أخرج قصائدي من طين خطواتي
أرجم الزمن بأحوالي
و أصرخ: أنا المعنى
أدونيس
بذرة ضوء:
منير مزيد؛ هذا الشاعر القادم من طريق أورفيوس عازفا على ناي الشمس ليقرع باب المعنى، كلما غصنا في حبره ابتلت نفوسنا من عطر كتابته. جَسَدُهُ وَرْدَةٌ جريحةٌ تفتح من خلاله كل المدن أحزانها، ومن أقواسها نقرأ أسراره...
فهل خطواته عاصفة تسكن جسد الأبجدية، ترسم بريشة الدم والحنين زمنا آخر كما فراشة الحلم؛ الذي كلما شدت بي الريح رحالها نحو أوطانه، وجدته يعزف لليلاه قصيدة وجودية تتناغم فيها لواعج نفسه، فيغدو عاشقا للحرف والحب تسكننا موسيقاه؟
يركض في هذا الزمن العاري فوق نوتات البهاء، ممددا فوق سرير الماء، حيث تولد قصائده من رحم الروعة، فضاؤها سنابل، وبرقها بردة ينسج مهرتها من شفاه الضوء.
1 ـ جذبة فوق رداء الكون:
عرفنا ذ منير مزيد روائيا وشاعرا ومترجما، لكن ما خلنا قط أن يكون في ديوانه "حبيبتي والحلم" فيلسوفا أيضا.
لقد وقف على أعتاب الكون ملمحا لبدايته، فهل حقا يريد أن يغوص في البحث عن تلك البذرة الأولى التي شكلت شرارة البدء. أم هو ذلك الفضول الذي دثر الإنسان منذ القديم بأسئلة كثيرة شغلت العلماء والفلاسفة منذ مئات الأعوام؟
يقول:
لم أكن أبدا إلا صرخة عاشق
ثائر
يحلم بالمشي على سقف الكون
ليرى العماء الأول الذي سبق الوجود.
من قصيدة " كاهنة ناري المقدسة"
إن" هوية الكون هي من هوية الحروف، وهوية الحروف هي من هوية النفس الرحماني"1،فقد "نشأ الوجود حروفا في النفس الرحماني، فالذات الإلهية لما أرادت أن ترى نفسها في غير ذاتها، ولأن تُعرف خارج إطار ذاتيتها تنفست حروفا، ووفقا لما في الحديث القدسي" كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقتُ الخلق، فبـي عرفوني"2،فهذا الخفاء هو العماء الذي كان فيه الله عز وجل، فلما أحب أن يعرف تنفس عشقا فكان الوجود.
لقد كان هذا التناص مع الحديث القدسي نايا روحيا جعلنا ننصت بسرية عميقة لمهارة هذا الشاعر المسافر في أحداق المستحيل، ليرى بعينين من نور مكنونات الوجود الأول.
وقد ذكرني بقول الشاعر :
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر.
فإذا كان الإغريق قد اعتبروا "أن العماء السديمي غير المحدود كان يخيم على الكون بأسره حتى ولدت هرمونية الموسيقى فانتصر النظام على العشوائية، والخير على الشر"3 .فإن الشاعر منير مزيد نظر من بلورة الشعر السحرية ورأى أن الشعر هو مرآة الوجود الجلية.
لكن؛هل صراخه كان فعلا ثورة عاشق قهرته الحياة، فتمنى لو عاد لسيرة الكون الأولى ليرتشف منه خمرة اطمئنان، لأنها كانت تحمل الحلم الجميل البعيد عن القهر العاطفي الذي يحيا تحت ثقله، فلم تعد نفسه الشفيفة تتحمل أوزاره؟
أم هو تشبع بالتراث الديني الذي يشكل لثغته الأولى لا غير ، وكلما خطا خطوات فوق سفح تأملاته، نراه يغترف منها دنان وجوده، لعله يَقْبَلُ حقيقة مُرَّة يكتوي منها في مراحل تشرد أمانيه؟
إن شاعرنا منير مزيد، يتوحد مع الموضوعات التي تحول روحه لفراشة تتنقل في زمنه الشعري، محاولا لملمة انشطاراته التي ترمي به شطحاتها لمجموعة من التصادمات، أولها البحث في الحقيقة الزمنية الماضوية.
