أحلام حمامة بيضاء توشح ريشها بحصاد القمح الذهبي، هكذا كنت أصف بلدة (الِلبن الشرقية) حين مروري من جوارها مغادراً رام الله باتجاه بلدات فلسطين ومدنها شمال الضّفة الغربية للنهر المقدس أو عائداً إليها، وفي كل مرة مررت بجوار اللِبن الشرقية كانت تشدني مروج القثاء (المقاثي) وبيادر القمح لأنظر إليها من نافذة السيارة التي أركبها، وأنظر إلى تلك البيوت التي تعتلي سفوح التلال من البعيد، لكن لم يسمح الظرف أن أدخل البلدة أو أجول فيها ولا مرة، فكنت أكتفي بالنظر بشوق لهذه الحمامة البيضاء البهية، حتى كان ذلك اليوم الذي وجهت لي الدعوة لزيارة اللبن الشرقية من قِبل رئيس مجلسها البلدي الأخ جمال ضراغمة (أبو علاء)، وكان قد اطلع عبر وسائل الإعلام والشبكة العنكبوتية، على بعض من سلسلة (صباحكم أجمل) التي أكتبها منذ سنوات طويلة، والتي توثق المكان والزمان والتراث بالكلمة والصورة، فدفعته غيرته ومحبته لبلدته للاتصال بي ودعوتي لزيارة البلدة، فحقق رغبة كامنة في روحي تنتظر لحظة الانطلاق.
وافقت على الدعوة، ولكني طلبت التأجيل قليلاً حتى أتمكن من إنجاز دعوات أخرى كنت قد ارتبطت بها في رحاب الوطن الجميل، حتى جاء يوم الثلاثاء/ الحادي والعشرون من حزيران، حيث لبيت الدعوة بفرح، وغادرت رام الله صباحاً هامساً لها: لن أتأخر فسأعود في المساء فلا تقلقي، وأعدك أني لن أغيب عدة أيام كما اعتدت في جولاتي الأخيرة، فابتسمت وودعتني بكل حنو وحب.
ما أن اقتربت السيارة التي ركبت بها من مشارف اللِبن حتى اتصلت بصديقي عبد الحليم ضراغمة أعلمه باقترابي، فوجدته ينتظرني على بوابة البلدة، فنـزلت من السيارة وسلمنا على بعضنا بحرارة، وركبت بسيارته ولم أترك الفرصة تفوتني بالتقاط الصور لمدخل البلدة والجمال، لنتجه معاً إلى المجلس البلدي للقاء رئيس المجلس الذي استقبلني بحرارة وطيبة وبشاشة وجه تدل على خلق طيب، وما أن وصلت حتى حضر الأخ عبد الجبار ضراغمة (أبو خالد) شقيق أصدقائي عبد الرحيم وعبد الحليم، مرحباً ومصرّاً على دعوتنا جميعاً للغداء، فشكرته بمحبة فقد أصر بكرم وأصالة الأخ رئيس المجلس على الغداء عنده لجميع الحضور من قبل أن أصل البلدة، وحضر الأستاذ حامد الهندي وكان لقاءً طيبًا فاحتسينا القهوة لنبدأ الجولة في الِلبن تلالا وسهول وبيادر، تاريخ وتراث وحضارة، بعد ان اتفقنا أن نبدأ الجولة من الأطراف المرتفعة لنعود بعدها إلى القلب حيث ترقد الحمامة البيضاء، اللبن الشرقية بجمالها وتاريخها وأهلها المضيافين والرائعين.
اللبن بلدة ضاربة في القدم، ويقال إن اسمها جاء من اللغة السريانية (لبانوتا) وتعني صناعة اللبن، وإن لم تتوفر معلومات كثيرة عن تاريخ البلدة، إلا أن مشاهداتي للكهوف المحفورة في التلال تؤكد أن تاريخ البلدة يسبق الفترة الرومانية، واللبن الشرقية سميت بالشرقية لتمييزها عن اللبن الغربية، وهي بلدة صغيرة المساحة على الطريق بين نابلس ورام الله وتقع جنوب مدينة نابلس على مسافة تقارب الخمسة والعشرين كيلومتراً، وتحيط بها مجموعة من الخرب والجبال ولعل أعلاها جبل طاروجة، وقريب منها خربة عمورية وتحيط بها أراض تابعة لبلدات سلفيت وعبوين وعارورة، وواضح من البلدة القديمة التي تقع آثارها تحت البلدة الحالية، أن اللبن كان لها تاريخ ودور مميز وموقع استراتيجي يسيطر على الطريق باتجاه نابلس.
بدأت جولتي بصحبة الإخوة جمال ضراغمة رئيس المجلس وصديقي عبد الحليم ضراغمة والأستاذ حامد الهندي بالصعود إلى جبل طاروجة، وهناك فوجئت بجمال التلة وحجم الأشجار فيها وإطلالتها البهية والمرتفعة، فهي تصلح لأن تكون نقطة جذب سياحية، وبالإمكان استثمار المنطقة لمنتجع سياحي لطيب الهواء فيها وارتفاعها، وفيها يقع مقام مجهول صاحبه ويقول أهل المنطقة إنه من بلدة عرورة، ويسمى (طاروجة) وهي مشتقة من عبارة (طار وجاء)، ومعتمدة على أسطورة منتشرة عن شيخ مات وحين حاولوا دفنه طار النعش إلى منطقة أخرى ودفن فيها، فنجد هذه الأسطورة في دمشق في حي الساروجة، وهي مشتقة من (سار وجاء) وفي فلوجة فلسطين (فل وجاء) وفي فلوجة العراق أيضاً، وفي مناطق أخرى في الوطن العربي، وجرى الاشتقاق من اللهجة المحكية (طار وأجى، فل وأجى، سار وأجى)، وبكل أسف وجدت المقام مهمل، حيث سكن البدو الرحل المنطقة وحولوا المقام إلى مخزن لمخلفات الأغنام والتبن، والمنطقة بأكملها لمنطقة ملوثة بالأوساخ، مضافاً إلى ذلك أن القبر جرى هدمه، فهل أجد وأهل المنطقة جهة رسمية تستمع وتعمل على المحافظة على هذا المكان الجميل والمتميز
مضافاً إلى ذلك تشوّه الرؤية وتمزق الروح وتثير الغضب المستوطنات الاحتلالية، حيث تقع مستوطنة (معاليه لبونه) وهي قامت على الاستيلاء على أراض من اللبن الشرقية، وتعني (اللبن العليا) في محاولة لسرقة الاسم التاريخي للمنطقة والبلدة ونسبتها إلى تاريخ عبري غير موجود في المنطقة، وكذلك مستوطنة (عيليه) والأصل العربي للاسم هو (وادي علي) في محاولة أخرى لتزوير التاريخ، ومقامة على أراض تتبع اللبن الشرقية والساوية. من طاروجة نزلنا باتجاه خربة عمورية، وهي بلدة صغيرة جداً وتتبع مجلس بلدي اللبن، وعدد سكانها قليل جداً، ، ويعتقد أن اسم (عمورية) تحريف لكلمة (عمرية) السريانية، ومعناها سكان الأديرة من الرهبان، وأعتقد أن هذا التفسير صحيح حيث شاهدت أثناء تجوالي في المنطقة كهف قديم ولكنه مهمل، ومدخله تحول إلى مكب نفايات، وقد دخلت إلى داخل الكهف فوجدته يدل على أن المنطقة كانت مسكونة، فهو على شكل مساحة مربعة، وتوجد حفرية في الصخر على جوانبه تدل أنها مكان للجلوس، وخلفها على ثلاثة جوانب أيضاً حفريات على شكل أقواس بالصخر، ربما كانت خوابي للغذاء والتخزين، واستمعت إلى حكاية أن السكان وجدوا في هذه المغارة صندوقاً حجرياً مغلقاً، فثار نزاع بينهم، وأن موشيه دايان وزير الدفاع الصهيوني بتلك الفترة حضر بنفسه مع قوة من الجيش واستولوا على هذا الصندوق ولم يعرف ما بداخله، والسؤال الذي ثار في داخلي: من أبلغ الاحتلال عن هذا الصندوق ليحضروا بسرعة ومع طائرة مروحية ويستولوا عليه؟ كما توجد في المنطقة العديد من هذه الكهوف والآثار، وإن جرى توجه حقيقي من الجهات الرسمية المعنية بذلك، فبالتأكيد سيتم اكتشاف آثار كثيرة تروي لنا الحكاية.
من خربة عمورية انحدرنا باتجاه خربة (دار ذيب) وقسم منها يسمى (خربة دار الهندي) وهم يعودون بنسبهم إلى دار ذيب، حيث أوقفنا السيارة في منطقة مرتفعة لصعوبة نزولها المنحدر ووعورة الأراضي، ونزلنا سيراً على الأقدام على الرغم من ارتفاع درجة الحرارة، إلا أن النسمات الغربية خففت علينا بعض من الجهد، وكان المشهد العام رائعاً بجماله، حيث الطبيعة الخلابة وأشجار الزيتون، ومشهد الوادي الذي كانت تنتشر فيه ينابيع المياه، وهذه الخربة سيكون لها حديث في الحلقة القادمة وحكاية التاريخ وأسطورة الذهب ولصوص الآثار.
أقف إلى نافذة صومعتي في هذا الصباح الجميل بجمال رام الله، أحتسي فنجان قهوتي الصباحية وروح طيفي ترافقني، أستذكر رحلة الأمس وحكاية التاريخ في اللبن الشرقية ومحيطها، فأرى أن بلادنا عبارة عن متحف تاريخي، كل ما فيها يروي حكايات وروايات، وكلها تؤكد على تاريخ حضاري متميز وجميل، منذ وطأت أقدام أجدادنا من كنعان ويبوس هذه الأراضي التي عمروها ونقشوا بعرقهم وبأياديهم العارية الحكاية، وأرى حجم الإهمال تجاه هذا التاريخ إضافة إلى دور الاحتلال؛ فأشعر بالألم، ولكني أرى الأمل من جانب آخر في السواعد الشابة والحوريات الكنعانيات، فهم مستقبلنا المشرق الذي سيعيد بناء الحكاية كما هي الحقيقة، ويبنون لنا الصباح الأجمل، وأستمع لشدو فيروز وهي تشدوا:
(بيضل فيها اتنين، عيون حلوه وايد يعمروا من جديد، ضيعتي الخضرا ع مد العين، وزغيره ومشيره ع الغيم بتزوغ وبتحكي عصافيرها، شو بيمرقوا عليها رياح وضيم وبتضلها تلاقي نواطيرها).
فحتى ألتقي بكم في استكمال حكاية الحمامة البيضاء والحلقة القادمة أهمس لكم: ليكن صباحكم أجمل.
(رام الله 22/9/2011)