مجلة الكلمة - لايزال السياب يشرق

كأن اوردة السماء
تتنفس الدم في عروقي..

(1)
هناك نوعان من الشعراء .... ولسوء حظ القراء، أو لحسن حظهم فان مثل هذا التصنيف، لغرض التفريق بين النوعين، لا يزال يمكن حدوثه أو اجراءه، او، اعتماده، ليس في بلدان العالم الثالث فقط، ، وانما عند الدول المتقدمة ايضا.. ويجب ألا ننكر ، اننا مدينون في هذا الجانب كثيرا لوجود مثل هذا الوضع، الذي كان ولايزال، يدخل كسبب أو عامل جدير بالتقدير، لانتاج الروائع.....أما عند محاولة اقترابنا من هذين النوعين، لغرض تفحصهما عن كثب، فاننا سنجد ان الاختلافات، بحق لجوهرية بينهما .. وعند اجراء المقارنة فانها سوف تبلغ ، بل هي سترتفع الى درجة، يظهر كل واحد منهما تحت ضوئها مناقضا للآخر تماما. فبينما لايريد الاول، وليس له من مطلب، سوى ان يرضى عنه الآخرون، ولايكون جل جهده الا موقوفا على ذلك من اجل تحقيق هذا المطلب، يفني الثاني عمره كله في محاولة مستميتة منه وشبه مستحيلة، ليرضي ذاته عن ذاته.. إنهما ضدان .. وإن يكن كل واحد منهما يعمل في نطاق المضمار ذاته، وإن لم يحدث بينهما اي نوع من الصراع الذي يمكن ان يحدث بين الضدين. إن طريق الاول معروف وسهل، ومآله يعرفه كل واحد منا مسبقا، وان مهمته يسيرة وحياته هادءة، وبلامفاجئآت. ومورد عيشه مؤمن، ومصدر رزقه ثابت، وهو يعيش في المهج، مطمئن البال راض عن نفسه وعن مكانته التي احرزها باستقامته فهو لايخشى التغيرات التي قد تاتي بها تقلبات الايام. إنه يكون بشوشا، متفائلا، ودودا، دافئا وظريفا، طيب القلب وشفوقا ، حسن الهندام ومعطرا وذكيا ورجل مجتمع متماسك الشخصية ومتحدثا لبقا وربما بارعا ايضا، لامع ومؤثر وذا جاذبية نافذة، تفتح له ابواب الدوائر الرسمية ويرحب به الجميع اينما حل، ويتنحى عن طريقه الآخرون لكي يمر..يسعى الآخرون الى خطب وده ويتنافسون على ارضائه: كائن داجن....
اما الثاني ـ موضوع بحثنا ـ فهو الذي لايرعى زمن وجوده المتوتر، الا في الحيز القلق من الوجود، وهو الذي لايسلك الا ما لايسلك، والا مالايمكن السير فيه، والا مالايتسع سوى لشخص واحد ، من الطرق الوعرة الشاقة الصاعدة الى ما لو سألته عنه لتلعثم، ولما عرف الجواب أو لاجاب ب:لاادري......رافضا - دون الاكتراث بتقديم سبب لذلك - اي بحبوحة أو دعة ، أو هدنة للهدوء والراحة .. قد يفني عمره كله دون ان يتوصل الى ان يرضى عن ذاته. إنه لايفعل ذلك لحصوله على علم مسبق ، بان هنالك نوع من الاثابة تنتظره عند نقطة ما وانها ستكون من نصيبه، جزاء له ، وانما هو يعرف ان لا ثواب له، حتى عند الخالق نفسه.. هذا يعني انه لايفعل ما يفعله وفق خطة حياة مسبقة ، يقسر خطواته للسير على هديها ، وانه بانتهائه من تنفيذها يمكن ان يقال بانه انجز حياته على اكمل وجه خطط له واراده ..
فكما يعرف الجميع لا نيتشه كان قد وضع مخططا لما جاءت عليه حياته ولا لوتريامون فعل ذلك ولا رامبو أو بودلير أو ليرمنتوف أو باسترناك أو يسينين أو لوركا أو برودسكي . ولو اننا عدنا القهقرى الف عام الى الوراء واجرينا جردة سريعة لوجدنا ان الامر شبيها بما هو عليه في الازمنة الحديثة .. فلنقل اذن بصوت واضح وضمير بعيد عن التصلب: لايزال الالم ، على العكس من محاولات التبرئة التي يود البعض اختبار فاعليتها، باعثا خصبا ومحرضا على الابداع .. ولسنا نعلم ان كان ذلك مما يؤسف له أو يفرح به ، ان البشرية جمعاء ، تدين للشقاء بارقى ما امتلكت من روائع وابداعات ، من الشرق والغرب وبكافة اللغات تقريبا، الامر الذي دفع باحدهم ليقول:
الفنان كالحيوان كلما ضربته اعطى افضل..

