إعداد وتقديم أثير محمد علي
يعود باب علامات لمجلة "الطليعة" كي يقتطف منها مقالة كتبت من وجهة نظر المستشرق الفرنسي لوسيرف، يتناول فيها تاريخ حراك الشباب السوري في العقد الرابع مع القرن العشرين.
رغم العمق الاستشراقي في قول المقالة، إلا أنها توضح الانتباه الغربي ورصده لفعل وفاعلية الشباب السوري في سيرورة التاريخ قبل انتصاف القرن العشرين.
لا يخفى على قارئ كلمات المستشرق الفرنسي الكيفية التي يحصر بها أثر المدارس والبعثات التبشرية الأجنبية في دفع النهضة العربية، دون غيرها من المؤثرات التاريخية الخاصة بطبيعة تطور المرحلة، والسياق التاريخ الاجتماعي لـ"الديار السورية" حينها.
من الواضح أن الفئات العمرية الشبابية، التي دخلت الفضاء الثقافي والمعرفي لتشارك في فعل تاريخ المجتمع السوري، انتزعت احتكار "الخاصة" للمعرفة بحراكها هذا، ويمكن القول أنها هي نفسها الفئات التي وقعت في أحبولة التقلبات الحادة للأزمنة الديكتاتورية، حين فرّغت من جدواها الجدلية في الواقع المنظور خلال عصر الانحدار، على مدار الأربعين سنة الماضية، وجردت من إمكانية حقها في المشاركة في صيرورة تنوع وتعدد الأنساق والاهتمامات السياسية بفعل المرحلة الاستبدادية، والحزب القائد، وشمولية التوجهات السياسية، وذرائعية الحكم، وتشيؤ المواطن.
فارتكس مجمل الشباب على الخلف، وارتد مجبراً عن حقه في أن يكون كائناً سياسياً، ليكون فرداً من رعية شبابية محبطة مجردة الحقوق، وغير واضحة المعالم بتطلعاتها السياسية. وتحول حركها الدائب الذي عرفت به في ثلاثينات القرن الماضي، إلى استكانة بسبب عوامل الاقصاء والتهميش والافقار والبطالة والقمع والعطالة وكبت الحريات الفردية والعامة.
من جانب آخر، سيلاحظ القارئ رغبة ملحة من مترجم المقالة، في إضافة توضيحات على هامش نص المستشرق، تعكس توقاً للتعبير عن منطق المرحلة من خلال وجهة نظر ابن البلد، الذي يرى قصوراً أو نقصاً في رؤية لوسيرف، مما يدفعه لسد بعض الثغرات وخاصة تلك المتعلقة بضرورة المفهوم السياسي لدور المرأة كذات فاعلة تلج الفضاء العام، بفعل المقاومة والمطالبة بحقوقها وواجباتها المختلفة.
أخيراً، ليس من المبالغة القول أن انتفاضة الشباب الآن في سوريا تعكس في جانب هام من جوانبها، استعادة حقها القديم في المشاركة في فعل التاريخ والثقافة، بعد عقود من خرائب الفضاء المجتمعي والسياسي.
لقارئ "الكلمة" نترك مقالة كتبت قبل عقود طوال، إلا أنها لا تغفل – دون تصريح – عن مخاطبة راهن الآن، في عمق إشاراتها الدالة.
الحياة العقلية للشبيبة السورية
إن الشبيبة التي نحن على اتصال دائم معها والتي تؤلف ما يسمونة "الشبيبة المفكرة" ليست في الواقع سوى ناشئة المدارس من ثانوية وغيرها. وهنا يظهر للباحث أن القسم الأكبر من الشبيبة الشرقية لا تخضع لمراقبتنا.
إن ناشئة المدارس اليوم تمثل رسمياً حياة الشبيبة العقلية، وقد لفت نظري الظاهرة التالية: هي أن عدد هذه الشبيبة المتعلمة آحذ في الازدياد، كما أن عدد طلاب البكالورية يزداد كل سنة، مما جعل تحديد قيم الشهادات من أولى المشاكل التي تعالجها الجامعة في الجامعة السورية اليوم. وهذا الاقبال على التعليم وليد الحركة الفكرية التي نشأت في القرن التاسع عشر على أثر تأسيس المدارس والجامعات الأجنبية. وهنا يحق لنا التساؤل عن الأثر الذي أحدثته هذه الجامعات في تزهيد الشبيبة السورية بالأعمال اليدوية.(1) والحقيقة، إن حالة الشبيبة السورية تشبه غيرها في جميع بلدان العالم.
للشبيبة السورية صفات جديرة بالبحث والدرس تلخص بما يلي:
أولاً: ثقة هذه الشبيبة بنفسها. وهذا شيئ بديهي لأنها تمثل عناصر التقدم في البلاد ولها خبرة في شؤون الحياة أوسع من خبرة الجيل القديم.
ثانياً: إخلاص هذه الشبيبة في أعمالها.
ثالثاً: وجود استعدادات ثورية سهلة عندها، لأن اعتقادها بتأخر البلاد الخاضعة للنفوذ الأوربي جعلها للنفوذ الأوربي جعلها تشعر بضرورة الإصلاحات الأساسية في مختلف النواحي.