يقول:
من الشعر ابتدأ الكون رحلته
كان نائما في حقول العدم
للظلمة
صورة ظل بلا نغمة ولون...
من قصيدة "الراعي وحملان الشعر"
فهل هذه الدفقة الشعرية تفتح أمام حواسنا عوالم المجهول، لنعانق غواية البحث عن أسبقية الشعر أم النثر في الوجود؟
لقد اختزل الشاعر مرحلة تساؤل مفترض بقوله "من الشعر بدأ الكون رحلته"، لكن د.محمد مندور يرى أن "الإنسان عندما تعلم اللغة كان يتكلم نثرا للتعبير عن حاجات حياته، وللتفاهم مع غيره من البشر، والفرق كبير بين لغة الكلام النثرية، وبين النثر الأدبي، وأقدم النصوص التي وصلتنا نصوص شعرية لا نثرية، فالشعر تحفظه الذاكرة، والشعر أسهل حفظا من النثر، ولذلك وعت الذاكرة النصوص الشعرية، بينما لم تع النصوص النثرية كالخطب وغيرها، وتناقل البشر محفوظهم الشعري حتى اخترعت الكتابة، وبدأ عصر التدوين، فدونت أول الأمر الأشعار المحفوظة، ولذلك نطالع دائما في كتب الأدب أن الشعر أسبق ظهورا من النثر الأدبي".4
ولن نتوه وسط اختلاف الآراء، ولكن لنقل بأن القصيدة هي تلك البذرة المشبعة بالتفاصيل والتي يترصدها الشاعر في ديوانه، حيث يسافر بنا في كل الأطراف ، خالقا بنية مفتوحة على محاور عدة، غنية بدلالات كونية تحيلنا دوما على الأرض المغتصبة .
يقول:
أَحْملُ أوجاع الكون في صدرِي
أَبْحثُ عن مملكتِي الضائعة
ضائعة بين أنفاس حورية
تنجب الشعر ..
أَستمعُ لخرير الغيب الصامت
لاضطرابات البهجةِ في بحر ساكن...
من قصيدة "الراعي...وحملان الشعر"
2 ـ انحناءة على إيقاع الروح :
أ ـ الصعود في تجاعيد الأرض
عندما قرأنا قصيدة "الأرض" للشاعر العربي الكبير محمود درويش، عَبَرْنَا كل المعاني التي تجتاح معجم الإنسانية وعانقنا جرح العروبة الدامي، متلمسين فيها ذبذبات الوطن المفقود الذي يحمل الشاعر منفاه بين أهدابه و يتقرى سكنا له بين أوجاعه.
يقول:
بلادي البعيدة عنّي.. كقلبي!
بلادي القريبة مني.. كسجني!
لماذا أغنّي
مكاناً، ووجهي مكانْ؟
وتبقى هذه النبرة الذابحة للأرض السليبة المثقلة بأحذية الطغاة هي ديدن الشعراء الفلسطينيين، كل حسب تيهه في هواها....
لذا نجد الشاعر الكبير منير مزيد يكسو جسد ذاكرته من آلامها، ويتجرع نار الغربة الموقدة من شجرتها المباركة.
هكذا يضع جبهته على حافة الكلام، مسبحا للحب والحلم، تتنفس صفحات ديوانه " حبيبتي والحلم" عشقا غريبا للوطن والأحلام المرتجفة في نحر الحياة.
فيا لهذه الرحلة الوجدانية المزيدية التي تمتطي جواد الإصغاء لحركاته الدقيقة التي تنقر فضاء الحبر، فتتدفق اعترافاته. فنراه سائحا متعب النبض؛ يحمل فوق كتفيه همومه، ليس بين يديه غير ماء الحنين، وانكسارات تتساقط من بين ضلوعه قصائد تروي أوجاعه.متنقلا هنا وهناك باحثا عن نفسه.يتلو مرثية لأحلامه التي تسكن الهاوية!
