أسئلةٌ ما زالت فينا.. ما زالت تلهب الذاكرة، تعرفنا بذاتنا الأخرى الساكنة فينا وإن ابتعدت، فمهما حاولنا إخفاءها، تستيقظ كلما وضعتنا الذكريات أمام مرآة الذات، غريب عسقلاني كما عرفته روائياً وكاتباً كبيراً، قدم أعمالا عدة نال جزءاً منها النشر الورقي وقائمة طويلة تنظر أن يأتيها الدور، وكعادته في كل جديد يفاجئنا بنمط حداثي لم نعتده من قبل..!! وهذا واضح من خلال القائمة الطوية من الأعمال التي نشرت عبر الشبكة العكبوتيه.
في عمله الأخير، "هل رأيت موت ظلي" أظنه جاء بالجديد في كل ما يحتويه هذا العمل من جماليات، وقد كان لي الشرف أن أقرأ جزءاً من هذا العمل قبل نشره الكترونياً..!! الأمر الذي زاد شغفي به..!! فسعيتُ جاهداً لأن أكون متابعاً كل ما ينشر منه، وقد استمعتُ لآراء العديدين ممن تابعوه، إلا أن العمل كما يذكر العسقلاني يبقى ناقصاً إذا لم يخرج في هيئته النهائية مطبوعاً على الورق .
يعد العمل متقدماً، في نمطه وشكله.. ففيه زمهرير كافٍ ليجمد الكون، كون العسقلاني كتب عن ذات جريحة عاشت لحظة اللجوء الأول، وهي ترزح الآن تحت الحصار الظالم المفروض على شعبنا الفلسطيني في جميع المناطق، وبهذا كتب العسقلاني بمداد صارخ عن غربة الروح التي اقتلعت من أرضها عنوةً، وكتب عن جسده المأسور في قطاع غزة ، كما حاول تلخيص الذات الأخرى التي غادرت بلاد الرافدين عنوة وعاشت مثله غربة الروح والجسد، بعيدةً عن ماء دجلة والفرات.
شكل هذا العمل الأدبي نموذجاً فريداً في لغته التي اكتست حلةً بهية من الألوان كقوس قزح في مساءٍ ربيعي، فقد اعتمد الكاتب لغة شعرية تتناسب وجو النص، غريب الغريب عن بلده عسقلان التي تسكن قلب البحر، يراها من بعيد " في غزة " المحاصرة التي يسكنها كطيف جميل، يهبط من السماء في هيئة ملاك رباني نزل إلى الأرض، " هل رأيت موت ظلي " ظل الروح المتعطشة للشغب في فضاءات الأدب. وهذا العمل بكل تفاصيله يجمع بين الرواية والقصة والمسرحية، أخذ منها ألوانا ليمزجها في لون واحد، وترك للقارئ أن يحدد بوصلته في تعريف هذا النص ..
فيمكن أن تسميها رواية ..
أو حوارية مسرحية ..
أو مجموعة من القصص يكمل بعضها بعضا ..
براعة الكاتب وخبرته الأدبية لأكثر من أربعين عاماً كاتباً، وقاصاً، وروائياً جعلته يطوع اللغة وقواعد الكتابة الإبداعية ليخرج بهذا العمل الفريد من نوعه، في كل ما يحتوي من العنوان والشكل والمضمون، وبهذا فقد عمد إلى أسلوب السهل الممتنع في كتابته الأدبية، والكاتب الذي قدم للمكتبة العربية عشرات المؤلفات، خلال مسيرته الأدبية، وخلال حياته العملية كروائي بارز، عمد إلى الاهتمام بأنماط الحداثة في كتابته، يجمع النقاد على أن غريب عسقلاني يصعد سلم الحداثة فيما يكتبه مستعيناً على ذلك بتراثه الأدبي، في الخروج عن النمط التقليدي في الكتابة، لجذب القارئ إلى ولائمه الأدبية .
" هل رأيت موت ظلي " عمل متميز في هدفه ومضمونه وفي لغته التي تميل إلى الشعرية في بعض الأحيان، نعم.. في مقاطع من هذا العمل تجدك أمام مقاطع شعرية تخدم هدف النص العام .. "هل رأيت موت ظلي" يقسم إلى خمس عشرة قطعة أدبية كل قطعة تصل في معدلها إلى ثلاث صفحات من القطع الكبير وهي بهذا الترتيب :
( 1 ) همس الصمت :
بدأ بهذا الجزء مباشرة مبتعداً عن المقدمات، كي يتجنب أشكال الإنشاء الممل، والحشو الذي يفقد العمل الأدبي بريقه المعهود، وهو يدخل في سرديته مباشرة " .. وبعد أن غضب ملك الماء أشفقت عليَّ جنية الماء.. أنشبت أظافرها في صدري حتى بق الدم منه " ..