(2)

إن اؤلئك الاصحاء المعافون ، ذوو الخدود المتوردة ، المتصالحون مع مايحيط بهم ومع انفسهم ومع مصائرهم واللذين لايتوقع المرء منهم ان يتقاطعوا مع تلك المصائر ابدا، لانه لايمكن ان يتوقع منهم اتيان شيء خارج مألوف تراتبهم، لتبدو الحياة ، بالنسبة لهم ، نزهة ترفيه جميلة وممتعة ، قد يقضونها - سعداء ومليئين بالثقة بانفسهم وبما يحيط بهم - في احضان عشيقاتهم ، أو بين دفء اسرهم السعيدة .. ونحن مع ذلك ، يجب علينا ان لاننكر ان بعض المنغصات قد تحدث لهم بين الحين والآخر ، خلال اعمارهم الميمونة المصانة ..ولكن هم ونحن نعرف ان تلك المنغصات ليست إلا إلى زوال ، كما انها ليست إلا من قبيل البهارات، أو نوعا من الوشي الجميل الذي يطرز حاشية حياتهم ، وهو ضروري لهم لكي يتمسكوا بدعائم استتباب دعتهم وطمأنينتهم اكثر فاكثر ولكي يعرفوا ويتذكروا بين فترة واخرى ، في اية نعمة يرفلون ..
لكننا نعرف ان امثال هؤلاء لارجاء فيهم.
والنوع الثاني لايبتدءون ـ اذ يبتدءون ـ إلا بحرث أعمارهم ذاتها ، ولكنهم لايفعلون ذلك الا باستخدام اقسى ماهنالك من المحاريث ، فكأنهم - اذ يفعلون ذلك - انما يكتبون على انفسهم وعلى مصائرهم قدر القلق والتقلب، متقاطعين مع تلك المصائر المرة بعد المرة، وبالقوة ذاتها التي يمكن ان يتوقع منهم المرء ان يتقاطعوا بها مع أعدائهم.. ومع ذلك ، فهؤلاء ، وعلى ما تبدو عليه حياتهم ، من خراقة وقلق واضطراب ، ومع ما يخترمها من ارتجال وخربطة، هم رجاء الانسانية وضميرها .. في مرآة ابداعهم تتجلى ملامحها بوضوح، فمنهم - وليس من اؤلئك - استمدت البشرية الأمل، وتسلمت النور والنذر على حد سواء، وبرؤاهم غذت وجودها وبصيرتها، وبخمرتهم ـ خارقة المذاق ـ انما انتشت ..
فاذا.. كنت ايها القاريء ..
ايها القاريء المزاجي البطر ، المترف الملول،
لاتزال تتطلع ..
منكبا بعينيك ، ناظرا إلى كلماتي
كلماتي الساعية بجهد باطل الى ترسيخ حروفها
في ذهنك المترع
مستمرا بقراءتها
راضيا أو غير راض ..
عما جاء في تضاعيف سطورها
فاسمح لي أن اضيف الى ما سبق وقلته
رافعا صوتي الضعيف ، فوق معدل وتيرته المعتادة قليلا:
أن السياب ليس الا واحدا من هؤلاء .
ثم دعني أكتب بيد فانية أيضا:
ان له كامل الجدارة في أن يكون ..