يقول:
أراني ممزَّقاً بين سماءٍ منتشيةٍ
بالظلالِ
تعانقني
وأرضٍ تتفجرُ حزناً
تطاردُني أطيافُها ...
(الأنا) ضائعةٌ في أعماقِ التأمُّلِ
تفتشُ عنكِ
من قصيدة "حكاية حب"
هذه الحورية التي يعاقر بهاءها، ويحاور طعاناتها مبتل الخطوات بعينيها الذابلتين، مسكونا بعواطف تسافر بلا حقائب في كف القدر الذي أسكره من مُرِّ الغياب.
فهل لحنينه الذي يقرأ وجه المساء منتظرا صباحات الحرية المرسومة فوق جدار من أرق، مِينَاءٌ تحط فيه هواجسه؟ أم تراه مثل الملك الضليل امرئ القيس الذي بعثر حياته بحثا عن حلم لم يظفر به ؟
يقول :
آه يا حبيبتي
انقضى عمري
في الرحيل بين حلم و حلم
أُرَّتِلُ للتشرُّد
للشتات صَلاتِي
علِّي أحظى يوماً بقراءةِ صحف الخلاص......
من قصيدة "الراعي وحملان الشعر"
إنها لحظة مُزْقٍ داخلي تتكرر نوتاتها في هذا الديوان، فهو العاشق الذي يتدثر بسماء الأحزان، وهو الضائع بين غيماتها، يمد في لهاث الوقت قامته لاستشراف الغيب؛ فيسلمه تيه لتيه آخر في دوائر مظلمة يحاول أن يفك أزرارها. لكن بالرغم من كل هذا اليأس الذي يحول قلبه للحطام، إلا أنه يتهجى دوما في يقظته وسباته ملامح حلمه،حيث تتفتح الصور الشعرية في كل الزوايا زنابق ضوء.
فما أجمل قوله:
أواه يا حبيبتي
كُلُّ فصولِ الحبِّ تحتاجُ إليكِ
ليسَ سحراً بل سِرّاً مِنْ أسرارِك
إذا تحولت الصحراءُ بقبلةٍ مِنْ شفتيكِ
إلى غابة
مَنْ يَحبُّكِ .. يا حبيبتي
يستطيعُ أَنْ يَراكِ
حتى لو كنتِ في قلبِ الظلامِ.....
من قصيدة "ليس سحرا بل سرا من أسرارك"
إن حب فلسطين يتغلغل في وجدان كل عربي، وبلاغة الشاعر هنا ترجمت هذا السر المبحر بين الأصابع والكف لمدينة تحيا بالحب، رغم البدلات العسكرية والشوارع الممدة بين القصيدة والمشنقة.
فيا لهذا الحب الذي يطوي في عباءته أوجاع الليل، والذي يجعل من الشاعر متسولا يطرق باب الدمع. لأغاني يتمه وهو بعيد عن حضنها أثر مرسوم في دفاتر عمره القديمة، فهل سينهار هذا الظلام الذي يمطر رصاصا ويغتال سنابل البسطاء !؟
يقول:
أفكر أن انتزع قلبي
أقولها باكياً
حبيبتي لا أحد يراني
ما دامت عيناك لا تقعان عليَّ
وشمسي غابت
منذ رحيلي... (... )
من قصيدة "سندريللتي"
إنها هواجس تتداخل أصواتها داخل جغرافيا النفس الفضفاضة التي تختزل هموم الإنسان في هذا الوطن الكسير ...
