تكتب الروائية المصرية تجليات الغربة في وطنها مصر وفي سلطنة عمان حيث ترصد ما تواجهه المرأة العربية من إشكاليات تتضافر مع أحداث سياسية تؤرق وعي الراوية. ويمثل سرد التفاصيل رغبة في إظهار ألوان طيف التجارب. بينما يبرز الموت كحدث لا يغلق الدائرة بل يدفع للبحث عن إمكانيات جديدة في الحياة.

بيوت بيضاء (رواية)

هدى توفيق

«حسبك أن تكتب حين تحس بالضرورة، لا ينبغي أن تقترف خطأ، ففي عالم الكتابة لا يسعفك أحد»

بورخيس (مرآة الحبر)

إهداء روائي
إلى فاطمة البلوشية وفاطمة عبد الناصر.. أقوى ضوأين في ليلي الحالك.

 

الفصل الأول
صديقتي السرية المفضلة
Not yet
ديسمبر 2008
ها نحن نغلق الدفتر لعام 2008 بمحرقة غزة، التي يتبوأ تحت عنوانها العديد من الأكليشيهات، لذلك الجرح الغائر مساحة تسري من جديد على نحو لا نهائي.

"الفنانون يتضامنون مع غزة(1).

-  لا للتطبيع... لا للعدوان... نعم للوحدة وفتح المعابر.

- أبطال غزة يروون مشاهد من يوم القيامة.

- غزة... وجع في القلب.

- مثقفون وأدباء، الحكام العرب... متخاذلون، متواطئون، أنذال.

- مجزرة غزة كشفت خيبة الأنظمة العربية.

- البابا شنودة ألغى احتفالات عيد الميلاد تضامنًا مع غزة.

- حصيلة مجزرة غزة في اليوم السابع 428 شهيدًا و2200 جريح.

إسرائيل تحاصر الأقصى ... والأمن المصري يمنع المصلين من دخول مسجدي الأزهر والفتح.

كتب مجموعة من الصحفيين(2) وشهدت مصر للمرة الأولى منذ سنوات طويلة مظاهرات بهذا العدد الضخم في ميدان رمسيس، والشوارع المتفرعة منه، رغم الملاحقات الأمنية التي جعلت المشهد يبدو كأنه حرب شوارع، غير أن المشهد الآتي الذي سيستمر في الذاكرة المصرية لسنوات هو مشهد اقتحام أفراد الأمن الذين يرتدون الملابس المدنية، الجامع الأزهر بالأحذية، لملاحقة المصريين واعتقالهم ومنعهم من التظاهر.

- 500 ألف قبطي بسوهاج، صلوا من أجل غزة في أثناء احتفالهم بعيد الميلاد وطالبوا بوقف العدوان.

الهجمات الإسرائيلية مستمرة... وغزة مأساة وخلافات الحكام العرب، ومظاهرات الغضب مشتعلة... ومصر الرسمية باردة!

وأخيرًا ما نشيت لفت نظري، وأغرقني بضحكة بائسة شديدة المرارة.

- البيت الأبيض ينعي قطة ابنتَي بوش... ويتجاهل ضحايا غزة.

في زمن مضى من عمري الساري كسريان كل الأشياء، تقريبًا في بدايات الثلاثينيات كنت كبقية أفراد بنات الطبقة الوسطى الحاصلات على المؤهلات العليا، لا أهتم كثيرًا بالسياسة، إلاّ بالمصادفة لمعرفة الأكثر أهمية من إحدى الزميلات أو الزملاء المعتادين قراءة الجرائد اليومية، وإن كانت تلك العادة، وهي شراء الجرائد اليومية، قد بدأت تختفي وتتلاشى في السنوات الأخيرة، لا أعرف بالضبط السبب الحقيقي لذلك، ربما ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة الذي أوشك أن يقطع أنفاس أبناء مصر المعروف والمشاع عنهم أنهم أصحاب النفس الطويل، أو ربما عدم الثقة في أي شيء تقوله الحكومة عن تحسين الأوضاع، أو بغضًا ومقتًا لما يحدث في إسرائيل ولبنان والعراق وأفغانستان وباكستان وكل الدول المجاورة. لدينا كل ما يدعو إلى عدم قراءة الجرائد، لكنني عندما قابلت صديقتي السرية المفضلة (وهذا المصطلح له خصوصية شديدة لديَّ عن حكايات مثيرة ستكون ما بيننا من ثرثرة)، تمَّت تلك المقابلة بعد عودتي مباشرة من إحدى الدول العربية حيث قطنت بها نحو ثلاثة أعوام، وكان حينذاك قد اكتمل عقدي الثالث، بل واكتمل معه معظم آرائي في تلك الحياة القصيرة.

تقابلنا صدفة عند عودتي من الرحلة للعمل مرة أخرى في إحدى المدارس الحكومية بشعة التوصيف، وكانت تعمل أعمالاً حسابية خاصَّة بإدارة شؤون العاملين، فهي خريجة كلية التجارة، دفعة قديمة، فقد أوشكت على إتمامها منتصف الأربعينيات، ولم تتزوج ولا تريد أن تتزوج.

هذه الصديقة السرية المفضلة، مفضلة لكونها مغرمة بالجلوس والتحاور معي لفترات طويلة، نأكل ونشرب ونتحاور ونتعارك. أنا أيضًا ليس لي زوج مثلها تمامًا، أو أحد يشاركني الأوقات الضائعة، صديقتي كثيرة الجدل أحيانًا إلى حد الصراخ عندما تأخذها الحماسة الوطنية، هذا الجزء الذي أصبح منسيًّا تمامًا في وجدان أي منا، على الرغم من ذلك صديقتي ترى أن الصراخ أفضل من اليأس التامّ قائلة ما قرأته وأفزعها:

تحمل على عاتقها إعلان النبوءة السيئة.(3) لا دولة في فلسطين، أو بمعنى آخر أخف وطأة، الدولة الفلسطينية ليست مؤكدة، وليس هناك ما يبشر بها حتى اليوم. وحينما تشعر أن سكينًا حادًّا سيذبحها بقدر ذبح دجاجة تفرفر جرَّاءَ سكين الذبح، تعود قائلة، يملؤها شعور بالألم(4) التاريخ البشري ليس هو تاريخ تطور الثقافات، ولكن هو تاريخ تطور الأسلحة. وعندما تجدني بُهِتُّ وغرقت في الصمت والاستغراب، ما علاقة هذا بذاك الحديث؟! هل اليأس حوَّلَك إلى شخص غير منطقي، ومرتَّب في قول الأقاويل التي تدَّعينها؟ حينئذ تشعر بما أريد الإيحاء به. فتهبُّ فجأة واقفة ضاحكة وقد تغير الموضوع تمامًا بقولها:

- أحضرت لك اليوم هدية ثمينة.

أبتسم نصف ابتسامة ولا أردّ.

- لن تتوقعي ما هي... إذن أغمضي عينيكِ.