(3)

وقبل ان ننتقل معا الى الفقرة التالية فلنتغرغر بما يلي من الاسئلة التي تغرغرت بها الانسانية منذ القدم ، لنحرك وعينا قليلا :
هل الشعر كلام أم انه شيئ آخر يتجاوز الكلام ويعلو عليه؟
فاذا كان كلاما فلماذا ينسب إليه، ويراد منه، ما لا طاقة للكلام على فعله؟
وإذا لم يكن كلاما فلماذا تكون اللغة أداته وشرط وجوده .. أي الكلمات؟
هل الشعر مهم وشيء أساسي في حياة الانسان، أم هو ليس إلا لهو وترف ولعب؟
فاذا كان شيئا مهما وأساسيا في حياة الانسان، فاين هي فائدته؟
واذا لم يكن كذلك فلماذا ظل الانسان يهرب إليه ويتخذ منه ملجأ، قارئا أو شاعرا؟
وكما قلت فان مثل هذه الاسئلة لاتطرح عادة لغرض ان يجاب عليها، لأن الاجابة عنها أعيت البشرية. كما ان الاجابة عنها تعني اننا بلغنا ساعة الدينونة .. ولا اظن ان احدا ما، توفرت له الهمة والارادة الطيبة لكي يتمكن من التصدي للاجابة عليها . إنها اسئلة أزلية ولا اظن انها تطرح الا من اجل تعميق الوجود واضفاء قليلا من الترطيب لتقليل تصلبه. لأن صفوة عقول البشرية حاولت التصدي للاجابة عليها ففشلت أو انها جاءت بأجوبة هي ليست الا توسيعا للاسئلة الأصلية، وشيئا شبيها بانفلاق ذري لها .. لم تفشل لنقص في الذكاء عندها، وانما لأن هنالك نوع من الاسئلة المستعصية لاتود البشرية الا ان تتذوقها في كل عصر من عصورها، بغض النظر عن تأكدها أو عدم تأكدها من وجود إجابة لها .. ومع ذلك فان مقتربات للاجوبة وجدت في كل عصر من عصورها، وهذه المقتربات ليست الا نوعا من شبه الاجوبة الوقتية .. يمكن ان نطلق عليها تسمية، اجوبة تصبيرية، فنكون قريبين جدا من الصواب . انها اجوبة تصبيرية حقا ...
فلاتزال البشرية وما فتئت تقيم حوارها العميق وغير المنقطع مع الغيب واسرار الوجود، عبر الشعر وبواسطته. ويستطيع كل واحد، اذا اراد، سواءا أكان جالسا في كوخ أوبيت فخم، ان يمتص رحيق الرؤى من الشعر .. واذا كان الامر كذلك، أليس هو بكاف كإجابة ولو مؤقتة على أصعب الاسئلة؟
لماذا يريد الانسان أن يقلب البلاطة البالية المتعفنة؟
هل يغريه منظر العقارب اللابدة والمحتمية تحتها؟
ولماذا يريد ان يفتح الكوة التي قيل له ان الجني سيطل منها؟
أهو مجرد فضول؟
أم انه أمر يتعدى الفضول إلى أبعد منه؟

(4)

