم العربي يستلزم الوعي بمثل هذا المعطى الذي يحمي من الانغلاق في إطار من "القراءة الاستعمالية" التي لا تفيد كثيرا في خدمة الفكر السعيدي والتأكيد ــ بالتالي ــ على طابعه الثري والمتنوع.
وإدوارد سعيد، وكما يعدِّد دارسوه والمهتمون به، هو: ناقد أدبي، وناقد ثقافي، وناقد للاستشراق ... وهو فيلسوف، وفيلسوف الاختلاف ... وهو ناقد موسيقي، وعالم بالأوبرا، وعازف على البيانو ... وهو أكاديمي وأستاذ جامعي ومفكر إنسي ... وهو رجل سياسة وناشط سياسي ... إلخ. وفي السياق نفسه: هو سجالي ملتزم، وهو مثقف شاهد حر، وهو غير مصنف بل وشرس تجاه التصنيفات. وهو لا يرغب في أن تتحول الحياة بأكملها إلى مقاومة ... إلخ. ولذلك فإن السؤال الوجيه الذي يفرض ذاته علينا هو التالي: ما الذي سيتبقـَّى من هذه الجبهات بعد أن نطلَّ عليه من داخل الثقافة العربية المغلوبة؟ الثقافة المنهكة، في الجانب الأهم منها، بنزوع التبسيطية والاختزالية؟ والثقافة التي لا يقبل المتلقي داخلها، وفي الأغلب الأعم، إلا بالذهاب مباشرة إلى "الأجوبة الجاهزة"؟
والمؤكد أن لا يحضر سعيد في جميع هذه الواجهات وأن يشدد العرب على واجهة دون أخرى. وقوة سعيد، في تصوري، ولا سيما في مثل حالنا العربي، كامنة في "التعليق" الذي برع فيه سعيد من خلال "مرتكز المقال". وهذا التعليق هو الذي جعل كاتب هذه السطور يفكـِّر في إدوارد سعيد يوم كان للعقيد الليبي معمر القذافي، ولو ظاهريا، ما أراده، وذلك حين استدرج النظام الإيطالي الرسمي، ممثلا برئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني شخصيا، في 31 غشت من العام 2008، إلى الاعتذار، وباسم الشعب الإيطالي، على الحكم الاستعماري لليبيا على مدار الفترة الممتدة من 1911 إلى 1943 ... ومشدِّدا، في الوقت ذاته، على "الأضرار" أو ــ وبلغة "دراسات ما بعد الاستعمار" ــ "الجروح الكولونيالية" التي خلـَّفها الاستعمار الإيطالي في بلد "عمر المختار". بل وتمَّ "إرضاء" الشعب الليبي على هذا الجرم عن طريق خمسة مليارات دولار تعويضات تدفع في شكل استثمارات على مدى خمسة وعشرين عاما. وتصورت، ومع آخرين، وفي الحين، أن هذا أقصى ما يمكن أن يتم كسبه في ظل هذا الظرف الذي لا تزال فيه دول (إمبراطوريات سابقة) مصرَّة على "عدم الرد" بخصوص هذا الملف بحجة أنه "ينتمي إلى الماضي".
وختمت المقال المعنون، وللمناسبة، بـ"اعتذار عن فظاعات الاستعمار أم نفاق إمبريالي جديد؟" (والمنشور بـ"الجريدة الأولى، العدد 96، السبت / الأحد 6-7 شتنبر 2008) (توقفت الآن) قائلا: "وحتى نختم فـ"الاعتذار" الإيطالي، للشقيقة ليبيا قابل لأن يقرأ قراءات أخرى لا تقف عند "مستواه الحرفي". وكم تمنـَّيت لو أن العمر كان قد أمهل البروفيسور إدوارد سعيد حتى يقدم قراءته التحليلية في "الحدث"، تلك القراءة التي تلتقط أبرز التفاصيل، وبدءا من دلالة الهندام إلى محتوى الرسالة السياسية، وبما لا يدعو لـ"الثقة العمياء" في "سرديات" الغرب. غير أن ذلك لا يحول دون ربط "الاعتذار" بسياق "الكعكة الليبية" (كما عبّر عنها البعض) التي هي سياق "عطش الغرب للنفط". ومن هذه الناحية لن يعود برلوسكوني من ليبيا إلى بلده خالي الوفاض وبادي الجراب، فـ"إيطاليا سيكون لها الأولوية في استثمارات النفط والغاز والاستثمارات الأخرى لأنها دولة صديقة" بالنسبة لليبيا".
وهذا النفاق هو ما نعيش، الآن، ذروة فصوله؛ وهو الذي أرغم الديكتاتور القذافي على التنحي من الحكم. والفارق، أو بالأحرى "اللاعب الجديد"، في المشهد الكولونيالي، "الناعم"، هو فرنسا وبعدها بريطانيا ... والتزكية، وبالكامل، من الكوبرا الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من تكرار تصريحات البيت الأبيض ووزير الخارجية البريطاني، وفي أكثر من مرة، بأن الهجمات التي يُنظمها الناتو لن تهدف إلى احتلال ليبيا أو استعمارها، وإنما ستكتفي بحماية المدنيين وردع قوات القذافي، هذا بالإضافة إلى أن المجتمع الدولي لن يتدخل في قضية تغيير النظام الحاكم، فإن الوشائج التي تصل ما بين "الاستثمار" و"الاستعمار" أشبه ما يكون بالنقطة التي تدور في الدائرة ذاتها التي هي دائرة الكولونيالية.