كما أن هذا القسم من العمل بدى الكاتب كمن يسردُ قصة من زمن قديم، أو من عوالم خيالة، يتحدث فيه عن الفقد، عن ذلك المخلوق الذي يلازمه كظل له ، وعن النقاط الفاصلة بينه وبين من يحب ، يستحضرُ أميرة تطوف مجالات بعيدة عنه " وتهطل الغيمة نساء راغبات.. كلهن يشبهن أميرة الماء.. فبرق في صدري وجه امرأة بعيدة تاهت مني في لحظة بين الوجد والرجس"
يربط ذلك بالغياب .. مستعيناً باللغة كي تفسر مشاهد النص، فيذكر حموضة الغياب، الذي حول الذكرى الجميلة إلى مذاق حامض .
وهذا ما أراده الكاتب إذ جلس على شرفات الانتظار.. ينتظر عله يأتيه بخبر يقين.
(2 ) جاء في الأثر
في هذا الجزء من النص يتقمص الكاتب دور الراوي في الروايات القديمة، على غرار ألف ليلة وليلة، ".. قد جاء في الأثر، أنه في الليلة الثانية بعد الألف، أودعت شهرزاد حكاياتها في صندوق الزمرد وألقت بها في ماء الفرات.. وتزينت بأبهى زينة، وتطيبت بأغلى طيب، وأمرت بإعداد فراش من ريش النعام على سطح بركة الزئبق، حتى إذا كان منتصف الليل، رأت وجه الملك مطبوعا على سطح القمر، فاطمأنت للرؤيا.. "
ويسعى بأسلوبه الأدبي الخاص للدخول إلى عالم سحري، حيث يسحر ذاته في هيئة أمير يلتقي بالأميرة، ليأتي طائر الرخ يحتضنهما ويلقي بهما في صحراء بعيدة فيتوهان " وطار مسافات وقطع مفازاتِ، وهبط في بيداء أخرى ترك الأميرة فيها وطار، وصارت المسافة بينهما صارت مرجومة بالغربة والعطش.. "
لذلك تراه يعاود الحلم لعله يلتقي بها في عسقلان مسقط رأسه التي أبعد عنها قسراً وصار لاجئا، بينما هي تحلم بلقائه من جديد في بلاد الرافدين التي هاجرت منها بعد أن سكنها البوم ..!!
وهنا تأتي مخيلة الكاتب الإبداعية في ربط واقع الحصار الفلسطيني بواقع العراق الحزين الذي يرزح تحت الاحتلال، والصراعات الداخلية.
في مجمل الأجزاء من النص استخدم الكاتب التراث التاريخي بهدف الإسقاط السياسي للعمل، وفي هذا الجزء شبه تيهه عن حبيبته كتيه اليهود في صحراء سيناء، مع ما بينهما من افتراق.
( 3 ) ثقب في الذاكرة
في هذه القطعة الأدبية يتناول الكاتب هجرة النخب الفكرية والعلمية من العراق هروباً من الواقع المتأزم، والموت العبثي، وكأنه هروب من موت الجسد في الوطن إلى موت الروح خارج الوطن، ".. أه من رشق السهام في خاصرتي.. آه من نزف قلبي، فالبيداء مقفرة والمسافات طويلة ودمي يسبقني، وأنا لا أملك من أمري غير روحي، جاءني بعضي في صوت يأتي من بعيد.." وهذا ما يجعلُ الجرح نازفاً في خاصرة الوطن الذي يفقد أبناءه، وفي روح الأبناء الذين اقتلعوا رغماً عنهم، وتبعثروا في المنافي وحملوا الوطن ذاكرةً تؤرقهم ليل نهار، من خلال محاكاته لأميرته التي يرنو للقاء بها حتى ولو في الخيال " وعن اليمامة عن النورس..
أن امرأة غادرت بلاد الرافدين في زمن الالتباس، تحمل الغائب بين الجوانح وتجلس في ركن قصي من القبو، حتى إذا فرغ المقهى من الرواد وانتهي النادل من ترتيب الحكايات على الرفوف، يطبع على جبينها قبلة مخضبة بالدموع. "
( 4 ) نادل المقهى العجوز
قد يبدو عنوان هذه القطعة مختلفاً عن باقي القطع الأخرى إذ أن باقي العناوين ترتبط بالقديم ..!! إلا أن المضمون نفسه، فهو يقصد بالمقهى وعاء الذاكرة التاريخية التي تأسس عليها الوجدان العربي، والتي أصبحت في متناول التخريب ..!! والتجريب ..!! الخارجي من قبل المقامرين " وأنتِ، ماذا تبقى فيك من رياح السومريات..أين منكِ عبق جلل وجه الضفتين قرونا بالبهاء..