ان الفرق بين شاعر كالسياب والآخرين ـ وانا هنا لست بصدد عقد مقارنة من أي نوع ، مع أن مثل ذلك الأمر جائز، وهو مشروع، وممكن، ومن حق من يرغب في اجرائه أن يفعله أيضا، وإن بدا السياق وكأنه نوع من اجراء المقارنة ـ وانما لاثبات حقيقة اصبحت بارزة وبينة وباتت ثابتة ومعروفة للمطلعين .. وهي ناتجة في مغزاها عن ظاهرة زخم شعره واكتناز مضامينه بطبقات عميقة وفذة ومتطورة ومتجددة المحتوى من المعاني اضافة الى استجابته ـ شعره ـ لقراءات متباينة وتفسيرات مختلفة هي ايضا على نحو فريد. اقول: إن الفرق أنه وبينما يكتفي الآخرون أو اغلبهم على الاقل ـ اقصد الآخرين من الشعراء ـ وفي أحسن احوالهم، بالاقتناع بتأمل العوالم المحيطة بهم، تلك العوالم التي لايتحركون إلا ضمن حدودها ـ يعمد هو ـ بإرادة مغايرة، وبكل قوة شاعريته المتفردة، شاعريته التي عندما يتوكل على سخائها وعندما لايقسرها، وعندما يقوم بشحذها وتهيأتها جيدا، فانها لاتخذله ابدا، كما رأينا وكما اختبرنا ذلك جيدا، والجا خضم التجربة وكأنها العمل الاخير الذي سيقوم به في حياته. غير مكترث بما يمكن أن يحدث له بعدها، ولكن معطيا الانطباع في الوقت ذاته، دون قصد منه على الاغلب، وكأن ما يحدث لايجري حدوثه ـ وهو ابدا حدوثا باهرا ـ إلا للمرة الاولى ... كأننا على تخوم بدء الخليقة، وان كل خطوة نخطوها معه ما هي إلا خطوة بكر، إلى سبر أغوارها إلى حدودها القصوى .. يفعل ذلك بروح مرهفة ، حتى ليخيل للمرء أحيانا، أنها روح ذات نص.
وتأكيدا لما قلناه من ان نصوصه تستجيب استجابة متباينة، وتتمخض عند القراءة عن تفسيرات شتى فلنقرأ مايلي: "وكان حظ السياب أن لايتفق على تفسيره من المجموعة اثنان" ذلك ما كتبه منير العكش، وما كان قد خرج به من اجرائه لتجربة قرائية ميدانية، طبقها على مجموعة متباينة من القراء عددهم احد عشر شخصا، وقد تعمد ان يكونوا ممثلين لمختلف شرائح المجتمع ... لقد وجد ان كل واحد منهم أعطى تفسيرا مختلفا عن الآخر، للقصيدة بعد قراءته لها حيث كان قد طلب منهم ان يجملوا آراءهم تلك في ثلاثة أسطر، مع ان منير العكش لم يختر الا قصيدة متوسطة الجودة قياسا الى شعر السياب هي: رحل النهار .... إن التأمل المجرد للعوالم، والذي لايرد على مخيلته، لايعتبر إلا ممارسة باردة، ممارسة من الدرجة الثالثة، فعل سلبي ، وما هو الا استرخاء وخمول للحواس والروح معا .. لذلك لايمكن ان يقنعه ولايمكن ان يركن اليه بأي حال من الاحوال. إن مادته، معدن كيانه، جوهره المختلف، لا يتطلب ولايحتاج إلا الى كور مختلف هو ايضا. ليمكنه عند ذاك، أن يتعاطى معه، ولينصهر في اتونه، وفق وضعه لمعادلات لايعرف سر تركيبها أحد سواه كما يعرفها هو .. إن أغنيته مختلفة ونبرتها عالية، وهي ذات رفعة، ووتيرتها خارقة الوقع والمعنى، ومداها متسع وأبعادها قصية. إنه يترك التأمل إلى غيره من الشعراء، غائصا الى عمق غائر لايمكن ان يلج الى مستوى مداه، أي واحد، وإذا تمكن من الولوج الى مستواه أحد، فانه من المحتمل، بل من المرجح، ألا يعود منه، أو على الاقل أن لا يعود سالما إذا قيض له أن يعود.