أغمضهما نصف إغماضة بمكر حتى أرى جزءًا من الهدية، وأستخدم حدسي في تخمين ما تلك الهدية.

إنها فيلم "المقاتلون حتى الموت" (المجالد)، راسل كرو. هذا الفيلم العبقري، المفضَّل لدينا أنا وصديقتي، كونه أكثر من فيلم ممتع ومثير وأنه أوحى إلينا بصنع وجهات نظر في الحياة، وخلصنا منه إلى قاعدة سرية بها شفرة لا يعلم فكَّها غيري أنا، وصديقتي المفضلة، وهو كلمة "not yet" (ليس بعد). كل الأشياء والحاجات والآمال ما لها من وصول، كل البيانات والمبادئ والحكايات، وأهم القيم تسعى للخروج من كلمة "not yet" حتى تتم، ومهما مرت الأمور وحاولت استصلاح ما يبدو عديم الفائدة. هناك حائط واحد نقف أمامه، هو الموت. لكن في ذلك الفيلم حتى الموت أكثر المعاني خلودًا ينتظر تلك الكلمة "not yet" حتى يتحقق ثانية في الحياة الأخرى، هكذا يقولون لنا في التاريخ والأسلاف وعظماء الماضي والأديان الثلاثة يدَّعون أن عالمًا آخر ينتظرنا مع أحبائنا وأعدائنا، ولكن، ليس بعد.

ترى صديقتي الفيلسوفة التي تدَّعي المعرفة بمعانٍ عميقة عن أسرار الحياة البعيدة حقيقة أننا نحن البشر ملح الأرض، وغبارها وظلالها وبقاؤها الأبدي في زمن بعيد غريب عنا نسمع عنه ونشاهده ونراه فقط في الأفلام بخيال ومذاق وتكوينات مختلفة تمامًا عن سلوكنا وهيئتنا الآن، هذا الماضي السحيق يصنع دهشتنا الآن بالسؤال، هل كان حقًّا هؤلاء المقاتلون "عبيد روما" الذين كان ينحصر واجبهم في الحياة في أن يقاتلوا حتى الموت في ساحات خاصَّة لمتعة العامة واستثارة المتفرجين؟ من سيفوز بالحرية وينهي الصراع دون أن يموت؟ عقلي الآن المُمَنهَج، المنظَّم، يدعو إلى الإنسانية في التعامل البشري، ولا يتخيل وجود هؤلاء (عبيد روما).

لكن مع مرور كل تلك الأوقات من مسار تقدم البشرية، وتهذيب الإنسان، ودفعه إلى احترام أخيه الإنسان، أرى أنه أصبح الآن أقوى وأقرب إلى النفس مَن يُطلَق عليهم "بشر العصر الحديث"، فروما القديمة التي كانت تحبس عبيدها في أقفاص حديدية وخشبية مع الحيوانات، هي مصر الحديثة الآن، لا اختلاف كبير؛ نحن -المقاتلين حتى الموت، من أجل أن نحيا فقط، من أجل كفاح مرير لسدِّ رمق الحياة التي أصبحت في خصام عنيد لننال حتى متطلباتنا اليومية الضرورية- ليس بيننا وبين عبيد روما، في روما القديمة، بل في الإمبراطورية الرومانية العظيمة الشأن في حينها، فرق كبير؛ هم يموتون في ساحة الصراع، ونحن نموت في ساحة الاختناق اليومي داخل منازلنا المتهالكة، خارج شوارع ضاقت وضجت منا ومن السيارات، فقد أصبحنا بشرًا كثيرين ومن كثرتهم وتكاثرهم غير المجدي اختُلق شعار "حزب جديد معارض للحياة". قرأت عنه في إحدى الجرائد، وهو حزب جديد ظهر في مصر، لا معارض سياسات، ولا يطلب علاوات، بل يفارق الحياة ذاتها، شعاره الوحيد الراحة الأبدية، وحزب المنتحرين الذين تتزايد أعدادهم بين الشباب العاطلين عن العمل (رصد استجواب تقدم به أحد النواب الأسبوع الماضي لمجلس الشعب "أن مصر شهدت انتحار 12 ألف شاب خلال أربعة الأعوام السابقة بسبب البطالة التي يعاني منها ما بين مليونين وستة ملايين معظمهم شباب")، يظل دون عمل أو أمل في الزواج حتى سن الأربعين، فلا يبقى أمام العديد منهم سوى(5) حزب معارضة الحياة الذي جدد الموت به شبابه، وقد نشرت الصحف في مطلع ديسمبر العام الماضي 2008، أن ربة منزل في قرية شريف باشا بمحافظة بني سويف، عثرت على جثة زوجها ملقاة داخل حجرته، وقالت الزوجة صابرين محمد إن زوجها جابر سعيد، البالغ من العمر 45 سنة، كان يعمل مدرسًا، لكن الديون كانت تطارده من كل مكان، وبحث عن فرصة عمل إضافي فلم يجد، ولم يكن راتبه (مئتان وخمسون جنيهًا) يكفي مصاريف بيته لأسبوع واحد، واقترض من أقاربه، ومن البنوك، وعجز عن سداد ديونه، ورصدت جهات مختصة أن أعلى نسبة في حالات الانتحار، تتم في شهر رمضان، والفترة التي تسبق دخول الأولاد المدارس، نظرًا إلى احتياجات العائلات في تلك الأوقات، والضغوط المالية التي تعاني منها. وبعد كل هذا يا صديقتي المفضلة، ألا ترين أننا مقاتلون حتى الموت؟ لا لنفوز بالحرية، بل لنفوز بالعيش، وأن نحيا، فتلك الكلمة، الحياة، التي هي من روائع الكلمات رغم مرورها عابرة وسط أحاديثنا العابرة المعتادة، الجوفاء، لكنها في غالب الظن، معنى غائر الوجود، الحياة تبدو لي كنور متوهج، مشع يتلألأ مثل الشمس، ينبض مثل القلب البصير يدرك رؤية ما هو على وشك السقوط، وحالات متعددة ومشتتة من المكابدة المستمرة إلى ما لا نهاية. وأنت أيها الإنسان رسولنا على تلك الأرض، عند شروق الشمس الكبير لا بد لك من أن تكون موجودًا تدب بقدميك على الأرض بخطوات هادئة ثابتة، راسخة، قوية، متجددة الحضور، تنظر إلى السماء وتتنفس الصعداء، ترفع صوتك لتتفوه بما يحلو لك، وتدعو أن تصل توسلاتك إلى بيت الرب، وتلهو كما تريد في ساعات راحتك. هل هذا يتحقق؟ لك ولي وللآخر؟ هل أنت موجود وسط هذا السمو الحياتي؟

هم يعرفون ما مصر، هي الجماهير، هي الغوغاء المترعة، القاطنة في كل الأزقة والحارات، أمام المساجد، والمصلَّيات، الصورة المصغرة المنتشرة والمنتصبة في بداية أحيائنا وآخرها كالعلامة والشاهد على رسوخ الإيمان في كل الثغرات، وهم في حقيقة الأمر لا يضمرون الكثير لهذا الاعتقاد الذي يدفعهم إلى نفاد الصبر أو الصبر غير المحتمل.