وأنا هل يعمدني الأردن مثلما فعل مع المسيح.. أم تراني سأظل المرجوم بالغربة بعد أن شطبوا عسقلان من الخرائط.. فجعلوها " أشكلون " علامة استفهام مبهمة بين قوم وعد الرب وخير أمة أخرجت للناس.. " .
ما يجعلُ الحياة في حالة تشظ ، والذات التي تناجي أميرة الغياب لم تتعب من السير في الدروب الموغلة ، لذلك يعود الكاتب مجداً إلى ألق الماضي وجماله، بمفردات تتناسب وحالة السرد التي يتبعها بما يتناسب مع المشاهد المتتالية، وهنا أراه قد مال إلى استخدام قصة السيد المسيح وحكايته وتنقله بين الأقطار.
( 5 ) عذابات العرافة
في هذا الجزء من النص يأتي الكاتب بنمط جديد من الكتابة ، حيث يوظف شكلاً آخر من أشكال الأسطورة بتقمصه دور العرافة ليناقش من خلالها قدره مع توأم روحه التي تغيب خلف البحار، وهو هنا يسقط وحدة الجرح الفلسطيني والعراقي وحالة النزف المتواصل تحت مرآى ومسمع ذوي القربى " كان الوقت يتمطى بانتظار رعونة صباح من زمهرير، الريح عاتية، ونصل الوجد يقطع لحمي يشويني على نار الصقيع.. أصرخ على ذهول.. تبعثرني العتمة ولا ضوء يلوح.. والوقت ملبد بالغياب ولا مطر.. أين المفر!!" .
تأتي لغة الكاتب السردية في هذا الجزء من النص محملة بالكثير من الألم لما حل به بعد الفراق، ويحاول استخدام اللغة الشعرية للتوفيق بين جرح القلب.. وجرح الوطن، وفي هذا الجزء يقدم تمهيداً للجزء القادم محاولاً شد القارئ بخيوط اللغة كي يستمر بلا ملل.
( 6 ) سفر الرؤيا
يعود الكاتب ليتقمص دور الراوي من خلال مناخات تعود إلى تاريخ قديم، تجمع بين الحضارة السومرية في العراق، ودعوة السيد المسيح في فلسطين من خلال رموز الأميرة السومرية، " مريام " المجدلية التي حاولت غواية السيد المسيح وقال فيها قولته المشهورة " من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر " ( وجاء أن امرأة خرجت من خميلة الهوى.. تاهت بين المدى والمدى، زادها رجفة قلب، وبضع أرغفة نضجت في تنور الألق، التقت بفتى كنعاني ورث عن المسيح سعفة من إكليل الشوك.. عندما حاذته تسمرت وارتجفت.. فصرخ على وجع:
- أنتِ هي!!
- أنا سومرية أبحث عن وليف..!!
- وأنا لي في كل موعد سومرية /مجدلية..
وكأن الكاتب كان يريد أن يقول أن السومرية والكنعاني لم يقترفا خطيئة وأنهما في رحلة التيه يبحثان عن موطئ قدم .
( 7 ) في مقام الانتظار
وهنا يرجع الكاتب بحرفه الجميل وإحساسه المرهف، فيراقصُ الحرف بلحن حزين، يعود إلى البوح الشفيف ، ومناجاة البعيد بأسلوب شعري يعتمد على الواقعية السحرية (ما الذي يُبكيكِ!!
مرجل الشوق بعد أن سرقوا جذوته!؟ أم جفاف عيون الأريج في غدد الرحيق؟!
ومن الأسبق فيكِ!
عاصفة الشوق، أم روح الرحيق؟؟ )
ويتابع الكاتب بوحه الشعري فينتقل إلى الأسطورة حيث يلقى بالكنعاني في قارورة تصل إلى قاع البحر (من عاش مثلي، داخل قارورة سقطت في غابة المرجان، هل تحمله يوما شبكة صياد عجوز أفنى عمرة على أمل اصطياد سمكة أرجوانية، تخبئ بين حناياها اللؤلؤة.. ) ، ومن خلال الرحلة يحاول - الصياد العجوز - في إشارة رمزية إلى التاريخ ..!! الذي يجمع القلوب المشتتة حتى تمارس الحلم مستخدماً وسائل الرجوع والتداعيات ، وتوظيف الموروث التاريخي بواقعية سحرية تعتمد على النمط القصصي القديم.