· ب ـ ترانيم حلم العودة :
عندما غنت السيدة فيروز من شعر هارون هاشم رشيد رائعتها "سنرجع يوما إلى حينا" ومنها نذكر:
سنرجعُ يوماً إلى حيـِّنا
ونغرقُ في دافئاتِ المنى
سنرجعُ مهما يمرُّ الزمان
وتنأى المسافاتُ ما بيننا
سنرجعُ خبّرني العندليب
غداة َالتقينا على منحنى
بأنَّ البلابلَ لما تزلْ
هناك تعيشُ بأشعارنا
وما زال بين تلال ِ الحنين
وناس ِ الحنين مكانٌ لنا
فيا قلبُ كم شردتنا الرياح
سنرجع هيا بنا.
أسعدت الملايين في الوطن العربي،وترجمت بصوتها الملائكي كل معاني الأمل في العودة للوطن. فبمثل هذا الحلم الجميل تتغذى الوجدانات العربية، وما الشاعر منير مزيد إلا حلقة في سلسلة هؤلاء الشعراء الكبار الذين اكتووا بنار الانتظار . يقول:
آه يا حبيبتي
حتماً سنرجع يوماً
لا أدري من أخبر والدي في حلم
وأخبرني ...
حتماً سنرجع
لأننا نكدس الحلم في ذاكرتنا
ونكتبه في أشعارنا
الأحلام يا حبيبتي لا تموت
و القصائد لا تموت...!
من قصيدة "القدس وحلم العودة"
إن التحديق في مأساة الشاعر التي تجترح الرمز الحدسي كمادة معرفية لخلق مجموعة من العلاقات اللغوية والإنسانية داخل الديوان التي تواترت فيه استعارات كبرى، فتحت أمام القارىء عوالم الأمكنة والشخوص، للهروب من الذات المتكلمة في حالة تبعثرها نحو استيعاب الآخر، قد أحالنا نحو توحد الجزئي بالكلي/ توحد بين الوطن وحبيبته.
فمعاناة الحرمان حقيقة دالة جعلت الشاعر ينشطر إلى جزأين، إذ نراه بين الحلم والحقيقة، يرسم أفقا مفتوحا أمام هواجسه التي تطارد ذبذباته النفسية داخل النص الشعري، فيحول مأساة الأرض المغتصبة إلى لوحات مختلفة امتاحت ألوانها من التشكيل القصصي.
فكل قصائد الديوان تدور في فلك التفجع والبكاء، وكأن الشاعر يحمل جثة كل أمانيه والتي تقود خطاه، فهل هو اليأس من عوالمه الذي ينسج لها كفنا، ويعزف على قيثاره الحزين كل أغانيه للحبيبة السليبة التي يحن لضفائرها، ويحيا بعطرها،متسلقا شهقاتها، باحثا عنه في مرآتها؟
يقول:
حـبيبتي
بين الوحدة و السماء
أراني عاجزاً عن إرضاء الحزن
يأبى إلا أن يكون وحياً لرسول
يتعذب من لوعة الفراق و الرحيل.. (...)
من قصيدة "حلم يتسلل للغيب"
فبين أنا الشاعر والحبيبة خطاب مفتوح، مثقل بأزمة نفسية عَبَّـرَتْ عن مأساة الضياع التي سرت في جسد المتكلم، ليتخذ من المفارقات ظلا له، متحركا في دائرة تتصادى خيوطها مع انفجارات الحلم، في علاقاته مع الذاكرة المستوعبة للزمن العربي الذي يتأرجح بين مجد الماضي ومأساة الحاضر. لأن وعي الذات بمجريات الخطاب الخارجي، قد جعلت المعنى يتفجر داخل بنية الديوان في شكل ملحمي منقوش بماء التفرد.
يقول:
اُنطفأت أحاديث الجدة
و حديثُ الحصى المحترق في الطوابين ....
.... .... .... ....
وأنت أيها الهارب من نفسي
من زوايا الخراب لملكوت الحلم
ماذا تبقى لنا غير عالم
يتحول بأكمله إلى كتل من رماد
يدثر سنوات انتظار تَنْمو فينا ..
انتظرني لكي أموت معك.. ..
كلانا لا يملك مأوى غير تلك المأساة
حياتنا مخمورة بالقهر
أدمنت أفيون الضياع...