مصر هي الصبية الذين يلعبون الكره في أي مساحة خالية حتى لو كانت خرابة، حلم النجومية والمال، والفهلوة. مصر هي الفتيات العابثات الغائرات داخل البنطلونات الجينز الضيقة والباديهات اللصيقة بالجسم، والجديد من الكارينا والفيست والـ"نصف حجاب" والـ"نصف مكياج"، يتوِّجهُنَّ النقاب والخمار السعودي وما يخفيه. مصر هي كثير من الجرائد والمجلات معيار الديمقراطية التي أصبحنا نلوكها مثل العلكة تحت وطأة انتشار البرامج التليفزيونية الحرة والجريئة بلغة الإفصاح والاقتحام والتهليل والصخب غير المبرر وابتسامات أخيرة للمذيع أو المذيعة أمام الكاميرا حتى تبدو الأمور ليست سيئة إلى حد كبير، وراءها سرب من التمثيليات البليدة، وأغاني العري والابتذال الآتي لنا بكل أشكاله من جيراننا بل ومن داخلنا نحن. تلك هي مصر التي تنتظر الطاعون في أي لحظة خائنة عن الزمن والحرص، تنتظر الموت وتستقبله بكل حفاوة كما يستقبله متفرجو جماهير روما أمام العرض القتالي لعبيد روما. جماهير مصر مستغرقون في متابعة المانشيتات الصباحية، والفضائية والهتافات هنا وهناك، لا مثيل لسخونتها الممهورة من قلوب موجوعة، فهي في حالة شراهة من الحرمان، إنها كلها ألعاب لا تحصد غير صراع مقيت قاتل، زاهق للنفوس في نهاية الأمر، أليست جماهير مصر مثل جماهير روما الغوغاء الذين أغواهم ملكهم الأحمق كوميدس بالألعاب، والشعوذة التي تسليهم وتسلبهم حريتهم تحت تراب الكوليزيوم؟ يهتفون برؤية الدم والمبارزة الفاتكة وسط صراخ حاد للوصول إلى ذروة الحدث وتلاقى المصارعين في حلبة القتال تلاقيًا دمويًّا، حادًّ وعنيفًا باستفزاز وإثارة جلبتها هتافات الجماهير المذعورة التي تعوي صراخا وبأسًا وغضبًا داخل جوارحهم وقلوبهم المكلومة بإحباط اللا تغيير، لا أمل حتى يزأروا: اقتل.. اقتل.. اقتل.

أليس الأمر متساويًا بين غوغاء روما التي تعشق تراب الكوليزيوم وغوغاء مصر التي تعشق أحجار الفراعنة؟

إن تراب مدرَّج روما القديم هو القلب المقهور لروما، وذلك القلب المقهور هو جماهير روما، قلوبها تمتلئ برغبة الخوف، والتساؤل، تركيبة قوية لصنع القهر، العجز، الإحباط، وبعدها حين يموت ما يكفي من الرجال في حلبة المصارعة، من الممكن أن تحظى بحريتك، وبدل أن تصبح جنديًّا في المعركة شعاره القوة والشرف، تصبح مُجَالِدًا (مُصَارِعًا) شعاره "اقتل"، اقتل فهذا مفتاحك للحرية، وسيكون قول العبد، أمام العبد الآخر في ساحة الصراع (المصارعة):

- نحن الذين نوشك على الموت نحيِّيك.

ولكن يبقى السؤال الغائر في مضمونه ومغزاه: هل لي موطن جيِّد، يستحق القتال من أجله، سواء كنت جنديًّا أو عبدًا أو مصارعًا؟ هل تهتف زاعقًا بعزم: "النصر لروما" أم "النصر للهزيمة مرة أخرى"؟ فأنا أشعر بنفسي تبكي مرارًا للتراجع والتواطؤ والنيل من كرامتي لأحظى بحقي. إنها هزيمة كبيرة أمام نفسي الضالَّة والضعيفة...

أليست روما هي مصر؟

فتراب مقابر الفراعنة هو أيضًا القلب المقهور لمصر وأبنائها. أمتلئ بالحيرة والغباء في سؤالي هذا: كيف صنعتم تلك الحضارة يا أجدادي؟ وهل نحن حقًّا أحفادكم، من نسلكم الخارق والعبقري؟ أم أنه القدر العبثي الذي جاء بهم، ليغزوا تلك الأرض السوداء الخصبة، حتى نمت وتشبعت بمائها، واخترقت الشقوق والثنايا فأنتجت ذلك النتاج الهائل من البشر الذين فعلوا فعلتهم الآثمة مع كل شيء وكل كائن فكان ما كان. وبعد هدوء العاصفة، نظروا إلى الخلف فوجدوا مصر الفراعنة تنظر إليهم، باستحياء وغرور: عجبًا! من أنتم؟! فصاحوا مجيبين: نحن أبناء مصر، نحن أبناؤكم أيتها الفراعنة، ألسنا هنا؟ ألسنا من نعبث بكل محتوياتك المطمورة في كل قرى مصر ومحافظاتها، نحن شاهدو عصرك وأحفادك، نحن عاشقون مغرمون بتلك الكنوز الحجرية، التي لا تجلب غير الفخر، والاحترام، وجني الثروة أمام كل الآخرين في كل أنحاء العالم. نحن قلبك المقهور، وأنت عزاؤنا، عزاء تخلُّفنا وتراجعنا، وكلما مر السؤال اللعين في عقلي "كيف يمكن لي جعل الأمور مختلفة؟ لقد رحل عنِّي ذلك الرجل، هل تذكر إحساسك وأنت تحظى بالثقة؟ بأنك ابن تلك الحضارة، الثقة في تلك الأحجار، والأحجار هي التاريخ، هي الميثاق المؤكد صنعَ الاحترام.

مدافن الأسلاف، وحاجاتهم، وكل المظاهر القديمة، والتصورات عن صنع أفكار كالخلود، والعظمة، والمجد، والحضارة، حتى يأتي السؤال الحقيقي ومن أنا الآن لأثق ويثق بي أحد، وأنا أشعر دائمًا بالخطر كلما أردت أن أصبح رجلاً جيدًا في وطن؟

هم في نهاية الأمر يعرفون الكثير عن كيفية إغواء وإغراء الجماهير للتأثير عليهم لتجردهم من حريتهم، إن شعوذة الجرائد، والفضائيات، والتدين الشكلي، ومغامرات الكمبيوتر، والفقر والبطالة والمخدرات، وأهمها الكفاح من أجل العيش، سوف تشغلهم عن ذلك. إنها ألعاب وفي بعض الأحيان نحاول أن نبعد عن كل هذا، فنسمع حفيفًا غريبًا من الصمت، لعله صخب الشعوذة. فنحن الجماهير، نحن الغوغاء، نحن البشر المساكين، لسنا سوى خيالات، وعرائس ماريونت وغبار يتلاشى على الدوام خلال مرور الأيام، كل الأيام.

مدينتي الصغيرة، تلك البلدة البعيدة التي أقطن بها أنا وصديقتي السرية المفضلة، مدينتي أشبه ببلدة قروية، ريف تمدن فأصبح مسخًا. وقد تَفَشَّت ظاهرة الحجاب، تقريبًا لا توجد مسلمة لا ترتدي الحجاب العاديَّ الشكلاني الذي يحمل جميع مظاهر الموضة الجديدة من الأزياء الحديثة، وأخريات يرتدين النقاب والإسدال والخمار كل بمعاييره، غير ذلك هن مسيحيات وهن ينتشرن بكثرة في صعيد مصر وخصوصًا محافظتي سوهاج وأسيوط. فنحن بدء الصعيد. صعيد مختلط من الفلاحين والأعراب والصعايدة.

وإحدى العلامات المميزة لشباب وشابات مدينتي حمل أرق وأحدث الأنواع من المحمول، واقتناء الكانز تلازمه شرائح الشيبس، واستكمالاً لتلك الملاحظات الشبابية حمل لاب توب، وارتياد التاكسي الذي ظهر حديثًا من خمس سنوات رغم صغر شوارع مدينتي ومحدوديتها.

معظم أحياء تلك البلدة القريبة من القاهرة والبعيدة عنها، ويأتي بعدها الحقيقي في مضمون تلك المدينة الشاردة القائمة في خيالي، التي هي أشبه ببقعة من الزيت الراكد، مستنقع لا يتحرك، لا يطمح، لا يفعل الكثير حتى في أحلك وأصعب المواقف غير الابتسامات البلهاء واللا مبالية، هي بعيدة عن كل الخيال والأفكار، والطموحات تهيم في مخيلتي كفكرة ماتت من زمن بعيد.

تتناثر أحياؤها السكنية الحديثة الطراز بأشكال مختلفة من تقنيات العصر الحديث بمنزل حسن البناء بحلية الرخام والقاشاني، والبُسُط الصوفية الدقيقة فوق الجدران، وعلى الأرض سجادات ملونة للحرم المكي والمدينة المنورة، وغيرها من الرسومات الإسلامية، مع وجود مصلًّى في الدور الأرضي تيمُّنًا واستحسانًا وشكرًا لمن رزقنا هذا، وهذا منتشر جدًّا في أحياء كثيرة من مدينتي وأغلبهم من الذين سافروا إلى بلاد النفط أي من كانوا لا شيء إطلاقًا وأصبحوا شيئًا ضخم الجثة والروح والعقل، رب البيت يحمل السبحة ويلبس الجلابية البيضاء ابتهالاً لربه الذي أكرمه وأعطاه.

والآخرون أثرياء من امتلاك الأراضي، كالفلاحين، والمحلاَّت التجارية والمقاولات، والبناء اختصاص الصعايدة، والعرب يتشاركون في كلتا الحالتين مع اختلاف أنهم يطلق عليهم "أبناء الجبل"، فهم ماهرون إلى حدِّ البراعة في التعامل مع الجبل وزواحفه كالثعابين والعقارب والأبراص والفئران، بل واصطيادها وبيعها لدارسي كليات الطب والصحة، وممارسة هوايتهم العظيمة، وهي صيد الصقور، فيباع بنحو 30 ألف جنيه، بخاصَّةٍ للعرب. وهذا يكلِّف الصياد الحاذق المكوث في الجبال والجلوس والانتظار والمثابرة وصنع الخَيَّات من الحمام، وهي حبكة وصنع له العجب، وصفه يقلُّ عن رؤيته وامتثاله أمام الناظر إلى خيَّة الحمام حيث يُحضِرُون عددًا كافيًا من الحمام وعلى ظهور الحمام يقومون بغزل كثير من الخيوط المربوطة ببعضها البعض من خلال خشب دقيق وصغير لحجم جناحي الحمامة وتلك الخيوط بها خيط طويل بعيد عن الجبل بعدة أمتار، مربوط بحجر ليس ثقيلاً وبالطبع الحمام ساكن فوق الجبل، وحينما يأتي الصقر تتشابك أرجله ذات المخالب بتلك الخيوط معتقدًا(أي الصقر) أنه يبحث عن صيده، لا يعلم أنه هو الصيد لصانع الخيَّة، ذلك الإنسان الذي يتحدى دائمًا ذكاء الطبيعة وأسيادها كذلك الصقر، وعندما يحاول التهام إحدى الحمائم ينهار تمامًا محاولاً التملص والهرب من الخيَّة وهو يرفرف بجناحيه دونما جدوى، وحينئذ يجذب ويشد الصياد، صياد الصقور، صيده الثمين، الذي يفخر دائمًا بأنه ليس بصائد عادي، كصياد السمك، بل هو صائد ملك الطيور، الصقر الذي يهوى الجبل، فالجبل هو حريته وملاذه الأبدي. وآخرون رفعهم الحظ الوافر فأصبحوا موسرين بذهول، كما حدث مع عمتي عفاف، تلك السيدة الفلاحة التي لا تملك من الدنيا غير زوج فلاح أيضًا وأبنائها الخمسة، ثلاثة رجال تعليمهم متوسط، وبنتان لم تتعلما غير أن تنتظرا الزوج، ليزيح عبء عولهما عن كاهل عمتي وزوجها المريض. وفجأة دخلت تلك الأرض كردون المباني وأصبحوا يقطنون كورنيش النيل في أرقى وأغلى أحياء مدينتي في عمارة شاهقة، ويتباهون بماركات سيارتهم التي لا يرتادها أحد غيرهم في المدينة.

وآخرون بعد رفع يد التأميم عن معظم الممتلكات القديمة بطرازها القديم الغالب عليه الطابع الإنجليزي، أصبحت تلك البيوت تباع بالملايين.

مدينتي مستنقع من العائلات كل بنفوذه وقدرته على السطوة والاستمرار. أعضاء مجالس محلية، أعضاء مجلس شعب، ضباط شرطة، عمل مشروعات واسعة المدى في أرض الشرق والجبل مع مستثمرين أجانب.

ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، سقط بعض العائلات، لا كَاسْمٍ بل كمحتوى قوي، قادر على منافسة الآخرين من العائلات، وإن كانت في كنهها تحتفظ بالمجد القديم لاسم تلك العائلة.

وبالتأكيد أيضًا تنتشر الأحياء الفقيرة التي تعجُّ بالبلطجية والفقر المدقع، وإدمان ما هو مشاع من المخدرات الرخيصة، كلفائف البانجو والحشيش الممزوج بالبرشام، وهذا يحدث ويتداول بين شباب صبية يعملون سائقين وحرفيين، وصبية لمعلمي الصنعة... وهذا موجود غالبًا في العزب، والأحياء العشوائية كعزبة الصفيح وعزبة بلبل، والغمراوي، والجزيرة المرتفعة، وسوق الخضار، والحميات من الخلف.

من فترة قريبة كان دائمًا من يعمل في محلات الملابس، والتصوير، والأجهزة الكهربائية والأحذية، ومختلف الأشكال الشرائية، كانوا من خريجي الدبلومات، لكن الآن أغلبهم بائعات حاصلات على مؤهلات عليا. بائعات الهوى، فهن منتشرات في أرقى الأحياء وأتعسها، كثيرات، كل حسب المكان الذي تأتي منه. ومن يقودهن رجل أو امرأة، لكن في الغالب القواد امرأة، هي امرأة جاهلة تقريبًا ترتدي العباءة السوداء، وهذا ليس له مغزى غير أنه تعبير عن شكل وهيئة مرتبطة شكليًّا بعملها، والغريب، بل والمثير للدهشة، أن أغلبهن من القرى القريبة من المدينة، بل فتيات منهن يأتين إلى الجامعة يقضين النهار كله بحجة الدراسة أو المذاكرة أو العمل في بعض الأحايين، ثم يعُدْن إلي قراهن بعد صلاة المغرب أو بعد العشاء كل حسب تمرير أمورها.

أما الرجال فهم أيضًا أغلبهم من الفلاحين، يرتدون الجلاليب عزَّةً وكرامةً وفخرًا بعائلاتهم وفحولة ذكورية، كما يعتقدون في أنفسهم، ويوجد أيضًا كبار الموظفين وأصحاب الرتب... في تلك الأمور يوجد كل الأنواع والهيئات ويتشاركون في امرأة واحدة، فهم أمام الجسد الميت سواسية لا فرق بين هذا وتلك.

وهم من مغرمي ومحترفي، صنع الحفلات الجنسية الجماعية في شقق خاصَّة بهم في القاهرة والجيزة، يحضرون بصحبة من شباب العائلة، أخي وابن عمي وابن خالي و... لا يقل عن خمسة أو أربعة رجال ليقيموا الحفلة، وهي ليست تجمعًا لممارسة الجنس والفحش والشذوذ، بقدر ما هي مبارزة بين أبناء العم على قدرة كل منهم في شرب المحيط دونما تأثير، وتطويل الفترة الجنسية مع الفتيات، والاستغراق في ألاعيب ممارسات جنسية فاحشة يشاركهم غالبًا فتاتان أو ثلاث فتيات، أمام الطرف الذكوري حتى ينال تلك الأخرى بشتى الطرق، لكونها عملية منافسة جنسية شيطانية استحوذت عليه لا تحمل أي متعة أو احترام لبائعة الهوى بقدر ما هي استعمال للأجساد واستحقاق لما يدفعه من مال واجب أخذ حقه. وقهر مثيله.

مدينتي مثل أي مدينة من مدن العالم الثالث، عالم مسكين، مستنقع غائر راكد مياهه ثقيلة موحشة مليئة بحيوانات مفترسة من الوحدة، والعزلة، والشكلانية، والتقليد الأعمى، والعبث.

مدينتي أو بلدتي الصغيرة التي لا أخطُّ لها اسمًا أو موقعًا جغرافيًّا، فلا يهم كل تلك الأسماء، ما أعلمه أنها جزء من العالم المتعب الذي يعيش خوفًا يوميًّا من فقد هوية المكان. إنها كأي مدينة صغيرة من بقية محافظات مصر، إنه العالم الذي يرفع قوائمه على التخلف والإرث والعرف والدين الشكلي واليأس.

بلدتي في نهاية الأمر بقعة زيت راكدة، ليس بها شيء نجعل به الحكي باهرًا غير الحكي عن صديقتي السرية المفضلة.

هي سرية لكوننا نشترك معًا في فعل جرم صغير لا يراه أحد في هذا العالم غيرنا، وصديقتي العذراء رغم أنها تخطت الأربعين وبها تلك العقلية الجدلية من الدرجة الأولى، لا تخفي أبدًا ابتسامة ماكرة وهي تشيد بأنها ما زالت عذراء، فما زال للبكارة نوع من التقديس لدى فتيات الطبقة الوسطى وبخاصَّة من هُنَّ من بيوتات عائلات ذات صيت وشهرة، وفى الثقافة الريفية الشائعة المتحفظة بشكل عامٍّ كنموذج مدينتي الصغيرة.

صديقتي رغم أنها ذات أفق عالٍ في التفكير وتفسير الأمور وتحليلها فإن فكرة العذرية لها رونقها الخاصّ جدًّا لديها، بل ولدى أغلب فتيات مدينتنا.

صديقتي السرية العذراء مدمنة لمشاهدة الأفلام الإباحية ولديها "الأوربي" وتتبادل سرًّا أسطوانات السكس مع أصدقاء رجال لا أعرفهم أشدهم غرابة زميلها في العمل، ذلك الشاب الملتحي المتزوج حديثًا. وهذه النقطة هي مفتاح السرية ومفتاح الخلاف بيننا، فأنا أيضًا مفتونة بمشاهدة حفلات عروض الاستربتيز وإعلاناتها القريبة من الإباحية، لكن هذه العروض الجمالية الكاملة في رؤيتها بالنسبة إليَّ لها شعور خاصٌّ بي مختلف، وهن يحاولن تقديم حالات الجمال الجسدي الفاتن بتناسق ورشاقة وألوان الـ"under ware" المتألقة المدهشة، وتقليعات وإيحاءات وإيماءات الجسد مع تلك الألوان على كل جسد، أبيض، أسمر، خمري، كل حسب تعاطيه فنون التشكيل الجمالي المطروح يمتع جميع حواسي ويدخلني شعور بالزهو والتفاني البصري لاستجلاب متع لا مثيل لها، تملؤني وتتخللني كعطر نفَّاذ الرائحة لكوني امرأة تعشق رائحة الجسد الندي الطري الخارق لأبعد حدود الجسد ذاته، إلى الفكرة الأم عن تجسيد الجمال، وأنا أتساءل: أيوجد كل هذا الجمال في عالمنا رغم كل شيء؟!

أرى أنه كائن ينشأ اكتماله من نقص أو ضعف دائمًا هو مَحَطُّ أنظار الجميع، لكنه سر الخلق، والبداية والعودة والنهاية إلى ذلك الكائن الجميل، المختلف مهما تعددت وجوه النساء، كلهن يحملن نوعًا فريد المذاق، والشكل والصفات وتناولاً سحريًّا يختلف من امرأة إلى أخرى مهما كانت القيمة، والعقل، والروح، كلهن إبداع يسير على الأرض ويخلق تفرُّده، وهذا طبعًا بصرف النظر عن كل التأويلات الشيطانية لوجهة نظر الآخر. تضحك صديقتي السرية، معترضة على تحليلي المفرط في المثالية قائلة:

- أنت خرقاء، تتفوهين بترهات، أنت تستمتعين بنصف الحالة، حالة ناقصة، الكمال والجمال ليس امرأة فقط، بل إنه رجل وامرأه، اتحاد الأرض والسماء. الحب والعشق والفراق لا يصنعهما غير قصص مفرداتها رجل عظيم وامرأة جميلة، الحب والذوبان حالة مثالية من الغدر الإنساني لمشاعر هاتين الشخصيتين المحظوظتين، تتفتت بها كل الجزئيات وتنشطر إلى تفاصيل، وتكوينات. تكابد وتكافح من أجل الخلود ولكنها عاجزة، وهذا ما يجعلها ناقصة متوجعة فيمنح الفراق مكانًا لوجوده واختراق الكمال والحب الأبدي. أنت تشاهدين عروضًا بلاستيكية، أشد قبحًا وإباحية من مشاهدة الأفلام السكس، بينما أنا أتفاعل بقوة وأنا أشاهد هؤلاء يقتحمون كل ما هو داخل التابوت، هذا الحدث الكبير، المحجوب عن كل الأعين ويجب أن نشاهده ونتعلمه وندرسه! إنه عمل مثل كل الأعمال، متاح وممنوح، ليس هناك من سبب للاختباء والخجل. وتستطرد قولها ساخرة:

- أما زلتِ بعدُ فتاة البرجوازية الخجلة؟ لا ترفع عينيها في عينَي ولد. ولتكُن البداية مع ابن الجيران.

أردّ بقدر من الهدوء الكاذب، بعدما أثارني استهزاؤها:

-عذرًا يا صديقتي، أنت إباحية زيادة عن اللزوم.

تبتسم ابتسامتها المعتادة معلقة بفلسفتها الرائعة التي تظن بها أنه لا صحيح بعدها، وهي نصف ابتسامة ساخرة تعني ضمنيًّا:

- إليكم عنِّي، أنا هي أنا ولو قيل ما قيل عن إباحيتي.

وتستطرد قائلة:

- بمناسبة الإباحية الشديدة، لدي لك نكتة نصف إباحية: واحدة ماشيه في الشارع واحد شاف رجليها قالها: تاخدي خمسين جنيه وترفعي الجيبة شويه؟ قالت: لا 100، قال لها: ماشي. قالت: طيب تحب أوريك مكان الحقنة، يعني المكان اللي باخد فيه الحقنة؟ قال لها: ماشي. قالت له: طيب وتديني 200 جنيه؟ تعالى. وشاورت بإيديها: هي دي الصيدلية اللي باخد فيها الحقنة.

وتستكمل باستفزاز:

- إيه رأيك أحكي لك نكته سيت -128 من قدام.

أشير بيدي:

- بس كفايه يا إباحية.

صديقتي السرية هي المفضلة لديّ في كل الأحوال، ورغم أي اختلاف بيننا، فكلتانا تشعر بالوحدة، وحدة الروح والجسد، وكلتانا تجمع صفة المرأة عاثرة الحظ، المدانة بالفشل والنقص لأنها لا تحمل بطاقة المرور في مجتمعنا. دونما أسئلة وشك، لماذا تلك الفتاة (أي صديقتي) وقد تخطت الأربعين عامًا عانس؟ هل بها شيء؟ هل لا يستهويها الرجال؟ ولماذا تلك المرأة -التي هي أنا- مطلَّقة وأرملة في وقت واحد؟ جمعت حدثين هائلَين، لماذا فشلت ولم تتحمل البيت كأي امرأة من بنات المجتمع المصري اللاتي يعلمن التحمُّل حد الطاعة؟ ليس هناك من طلاق، فالواجب عليك أن تعيشي، فهو رجلك، وأن تكوني متزوجة وفاشلة داخل تلك المؤسسة لا يهمّ، تتجرعين المرارة والتحمل فوق طاقتك لتحسين الأمور حتى تمر وتظلين أمام الناس والمجتمع امرأة متزوجة، في كنف رجل، كما يقال، ضلّ راجل ولا ضلّ حيطة. الرجل هو السترة، والغطاء لك حتى وأنتِ امرأة خائنة، لا عليك فمعك الحماية والصك وأنت تخونين زوجك، ولكن لا تصبحي مطلقة؛ إنه لفظ وصفة مكروهة في مجتمعنا، أنا أيضًا لا أنكر أنني أمقت ذلك المصطلح، ولقد أنقذني ربي ومات زوجي السابق فأصبحت أقول "أرملة" أفضل لي وللأخريات من "مطلقة". نحن الاثنتان نجمع مانشيتات المحرمات في مجتمعنا: عانس ومطلقة وأرملة. كلتانا تكمل الأخرى في أسماء الانتهاء، أو من أوشك على الانتهاء، كلتانا تفتقد وهج الحياة والحب وابتسامة الحبيب، نصفى الآخر، وابتسامتي الخاصَّة الساحرة ملازمة متعتي عندما أنال راحتي بعد مشقة اللذة والتوجع أن أصل إلى الشهوة المستحيلة. إنني الآن وبعد الآن امرأة من الدرجة الثانية.

كلتانا تعلم أن تلك الوحدة، قدر مسكون بداخلنا لا نستطيع الفكاك منه أو التغاضي عنه، هو مصير اختيار مثيلاتنا، إننا مثل تلك المكعبات التي يلعب بها الأطفال، لا تتحرك مشاعرنا تجاه كل الأشياء والكائنات، تتحرك فقط للعب وإدارة الأمور بميكانيزم داخلي لا يرى، لا ينبهر، لا يشتهي، ولا تستهويه قصص الحب، لا يبادر بفتح طريق الأشواق، ولو جاءت من آخَر نرفض مبادرته بكل إجحاف وعنف لا مثيل له. نحن في نهاية الأمر ندور بعضنا خلف بعض في ساقية الضياع والهذيان هائمات على سطح الحياة دون سبر غور، دون نفحات الحب، دون شَبَق يبغي ارتواءً، دون رجل، نحن، وما نحن؟ لا شيء غير كوننا كائنات عابسة تعسة مسكينة دون مَن أحب، دون طفل... أنا عاجزة ومقهورة يا أم العواجز... ماذا أفعل بنفسي الشقية؟!

الأسبوع الماضي من شهر ديسمبر 2008 أيضًا حدث خبر غير سارٍّ بالمرة، بل هو فاجعة، نكاد لا نصدقه، أشبه بمحرقة غزة، والخبر المشؤوم أن صديقتي السرية المفضلة دخلت السجن!

هل تتصورون هذا؟

وهل يحدث مثل تلك الأمور في الحياة؟

عنوان القصة الغريبة... غريب حقًّا.

لا تصادق ضابطًا أو قحبة أو محاميًا!

وللأسف البالغ، صديقتي المفضلة كانت تجمع في صداقاتها المتعددة بين هؤلاء الثلاثة بطابعها الاجتماعي الودود وحب التعاون، وإن كان خطؤها الفادح أنها لم تفرق بين التعاون والألفة والتعرُّض للشبهات في مجتمعنا الفقير المتخلف الذي يعيش نصف سكان بلاده بأقل من دولارين يوميًّا.

تبدأ القصة: صديقتي الغبية في تلك اللحظات الحاضرة لحكيي -مع الاحتفاظ بكنية "المفضلة لي" في كل اللحظات- كانت على معرفة وثيقة بضابط يُدعَى مازن، وهو رجل شرطة على حق يتمتع بقوة الشخصية والعقل والتحفظ والتريث في أدائه العملي والشخصي تجاه الآخرين، أيّ آخرين حتى المجرمين، فهو معروف عنه دماثة الخلق، وحبُّه الحقَّ وامتثال العدل وتحقيقه.

ذهبت إليه صديقتي المفضلة الغبية مرة أخرى بغرض قضاء مصلحة ليست لها بل لصديقة لها في العمل، فهكذا هي صديقتي، تطرح خدماتها وعلاقاتها لقضاء مصالح الآخرين، فهي محبوبة جدًّا، ولا يتوانى أحد عن سؤالها والسؤال عنها والتودد إليها حتى من غير قضاء المصلحة، إنها تدير كل أمورها بخفة ومرح حتى في أقصى حالات روحها الموهوبة لخدمة الآخرين في مقابل الحصول على متعتها الوحيدة في الحياة وهي أن تحصل على سيديهات أفلام Sex دون أي مقابل مادي أو روحي. لا أعرف كيف؟ فهي جِنّ مصوَّر أو عفريتة تخرج من المصباح بكل الأشكال مدعية أنها إنسانة قوية ونشيطة وفعَّالة ولا يجب أن تركن إلى أي رجل ليست في حاجة إليه بتاتًا، ورغم كل هذا وقعت صديقتي المفضلة في المحظور، ولا تعليق غير المثل المصري العامي "مايقعش إلاّ الشاطر".

تصادف أن تقابلَت مع ضابط يُدعَى شبكة لتعدد علاقاته الإجرامية والنسائية وغيرها، وهذا لقبه، فاسمه الحقيقي عادل شوقي.

ألحَّ عليها (أي صديقتي المفضلة) للتعارف، مدفوعًا بإحساس بالتباهي وهو يحاول اصطياد تلك الفتاة العانس التي ترفض أي رصيد للرجل في حياتها. ما تلك الفتاة الرعناء الغبية في اعتقاده؟ ولكنها أشاحت عنه بوجهها ونظرت إليه شزرًا ونظر إليها احتقارًا وانتقامًا بيَّتَه في نفسه.

وفى إحدى الليالي التي خاصمها القمر والراحة والرأفة بصديقتي السرية المفضلة ذهبت مع أختها الصغيرة إلى القاهرة للكشف الطبي، أختها التي تعاني التهاباتٍ حادَّةً في فقرات الظهر، وعند عودتها وقفت السيارة الميكروباص في الكمين وواجهها الضابط الملعون بنظراته الحادة، وفجأة ودون مبرر طلب منها هي فقط هويتها: هاتي يا بنت الـ... بطاقتك وانزلي هنا قدامي.

نزلت صديقتي وقد شحب وجهها من المباغتة وتلعثمت من السب الذي استمر في سبها به مرتين أو ثلاثًا، فما كان منها في فورة غضبها إلاّ أن بصقت عليه وألقت بطاقتها في وجهه فسقطت على الأرض، وعمَّ الوجوم التامُّ السائقَ وبقية المسافرين في السيارة، بل وصمت الضابط تمامًا ربما ذهولاً وتوتُّرًا غير متوقِّعٍ ردَّ فعلها، فما كان منه إلاّ دفع نفسه دفعًا إلى سيارة الشرطة وذهب دون أن ينبس بأي كلمة.

وفى نفس الليلة المشؤومة الرابعة صباحًا جاءت عربة بوكس زرقاء، وطرق العساكر الأبواب وقبضوا على صديقتي المفضلة وهي ترتدي جلباب النوم وغطاء رأس ألقته لها أختها سريعًا وهي تهرول على السلالم قابضًا عليها العساكر، بعد الذعر والهرج والصراخ الذي ساد أرجاء الشارع الصغير الذي تسكن فيه صديقتي ورآها كل الجيران وفتحوا أفواههم استغرابًا وعجبًا لما يحدث، وتعليقات كثيرة: لماذا تلك الفتاة التي لا تقدر إلاّ على فعل الخير؟ وهل كان ذلك قناعًا لفتاة شريرة، لها أفعالها الخطيرة التي تعلمها الحكومة وأدانتها بها حتى يأتوا قرب الفجر لأخذها إلى القسم؟ لا بد أنها مظلومة! وآخرون يقولون إنها مجرمة خطيرة ونحن لا نعلم شيئًا. وأخيرًا علَّقت امرأة عجوز كانت مستيقظة منتظرة صلاة الفجر حتى تصلي: ياما تحت السواهي دواهي.

وبعد كل الدموع والتعجب حضر محاميان من مدينتي وثالث من القاهرة، واعترفوا أن القضية لا تستحق كل هذا، لكنها أشبه بقطعة الجاتوه الشديدة الحلاوة، حتى نكاد لا نتحمل مذاقها المغرق في الكريمة البيضاء. ما معنى تلك الكلمات؟ أهو افتراء وظلم؟ وإذا كان ذلك، فلماذا الأحداث تتصاعد هكذا كأن النار هبَّت في الهشيم ولا أحد يستطيع إطفاءها؟

وإليكم القصة:

قام شاب عمره تقريبًا عشرون عامًا، من إحدى أسر العلالمة، وهي مكان يوجد عند أطراف مدينتي، مشاع عن ذلك المكان البلطجة، الكذب والسيطرة على أملاك الغير دونما حق وتنفيذ أي مصلحة شخصية بأي السبل غير الشرعية تمامًا، فهم أقرب إلى مَن يقال عنهم:

- يبيع تربة أبوه علشان القرش.

يقال إن هذا الشاب مستهتر إلى حد أنه كتب عليه شيكات وإيصالات أمانه بنحو مئتين وخمسين ألف جنيه من أطراف لعائلة أخرى من نفس المكان، فالعائلتان تعيشان حالة من الثأر والأحقاد القديمة، وهذا شيء معتاد بين عالم الفلاحين والصعايدة، وتلك الأمور لا تنتهي، فهي تعيش وتنمو مع نمو الأبناء والأحفاد كجريان نهر النيل لا تنفد ولا تردم ما لها من سكن غير العقول والقلوب كالدماء التي تنبض بها أجسادهم حتى يحين الوقت بخروجها بأي شكل كالذي تعرض له هذا الشاب، وأبوه الثري الذي لا حيلة له غير رشوة رجال الشرطة وتوكيل محامين حتى لا يضيع مستقبل ابنه، وهو يقدم أقل شيء كعربون للصداقة إهداءهم جنيهات ذهبية ضاحكًا قائلاً لابنه:

- تأكد دائمًا من ظهور ضحك الآخر، ولن يحدث هذا إلاّ عندما تهديه شيئًا ذهبيًّا.