وفي الحق لقد لخـَّص لنا الناقد (ومترجم إدوارد سعيد) كمال أبو ديب "الحكاية" في مقال دال بدءًا من عنوانه "الإمبراطورية القديمة تتقدم على غريمتها الطارئة" (وهو منشور في الصحيفة الإلكترونية "في المرصاد"). يقول: "ما أعتبره بدهياً هو أن فرنسا وبريطانيا لا تفعلان ما تفعلانه إكراماً للعيون السود التي تكثر في ليبيا والعالم العربي، بل تفعلانه لأسباب بينها: الاستمرار في تطبيق المبادئ السياسية التي تحكم العالم الأوروبي ــ الأميركي منذ انتهاء الإمبراطوريات التقليدية، وأهمها ما سأسمِّيه: "دَمِّر ثم عَمِّر" كبديل للاستعمار الفيزيائي للأرض واستغلال الموارد الطبيعية للمستعمرات في شكل مباشر". ويضيف أبو ديب: "كانت سرعة ساركوزي في البدء بالهجوم على ليبيا مفاجأةً حتى لحلفائه" و"بعد أن أدرك البريطانيون ذلك بسرعة ورأوا أنهم يكادون يخسرون المبادرة شاركوا فوراً، ونسبوا لأنفسهم الفضلَ الأول في الحصول على دعم الأمم المتحدة، وسارعوا ــ بدهائهم الذي ساعدهم على التعلّم من الكوارث التي أحدثها الأميركيون في العراق ــ للاتصال بالثوار وإنشاء منظّمات علنية وسرّية لدعم الثوار وقيادتهم والتخطيط لصياغة الأوضاع والمؤسسات التي يريدونها بعد إسقاط القذافي وانتهاء الحرب".
وفي هذا السياق قرأنا عن ما كشفته الصحيفة الفرنسية "ليبيراسيون" عن مضمون الاتفاق السري، بين السلطات الفرنسية والمجلس الوطني الانتقالي الليبي، الموقع في الثالث من شهر أبريل، أي بعد 17 يوما فقط من تبني قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 الذي أصدرته الأمم المتحدة يوم الخميس 17 مارس 2011 بشأن ليبيا وضدا على القذافي. وقد تعهـَّد المجلس الانتقالي الليبي، وبموجب الاتفاق، بحصول فرنسا على 35 بالمائة من عقود النفط الليبي الخام مقابل دعمها الكامل والدائم له. ويشار إلى أن بترول ليبيا من أجود أنواع البترول، كما أن استخراجه أسهل بكثير مقارنة بباقي آبار النفط. وهو ما يجعل منه، في تصور العارفين بالنفط، "غنيمة" تغري الدول المصنعة للتسابق نحوه، خاصة وأن الأزمة الاقتصادية في تزايد مستمر داخل دول جنوب أوروبا وضمنها فرنسا. إنها "الكعكة النفطية الليبية الضخمة" كما لخـَّصها عبد الباري عطوان بلغته المعهودة.
واستدعاء إدوارد سعيد لا ينحصر في موضوع ليبيا فقط، وإنما يشمل مواضيعه أخرى أيضا. وما كنت قد قلته، بخصوص القذافي، وقبل أن يتحول هذا الأخير من متقبـِّل (متصنـِّع) لـ"الاعتذار" إلى مهدَّد (غير متصنـِّع، هذه المرة) بـ"الاقتلاع"، هو ما سيقوله، ومن قبل، وفي سياق أوسع، صاحب "السرد والملاحة والاستعمار"، وصاحب أكثر من مقال حول إدوارد سعيد، الباحث المغربي جمال بنحيون في المقال الذي سيكتبه في الذكرى الثالثة لوفاة إدوارد سعيد وتحت عنوان "من سيخلف إدوارد سعيد؟" (وهو منشور في شبكة الاتصال الدولي). وسيفتتح المقال قائلا: "[...] لكنني في هذا النص القصير لا أود أن أحدثكم عن إدوارد سعيد صاحب كتاب "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية" و"بدايات" و"العالم والنص والناقد"... ولا أريد أن أحدثكم عن مفهومه لمقولة الخطاب أو التمثيل أو الاختلاف أو السلطة والقوة والمقاومة وما بعد الاستعمار ... ولن أحدثكم عن الأحاديث الطويلة والمسترسلة حول أعمال إدوارد سعيد التي نجدها مفصلة في كتابات "هومي بهابها"، و"تيري إجلتون" و"روبرت يانج"...وغير هؤلاء من مبدعي النظريات الثقافية. بل أريد أن أقول شيئا عن معنى إدوارد سعيد في محيطه العربي، وهو الأمر الذي لم أقله سابقا في مقالاتي القديمة أو الحديثة".
