في القرن التاسع عشر قال ماركس إن العمال هم صناع الثورات، ثم جاء ماو وأيده غيفارا وفرانز فانون ليتفقوا على أن الفلاحين هم الصناع.
تغيرت أنماط الاستهلاك والإنتاج في العالم المعاصر كثيراً عن أيام ماو، وغيفارا، وفانون، وأكثر من ذلك عن أيام ماركس. فلم يعد العمال أو الفلاحون لأسباب كثيرة مهيئين لعمل ثورات، لا بل إن فكرة الثورة نفسها بدت في السنوات التي سبقت اندلاع الثورة العربية الكبرى فكرة طوباوية، فتوهم البعض وكأن التاريخ قد أغلق بابه أمام هذه الفكرة، واعتُبر كل من يقول بها إما شاعر أو مجنون!
الآن وقد عادت الثورة حدثاً ممكناً لا بل مطلوباً حق لنا أن نتساءل من هو المؤهل للقيام بها؟ وقبل الجواب على هذا السؤال يجب أن نوصف المجتمعات القائمة في عالم اليوم. ينقسم العالم المعاصر إلى أقلية ثرية يبلغ تعدادها عشرين بالمائة من سكان العالم (مليار من خمس مليارات حسب إحصائيات أوائل تسعينيات القرن العشرين) وهذه الأقلية تملك كل شيء، فهي من يستهلك ومن ينتج، والباقي إما عبيد عندها، او فائض بشري لا لزوم له يشار له بالمهمشين. وبالتعابير السياسية يُقال إن هناك شمال غني، أوربا واليابان وأمريكا، وجنوب فقير يشكل ثمانين بالمائة من سكان العالم. لكن الأمر أعقد من هذا الرسم التخطيطي. فيجب أن نلاحظ أن الانقسام موجود داخل كل دولة وطنية من دول العالم سواء كانت غنية أم فقيرة، متقدمة ام متخلفة. انقسام بين أقلية ثرية تتمحور حولها الحياة الاقتصادية والسياسية، فهي التي تنتج وتستهلك وأكثرية فقيرة مهمشة تلبس طاقية الإخفاء فلا تظهر، لا على سطح الحياة السياسية أو الاجتماعية. ويجب أن نلاحظ هنا انه في ظل التفاوت الشديد في توزيع الثروة والسلطة سواء بين شمال العالم وجنوبه، او داخل كل دولة يصبح العنف، العنف العاري، هو الشكل الوحيد لاستدامة السيطرة، ولاستقرار النظام السياسي العالمي.
ينقسم كل مجتمع إلى مجتمعين منفصلين تماماً لا يصح أن نحللهما بنفس الأدوات المعرفية هما: مجتمع النخبة المحظوظة وهي ذات نسبة مختلفة، ففي شمال العالم ترتفع نسبة المحظوظين لتبلغ سبعين أو ثمانين وحتى تسعين بالمائة من السكان، أما في دول العالم الثالث فهي تتفاوت زيادة او نقصاناً حسب موقع هذه الدولة في شبكة النهب العالمي، وحسب الموارد التي تضمها أراضيها، وحسب امتلاكها قيادة وطنية أم عميلة، لكن هذه النسبة في جميع الأحوال لا تزيد عن 10 % في أكثر المجتمعات ازدهاراً في العالم الثالث لتنحدر في بعض المجتمعات إلى 0.5 %. في سوريا يمكن أن يضم مجتمع النخبة ثلاثة ملايين من البشر، وفي مصر لا يتجاوز عددهم خمسة عشر مليوناً. هم الذين ينتجون ويستهلكون وهم من تتفرغ الدولة لخدمتهم عبر استهلاك ميزانيتها لشق الطرق السريعة لسياراتهم الحديثة والصرف على صيانتها وتجديدها، وعلى تخديم منتجعاتهم، وبناء المطاعم وتأمين وسائل الترفيه لهم، واستيراد أحدث منتجات التكنولوجيا. كما يسكنون في أحياء منفصلة وفي مدن معزولة. وهؤلاء يعيشون بمستوى أي فرد أوربي أو أمريكي مناظر لهم، ولهم تقريباً نفس طرائق العيش والاستهلاك. ويشكلون مجتمعاً متكاملاً ومنقسماً طبقياً ففي قمة هذا الهرم يقع من يمتلكون السلطة والمال، وهناك فلاحون وعمال وموظفون يعملون في الأرض وفي المعامل وفي الشركات وفي قطاع السياحة، وأيضاً هناك أطباء ومهندسون ومعلمون وصحفيون ومثقفون، وسياسياً هناك موالاة ومعارضة. إن مجتمع الـ 5% هذا مجتمع كامل متكامل، وهو منفصل اقتصادياً وذهنياً وحتى عاطفياً وإنسانياً عن مجتمع المهمشين، الذي يعيش معه على نفس الأرض ويظلهما نفس العلم.