أية قوة تلك المختزنة في ذلك الجسد الواهي الذي أعيته الأسقام وانهكته الأيام؟ ومن اين تستمد؟ .. وما اكثرها، تلك الاسئلة يثيرها شعره والتي تظل بلا أجوبة. إن تلك العوالم، سالفة الذكر، تبدو بالنسبة له، وعلى العكس مما يمكن أن تبدو للآخرين، وعلى الرغم من الادعاء وجؤار الشكوى من انها عوالم شائخة وبالغة الترهل، وأن الكون لايعيش، إلا عصره الاخير، هي العوالم ذاتها ـ العوالم البدائية الطازجة الحارة الخافقة أبدا، الضامة في حنايا كياناتها وفي عمق أحضانها ، دفق الاسطورة المرتعش الصخاب؛ والمحتفظة في جفناتها التي لاتبلى بمائها الأول، وترابها الخام الطهور الذي لم تطأه قدم ولم يمس. إنها ـ تلك العوالم ـ هي مهد الاسطورة، بل هي الاسطورة ذاتها. في ميادينها الفسيحة سيتحرك؛ وإلى أعماقها سينزل مثلما فعل سلفه العظيم كلكامش، وإلى نبعها السحري سيصل، ومن مائها الاول سيرتوي، ومن تشابك أماليدها الغضة الخضراء سيستخلص رؤاه المتشابكة هي ايضا..
لا .. لا يظنن أحد بأني أصفه بالانسان المتفائل، الذي يمكنه أن يستمتع بالارائك الوثيرة، والجدران المتماسكة، والفراش الناعم أبدا، إن ما أعنيه أنه نفذ الى ما لا ينفذ له، رأى ما لا يمكن أن يرى، لمس ما هو خارق الملمس، وما لم يعثر فيه الاخرون على ما يميزه ـ عندما لمسوه هم أيضا ـ وبصر بما لم يبصروا به. بعبارة اخرى، اخترق جدار الوجود وتطلع الى ماهو محجوب عن الجميع، فارتعشت روحه وثقلت بأحمالها فاغتنت..اغتنت، على الرغم من خواء جيوبه وخواء معدته واضطراره للاستدانة بشكل دائم. أتراه كان يجترح تلك العوالم، على الرغم من وجودها السابق على وجوده؟ إن الجواب يمكن أن يجيء بنعم، دون أن يواجه المرء أي شعور بالصعوبة عند البدء بتسويغه لما جاءت عليه إجابته. ذلك ان الشاعر الذي يتمكن خلال تكوين رؤاه المتنوعة وعند تشكيلها، من استغوار العوالم التي يعيش فيها، واستبطانها على الكيفية أو النحو الذي فعله هو به. هو أيضا، ومن زاوية نظر مختلفة، إنما يقوم باجتراحها اجتراحا. وهو باجتراحه لها، ليجترح وجوده هو ايضا. لأن ولادة الشاعر لا تتم بخروجه من رحم امه الى رحابة الكون، وانما هو من يتولى ولادة نفسه، بعد ذلك بنفسه، فكانه هو القابلة، وهو الرحم، وهو المولود في آن معا. وعبر خلقه لقصائده، ليقوم في الوقت ذاته، بخلق المناخ الملائم الذي يكون وحده صالحا ليتمكن فيه من الالتقاء فيه مع ذاته، وعبر مثل هذا اللقاء، يتم التفاهم معها (صمتيا) وان يكن ذلك كاتفاق عدوين مضطرين لتدشين وثيقة صلح على مضض منهما.
والقصيدة العظيمة التي يمكن ان تدوم، هي تلك التي توحي لك بطريقة ما، باحتواءها على سر، مع أنها لا تبوح لك به أبدا، وأن سرها هذا هو الذي يربطها بمصيرك كقاريء محترف للشعر، ويدفعها لتقفز الى ذاكرتك في لحظاتك السيكولوجية الاكثر حميمية من سواها. إنها تتآخى معك، وما ظهورها المفاجيء، إلا نوع من الدفاع عنك عند الشعور أن نفسك تحتاج الى حماية. وعند محاولتنا للتدليل على ذلك لن تنقصنا الأدلة، بقدر ما تعوزنا القابلية على الصبر للاختبار:
الليل يطبق مرة اخرى، فتشربه المدينه..
والعابرون الى القرارة.. مثل أغنية حزينه..
وتفتحت كازاهر الدفلى مصابيح الطريق،
كعيون ميدوزا، تحجر كل قلب بالضغينه..
وكانها نذر، تبشر أهل بابل بالحريق..