من قصيدة "حكاية فلسطينية"
· ب ـ تقاسيم على أوتار الذات
شعر الشاعر منير مزيد مشحون بالعاطفة الشجية، فالجراح التي سالت على أرض قصائده جعلتنا نرتاد مقاهيه النفسية باختلاف توتراتها، فرغم تعدد الضمائر إلا أن هناك علاقة جدلية دائمة بينها وبين تيمة النص..
فمن خلال ضمير المتكلم حاول الشاعر التركيز على إغناء الديوان من زمن الذات في مفرداته المتوالية،حيث فتح نصوصه على شبكة من العلاقات مع القضية الكبرى، لكن وسط السفر الذاتي داخل هذا الوعي الشعري في عزفها المنفرد، وقفنا عند قوله:
ـ "أنا خاتم العاشقين" من قصيدة كاهنة ناري المقدسة
ـ "أنا سر من دهشة النار الأولى" من قصيدة معجزة الحب والحلم
ـ "أنا الشاعر الفارس السماوي الأول" من قصيدة أعود مكللا بالغار
فهل هذه أوراق نرجسية تتساقط من دوالي الأنا العليا؟ وكأنه يقول مع أبي الطيب المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
أم هي مجرد حالة من طراز خاص سرقت النار البروميثية في توهجها، تثبت ثقة الشاعر في لعبة الكتابة الشعرية التي يتوحد في بوتقتها الاستيطيقية المستظلة بسماء الحب.
يقول:
آه أَيُّهَا الظمأ
من سقى أزهارَ شعري
بماء السحر
حتى غدا الحبّ..
الشعرُ ...
و أنا واحدا
نتأمل .. نسمو .. نحزن
نعيد سيرة الخلق الأولى ..
من قصيدة "الراعي وحملان الشعر"
ولعل انفجار الحرف في هذا المنفى يؤكد ثورة الشاعر المسكون باللامبالاة اتجاه أي كان، ما دامت في يده خيوط الشمس . فهو تابت الخطى بالرغم من غربته في مدن الحب التي يملك مفاتيحها، كيف لا يكون كذلك في هذا الزمن المدثر بالكراهية والخذلان؟
يقول:
أنا لا أنتظر مغفرتكم
عطاياكم
ولا أتوقع من أحد أن يراني ...
يكفي أن يراني صوتي
ذاك القمر الذي يطل
بين كلماتي
وتلك العصافير البيضاء تزقزق
في قصائدي
وذاك البهاء ، بهاء الفقراء
بهاء المشردين
يقص على الندى المطرز بأفكاري
قضيتي ....
وقضيتي أيها العالم المشبع بالزنا
أنا بلا وطن أو هوية
عاشق
وحبي العظيم .. أرضي
اغتصبت (...)
من قصيدة "ملحمة التوائم اللازوردية"
ولم يكتف الشاعر بهذا؛ بل أهدى قصيدته أعود بإكليل الغار " لهذا العالم المضطرب ... المشبع بالأنانية والبغضاء ... ".
3 ـ شرفات من المعجم الدلالي
إن النبض الغنائي الذي احترفه الشاعر في قصيده، قد جعلنا نلمس جماليات تشكيله الشعري الذي من خلاله طاردنا هواجسه في دروب قضيته، وما الرحيل الجسدي عن وطنه إلا جنون يتحرك في زواياه، والذي يعترف بحبه لأرضه بالرغم من كون بوخارست تضمه بين ذراعيها.
يقول:
أماه .. ها أنا ذا أغني حبي العظيم
أرضي ..
وبوخارست ..الغجريةُ العاشقة
تستمع مسحورةً
تشعر بالغيرة ...تتعرى
تظهر لي كل مفاتنها
تشعلُ قناديل الغواية لـ أغني اسمها....
عصافيرها صامتة
وعلى أشجار الحور تَقْرأُ قصائدي
تود لو تعشش وتغرد
في أحضان حبيبتي.. ..