( 8 ) على جناح القُبَرّة
في هذا القسم يعود العسقلاني الى مناخ من التفاؤل المشوب بالحذر يطير الكنعاني رسائله على جناح " القبرة " ، استرجاعاً منه لحكاية الحمام الزاجل الذي كان وسيلة للتواصل بين المحبين (كُتب على جناح القبرة:
ما المرايا وما الصور؟ وهل ما تعكسه المرايا ظل حقيقة؟ وعلى أي المرايا تنطبع رجفة القلب وأشواق البدن؟!! ) .
ولأنه الزاجل رسول القلوب يبتكر الراوي حصان الفرح وغيمة العصافير، وشبق الحكاية ومناجاة القمر، لكنهم يصادرون عليه أميرته قبل الوصول الى القمر، ولكن توجه وجهها إليه فتنطبع صورتها على وجه القمر .
( 9 ) ترنيمات نادل الوقت
العسقلاني بأسلوبه البارع ما يزال مترجلاً صهوة جواد الأسطورة فهو في هذا الجزء يحاكي الظل البعيد عبر توظيف الأسطورة، عندما يستحضر العنقاء – الطائر الأسطوري – الذي كلما مات يحترق ليولد من جديد، وهو يعود الى التاريخ القديم أيضاً برواية ( سيزيف ) الذي يحاول أن يحمل الصخرة الى أعلى الجبل وعندما يصل تتدحرج ثانية ويكرر المحاولة على أمل النجاح.
هذه المحاولات يحاول توظيفها في عكس الحالة العراقية، والفلسطينية وما يرافقهما من عبث ومآس وتضحيات.
ولكن العاشقين يستمران في الحلم على أمل الوصول برغم إدراكهما أن المحاولات ربما تأخذ أعماراً قبل الوصول الى مرفأ اللقاء .
( 10 ) حموضة الغياب
تعتصرُ أحشاء الكاتب حالة الفقد المرّ، فهو يجسدُ نفسه في شخصية الراوي الذي ينتظرُ الأميرة السومرية، ليجعل من الغياب زاده حتى يصيبه الذهول، ما يجعلُ البحث عن الآخر حالة يومية أو مرضاً مزمناً، ليستعيض بالواقع المرّ الذي عجز عنه أطباء السياسة، ليهرب الى الحلم من جديد، لرؤية ما هو أبعد من الكائن والممكن ..!!
وكأنما عيون زرقاء اليمامة ترى ما لا يراه الناس، فهي ترسل له حمامات البوح تقتل حموضة الغياب وتحولها إلى عسل منتظر.
( 11 ) حكاية شرقية
ويستمرُ الكاتبُ في حالة الذهول ويناجي البعيد " لا عسقلان متاحة للبحر، ولا أنتِ جالسة على ضفة النهر تنتظرين..
هل وصلتِ إلى يقين؟؟ من منا حبل القوس، ومن منا الوتر؟؟ "
ويواصل العزف على الوتر نفسه، مشيراً إلى العمق الوجداني للعلاقة بين العراق وفلسطين، فمأساة الشعبين واحدة نتج عنها نتائج متشابهة من حيث القتل والتدمير وفقدان البوصلة، وتراكم العتمة نحو المستقبل، مما يجعل البديل التوافق الروحي بين ( هو ) و ( هي )، وهذه العلاقة الأزلية تحتلُ مكانةً في النفس، وتتخفى خلف علاقة عاطفية في ظاهرها تراجيدية في واقعها السياسي.
( 12 ) سر العسل
في هذا الجزء من النص تتجلى اللغة الشعرية بحيث يجاري الكاتب شاعرية " الدكتورة هناء " ، واللغة الشعرية تعبر عن تناغم وجداني ، يعبر عن الوجدان المشترك في محاكاة الغياب ، لكن سرعان ما تلوح غيمة من التفاؤل وهذا واضح في المقطع " يهبط العصفور على كفي، ينقر جلدي ويحجل بالرقص المغمس بالغناء..
يصهل فيَّ الوقت..
والوقت دراق وعِنِّاب..ونوار حناء..
فجأة جئتِ، والوقت ليل.. سألتِ:
- لِمَ غبتَ؟ خفت عليك من الموت!! "
لكن هذه الغيمة من الأمل ما تلبثُ أن تفرغ ما بداخلها من مطر، عندما يصطدم الكاتب بصخرة الواقع المؤلم في غزة المحاصرة ويؤكد أنهم يقفون بالمرصاد لقتل الحياة، فتراه لا يكترث
- لا عليكِ.. كل ما في الأمر أنهم في غزة سحبوا الزيت من روح الفتيل..