فعلى سبيل المثال في عام 2005 م حدث أن غرقت العبارة الشهيرة في مصر وتجاوز عدد ضحاياها الألف وهم من المهمشين، وفي اليوم التالي كان مجتمع النخبة في القاهرة يحتفل بفوز مصر في كأس أفريقيا لكرة القدم حتى الصباح بالسهر والمسيرات بالسيارات والمفرقعات دون أن يأبه لمشاعر المنكوبين. بينما الواجب الإنساني يفترض تعاطف الجميع مع الضحايا بإعلان الحداد لثلاثة أيام على الأقل. لكن الحقيقة تقول أننا امام سكان ينتمون إلى دولتين مختلفتين، وإن كانوا ظاهرياً مصريين. مجتمع المهمشين، مجتمع الـ 95 % من السكان، تغيب عنه الدولة بشكل شبه تام، فهو لا يعرف من الدولة سوى جانبها القمعي: رجل الشرطة والمخابرات وجابي الضرائب. وأؤكد هنا أن الحديث لا يدور عن فروق في الدخل والثروة أو توزع السلطة داخل نفس المجتمع، ولا عن صراع طبقي. إنما الحديث عن مجتمعين منفصلين تماماً لكل منهم قوانينه وحركته الخاصة وكأننا نتحدث عن دولتين منفصلتين تماماً. وضربنا حادثة العبارة كمثال.
لكل مجتمع من هذين المجتمعين تنضيد طبقي داخله. في مجتمع النخبة هناك العمال والفلاحين والمثقفين وأصحاب المهن الفكرية وهناك برجوازية صغيرة وهناك تجار وهناك برجوازية كبيرة، وهناك حياة سياسية، وقد تنشأ داخل مجتمع النخبة مشكلة احتكار للسلطة، كما تنشأ صراعات بين طبقات هذا المجتمع، وخير مثال على ذلك هو الحياة السياسية التي كانت موجودة في مصر قبل الثورة، فقد كان هناك أحزاب وصحف حزبية وحياة سياسية وصراعات كلها خاصة بمجتمع النخبة، وتدور في أوساط 15 مليوناً من السكان.
المهمشون فائض بشري حقيقي لا قيمة له بمفاهيم الرأسمالية المسيطرة لأنه ليس بمنتج ولا بمستهلك، وهو يحافظ على حياته إما بواسطة شبكات الحماية الاجتماعية التي يطورها السكان بفضل تقاليدهم وعاداتهم، ويلعب الدين هنا عاملا كبيراً بالحفاظ على بقاء هذه النسبة الكبيرة على قيد الحياة وعلى الحصول على الحد الأدنى من الخدمات الصحية والتعليمية خاصة في المجتمعات المسلمة التي تطورت فيها مؤسسات خيرية ضخمة اعتماداً على مفهومي الصدقة والزكاة، وأيضاً على الإثارة الدينية للجانب الإنساني لدى الفرد.
في سوريا ومع تقدم سياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة وبناء مجتمع الخمسة بالمائة، تطورت مؤسسات للحفاظ على حياة هذه النسبة الهائلة من السكان، بدأ الأمر بتأمين طبابتهم بعد انسحاب الدولة من هذا الأمر خاصة في مجال أمراض القلب والسرطان حيث ترتفع التكاليف، ثم تطور إلى كل مجالات الحياة وصولاً إلى اللباس والغذاء، فرأينا صناديقاً خيرية تُعنى بتأمين الغذاء المجاني لجماعات متفاوتة النسبة في كل مدينة من المدن حسب اقتصادها وحسب نسبة تهميشها، وكذلك بالنسبة للباس، عبر تبرعات عينية من المنتجين غالباً تكون من ستوكات معامل الألبسة أو البضائع الكاسدة في المحلات التجارية، أو من مخلفات أسر المجتمع الاخر، وهناك من يؤدون الخدمات الصحية لهذه المجموعة الواسعة من السكان بأجور أقل من أجور نظرائهم الذين يؤدون نفس الخدمات لمجتمعات النخبة، فقد نجد طبيباً يتقاضى رسماً قدره خمسون ليرة في هذه الأحياء مقابل رسم قدره ألف وخمسمائة ليرة لطبيب في أحياء النخبة في دمشق أو خمسمائة ليرة في أماكن أقل ثراءً. في هذه الحالة تتوقف قوانين الاقتصاد التقليدية عن العمل لأن قيمة السلعة لا علاقة لها بالعمل اللازم لإنتاجها، أو بالطلب عليها، بل إن ثمنها يتحدد حسب مكان بيعها، فثمن نفس السلعة في حي المالكي يتضاعف عشرات المرات عن ثمنها في الدويلعة والطبالة.