من قصيدة " ملحمة التوائم اللازوردية"
فما أكثر الغوايات التي حاولت أن تُسْقِطَ الشاعر في حبالها، لكنه وفِـيٌّ لهذه العلاقة التي تربط حبه بالوطن. ولعل رصدنا للمفردات التي شكلت لبنات شعره، يجعلنا نلمس توحده التام بالْمُخَاطبة، لأن فلسطين هي كأسه الأزلية التي ارتشف منها معجمه اللغوي، نابشا حالته النفسية المتأرجحة بين الفناء والبقاء.
هكذا نجد في الديوان) الغربة، التيه، الوهم، الحزن، الدموع، الحطام، الاحتضار، النزيف، الأوجاع، البكاء، الصرخة، الظلام، الموت، الرحيل، الفراق، العزلة، الضياع، العتمة، الجرح، الأوجاع، المزق، المعاناة، الأرق، الغربة، التهالك، المتاهات، الشتات، الوجع، المأساة، الغياهب، الحيرة، الخراب، الألم، الزمن الرديء، الليل...(.كبعض من التجليات الكثيفة للشاعر، والتي اقترنت بطوفان غرقت فيه الذات العاشقة، متكأة على بناء استعاري خاص بالمعشوق وهو الوطن.
فالبحث عن الخلاص كان نوعا من التأمل العميق لاحتواء كل التحولات التي تعكس وعي الشاعر بتجربته المتفجرة في أفق المطلق.
يقول:
سأبقى أغني للنجوم
للفرح
للألم
للأحلام
للحياة
وأشرب
وأشرب نخب هذا الحب …
وأصلى
.. أصلي
حتى تمل الصلاة مني
ويمل مني الغناء...
و يصبح للحب
أنبياء وحوارين…
من قصيدة "جدارية الوطن"
بهذا العمق الأفلاطوني للحب؛ وضع الشاعر منظومة معرفية نكتشف من خلالها البعد الفيزيقي لشعره المشبوب بالنزعة الرومانتيكية، كمضمون دلالي تتلاقى فيه كل تصدعات الذات.
خاتمة:
إن شعر الشاعر منير مزيد، برق يضيء مشارف قَصص تمتطي هودج الحلم، يتفيأ ياسمين الحب، فتغدو حبيبته فيضا من نور يعفر كَفَّ لغاته، متحولا لقصائد يرويها الرواة وهم حفاة بين جدائل الآهات. فهل هو أنين الفقد من يقوده نحو شبابيك الحرية الموصدة؟
نعم هو كذلك؛ فهذا الشاعر الذي تتنفس حروفه حرائق هذا الزمن المعجون بالكآبة، يهوي في لجة الغربة، يتناثر قلبه بين الرماد، فأي صلاة تلك التي تتعطر بأنفاس حنينه للوطن؟
وما أجمل أن يتعانق الشعراء فوق بساط الحنين والحب الجارف، فهذا نزار قباني يقول في إحدى أجمل قصائده:
هذي دمشق وهذي الكأس والراحُ إني أحب .. وبعض الحب ذبّاحُ
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني وللمآذن كالأشجار أرواحُ
هنا جذوري، هنا قلبي، هنا لغتي فكيف أوضح هل في العشق إيضاح
خمسون عاماً وأحزاني مبعثرة فوق المحيط وما في الأفق مصباحُ
هوامش:
* كل الاستشهادات من ديوان "حبيبتي والحلم" الصادر بلبنان في طبعته الأولى 2010
1 ـ أبجدية الحروف دراسة في مراتب الحروف لابن عربي، ص: 30 الدكتور أحمد بلحاج آية وراهام
http://www.awabbelhaj.jeeran.com
2 ـ فواكه الصرخة نظرات في عالم التشكيلي المغربي محمد البندوري، نجاة الزباير منشورات أفروديت، المطبعة الوطنية بمراكش ، ص: 72
3 ـ د. محمد مندور، الأدب وفنونه، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ص.11.
4 ـ كتاب زيتونة المنفى دراسات في شعر محمود درويش ص: 19.المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت