تقرير من لندن

بانتظار تشارلس ديكنز: المئوية الثانية لاشهر كاتب روائي

الحياة الغريبة والمدهشة لكاتب احب السجون والمسحوقين ولندن

إبراهيم درويش

في عام 1843 زار المؤرخ الامريكي لندن وكتب قائلا عندما وصلت لندن، ظننت انني كنت زرتها من قبل... عربات الخيول اصحاب الاعلانات المتجولون ومئات الاشخاص الذين يبدون كتجسيد لشخصيات تشارلس ديكنز'.
تشارلس ديكنز (1812 1870) الذي ولد في جنوب انكلترا وصل مع عائلته صغيرا الى لندن، وظل يتجول في شوارعها الفيكتورية خاصة الشوارع الخلفية، ويمشي مفكرا ومتأملا، معه رفيق احيانا واحيانا اخرى وحيدا في ايام يكون الجو فيها متعكرا ولندن قد غيرت مزاجها في ذلك اليوم، وديكنز هذا هو من كان يحن على الفقراء ويدافع عنهم ويحاول ان يحسن من اوضاعهم المأساوية خاصة من رماههم الحظ في بيوت الفقراء والملاجىء اوالنساء المهانات والمضطهدات من سيدات البيوت الفارهة في لندن الغنية التي كانت تعيش احسن حالاتها بدون حروب او ثورات او معارضات سياسية. كان ديكنز جزءا من مشهد لندن يعرفه سكانها، ويقرأون رواياته التي كانت تنتشر مسلسلة على صفحات الجرائد والمجلات، ومن اجله اقتنوها ووضعوها على ارفف مكاتبهم. حياة لندن في تلك الفترة هي جزء من حياة ديكنز السريعة والتي تظهر صورة عن كاتب وتحولاته ظل يبري اقلامه ويكتب رواياته في دأب واجتهاد مستمر، وظل يمارس هواياته في المشي وزيارة الملاجىء والسجون التي كانت من الاماكن المفضلة له لان ابطالها كانوا يمنحونه الفرصة للتعرف على المأساة الانسانية في ابعادها المختلفة ولذكريات سجن والده، وفي مرحلة متأخرة من حياته قام بمساعدة من محسنة كريمة بانشاء بيت للنساء الساقطات اللواتي فقدن كرامتهن، وادار البيت بنفسه وكان يقابل النساء ويمنحهن فرصة لاستعادة حياتهن والبدء من جديد، وكان يدير كل صغيرة وكبيرة من شؤون البيت، حيث كان الشرط الذي وضعه للبيت وقوانينه التي كتبها ديكنز بنفسه تقضي بان تتعهد بعد ان تنهي المرأة تدريبها في الملجأ ان تهاجر من البلاد، الى كندا او امريكا.
ذاكرة محل دهان الاحذية الكريه
شعف ديكنز في الشوارع الخلفية، وتحليل ظروف المحرومين والجوعى والمعدمين جاء من طفولته التعيسة حيث سجن والده الذي كانت احواله ليست بالجيدة عندما لم يدفع الديون المستحقة عليه لدائنيه، وعليه اضطر ديكنز والوضع هذا لان يعمل ويعيل عائلته حيث بدأ يشارك في اعالة عائلته من الشلنات القليلة (ستة شلنات) التي كان يتلقاها من عمله في مخزن لبيع دهان الاحذية. وقد وصف ديكنز فيما بعد ظروف العمل ووضع المخزن ومهمته التي اوكلت اليه وهي مسح قوارير الدهان ووضع العلامة عليها بعد احكام الغطاء عليها، وعاش سنوات بين رائحة المخزن الكريهة وبين الفئران والجرذان التي كانت تمرح وتسرح دون ان يلاحقها قط او انسان. ورأى ديكنز العفن الانساني كذلك. وعندما خرج والده من السجن اراد ان يريحه من العمل لكن والدته تدخلت وظل الفتى يعمل في المهنة الحقيرة هذه، وحنق الابن على الام، وانتقم من الحادثة هذه عندما ادخلها في عالمه الروائي، حيث حضرت الصورة القاسية كزوجة السيد نيكلبي في روايته 'حياة ومغامرات نيكولاس نيكلبي' وارجع عدد من النقاد موقف ديكنز من المرأة الى هذه الحادثة، ففي الوقت الذي عاشت شخصياته وابطاله طوال القرون الماضية ودخلت في الوعي الانساني فان نساءه وابطاله كن اقل حظا، ولم يعط ايا منهن الدور القيادي في واحد من اعماله الروائية او القصصية او المسرحية ربما باستثناء 'دومبي وولده' التي حضرت فيها بطلة اضافة الى رواية 'البيت الموحش'. كما ان ديكنز هو من كان قريبا من الطبقة المسحوقة والحانق او المتحفظ تجاه الاغنياء كان يكتب من الواقع وكانت اعماله تحمل مواقفه الاجتماعية وحملته من اجل الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي للطبقة الفقيرة.
نقدوه وعاشوا مع رواياته
ديكنز هو شخصية مهمة في حياة الرواية وتطورها، فعلى الرغم من النقد الذي وجهه اليه كتاب الحداثة من فرجينيا وولف وجيمس جويس وجورج هنري لويس، باعتبار كتاباته ميلودرامية وعاطفية اكثر من اللازم، ونقد جورج اورويل لاسلوبه حيث قال ان جملته طويلة ولا نهاية لها، على الرغم من كل هذا الان كل روائي في تكوينه وطفولته عاش مع واحدة من رواياته واكتشف العالم عبرها، وكل منهم له روايته المفضلة، ديفيد كوربرفيلد، الامال العظيمة، اوليفر تويست، قصة مدينتين، الاوقات الصعبة، او صديقنا المشترك. فهذه الاعمال وغيرها وبعيدا عن اهتماماتها تظهر ديكنز في اعلى حالاته من المراقبة والتوثيق وحدة النظر، والمرح الذي تميز به وحب الحياة بكل ما فيها من حزن وشقاء وعطف وادب مع عماله وخدمه ويقول بعض من عايشه انه كان يضفي حسا من الراحة والحميمية اذا دخل مجلسا. كان ديكنز ماهرا في صناعة الاسماء الغريبة لكنها خلدت في زمن الرواية، واضاف الى اسمه 'بوز' ووصف نفسه بـ 'الفذ' ومع ان الوصف هذا كان نوعا من المزاح الا انه لم يكن يخلو من الحقيقة لانه لم يكن يرى في عالم الكتابة في زمنه من يبذه او لديه القدرة على تجاوزه. احب ديكنز اعماله الروائية واستغرب في بعض الاحيان من سبب ضعف مبيعات روايته 'حياة ومغامرات مارتن تشازلويت' التي لم تبع سوى 20 الف نسخة مقارنة مع اعماله الاخرى مثل 'اوراق بيكويك' او 'حياة ومغامرات نيكولاس نيكلبي' اللتين حققتا مبيعات تراوحت ما بين 40 50 الف نسخة، وكتب عن الرواية المتواضعة في المبيعات 'اعطي تشازلويت مئة نقطة واعتقد انها من احسن رواياتي'.
حمام بارد كل صباح
مثل ابطاله كان غريبا في لبسه واطواره يستحم في صباح كل يوم بالماء البارد حتى في الجو القاسي (تذكروا خليل السكاكيني) وكان عصبي المزاج وكريما لحد التبذير. وعلى الرغم من كل هذه الصفات فقد احبه اصدقاؤه من الفنانين والمسرحيين والكتاب، وكان عندما يخرج للندن للبحث عن راحة عقلية والتمشي والتحضير للكتابة كان يدعو الى حفلة المشي هذه جيشا من الاصدقاء، مع انه في احيان كثيرة كان يجهد مرافقا من اصدقائه بالتمشي ما بين 2- 15 ميلا في المرة. وعلى الرغم من حبه للجو والماء البارد الا انه كان عرضة للاصابة بالبرد وكتب يصف حالاته بمرح قائلا 'لقد كنت ابكي طوال اليوم، وقد اصبح انفي اقصر مما كان عليه يوم الثلاثاء من كثرة مسحه المستمر'. قلنا ان ديكنز كان يعمل بجهد كبير وكان ينجز اعماله بسرعة فائقة، وانجز بعض اعماله في 18 شهرا، بل انه اكد نفسه كروائي بلا منازع في فترة اقل من خمسة اعوام، وعمله الدائب كان يجعله في احيان كثيرة بعد عودته الى المنزل يشارك في الحفلات التي كان يقيمها له الاصدقاء في العاشرة ويظل في مكتبه يكتب رواياته حتى الواحدة صباحا، وان لم يستطع فقد كان يصحو مبكرا ويبدأ عمله من الثامنة والنصف. وكان يجد وهو المشغول دائما وقتا لمساعدة كتاب مبتدئين ويأخذ بأيديهم على طريق الكتابة. جزء من جلد وعمل الكاتب المستمر كان من اجل الحصول على قوت يومه وتوفير احتياجات البيت اليومية، فمع انه كان يملك بيتا كبيرا وفرسا وعربة وكان عضوا في واحد من نوادي النخبة 'جنتلمان' الا انه كان يتعيش شهرا بشهر.
هوس بالترتيب
من غرائب ديكنز او عاداته المدهشة انه كان مهووسا بالترتيب، ترتيب مكتبه وتغيير شكل ووضع الفراش والاثاث في بيته، وحتى في حالة السفر كان يجد الوقت لان يعيد ترتيب غرفة الفندق الذي ينزل به، فقد كتب لزوجته كاثرين من غرفته في فندق بمدينة باث المعروفة باثارها الرومانية، 'طبعا رتبت حقيبتي وغرفتي قبل ان اهجع للنوم'، كان ديكنز يحب سيجاره ويحب خمره وعادة ما تحدث عن انواعه، ومن الفواكه المفضلة اليه فقد كان يحب التوت بلونه الارجواني ويحب التمر. اتسمت حياته الاجتماعية اضافة الى الحرص على تحسين وضع الفقراء بالخروج الدائم فقد كان يقضي اوقاته في المساء في مطعم او مسرح او متجولا في شوارع المدينة ينظر الى ليلها ويراقب سكانها وهم في طريقهم لبيوتهم الاغنياء في عرباتهم لقصورهم والفقراء لبيوتهم المتداعية او ملاجئهم.
منبطحا امام قصر ويندسور
ومن الحوادث المضحكة انه وهو الذي عايش زواج الملكة فيكتوريا من الامير الالماني البرت، فقد اراد ان يعبر عن حبه للملكة بطريقة غير عادية وذهب الى قصر ويندسور وانبطح على الارض امامه حيث كان المارة يمرون عليه وهم مندهشون. وبعيدا عن تصرفات ديكنز الغريبة فقد كان كما قلنا في قلب الحياة الاجتماعية الفيكتورية، ومركز الحياة الثقافية والاجتماعية، فلم يكن احيانا يجد اي ضيق عندما يطلب منه صديق ان يقود حملة لانقاذ مستشفتى او يدافع عن امرأة مسكينة اتهمت بقتل وليدها وهي تكنس وتخدم في بيت سيدتها حيث انقذها ديكنز من حبل المشنقة عندما دافع عنها في هيئة المحلفين وعين لها محاما كبيرا في المدينة، كما كان يستجيب لطلب اصدقائه كي يدعم انشاء مؤسسات كما فعل مع توماس كارلايل الذي اقنعه بحضور اجتماع لانشاء مكتبة لندن، واصبح من اكثر المتحمسين لها ومن المشاركين الماليين في دعمها. ولانه وجه لندن المعروف والفذ فقد كان محط اهتمام الرسامين الذين يقفون على بابه كي يرسموه.
ديكنز المخادع
عادات وحالات الكاتب ديكنز المعروفة كانت كافية لان تخلده في الذاكرة الشعبية تماما مثلما اجتازت اعماله السنوات والحقب، لكن الحياة العامة للكاتب بكل ما فيها من دهشة وغرابة وحرص على المجتمع لا تغني عن قراءة حياته الخاصة وفهم شخصيته من الداخل، وعالمه الابداعي. فديكنز مثل شكسبير الذي يعتبر من اهم الادباء الانكليز على مدى العصور كان محط اهتمام الكتاب والباحثين الاكاديميين بل ان الكتابة عن ديكنز بدأت وهو بعد لم يدفن، وفي الغالب ما اخذ كاتب جانبا من حياة الكاتب او ملمحا من ملامحه الابداعية، فقد كان ديكنز صحافيا ومراسلا يرسل تقاريره عن الانتخابات ونقاشات البرلمان، ومارس الكتابة الصحافية المقالات، كما انه كتب للمسرح والقصة القصيرة التي بدأ كتابتها عام 1830 اضافة لمنجزه الروائي. وهناك من حاول فهم اسراره وعلاقاته العاطفية خاصة مع ممثلات زمنه مثل ايلين تيرنان، وبعضهم حاول قراءة حياته بشكل كامل. وفي هذا الاتجاه يجد الكاتب اي كاتب معضلة في كتابة سيرة مكتملة عن ديكنز فما كتب عنه يفوق الحصر تماما مثل الادبيات التي كتبت عن شكسبير، وتظل اي سيرة له منقوصة، ويكتشف من يغامر في الكتابة عنه ان ديكنز كان استاذا في فن الخداع، ولا ينطبق عليه مفهوم علاقة الكاتب بأعماله الا بقدر يسير، فهو لم يضمن الكثير من ملامحه الشخصية وحياته فيها، ويعتقد النقاد ان شخصية ديفيد كوربرفيلد، الاقرب له حيث يرون ان الحرفين الاولين من اسم البطل الروائي ان وضعت بالعكس فقد تشير للكاتب نفسه، كما وجدوا ملامح شخصية عن الكاتب في شخص 'دومبوي' في رواية 'دومبوي وولده' وغير ذلك يجد الكتاب صعوبة في الامساك بشخصيته، على الاقل هذا رأي كاتب احدى سيره التي ستصدر الاسبوع القادم هو روبرت دوغلاس فيرهيرست- ويرى الكاتب هذا ان وصف ليتون ستارتشي للعصر الفيكتوري ينطبق على ديكنز حيث كتب يقول انه 'لن تتم كتابة تاريخ العصر الفيكتوري بشكل كامل' ليس من قلة في المعلومات ولكن لتوفرها حتى التخمة. وتعود اولى المحاولات عن ديكنز الى عامي 1972- 1873 والتي كتبها صديق الروائي نفسه جون فورستر.
احبته السينما
هناك ملمح مهم في اعمال ديكنز هي مواءمتها للمعالجة الدرامية، فمعظم اعماله عالجتها سينما هوليوود منذ الثلاثينيات من القرن الماضي كما تم تقديم مسلسلات درامية في التلفزيون البريطاني بناء على افلامه، وعولجت 'اوليفر تويست' في دراما موسيقية شهيرة، ومثلت مسرحيات على مسارح لندن مثل اديلفي، بل وشاهد ديكنز تمثيل اعماله حيث لعبت الممثلة الشهيرة في وقتها ماري آن كيلي دورا في واحدة من مسرحياته.
لماذا نكتب عن ديكنز بهذه الطريقة، نكتب عنه لان الاحتفال بمرور المئوية الثانية على ولادته ستبدأ قريبا وفي العام المقبل الذي اعتبرته المؤسسة الثقافية في بريطانيا عام ديكنز وسيشهد احتفالات ماراثونية 'الالمبياد ستعقد ايضا في لندن' في كل انحاء بريطانيا وفي عدد من مدن العالم، نيويورك خاصة انه زار امريكا مرتين والتقى بعدد من كتابها الكبار ليس اقلهم واشنطن ايرفنج صاحب قصص الحمراء وسقوط غرناطة، وفي باريس التي قضى فيها فترات وزارها مرات. وستصدر في هذا الاطار عدة من الكتب التي تحاول تحليل عالم ديكنز وقراءته في ضوء ما كتب عنه وما هو متوفر، ومنها الكتاب الذي اشير اليه اعلاه لدوغلاس فيرهرست 'ديكنز الجذاب'، واخر لكلير تومالين 'تشارلس ديكنز: حياة' واخر للوسينادا هوكر 'تشارلس ديكنز'، فيما كتب سايمون كالو عن انجاز ديكنز المسرحي. هذا في مجال الكتب، اما الصحف فقد بدأت حملتها مبكرا في التعريف بالكاتب واجراء استفتاء عن احسن اعماله واستطلعت اراء كتاب الذين تحدثوا عن العمل المفضل لكل واحد منهم كما نشر في الملحق الادبي لصحيفة 'غارديان'. وستخصص هيئة الاذاعة البريطانية 'بي بي سي' عددا من الافلام الوثائقية، وفيلما جديدا يعالج رواية ' الامال العظيمة' واخر قائما على 'لغز ادوين درود' وفيلم عن علاقته الطويلة مع الفنانة الين تيرنان.
في النهاية، ان ما يثير الدهشة والاستغراب في حياة ديكنز الابداعية والروائية هي الطريقة التي ادت بكاتب صحافي، متواضع لان يتحول وفي ظرف خمسة اعوام اي من نشر عمله الاول 'اوراق بيكويك' (1836) الى اشهر كاتب وروائي في بريطانيا واخترقت رواياته الحدود وترجمت فيما بعد لكل لغات العالم، ربما كمن السر في العمل الجاد الذي وصل في احيان كثيرة حد الاجهاد.

 

ناقد فلسطيني بالقدس العربي