كان المعلم القدير علاء بشير، متميزا في مسيرة حياته الفنية الثرة الغنية والمتنوعة والمتقدمة. وكان اسلوبه واضحا وراسخا في تحقيق حضوره الفكري والفلسفي بمعالجات وصياغات وتقنيات تجربته المعاصرة الحداثوية المستمدة من خصوصية مفردات معمارالفن العراقي العربي الاسلامي الانساني في مراحله المتطورة عبر سير وتشكيلات زمنية متتابعة متتالية متوالية، لكل حقبة منها سماتها الحضارية التي تشكل بمجموعها ملامح الحضارة العراقية عبر التاريخ الغابر والحاضر، القائم، المعبر عن ميزات وأصول ومنابع تلك التجربة الضخمة من حياته المتواصلة ابداعا.، نشير إلى التكرار الذي تعج به استقاءآته المضمونية التي تقترب أحيانا في التفسير الأدبي، الى مفهوم وايحاءات ودلالات الأسطورية، مما حدا به أحيانا إلى تغيير في بعض سماته، بالرغم من وجود مزايا التطوير أو الاضافة التي حرص على ادراجها وتغيير وتبديل بعض ثيمات التكرار فقط، عدا الذي كان يشكل (لازمة) في مواضيع لوحاته أو في وحدة مضمونه: (عنصر هيئة الغراب ودلالته الفلسفية – عنصر المفتاح وقيمته الرمزية - حجمية شكل الكرسي الفكرية والاشارية وغائيته السياسية والاجتماعية.) -. وأمثلة أخرى تتعلق بنوع استخدام مواد الرسم المختلفة بين الزيتية . ومادة النحت : الطين في تنفيذ النحت الفخاري – ثم استخدام الورق والبوستر و(الكولاج) التلصيق والمواد الأخرى في انجاز الملصقات . وفي كل هذا التنوع في الخامات يؤكد على عنصر التكرار الضمني للأسئلة الصعبة التي يطرحها على نفسه وعلى المتابعين والنقاد، لو شاؤا الانتباه لقيمتها الفكرية والفلسفية.
هو علاء بشير ذاته، هو السؤال اياه، كالسؤال المتكرر على مدى التاريخ مرارا عن سر الخلود.، على سبيل المثال، الفنان علاء بشير لم يستطع حذف الحوار بينه: رساما مفكرا، وبين رؤيته التي لا تنوء أبدا من ضغوط فلسفية وذهنية حادة، تجعله يستمتع بفن توكيد القيمية الفكرية في الفن الذي حققه في معارضه المختلفة في منطلقها الفلسفي والرؤيوي، وهو الرمز الجوهري لمضمون كل معرض جديد . الرمز الذي يظهر كلازمة في روح لوحات المعرض: (الغراب والمفتاح والانسان والكرسي، الذي يتكرر مرارا، مفروشة على أرضيات عريضة من الألوان المتدرجة في أمكنة، والحادة في أماكن أخرى حسب مقتضيات التكوين العام للمعمار الفني الذي يعتمده في اللوحة الواحدة : على طريقة سورة الرحمن في القرآن الكريم التي تتكرر فيها اللازمة (فبأي آلاء ربكما تكذبان). ولكن علاء بشير في بحثه عن استعارته (بنية الأساطير) يرى أن للتكرار وظيفة جوهرية تتمثل في اظهاره لبنية الأسطورة) في الرسم ( لاحظ رسوم الواسطي- قافلة الجمال وبخاصة التكرار الجميل في حركة رقاب النوق ) وفي النحت نلاحظ عنصر الايقاع المتكرر في نصب الحرية التكرار في شخصيات جواد سليم في الرسم كذلك.
كما يتضح أيضا في أعمال الرليف الكثيرة لمحمد غني منها – في السوق – وفي المقهى وجدارية مستشفى مدينة الطب وحكايات الف ليلة وليلة وكذلك نجد مثالا لذلك في منحوتات رليف خالد الرحال واسماعيل فتاح الترك . وتظهر على أشدها في أعمال هنري مور وجياكوميتي - فالتكرار يمس بنية العمل الفني ونسيج الأسطورة ويوازيها، ويؤكد علاء بشير في رمزه المدهش للكرسي في لوحاته، أن للتكرار وظيفة طقوسية هامة، قد تزهر في تربتها بذور اللذة وتولد المتعة، والأمثلة الاثنوغرافية وفيرة: ايقاعات مسيطرة، موسيقى تعزيمية، ابتهالية، صلوات، طقوس- علاء الرسام لايجد في التكرار المفرط دخولا في الضياع، أو الدخول إلى صفر المدلول، على العكس من ذلك في النحت الفخاري فهو هنا علاء النحات ملزم بالمضمون ورمزيته ودلالته الرؤيوية. ونرى أنه أيضا يضمن كونه (نص متعة)، في استعارة رؤيته الاسطورية لبعض الرموز، ولا يضعنا كمشاهدين للوحاته ومنحوتاته، في حالة من الضياع، والارهاق. نعم .
قد يؤدي عنصر التكرار ذلك، في بعض أعمال فنانين آخرين، ربما إلى نوع من الملل- وهو الملل الذي يبعده علاء بشير عن تجربته مرارا)، لهذا كان يبدع في التنوع باستخدام الرموز والاشارات الفكرية والدلالات الفلسفية بين استعارته لرمز( الغراب ولرمز المفتاح ولرمز الكرسي ولرمز الانسان المستهدف المعذب) الذي يعاني. كما تجسد في لوحات ومنحوتات علاء الفخارية. كذلك يرى علاء أن خلو عنصر التكرار من قيمته الفلسفية ووظيفته الطقوسية، يؤدي بعمله في الرسم و في النحت، الى غياب اللذة المرتجاة والمتعة المبتغاة. ويهز الايمان بالمعارف التاريخية والثقافية والبسيكولوجية لدى مشاهدي أعماله الفنية. مما يزعزع الثابت من أذواقه وقيمه وذكرياته، مؤزما علاقته بالفن التشكيلي . ولكي لا نبتعد كثيرا في تحديد معنى وهدف وغاية علاء بشير لقيمة المتعة البصرية التي يتولد عنها السرور واللذة. فاننا سندهش بالعمل الفني الحقيقي المؤثر بقوته الروحية الساحرة في أعماله، لأنها نوع من الفن الانساني المقدس، (كالشعر الملحمي) له وقع مباشر على قارئه وسامعه، كعمل ملون بالرؤى المغبطة المؤثرة غير المألوفة، تكاد أن تصل فتنتها وجماليتها الى درجة الأسر).
وهكذا هي شخصية علاء بشير في واقع الحياة اليومية، ونحن لا نفرق أبدا بينه كانسان وبين انتاجه في الفن. . وكنا نتساءل عما سنقرا له من خرائد الشعر لو كان شاعرا و ومن روائع الأدب لو كان روائيا، أو بماذا سينطق من جواهر الكلام، لو كان خطيبا مفوها وهو يتحدث الينا. ولعل هذا المبدع الكبير، سيدهش من يسمعه يتحدث عن تجربته الفنية في الرسم والنحت. وسيبلغ به التحول عند مسراه عندما يشاهد لوحاته. فالحضور المؤثر للرمز الأسطوري في الفن المغاير والمختلف هو الذي دفع الملأ من المتابعين والمعجبين بفنه وبنقدة الفن التشكيلي الذين كتبوا عن علاء بشير، لأن ينظروا إلى فنه على أنه (فن مبدع.. فن عجب)،على الرغم من تكرار رمز الكرسي والغراب والمفتاح والانسان المستلب وهي مفرداته وثيماته. فالتكرار الرقيق المدهش هو الذي يضمن هذا الحضور ليدفع بالرؤية إلى آفاق قصوى مشرقة وضاءة وجديدة. – حتى ولو دفعه حبه الشديد العميق الى رموزه الخاصة بفنه، وانساق خلف حماسه، فدفعه إلى أن يفكر بطريقة درامية وانفعالية في النحت وبطريقة اشارية وروائية ميثولوجية في الرسم، فإنه لا يمكن لأعماله الفنية، الا أن تحمل قسطا من قيمتها الرمزية، وهذه هي احدى أوجه التفكير الأسطوري، وهو أمر ليس بالمستغرب في شخصية علاء بشير الذي يحمل بين أنسجة عالمه الباطني الكثير من سليقة (فكر البراري) لكي يوازن به أحكام الفكر العلمي (طبيب جراح فنان.. أو رسام جمالي يؤمن بعلم الطب ويمارسه): (موازاة الفكر الأسطوري للفكر العلمي). هذا بالإضافة الى أمر جوهري نراه مهما في شخصية علاء بشير الجمالية، ويتمثل في أن العامل الأسطوري في الفن، من الممكن له أن يؤثر في جرأة المشتغلين بالطب التقويمي. كما حدث أن أعاد الحياة الى يد مقطوعة بالكامل لعامل اجنبي كان يشتغل في العراق. هذا التماهي بين مهنة الطب وبين رؤية الفنان هو الذي أجبرنا على تأييد أولئك الذين يرددون حضور مسألة تماهي (الفكر البري والفكر العلمي)، ويرونها انجازا عجبا . كما هو انجاز علاء بشير.