رابعاً: مواجهتها الحركة النسائية التي تعالجها من الناحية العلمانية، وطلبها لتساوي التعليم لكلا الجنسين (التعليم المختلط)(2).
وإذا ما حاولنا التعمق في درس هذه الحياة العقلية تمكننا من إثبات بعض الانطباعات الآتية:
إن الشبيبة تطالع كثيراً الآثار الفرنسية والانكليزية والعربية أيضاً. وجلّ مطالعاتها بالفرنسية محصورة في الصحف الأسبوعية (كالأخبار الأدبية مثلاً)، وللصحافة العربية أيضاً تأثير كبير يتعدى في أغلب الأحيان أوساط هذه الشبيبة المتعلمة.
لم تحدد القراءة أفق الحياة العقلية للشبيبة السورية، بل تعدتها إلى الكتابة، فإن الشبيبة تحرر قسماً كبيراً من الصحف، ولم يتردد البعض من إصدار الصحف والمجلات وتأسيس النوادي الأدبية الصغيرة، التي تعقد اجتماعاتها عادة في القهوات، ولا يغرب عن البال (رغم ما يعترض هذه الجمعيات من الصعوبات الناتجة عن العسر المادي) الدور الخطير الذي تقوم به الشبيبة التي تلقت علومها في جامعاتنا لرفع المستوى الفكري والثقافي في سورية.
نجد إلى جانب مجلة "الطليعة" الذي ذكرها السيد مونتان في أبحاثه، والتي امتازت بمنحاها واتجاهها الاجتماعي المهم، عدة مجلات اعتنت بتعميم المبادئ العلمية كمجلة "الثقافة" التي لم تلق الرواج الذي تستحقه لأن الجمهور وجدها سطحية، وإلى جانبها نجد "مجلة المعلمين والمعلمات" التي تعتني بالمسائل التربوية الابتدائية.
يجدر بنا أن نلاحظ أن هذه الصحف والمجلات تطبع بدون معونة رسمية، ويقوم بتحريرها وطبعها فئة من الشبيبة المستنيرة التي تضحي ليس بوقتها وجهودها فحسب، بل بما تملكه من الموارد المادية الضئيلة دون أن تنتظر أي عوض ولا مكافأة، فهي تعتقد بقداسة الرسالة الواجبة عليها تأديتها.
من الخطأ إنكار هذه الحياة العقلية التي تقودها إرادة صلبة ونزعة قوية للسير بالشعب السوري في طريق التقدم والرقي؟
تعريب: أ. ك
من كتاب "تطور الشعوب العربية في نظر المشتشرقين"
(الطليعة، س.4، ع.1-2، كانون الثاني-شباط 1938)
الهامش
(1) إن المشكلة التي تواجهها سورية من جراء انصراف الشبيبة عن الأعمال اليدوية، واندفاعها وراء الأعمال العقلية والمهن الحرة، تشبه تماماً المعضلة التي تعالجها بقية حكومات العالم، مع وجود فوارق خاصة اقتضاها المحيط السوري وأوضاع البلاد الاجتماعية والاقتصادية. إذ أن كثرة خريجي الجامعات وحملة الشهادات، وتهافتهم على الوظائف رغم قلة المنافذ، أدى إلى وجود طبقة اصطلح على تسميتها البعض "طبقة البرولتارية المتعلمة"، ومن البديهي نشوء أزمة المتعلمين عندنا لكثرة المدارس الثانوية بالنسبة لعدد السكان، ونقص المدارس الصناعية العملية، وقد حصر بعضهم أسباب انصراف الشبيبة السورية عن الأعمال اليدوية بالأمور التالية:
1- ميل السوريين التقليدي للوظائف والأعمال العقلية.
2- عدم وجود مدارس صناعية عملية، إلى جانب المدارس الثانوية والابتدائية.
3- تعذر وجود المنافذ لتشغيل خريجي المدارس الصناعية.
4- الأوضاع الاجتماعية والأنظمة الاقتصادية الشائعة في البلاد السورية، التي لا تساعد الرقي الصناعي. (المعرب)
(2) من الحقائق الراهنة أن الشبيبة السورية في جهادها أصبحت تشعر بتقص يحدثه غياب المرأة السورية، وعدم مساهمتها فعلياً في بناء النهضة الحديثة. وهذه ظاهرة مؤلمة يلاحظها كل من تتبع تاريخ النهضة القومية في الشرق العربي، ولعل سبب انعزال المرأة السورية عن الحركات التحريرية هو انشغالها بتحضير وسائل هذه النهضة الأساسية إذ أن عهد المرأة الشرقية بصورة عامة، والسورية بصورة خاصة، بأماكن التعليم حديث ويمكن تحديده بالسنين التي عقبت الحرب الكبرى.
وليس إقبال المرأة على التعلم والتثقف بقدر ما هو متعلق بتطور عقلية الأهلين والجماهير عندنا التي أصبحت تعتقد بواجب تعليم الفتاة وضرورة إفساح المجال لها، لتأدية رسالتها الطبيعية في الحياة على الوجه الأكمل. (المعرب)