- متى!!
- عندما قتلوني.. وقتلوا العناب والدراق على شفتيكِ"
وينتهي بالتأكيد على أن العشق سر وقدر .
( 13 ) الانتظار على نواصي الغياب
يعود العسقلاني مشدوداً إلى عذاباته في غزة، حيث يعيش الشعب الفلسطيني محاصراً في بقعة جغرافية ضيقة جداً، حصار معقد من العدو الإسرائيلي، تجرح الروح في أعماقها، لأنه بتجربته الطويلة من اللجوء إلى الاحتلال بات مدركا ًأن هذا الحصار تمهيد لنفي الفلسطيني التام، وهذه السياسة الظالمة بحق أبناء شعبه يرى فيها قتلاً لأحلامه.
كما أن العسقلاني يشخص الحال جيداً فيعرج على الحصار الذي تفجر بفعل الاقتتال الداخلي بين الفلسطينيين وهو أقسى أنواع الحصار، ويربط هذا الواقع بالواقع العراقي " مناجياً " العراقية البعيدة عن وطنها والتي تعيش الحالة نفسها في منفاها خارج بغداد.
( 14 ) على سنام الريح
ويعود العسقلاني إلى مراقبة وليفته التي اعتصمت في البتراء في الأردن، لتراقب بغداد البعيدة وتعود إلى تواريخ قديمة وحديثة، وتستذكر العسقلاني المكبل بالجراح لترى فيه فارساً ومخلصاً، ويرى فيها ملاذاً ومنزل راحة، ويندبان حظهما في زمن يسوق فيه الهزائم انتصارات، ويدفع البسطاء مثلهما أحلامهما على مذبح شهوات الحكام، لكن الأمر يأتي على غير ذلك فيركبان صهوة الريح ليعيدا تنظيم الحياة من جديد على مساحة رؤية جديدة (مرسومٌ بين عينيك طيفُ أميرة تحمل بين عينيها وجه نورس عسقلان)
( 15 ) لغة الريح
وهي لغة القلب التي لا تخذلُ صاحبها والتي تحمل الأسرار إلى كل الأماكن، لذلك نراها تناديه ( لا بأس يا صاحبي فلنمارس البوح تحت مطرقة السؤال) ، والسؤال هنا كيف الخروج من العدم إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة ومن الهزيمة إلى الانتصار.
هذه هي المقاطع الخمسة عشر، وهكذا هو غريب عسقلاني المقتلعُ من عسقلان عنوة، والمحبوس خلف قضبان الوجع، يأبى إلا أن يبقى نورساً عاشقاً للترحال، لا يقف عند نهاية السؤال، لأن السؤال والترحال في نظره هما الزاد الذي يقتات به.
فهو ( الغريب ) ولد غريباً من رحم المعاناة فعاش غريب الجسد عن بلده الذي هجّر منها عنوة، لكن روحه الكاتبة، تأبى إلا أن تكون على موعدٍ مع الترحال، ويبقى قلمه المغموس بحبر الشوق والانتظار مع أمل لصباح آخر، صباحٍ باسم، يحمل له خبراً ساراً يلغي كل الفواصل ويعود حراً طليقاً، كما كان في لحظة ميلاده الأولى.
غريب عسقلاني ظاهرة أدبية فلسطينية، أو إن صح التعبير فهو مدرسة فلسطينية بحد ذاتها، شكل بقلمه نموذجاً حداثياً روائياً، مزج بين الأدب والسياسية، وزاوج فنون الكتابة بعضها مع بعض، كثير من نصوصه تحتوي على أكثر من لون أدبي، وخير دليل على ذلك هذا النص الذي تناولته بهذا العرض، فيه الشعر .. والقصة والرواية، بالتأكيد هو استطاع أن يطوع اللغة، ويزاوج بين ألوان الأدب ليربطها جميعاً بمعاناته دون أن يوحي للقارئ بأن هذا النص العاشق في باطنه حكاية شعب مظلوم.
وإن كنا قد وصلنا إلى النهاية مع هذا النص فإن هناك عشرات النصوص عند غريب عسقلاني تنتظر لحظة الميلاد، لننتظر فالأيام القادمة فيها إجابات لكثير من الأسئلة التي تدور في أذهاننا، لم تكتمل أسئلتها، لكن ما همني أكثر من بين الأسئلة التي تتدحرج ككرة الثلج .. هل سيبقى غريب غريباً يكتب عن جسدٍ غريب .. وروح مغتربة؟