وهكذا إلى أن يختتم "نصه" قائلا: "وإن مضت ثلاث سنوات على رحيل إدوارد سعيد، فيبدو أن الفراغ مريع ومستمر في مكان ما من وجودنا العربي الراهن. لقد فقد المكان الذي كان إدوارد سعيد مبعدا عنه بالقوة ومصادرا فيه بالفعل بعض معانيه. المفارقة التاريخية هي أن وجود إدوارد سعيد كان ضابطا لمعنى المكان في أعماق الذاكرة وعبر تعقيدات الجغرافية والنزاع والتطورات السياسية. كان إدوارد سعيد في حد ذاته دليلا قويا على وجود مكان اسمه فلسطين يبعد عنه ويقرب منه في آن. لا أستطيع أن أفكر الآن فيما كان إدوارد سعيد سيكتبه أو يقوله عقب وفاة ياسر عرفات وبعد الفوز الكاسح لحماس في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، أو عند سماعه لتصريحات إسماعيل هنية، أو بعد دخول أرييل شارون في غيبوبة طويلة، وبعد فوز حزب كاديما في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، أو في غضون استمرار العنف والاضطراب في العراق. بقي لنا فقط أن نستفسر ونتمنى: من سيخلف إدوارد سعيد؟".
من الجلي أننا بصدد الأفق الإدواردي وما يتيحه من إمكانات لتدبـُّر المواضيع والقضايا التي تضغط على العالم العربي، مما يعطي أولوية لإدوارد سعيد الكاتب/ المفكر، هذه المرة، وعلى حساب إدوارد سعيد الأكاديمي أو الناقد الموسيقي... إلخ. ومصدر ذلك، كما قلنا، السياق العربي الضاغط والخانق وعلى صعيد "الخطاب" ابتداءً. الخطاب الذي يجعل من المجتمع مجالا له، نتيجة تداخل المعرفة والسلطة ونتيجة تمظهر الخطاب من خلال مؤسسات. وكان سعيد أكثر وعيا بفكرة الخطاب أو "التحول النصي" أو "الموقف النصي" (Textual Attitude) الذي فسَّره بجعل "الناس عرضة للتحول نتيجة أفكار متعينة يتلقونها" أو "أن الناس ما أن يقرأوا شيئا حتى يخرجوا بحثا عنه".
وأتصور أن كتابة من هذا النوع تحفز على أن ننأى بإدوارد سعيد عن ما يمكن نعته بـ"دوائر التباكي القومي العاطفي"، أو "التباكي الثالثي" (نسبة للعالم الثالث)، نحو "دوائر نقيضة" بموجبها يتم التفكير في اجتراح مقاربات تحليلية جديرة بالتأكيد على أهمية الإفادة من المنجز السعيدي في سياق "طرح البدائل" التي لا تتأتـَّى إلا من خلال "التحليل" المشفوع بـ"التشخيص" الذي ينأى عن إواليتي "التوليف" و"التكديس" اللتين لا تنظران إلى الفكر باعتباره "متوالية قرائية". هذا وإن كان "التباكي" لا يخلو، في أحيان، من "دافعية" على "التفكير" كما في حال من ذهب إلى أنه: " بقدر ما يجعلنا ادوارد سعيد في ذكراه [...] نشعر بالإحباط مما آل إليه حال العالم العربي الآن، بقدر ما يمنحنا ذلك الإصرار على مقاومة الظلم أينما كان وأينما وجد. وبقدر ما يشعرنا بذلك القدر من اليأس مما آل إليه حال الكثير من المثقفين العرب المرتمين في أحضان السلطات العربية، المنتفعين بذهبها، بقدر ما يمنحنا الثقة في وجود الكثير من الأقلام الشريفة المقاومة الرافضة لشتى أشكال الابتذال والخضوع والمهانة. رحم الله سعيد في ذكراه الثانية!!".
وحدث في حجم حدث ثورات العالم العربي ليس من الأحداث البسيطة والوقائع العادية في تاريخ العرب المعاصر. هو صنف من الأحداث التي ترغب في أن تتحكم في المرحلة، وليس من صنف الأحداث التي تترك المرحلة تتحكم في الأحداث. وهو صنف من الأحداث التي ترغب في أن تصنع الإنسان وأن تعيده إلى التاريخ الذي كان الديكتاتور قد أخرجه منه. حدث كان من المفهوم أن يستدعي إعادة نظر، بل ومراجعة جذرية، في العديد من المفاهيم الفكرية والمقولات الفلسفية والبراديغمات التاريخية التي "سادت" من قبل باسم "بديل" ظل عائما وضبابيا. ولذلك، وكما أسلفنا، كان من البديهي أن يلوح، ومن جديد، شبح القامات الفكرية التي لا تلجأ للكلام إلا "فيما بعد" بدليل أن "التحليل" يقتضي اتخاذ "مسافة زمنية محترمة". هذا مع أن الكلام عن الحدث، في حينه، يشكـِّل، وبمعنى من المعاني، "امتحانا" للمثقف للبرهنة على قدرته على "التعليق" سيما إذا كان هذا الأخير من الصنف الذي يتحصًّن وراء أسوار الأكاديميا الباردة. وإدوارد سعيد كان نموذج المثقف الذي يسارع نحو "التعليق" القائم على "التحليل"، بل وكان نموذج المثقف الذي يسرق الأضواء من الآخرين كما قيل عنه.