قد يعاني قسم من مجتمع النخبة - مجتمع الخمسة بالمائة - من الفقر أو من الضائقة الاقتصادية، لكن الفقر هنا من طبيعة مختلفة جذرياً عن ذلك الموجود في مجتمع التهميش، فالفقر في مجتمع النخبة يقاس بالعجز عن تأمين السيارة وامكانية الاصطياف وارتياد المطاعم، لذلك يبقى مجتمع النخبة كتلة واحدة منفصلة عن الكتلة الأخرى الكبيرة، البحر العائم من المهمشين والفقراء الذين يعانون من البطالة أو يعملون في اقتصاد الظل ولا يتلقون خدمات التعليم والصحة من الدولة إلا بالقطارة، حيث لا يعرفون من الدولة سوى وجهها القمعي المتمثل برجل الأمن والشرطة كما ذكرنا. هم فائض بشري لا لزوم له. ولو كان بالإمكان ابادتهم لما ترددت الانظمة الحاكمة. وبالطبع يجب أن لا يغيب عن بالنا أن هذا التقسيم نظري بحت فبين المجتمعين هناك بعض المداخل والمخارج، وهناك بعض الفئات التي تقع على التخوم.
كان المفكر روبرت ماركوز أول من تكلم عن استحالة الثورة في المجتمعات الغربية منذ ستينيات القرن العشرين، وهي مجتمعات نخبة موسعة، لأن كل فرد ينتمي إلى مجتمع النخبة ولو كان في أسفل السلم الاجتماعي يخشى أن يفقد هذا الانتماء فيسقط إلى التهميش، ويطلق ماركوز على هذه المجتمعات اسم المجتمعات ذات البعد الواحد ويسمي أفرادها "الإنسان ذو البعد الواحد"، وهو إنسان استغنى عن الحرية بوهم الحرية، هو يتوهم أنه حر لأنه يستطيع الاختيار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات، ويشبهه بالعبد الذي يتوهم أنه حر لأن له حرية اختيار سادته. ويرافق هذا الانزياح الخطير في مفهوم الحرية إغراق للإنسان بحياة استهلاكية عبر اختراع حاجات وهمية، والسعي إلى تلبيتها مما يضع الإنسان في دائرة مغلقة لا فكاك منها.
وفي هذا المجتمع تتحول التكنلوجيا من أداة لتحرر الإنسان إلى أداة استعباد له، وتصبح الإيديولوجيا مصدر ازدراء فالإيديولوجية الوحيدة المحترمة هي التقنية. وما هو مرغوب هو الإلتزام بالواقع وتنبذ "كل المفاهيم والنظريات الكلية والنقدية لأنها تهدد بالكشف عن بعد آخر لهذا الواقع ". في هذه المجتمعات، رغم كل تناقضاتها ورغم معاناة أفرادها من القهر والاستلاب ورغم انعدام المساواة فيها، تنعدم امكانية الثورة بسبب طبيعة القمع غير الشفافة وبسبب الخوف من السقوط إلى التهميش وبسبب غياب الايديولوجية النقدية التي تجعل فهم سبب الألم ممكناً. ويصل ماركوز إلى أن الوحيدين الذين يستطيعون التغيير هم المهمشون وهم المنبوذون والعاطلون عن العمل والعروق المستغلة.
منذ ستينيات القرن العشرين وحتى اليوم توسعت مجتمعات المهمشين كثيراً بسبب زيادة الاستقطاب في كل المجتمعات وزيادة تركز السلطة والثروة عند أقلية محددة، فيشير تشومسكي إلى ظواهر عالمثالثية في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على شكل أحياء او حتى مدن كاملة، كما هي حال أغلبية مدينة لويزيانا التي دمرها اعصار كاترينا. أما في العالم الثالث فإن المهمشين هم أغلبية السكان، وهؤلاء لا يتم قمعهم بأساليب معقدة عبر الاستلاب السلعي ووسائل الإعلام ووهم الحرية كما في حالة مجتمع النخبة. القمع هنا عار ويتم عبر رجال الأمن دائمي الاحتكاك بالمهمشين لأن أكثريتهم يعملون في اقتصاد الظل الذي يتراوح من غير المرخص إلى غير الشرعي تماماً، من بسطات بيع الخضار غير المرخصة إلى التهريب، وبالتالي فهم دائمو الاحتكاك بل الاصطدام بالسلطة ويتعرضون لقمعها العاري الذي لا ينفع في اخفائه لا استلاب سلعي ولا تزويق اعلامي. ومن إحدى هذه الاحتكاكات اليومية بين بائع الخضار البوعزيزي والشرطية انطلقت شرارة الثورة العربية الكبرى فأحرقت سهل السلطة اليابس. في هذه المجتمعات تبدو الثورة الممكن الوحيد إذ لا إمكانية لحل أي مشكلة بشكل فردي، فلا عمل ولا طبابة ولا تعليم ولا سكن مستقل. كما أنهم يتعرضون لانتهاكات واسعة لحقوقهم كبشر ويتم الدعس على كرامتهم الشخصية من قبل أي موظف صغير في جهاز الدولة، فيبلغ احساسهم بالمهانة حدوده القصوى مما يجعلهم في الأيام العادية قبل اندلاع الثورة يضحون بحياتهم رخيصة إما بحوادث السير على الدراجات النارية، أو في عنف ملاعب كرة القدم، كما أن أغلبهم قد خبر السجن لفترات متفاوتة إما بسبب مشاجرة او لشغب ملاعب أو لمخالفة قانونية.
هؤلاء المهمشون، الذين يكونون أقل تعليماً وثقافة وتحضراً ويصفهم البعض بالهمجية أو بالجرذان أو بالحثالة أو بالمجرمين وقطاع الطرق، هؤلاء هم مشعلو حرائق الثورات في العالم المعاصر، لا سيما في الحالتين السورية والتونسية لأن الحالة المصرية لها تفاصيلها المختلفة قليلاً عن هذا النموذج. إن قادة ثورات عالم اليوم لن يكونوا من السياسيين المحترفين ولا من الأطباء أو من المهندسين بل من المهمشين أو من مثقفي مجتمعات التهميش، وهم إما رجال دين، أو كوادر حازت على جزء بسيط من التعليم، أو من المتعلمين الذين سقطوا من مجتمعات النخبة فاندمجوا مع المهمشين. كما أن هذه الثورات ليست ثورات facebook كما راج لأن أغلب المنخرطين بها لا يعرفون التعامل مع الكمبيوتر ولم يستعملوا الـ facebook، في سوريا رفع الحظر عن هذا الموقع قبل شهرين فقط من اندلاع الثورة.
إن اصرار المجتمعات المهمشة على استدامة الثورة يضغط تدريجياً على مداخل ومخارج المجتمع الآخر، مجتمع النخبة الذي يعاني أغلب أفراده أيضاً من القمع والقهر وغياب الحرية، ويشعرون بالمهانة إما لأسباب شخصية أو لأسباب عامة خاصة بالمذلة والمهانة التي تعاني منها دولتهم الوطنية وأمتهم العربية عندما تردهم الأخبار عن القمع الذي يتعرض له الفلسطينيون وعن جرائم الإحتلال الأمريكي في العراق، لكنهم لا يمتلكون أدوات التغيير أو يخشونه لأن لديهم ما يخسرونه، أما الآن وقد صارت الثورة حريقاً يشتعل حولهم فإنهم يقتربون منها بحذر، ثم تمسهم نارها المقدسة، فيأخذون قبساً من نار ليشعلوا السهل حولهم، فتسير الثورة وفق المخطط التالي : تنتفض مناطق ريفية بحكم أنها تضم أغلبية مطلقة من المهمشين، ثم تصل الثورة إلى مناطق التهميش في المدن الطرفية وهي مناطق كبيرة، وبعدها تنضم المدن الطرفية بكاملها، وتبدأ الثورة بالضغط على المراكز السياسية والاقتصادية التي تكبر بها نسبة مجتمع النخبة، فينضم في البداية مهمشي المراكز السياسية والاقتصادية، وبالتدريج يتفكك مجتمع النخبة في هذه المراكز ويلتحق أفراده بالثورة. وهنا تنهار السلطة الحاكمة.
أما كيف سيُعاد بناء السلطة من جديد وكيف سيتم التوفيق بين متطلبات من ثار على التهميش، وبين من انضم للثورة للتخلص من الاستلاب السلعي أو لعدم قدرته على مجاراة الآخرين في الاستهلاك فهذا موضوع صراع تاريخي طويل معقد. خاصة في العالم العربي حيث تلتقي المشاكل الاقتصادية الداخلية مع المهمات القومية متمثلة بالخلاص من الاحتلال في فلسطين والعراق، وبإنهاء التجزئة، وحيث تصبح مشكلة بناء العلاقات السياسية والاقتصادية الداخلية مرتبطة عضوياً بنهوض الأمة وتحرير فلسطين. لكن في الحالتين ستجد أن المهمشين يتقدمون الزحف إلى فلسطين وإلى الوحدة، وهذه الأخيرة أنجزوها نفسياً منذ الآن : من الأطلسي إلى جبال طوروس.و إلا كيف تقمصتهم روح البوعزيزي، وكيف أعادوا الشابي إلى الحياة عبر شعار "الشعب يريد..."!