او فلنصغ لهذا الكشف :
عمياء كالخفاش، في وضح النهار هي المدينه..
والليل زاد لها عماها..

او هذا المقطع من المصدر ذاته:
وكأن ألحاظ البغايا..
أبر تسل بها خيوط، من وشائع في الحنايا..
وتظل تنسج، بينهن وبين حشد العابرين..
شيئا كبيت العنكبوت، يخضه الحقد الدفين..

لا اظن اننا نحمل نصوصه معان غير متوفرة عليها، وبالتالي لا أحد يمكنه الادعاء بان قراءتنا له مغالية أو مبالغ في استنباطاتها .. علينا فقط ان ننمنح تلك النصوص انتباها يسيرا ونية محايدة:
ابرٌ..
تُسلّ بها
خيوطٌ من
وشائعَ في الحنايا
ان السطوح شيء لا يعنيه، وهو لا يتلبث عندها، الا تلبث من هو مستطرق. إن بصيرته لا تعمل على أحسن اوجهها، ولا تستنفر كفاءتها إلا في الاعماق، إنها لا تنسج رؤاها إلا من:
وشائع في الحنايا..
وهكذا، لم تات نصوصه على الكيفية المصاغة بها، إلا لانه لم يكن ليقتنع بها ان لم يستلها من الحنايا. إنه ليتحسس السطوح الباردة، ولكنه سرعان ما يتوصل الى أن من الجدير به، أن يتركها لمن هو راغب فيها. فهو غير معني إلا بالطبقات الخفية السفلى البعيدة عن المتناول. إنما يغريه، أن ميدان تحركاته، ليس إلا في الاعماق، ولا يتخذ له ملعبا الا هناك:
لوفيقه..
في ظلام العالم السفلي حقلً..
فيه مما يزرع الموتى حديقه.
لذا واعتمادا على رؤياه تلك، وتسلحه بها، فانه يقوم بابتكار كلماته التي يكتبها ـ حين يكتبها ـ ابتكارا، وكأنه يقوم بخلقها خلقا لحظة رسم قلمه لشكلها، وكأنها لم تكن قد وجدت من قبل، وعندئذ تنبثق حية، نابضة، نظيفة، مختلجة بما تختزنه من زخم، غنية، متصاعدة البخار، مثل أرغفة الخبز المستخرجة توا من التنور:
شوقٌ يخضُ دمي إليه..
كأن كل دمي اشتهاءْ..
جوعٌ إليه.. كجوعِ كل دم الغريق الى الهواء ..
شوقُ الجنين إذا اشرأب ..
من الظلام إلى الولاده.
اننا ونحن نراقب عمل الفنان، اثناء انهماكه واستغراقه فيه، ليراودنا الشعور - وهو شعور شديد بالامتلاء - بوقوفنا ازاء خالق ... أي ازاء شاعر. إذن لا تكتفي تجربته - بخبرات الخالق التي يمتلكها - والتي يضعها بكرم في متناول ادراكنا، بان ترينا أو تكشف لنا، العالم الذي توصل الى خلقه فحسب، وانما تتكفل أيضا، بأن تراكم لنا وسائلها المختلفة، وتؤمن طرائقها، لترينا الكيفية التي تمت بواسطتها لحظة تخلق هذا العالم. فكأنها عندئذ ترينا الفنان، وهو منصرف لعمله، على الرغم من ان الزمن الذي خيضت فيه، تجربته، قد تصرم واندثر واندرج في اغوار الماضي. والعجيب انها، واذ تفعل ذلك - كل مرة - فكأنه يحدث للمرة الأولى ابدا، عند كل قراءة جديدة. هل هي معجزة الحياة ذاتها، التي يتكرر انبثاقها ساخنة، وكأنه يحدث للمرة الاولى مع كل مولود جديد؟
أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويخزن البروق في السهول والجبال
حتى إذا ما فض عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود..
في الواد من أثر
أكاد أسمع النخيل يشرب المطر
وأسمع القرى تئن والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع..

أو:
جيكور.. من شفتيك تولد، من دمائك..
في دمائي ..
فتحيل أعمدة المدينه..
أشجار توتِ في الربيع
ومن شوارعها الحزينه
تتفجر الانهار
أسمع من شوارعها الحزينه..
ورق البراعم
وهو يكبر أو يمص ندى الصباح
والنسغ في الشجرات يهمس
والسنابل في الرياح
تعد الرحى بطعامهن
كأن أوردة السماء ..
تتنفس الدم في عروقي
ولكن الاكثر عجبا من ذلك، أن هذا التخلق الذي ترينا اياه مخيلته، ليس شيئا مضافا الى النص كما قد يتبادر الى الذهن، وانما هو واحد من محمولاته، مضمر فيه، لابد في تضاعيفه، متضمن في النص ذاته، وهو مالم يكن يمكن ان يجد له المرء مثيلا. إذ كيف تسنى له ان يسمع:
ورق البراعم وهو يكبر.
أو يمص ندى الصباح؟

ثم كيف تسنى له ايضا ان يسمع:
النسغ في الشجرات يهمس
والسنابل في الصباح..
تعد الرحى بطعامهن؟
إن القاريء عندما يقرأ المقطع السابق حتى يصل الى: السنابل في الرياح ....
يمكن أن تداهمه خيبة أمل ويشعر أن شاعره قد خذله، وأنه إنما يكدس قواف فقط،، حاله حال الآخرين وما اكثرهم. ولكن تكملة المقطع تكذب تلك الخيبة وتفند ذلك الشعور. لأن:
السنابل في الرياح

لا تفعل الا أن:
تعد الرحى بطعامهن..
ان النص مثقل بجناه ورحيقه ومكتظ بشتى المعاني، إلا أنه يسير حاملا إياها، برشاقة غير معهودة، وعلى الدوام، باتجاه المستقبل:
والمناقير ..
كأفواه من الديدان تأكل جثة الصمت
وتملأ عالم الموت
بهسهسة الرثاء فتفزع الاشباح
تحسب أنه النور
سيشرق فهي تمسك بالظلال وتهجر
الساحه ..
إلى الغرف الدجية وهي توقظ ربة البيت:
(لقد طلع الصباح .. وحين يبكي طفلها الشبح)
تهدهده وتنشد:
(ياخيول الموت في الواحة)
ان الكلمات وهي تنبعث من سن قلمه، لتبدو في الحال وكأنها مخلوقات متدفقة بحياة عنيفة، مكتضة الوتيرة، ومترعة بالعافية، تمتلك القدرة على الاشعاع، وتوفير الضوء لنفسها بمحض قدراتها الذاتية، حتى ان القاريء ليمكنه ان يلمس فورا الفرق الهائل بينها وبين الكلمات نفسها عند الاخرين. وأنا التمس ممن يستطيع ان يثبت لي أن كلمة مطر عند أحد غيره يمكن أن تمتلك، ولو قليلا مما تمتلكه كلمة مطر عنده، أن يسدي إلى جميلا فيوضح لي ذلك. ليس ذلك فحسب، وانما تبدوا تلك الكلمة وكأنها مهرت بوسم ملكيته حتى ليبدو وكأن كل من استخدمها بعده - كلهم بدون استثناء - قد قام باقتراضها منه، ثم لم يحسن استخدامها كما يجب، أو انه لم يتمكن من أن يبعث فيها ما يكفي من الضوء إلى الدرجة التي تجعلها تتوهج ـ كما فعل هو ـ فجاءت على ما جاءت عليه. وما اكبر الفرق بين كلمة بحر خارجة من سن قلمه ايضا وكلمة بحر عند أي شاعر آخر، بما في ذلك الله ذاته. إلا اننا سنندهش اذ نرى الفرق بين كلمة أجراس المتخلقة في مخيلته وكل اجراس الكون. آه أي رنين فذ، رخيم، خارق الوقع، ليس على الأذن فقط، وإنما على نبض الدم، وعلى كل الحواس الاخرى، ذلك الذي يمكن ان يسمع من اجراسه، وفي أي كور صيغت تلك الاجراس، وكيف تأتى لها، ان تكون باهرة ونافذة ومقروعة من أجل جلال الروح ورفعتها ابدا، الى هذا الحد المعجز؟
إنني من الكارهين للايقاعات في الشعر، وأنا اشد بغضا لها من اي واحد آخر، كما اعرف نفسي. إلا أنني أكاد انصرع ـ مثل صوفي ابتلع الوجود برمته ثم خرج بخرقته منتشيا ـ لايقاعات السياب، واتقبلها منه، لا كايقاعات وانما كهدايا مبعوثة لي خصيصا، ولا تقدر بثمن. إنها تفعل بي ما كانت تفعله الخمرة بالهندي الاحمر عند اكتشاف امريكا. إنها في الوقت الذي تبعثرني فيه، وتطحنني، فانها تؤلب حواسي وتلمها في حزمة، لتعطي ذهني زيتا فذا، فينبعث منه الضوء .... لماذا؟ لأن ايقاعاته ليست إلا نبضا ينبثق من أعمق أغوار الكلمة، عندما تصاغ تلك الكلمة من: وشائع أغوار الروح. إنها ـ تلك الايقاعات ـ ليست شيئا مضافا، ليست شيئا خارجيا ملحقا بها. وحتى في اسوأ شعره ـ وله الكثير من الشعر السيء ـ فإنه لم يفتعل إيقاعا فيحمله للكلمة عنوة وقسرا من الخارج. إن الكلمة التي لاتترك جرحا، أو حرقا، أو تسبب له نزفا، لا تعتبر إلا جثة ميتة. وهو غير مهتم بالجثث. إنه يحتضن اللغة من خصرها، مؤديا معها رقصة خطرة، وهو يعلم ـ دون أن يكترث ـ أن أحد خطواتها التالية، قد تؤدي إلى الموت. والكلمة عنده، اذ تجيء، اذ تنبثق، اذ تبعث جديدة تماما، وعارية تماما، مثل آدم أو اكثر عريا منه، وإذ تبدو وكانها قد وضعت توا، للتداول، فانها مع ذلك، تكون محشوة بنويات ومعان، وكسر من المعاني، ومشحونة بأصوات قديمة، منسية وبشبه أصوات، وأصداء بعيدة خفية، ورجع أصداء، ومحتوية على إيحاءات، ومعبأة بكل ما يمكن أن يغني وجودها مما اكتسبته عبر مسارب التاريخ:
كانت الارض تلقى صباها لأول مره..
كان للأرض قلبٌ أحس به في الدروب

او:
أغابة من الدموع أنت أم نهر ؟
اننا لنعرف فيما يخص هذه النقطة على الاقل، أنه كان يصل به الامر عبر الكثير من قصائده الى درجة تذوق طعم الكلمات - كل على حدة أو مجتمعة - وكأنه يتغذى عليها متلذذا بمذاقها. يفعل ذلك بحدس الشاعر ومهارة المطلع على الاسرار، فتاتي تراكيبه محكمة لم يقترب أحد لا في وقته، ولا بعده، والى الآن، من مجاراته بها:
أحس بالدماء والدموع، كالمطر
ينضحهن العالم الحزين:
أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين
فيدلهم في دمي حنين
إلى رصاصة يشق ثلجها الزؤام
أعماق صدري، كالجحيم، يشعل العظام.

او :
كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينه
مثل حبل يشد السفينه
وهي تهوي الى القاع. كان النواح
مثل خيط من النور بين الصباح..
والدجى، في سماء الشتاء الحزينه

او:
وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحى تدور في الحقول ... حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلة الرحيل ، من دموع
ثم اعتللنا - خوف أن نلام - بالمطر

سليم جواد

الأكثر قراءة