وفي سياق مثل سياقنا العربي المتدافع، بفعل "تقدمية التاريخ"، لا يمكن لشبح إدوارد سعيد إلا أن يتقدَّم شبح القامات العربية. وهذا على الرغم من أنه كان يكتب باللغة الإنجليزية وباللغة الفرنسية في أحيان؛ وعلى الرغم من أنه كان معنيا، وفي المقام الأول، بمخاطبة الغرب ممثـَّلا بمراكزه الثقافية ومؤسساته الفكرية ووكالاته المعرفية، وممثلا بنماذجه "المتصهينة" كما هي الحال بالنسبة لبرنارد لويس الذي كان له أتباع ساجل بعضهم، وبشراسة، إدوارد سعيد مثلما ساجل، وبشراسة زائدة، شيخهم هذا. وفي هذا السياق، سياق لهيب الثورات العربية، سيلوح شبح إدوارد سعيد ليسهم بدوره في لهيب ما يمكن نعته بـ"ميدان التحليـل" أو "ميدان التعليق". وسيلوح ذلك من خلال "ثقافة الإحالة" على فكرة من أفكاره أو موقف من مواقفه أو مقال من مقاله أو حوار من حواراته أو كتاب من كتبه... إلخ. وهذا في الوقت الذي حرَص فيه آخرون على كتابة مقالات مستقـِّلة في الموضوع نفسه "إدوارد سعيد وثورات العالم العربي". مقالات، متفاوتة طبعا، تستشرف الأفق السعيدي تارة، و"تستجوبه" تارة أخرى من خلال الاستخلاص والاستقطار والربط والمماثلة... وغير ذلك من الآليات التي عادة ما يجيد الحديث عنها التداوليون العرب وعلى قلـَّتهم.
وفي هذا السياق أيضا قرأنا عن "الكاتب العربي الذي يتابع ما يجري في العالم العربي وهو يفكـِّر في الراحل إدوارد سعيد". وقرأنا عن المثقف الذي جعل من "نفسه وكيلا مؤقتا على إرث إدوارد سعيد"، مما جعله "ينقل رسالته إلى المثقفين"، و"يرى الأنظمة وقد تعرَّت بالكامل"، و"وقف مع الشعب يريد، وقد بات جاهزاً للقربان". وقرأنا عن "الربيع العربي" الذي لم يظهر فيه المثقفون العرب في أفضل حالاتهم" و"الربيع الذي لم يكن سعيد، لو عاشه، ليتردَّد في اختيار الجهة التي سيقاتل من أجلها: الشعوب". وقرأنا عن "وجه العرب الثقافي" ... وغير ذلك من العبارات التي تؤكد "الحاجة إلى إدوارد سعيد". وكما قرأنا في حال الثورة التونسية، التي كانت في أساس انطلاق ثورات العالم العربي، عن "المتتبع للشأن الأكاديمي الغربي" الذي "سيلاحظ بلا شك أن الثورة التونسية أسقطت الكثير من [...] المسلمات الغربية النابعة من قلب التقاليد الاستشراقية التي حللها بل فضحها [كذا]، المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد" مثلما قرأنا في الحال المصرية عن "الواقع الثقافي في مصر بعد الثورة" الذي "لم يتغير" وعلى النحو الذي يجعل "إدوارد سعيد نموذج المثقف الحقيقي في عالم متغير". وفي حال ثورات العالم العربي ككل فإن ما قدَّمه إدوارد سعيد من "صور للمجتمع العربي" هو "ما أنتج ثورات" هذا الأخير "الراهنة". وفي جميع الحالات يظل إدوارد سعيد هو "المرجع" الذي لا يعلو عليه مرجع آخر في الفكر العربي المعاصر بتياراته وإشكالاته وإيديولوجياته. وما أكثر المفكرين والكتاب العرب، وما أكثر انتشارهم على مدار جهات العالم الأربع، وسيما في عواصم الغرب الرأسمالي. غير أن إدوارد سعيد يظل الأبرز، أو يظل في "الخط الأمامي من المواجهة".
وإذا كان البعض قد استشعر صعوبة الربط، الآلي أو الميكانيكي، بين إدوارد سعيد وثورات العالم العربي، مما جعله، وبعد أن أعلن خوضه في الموضوع نفسه، يعيد الكلام عن مواضيع سعيد الأثيرة ممثـَّلة في الهوية والذاكرة والسرد وغيرها من المواضيع، كما يمكن أن طلع على ذلك في مقال الكاتب والصحفي محمود قرني "خطاب إدوارد سعيد في الإعلام الصهيوني وظلاله بعد الثورات" ("القدس العربي": 31 غشت 2011)، فإن البعض الآخر مضى، ومباشرة، إلى الموضوع كما في حال مقال "كيف كان إدوارد سعيد سيرى الثورات العربية؟" لصاحبه الكاتب والصحافي اللبناني حسام عيتاني ("الحياة"، الأحد: 14 أغسطس 2011). وينطلق صاحب المقال، الثاني، من فكرة في غاية من الأهمية، ومفادها أن الثورات العربية شكـَّلت مدخلا لعملية تقديم وإعادة نظر في الكثير من الأفكار والأحكام التي هيمنت على الثقافة والفكر السياسيين العربيين في العقود الممتدة منذ هزيمة 1967 إلى اليوم. وفي حال إدوارد سعيد يتصور أن هذا الأخير "وفـّق في نشر آرائه وأفكاره. لكن ما لم يوفق به هو مجموعة تلامذته ومريديه أو من يقولون عن أنفسهم إنهم كذلك. وباستثناء حفنة قليلة من التلامذة اللامعين، كدباشي الذي أدرك أوجه القصور في فكر سعيد من دون أن يجرؤ على كسرها وتجاوزها، أفرط القسم الأكبر من مريدي الكاتب الفلسطيني - الأميركي بالمبالغة في حمل استنتاجاته إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه خصوصاً بعدما أضفوا عليها أبعاداً عالمثالثية نضالية، وجوهرانية، لا تمت بصلة إلى كل ما يمكن أن يوضع في خانة الفكر النقدي".
وفيما يتعلـَّق بموقف هؤلاء من ثورات العالم العربي فقد وجد هؤلاء التلاميذ، وفي نظر صاحب المقال، أنفسهم في مواجهة الثورات العربية التي تشكـِّل تحديـّا سياسيـّا واجتماعيـّا لناحية استعصاء تصنيفها ووضعها في الخانات المعدّة مسبقاً للثورات وحركات التغيير ... إضافة إلى ما ينعته صاحب المقال بـ"الصعوبات الجدية في استشراف المآلات التي ستؤول إليها هذه الحركة التاريخية العربية". ويسجـِّل أن "تلامذة المدرسة السعيدية" انقسموا إلى فرقتين كبيرتين. ساندت الأولى الثورات العربية محتفظة بتأييدها للمقاومة والممانعة في وجه إسرائيل وبالعداء للولايات المتحدة والغرب (كظواهر مطلقة غير قابلة للتبدل بتبدل موضوع الخلاف، أي السلطة في العالم العربي)، وبالرهان على قيام الأنظمة العربية التي بدأت تتشكل في تونس ومصر، ولاحقاً في سورية واليمن وليبيا، بإنجاز المهمة القومية العربية بحسم الصراع ضد إسرائيل. وهكذا إلى أن يعلـِّق صاحب المقال على هذا التيار قائلا: "وجليّ أن رؤية كهذه تتجاهل احتلال الأسباب الداخلية المكان الأول في لائحة الأسباب التي حملت الشبان العرب على النزول إلى الشوارع والسعي إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة".
أما المجموعة الثانية فـ"تركز في كتاباتها على علاقات الولايات المتحدة بالثورات العربية ولا تلبث أن تصل إلى استنتاج لا ينقصه العرج وهو أن واشنطن تستكمل غزو العراق على طريقة حصان طروادة، بإشعال الثورات العربية". ومعنى ذلك، وهذا ما لم يقله صاحب المقال، أن العرب عاجزين عن إنجاز حدث في حجم حدث "الثورة"، وأن ما حصل كان بـ"إيحاء" أو بـ"إيعاز" من "الخارج" الذي لا يمكن أن يكون من غير أمريكا التي تراقب العالم، وككل، من خلال "ثقب إبرة" كما قيل عنها. ويلخص صاحب المقال: "ربما استطاع إدوارد سعيد أن يتجاوز هزال أفكار مريديه وكاريكاتوريتهم، لو قيـِّد له أن يرى الثورات العربية. ولكن لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الثنائية التي نظر سعيد بواسطتها إلى العالم، قد تجاوزتها الثورات قبل أن تبدأ". وحتـَّى نـُعلــِّق بدورنا على المقال فكم كان سيكون مفيدا لو أن صاحبه كان قد خصَّ هؤلاء التلامذة بأسمائهم، سيـَّما وأنهم، وفي العالم العربي الذي هو مدار الحديث، ليسوا بكثرة حتى يتعذَّر ذكرهم واحدا واحدا. وكما أن هذا العدد كان سيتضاءل أكثر بالنظر إلى أن المقصود، وفي ضوء المقال، هم من الذين يفيدون من تصورات إدوارد سعيد فيما يتعلق بـ"أداء المثقف" أو "الدور" المنوط به في مجال معاكس من أساسه كما في حال العالم العربي.
وفي السياق نفسه، والذي هو سياق الإفادة من إدوارد سعيد، لا بأس من أن نشير، هنا، إلى أنه من إحدى مواصفات إدوارد سعيد، وهو السجالي الرفيع، أنه كان لا يخشى من "تسمية الخصوم". وحتى ندخل في التسمية ذاتها فيمكننا التمثيل، هنا، بما يكتبه الناقد والمثقف السوري صبحي حديدي من مقالات لاذعة لـ"نظام بشار الأسد". أظن أن قراءة مقالات حديدي، وفحصها ببعض التأني، جديرة بأن يجعلنا نقرأ الأشياء قراءة مغايرة ومعاكسة لا مجال فيها للتغافل عن "عوامل الداخل". ونقول بهذا لأن صبحي، أو الأستاذ الحديدي كما ينعته البعض وإجلالا، هو أحد الذين قدَّموا، ومن خلال لغة واضحة، إدوارد سعيد في العالم العربي. وسيكون من باب الإجحاف ألا نشير أيضا إلى الباحث اللبناني فواز طرابلسي في مقاله "الثورات تُسقِط أنظمة الأفكار أيضاً!" (المنشور في مواقع إلكترونية عدَّة) الذي برع فيه في تشريح حجم الفساد الممتد على مدار العالم العربي كما قلنا في مقال "في الاستعمار الداخلي".
وأحد تلامذة إدوارد سعيد، كذلك، وممن عمـَّم صاحب المقال السالف فشلهم في الإفادة من أفكار إدوارد سعيد، وهو الناقد السوري كمال أبو ديب، سيطالعنا، بدوره، بمقال شيـِّق في الموضوع نفسه. والمقال معنون بـ"ماذا لو شهد إدوارد سعيد الانتفاضات العربية اليوم؟" (وهو متداول في عالم النيت). وميزة المقال أن صاحبه تحرَّر فيه من "اللغة الملتوية" التي طبعت مقالات سابقة له وطبعت قبل ذلك ترجمته لإدوارد سعيد. وفي نطاق "الانشغال بالجواب" على سؤال: "ماذا كان إدوارد سعيد سيقول عن الثورة العربية عام 2011؟" لم يجد صاحب المقال، في سياق "البحث عن الجواب"، من غير كتاب سعيد "صور المثقف" الذي نشره صاحبه العام 1994 والذي ترجم ثلاث مرات إلى اللغة العربية في دلالة على الحاجة إلى "أطروحته".
وينتهي صاحب المقال أن "تحديدات المثقف الحداثوي التي وضعها إدوارد سعيد قبل عشر سنوات من رحيله، تقودنا إلى أزمة المثقف العربي أمام النظام السياسي العربي، وأمام الفكر الغربي عشية اندلاع الثورات. يقف المثقّف العربي، اليوم، أمام ثورات بلاده ويواجه ثلاثة تحديات: النظام العربي الرجعي المسؤول عن الفقر والتخلّف وسلسلة الهزائم أمام الاستعمار والغرب، وتحدي إسرائيل التي لا تزال تتمسّك بالعقيدة الصهيونية التوسعية ولا تعترف بالحق الفلسطيني، وجفاء مثقفي أميركا وحلفائها الغربيين تجاه القضايا العربية". وعلى مستوى آخر، وفي السياق الذي يتصل هذه المرة، بثورات العالم العربي، فإننا لا نعدم أفكارا لدى سعيد تشير لـ"خيار الثورة" نتيجة الحكم الاستبدادي والفساد السياسي. وفي هذا الصدد يحيلنا البعض على مقال سعيد الطويل "صدام الجهل" (The Clash of Ignorance) الذي نشره، وبعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، في مجلة "ذي نايشن" (The Nation) (الأمريكية) (2001). والمقال من المقالات الأخيرة، أو النصوص الأخيرة، التي تضمنـَّها كتاب سعيد المترجم، ومؤخرا (2011)، إلى اللغة العربية تحت عنوان "خيانة المثقفين". ويلخص لنا أحد مقدمي الكتاب، وهو الكاتب أوس داوود يعقوب، "الحكاية" عندما يقول (ونستحضر نصه على طوله لأهميته): "من تلك النصوص، التي احتواها الكتاب، مقالٌ نشر عام 2001 بعنوان صدام الجهل ، يصف فيه سعيد الواقع العربي، معتبراً أنه انحدر إلى القاع في كل المجالات المميزة. وفي الوقت الذي تسير فيه بقية دول العالم نحو الخيار الديمقراطي، يذهب العالم العربي نحو درجات أعظم من الحكم الاستبدادي، والأوتوقراطية، وأنظمة المافيات. وإذا بالفاشية تتجذر، بشكل أصبح أي تحدٍّ لها مساوياً للشيطاني". هكذا إلى أن يجعل المراجع إدوارد سعيد "يخلص إلى أن قانون الطوارئ الذي اخترعته الدول الأمنية بعد الاستقلال، أبطل الحقوق الديمقراطية، ما أدّى إلى انهيار الوضع الشرعي للفرد، وتلاشي حقه الأساسي في المواطنة، وحقه في العيش الحرّ، بعيداً عن أي تهديد شخصي من الدولة. هذا الخزي الذي يعيشه العالم العربي، نتيجة الانتهاكات المرعبة للسلطة، وصمت المثقفين، نتيجة الخوف من مصيرٍ غامض ، ينبغي مواجهته، وفق سعيد. ولن تكون هذه المواجهة، إلا عن طريق قوة الاحتجاج".
غير أن ما حصل، في العالم العربي، وبعد رحيل إدوارد سعيد، تجاوز "طريق قوة الاحتجاج" نحو "براكين السخط" ونحو "نيران التمرد"، وكل ذلك في المدار الذي أفضى إلى "الثورات السياسية السلمية" في أبهى "عنادها السلمي المحمود" الذي أرغم الديكتاتور العربي، الهرم، على الإنحاء، وبالكامل، وإلى الحد الذي أفضى به، أيضا، إلى المثول داخل قفص السجن أو الاختباء في سجن غير مرئي. وفي الواقع فإن الفساد السياسي، الذي كان في أساس انفجار العالم العربي، لم يسلم من مظالمه الثقيلة وأنيابه الحادّة بلد في العالم العربي. وقد بلغ هذا الفساد حتى من يتمسكون بالسلطة، وسطا وأطرافا، بفلسطين التي لا تزال تعاني استعمارا استيطانيا بشعا وعنصريا. ولذلك عندما فازت "حماس"، وفي إطار من "التباري الديمقراطي المحمود"، وباعتبارها "تيارا سياسيا" ابتداءً، وفي انتخابات حرة ونزيهة، وتحت مراقبة دولية، في فلسطين المحتلة، في يناير 2006، تطايرت حولها الظنون والشكوك. وهذا لكي لا نشير إلى مقاطعتها وعزلها من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي موازاة مع مباركة دول عربية ــ وعبر "الصمت الناطق" ــ للمقاطعة والعزل. ما يهمُّنا أن نؤكد عليه، هنا، هو أن حماس لم تبلغ، وتحت صناديق الاقتراع، سدة "التسيير الحكومي" لعامل "المقاومة" فقط، وإنما لعامل "الوضع الاجتماعي" أيضا؛ وهذا ما لا تزال تغيـِّبه بعض التحليلات وبما في ذلك الرصينة. ذلك أن المجتمع "الغزّي" أنهكته "وحوش السلطة الفلسطينية" من "أصحاب السيكار" و"المرسيديس" و"المآدب الفخمة" في العواصم الغربية والعربية. شعب لم يستسغ أن تتـِّم المتاجرة بـ"عذاباته" و"جراحاته"... وباسم "سلطة" لا صلة لها بفلسطين وسواء كـ"زمن" و"مكان" أو كـ"فكرة". وكان الراحل إدوارد سعيد قد شرَّح جانبا من هذا الفساد، والأكثر من ذلك وافق على الناشر الذي وضع "شعارا لحماس على جدار" على غلاف أحد كتبه في نسختها الأصلية الإنجليزية، وكان ردُّه أنه لا يتعارض وموضوع كتابه؛ لكن دون أن يفيد هذا اتفاق سعيد، وبمرجعيته "العلمانية" الصريحة، مع "حماس" في "برامجها السياسية". ومن ثم كان "خيار الحركات الإسلامية"، في العالم العربي، بعد سقوط "ورقة التوت" عن جسم الفساد، ولا سيما في مثل زماننا هذا الذي لم يترك فيه "الفايسبوك" (وعائلته) أي صغيرة إلا واستمرأها أمام الأنظار.
وعلى مستوى آخر يتصور البعض أن المنجز السعيدي، وغداة انطلاق ثورات العالم العربي، أعاد تكذيب مقولة "الاستعلاء التصنيفي الأكاديمي" التي كانت تركـِّز على أن العرب عاجزون عن الثورة، بل هم أشبه بـ"قطيع من البهائم، بلا إرادة، يتم اقتيادها وفق رغبات الحكام"؛ ومن ثم فإنهم في حاجة إلى الغرب في "مهمته التحضيرية النبيلة". وهذه فكرة "استشراقية محضة" كما يمكن أن نقرأ ذلك في مقالات عديدة ضمنها مقال وائل عبد العال "الثورة العربية.. و"الانفصام القِيـََّمي" لدى الأكاديمية الغربية (الاستعلاء الأكاديمي)". ويلخـِّص صاحب المقال: "إن ما يجري من حراك وتحول في العالم العربي يضع هذه الفئة من الأكاديميين، ومؤسساتهم في أزمة، ويضع مصداقيتهم على المحك، ويطرح أسئلة كثيرة حول المنهجية التي يتعاطون بها في دراستهم للعرب والمسلمين، كما يضع علامة استفهام أكبر على مؤسساتنا العربية الرسمية وغير الرسمية، وقياداتنا، التي تفتح لهم الأبواب، وتغدق عليهم بكرمها العربي، من مال ومعلومات، وهنا، مفارقة مؤلمة، إذ أن كثيرا من هؤلاء المستشرقين، ومؤسساتهم، يحصلون على مبالغ طائلة من ملوك وأمراء عرب، لتمويل مشاريعهم البحثية، التي هي بالقطع لا تخدم القضية العربية. يحصل هذا فيما جامعات عربية تعاني الفقر وقلة الإمكانيات".
لقد عبـَّرت الثورة التونسية، في نظر البعض، وبشكل جلي، عن الطابع المتجاوز للكثير من المقاربات الأكاديمية والمقولات الرائجة في الغرب حول كل ما يتصل بالعالم العربي والإسلامي. و"عندما فرَّ زين العابدين بن علي من تونس فإن زلزال فراره لم يصب الحكام العرب وحدهم بالذعر بل امتدت أثاره الجانبية إلى كل المشتغلين في حقل دراسات الشرق الأوسط خاصة في الجانب المتعلق منها بالسياسة والديمقراطية" كما قال إبراهيم الغوالبي في مقاله "الشعب هو الحل". والمؤكد أن هيمنة الغرب، على الشرق، لا يمكن أن تفهم، وأيضا، بمعزل عن مراكز الأبحاث والدراسات المتعلقة بالشرق. وكما يمكن أن يلوح شبح سعيد من ناحية التحول الذي حصل في استراتيجيا الاستعمار، وذلك من السيطرة على الشعوب، ومن قبل، بتكأة "المهمة التحضيرية" إلى التدخـُّل في الشعوب باسم "المطالبة بالديمقراطية". غير أن هذه المطالبة لا تطال الشعوب العربية بأكملها إن لم نقل بأنه تـمَّ "حضْرنة" بعضها فقط (!). وفي هذا السياق أمكننا فهم "احتلال العراق" عن طريق "عودة الكولونيالية البيضاء" كما نعتها البعض، وهو السيناريو ذاته الذي تمـَّت إعادته في حال ليبيا. فيما شعوب أخرى لا يمكن التركيز عليها ولو تمَّ فيها حصد أقصى ما يمكن حصده من البشر. فالمعايير مزدوجة، والنظرة ــ وحتى إن كانت "موحـَّدة" ــ تراتبية.
يتضح، إذا، أن إدوارد سعيد من الصنف الذي يفرض "سلطته المعرفية" على العرب في تعاطيهم للقضايا التي تشغل بالهم، ولا سيما من ناحية "المرتكز الثقافي" الذي ظل مغيـَّبا مع أنه كان، وفي جانب أهم منه، في أساس انطلاقة ثورات العالم العربي. فثمة "ثقافة" كانت في أساس "الطابع المباغت" لثورات العالم العربي. ثقافة باغتت الأحزاب والمثقفين والنخبة أو "الإليت" كما يحافظ البعض عليها. ثقافة قطعت مع الثقافة التي سادت من قبل والتي ضمنت للديكتاتور أن يجثم نصف قرن من الزمن مؤكدا مقولة "مات الاستعمار القديم يحيا الاستعمار الجديد" أو "الداخلي" كما ننعته. والإشكال فيما يتعلق بإدوارد سعيد كامن في مدى الابتعاد عن "استعمال إدوارد سعيد" وليس كامنا في مدى الابتعاد عن إدوارد سعيد أو غيره من المفكرين والأكاديميين... من الذين يفيدون على مستوى "إضاءة" و"تشخيص" "حال العرب". غير أنه ثمة فرق بين "توظيف الرجل" أو "استعماله" وبين "التأسيس المرجعي" له في الفكر العربي المعاصر بإشكالاته المتصادمة وهواجسه المتغايرة. وكما يلخـِّص الكاتب والناقد الفلسطيني حسن خضر وفي مقال لافت ومركـَّز "لماذا لم نوفِ إدوارد سعيد حقه..!!" (والمقال منشور قبل اندلاع ثورات العالم العربي): "هذا هو إدوارد سعيد. فهل في مقدور العالم العربي الواقع بين فكي كماشة، بين أنظمة الطغاة من ناحية والأصوليات الدينية والقومية من ناحية أخرى، أن يستوعب ميراثاً نقدياً كميراثه بطريقة أبعد من التبسيط والاختزال؟" والمشكلة كما يضيف الكاتب نفسه "ليست في الاستشهاد بإدوارد سعيد، والاستعانة بسلطته الثقافية، أو ترجمة وطباعة أعماله، بل في ممارسة النقد المرّكب للواقع، وفي الاعتراف بحقيقة أن العقل الإنساني محافظ بطبيعته، وأن الممارسة الثقافية تعني نقد ونقض البداهة".
لقد اعتقد كثيرون أن حال العرب "لم تتغير". وإدوارد سعيد نفسه كان أوَّل مقال افتتح به كتاباته، عن العرب، تحدَّث فيه عن "حال العرب المأزومة". والمقال، الموسوم بـ"التمنع والتعجب والتعرف"، والمنشور بمجلة "مواقف" (البيروتية، الأدونيسية) في شهر مارس 1972، كنـَّا قد تحدَّثنا عنه في كتابنا "الوعي المحلـِّق". ويحقُّ للعرب، وبعد ثوراتهم التي شهدوها بعد ما يقرب من أربعة عقود، على تاريخ نشر المقال، أن يؤكـِّدوا على نوع من "التغيـُّر" الذي حصل في حالهم أو أنهم قطعوا الشوط الأول، الصعب، في هذا التغيير. غير أن الشوط الموالي، وقد يكون الأطول والأصعب، هو ما ستتمخض عنه هذه الثورات وقبل ذلك ما تستلزمه هذه الثورات من "تحصين" لها من المتربـِّصين بها. و"مهمة التحصين" ملقاة على الجميع، ومن الأحياء والأموات، ومن المفكرين والكتاب والأكاديميين والشعراء... إلخ. وأهمية إدوارد سعيد كامنة على هذا المستوى بالذات. إنه علامة دالـَّة على "الفكر النقدي المركـَّب"، وليس علامة دالـَّة على "لفكر التوليفي" الذي يقوم على "التسمين المنهجي" و"التكديس المفاهيمي". والأمل معقود على استثماره أكثر في مواصلة النقاش حول محور "ثورات العالم العربي" وعلى النحو الذي بموجبه نتعلـَّم كيف نتحرر من إدوارد سعيد نفسه.