حتى أتمَّ القدر لعبته العبثية مع صديقتي المفضلة وقد أصبحت في قلب الأحداث، فقد كان شرط الضابط الذي تعاركت معه صديقتي بل وبصقت عليه، شبكة، لإتمام صفقة تسويف ومماطلة أمر هذا الولد الشاب المحظوظ بثراء أبيه، أن يعترف الشاب بأن شابين وامرأة تخطت الأربعين تقريبًا دخلوا عليه في شقته الخاصَّة به في 6 أكتوبر وقاموا بسرقة لاب توب وخمسة آلاف جنيه، وقد هرب الرجلان وجارٍ البحث عنهما من خلال أوصافهما التي أدلى بها الشاب في التحقيق، وقبض على تلك الفتاة التي مواصفاتها تطابق ما ذكره الشاب، وقد كانت هذه هي صديقتي السرية المفضلة، وسُجِّلت القضية جناية سطو مسلح.

كان جاهزًا ومستعدًّا لإنجاز انتقامه ليغسل به كرامته وذكوريته وسلطته ونفوذه ومهنته المنتصبة شارتها على أكتافه بالنسر الذهبي. مشعل الوطن يصنع الحق والعدالة، لكنه على أكتاف هذا الضابط الملعون يحمل أصداء الزيف والافتراء والظلم.

في الليلة الثانية بعد أن أخذوها إلى القسم قام الضابط بإحضار عسكريين ضخمين وقاما بضربها ضربًا مبرحًا على الظهر والفخذين بعصا جلدية غليظة ثم وضع قطعة حديد موصَّلة بالكهرباء على ذراعها حتى تعترف أنها سرقت، لكنها لم تعترف، ورغم هذه الكدمات الشديدة الزرقة على فخذيها وظهرها ووصلات الكهرباء لم تمُتْ، فهم يعرفون مواقع الوجع والألم، لا إلى حد القتل، وبالتدريج يتحول لون هذه البقع من الأزرق الشديد إلى الأحمر الباهت ثم إلى الأصفر الباهت، فهي تشفى تقريبًا خلال أسبوع أو عشرة أيام خصوصًا بعد أن ألقت إحدى السجينات إيعازًا من العسكري القائم بالحراسة مرهمًا تتداوى به ويرفع عنها عناء الشد العصبي لقدميها وظهرها. وأخيرًا انسحب نظرها الطبيعي كأنما شخص ما يسدل الستائر حتى اختفى كل شيء تمامًا وليس هناك من ألم أو عذاب وقد اعتادت الضرب والموجات الكهربائية والمرهم.

بدأ الحبس بـ15 يومًا مع التجديد ثم 45 ثم 45، وهكذا حتى ستة أشهر كاملة إلى أن تم الحكم عليها بسنتين مع التنفيذ. ولا تعليق لدى المحامين الثلاثة، غير أنها وجبة دسمة لدائرة الضباط الملاعين، ورغم صغر القضية وتلفيقها فإنها خرجت عن دائرة القانون.

انبسطت أسارير شبكة وتَعمَّد إعلان انتصاره وهو يقول لها أخيرًا بكل تهكُّم وتعالٍ في المقابلة والمواجهة الأخيرة بينها وبينه قبل ذهابها إلى السجن:

- خلي بالك دي قرصة ودن بس... خلي بالك من نفسك المرة الجاية.

حاولتُ التماسك وأنا أحضر مع من حضر من أهلها في قاعة المحكمة في مجمع المحاكم لسماع الحكم للجلسة الأخيرة، وعند صدور الحكم، سمعت صراخًا وشعرت بدموع بلا صوت، سمعتها أذني، فقد كانت دموعي الصامتة لكن قلبي الذي كان يتدفق بها، وأحسست بخوالجي ترتعش وأهتزُّ من هول الموقف وأنا أحاول أقصى محاولاتي البعيدة المنال عن قدرتي في تلك اللحظة أن ألتقط أنفاسي وأقول ولو بعض الكلمات لتلطيف الجو، بعد خروجها من القفص الحديدي، ووضع الكلبشات الحديدية في يديها استعدادًا لترحيلها إلى سجن المنيا، إذ لا يوجد إلاّ سجن صغير المدة فقط في مدينتي، وابتلعت ريقي وخرجت الكلمات كأنها تخرج من بئر عميقة، قلت:

- هتوحشني نكتك القليلة الأدب، فاكرة...؟

وحاولت الاستطراد،، ولكن دموعًا غزيرة أغرقتني فجأة وتحشرج صوتي وأنفاسي حتى كدت أختنق وأصابني نشيج عصبي من غزارة الدموع واستنشاق مخاط أنفي الذي بدأ يسيل على فمي، وكان سُمّ يسري في أوصالي ببطء وكثافة ويفتك بخلاياي ليخمد روحي، وعندما يئست وكاد يصيبني الإغماء كانت تمرر لي ابتسامة مليئة بالمرارة والظلم الشديدين قائلة:

- والنبي مش نكتي هي اللي قليلة الأدب، دي الحكومة هي قليلة الأدب، ولا إيه رأيك؟

أكُلُّ هذا السواد والقبح في العالم بجانبي جدًّا ولا أشعر به؟!

كانت صديقتي المفضلة تعرف ما الذي يحدث لها وحتى الوقت الذي دُفع بها إلى السجن جرَّاء فعلتها الطائشة مع ذلك الضابط، لقد أمضت نحو ثلاثة وأربعين عامًا من حياتها تعمل وتحب الآخرين بقدر المستطاع، بل بكل المستطاع لديها من طاقة للعطاء، صارخة معلنة قولها في وجوه الأصدقاء والأصحاب، الأهل والجيران، أن الغضب والإفصاح الدائم ومواجهة المشكلات والأخطاء أفضل من اليأس والكتمان الذي يتحول إلى صمت قاتل يقتل كلاًّ منَّا ببطء مرير. إلاّ أنها الآن وفى نهاية الأمر المؤسف فقدت رؤيتها القوية والبريئة للعدالة تمامًا، وتوصلت إلى فهم أن القوانين لم تُخلَق من أجل حل المشكلات ولكن لمد الخلافات بلا أجل، وأنه أيضًا من المخجل أن الله يتخاذل عنِّي مهما كان هذا الاسم الذي ندعوه به، لا بد أنه لا يعيش في تلك اللحظة بالذات في هذا العالم الكبير. وفى هذا اليوم أجزم أنه لم يكن موجودًا مطلقًا بجانبي. صديقتي المفضلة المغرمة برؤية فيلم المصارع، الصراع حتى القتل والموت من خلال تلك المغامرات الدموية المتصارعة على البقاء ونيل الحرية بين عبيد روما أضحوكة الإمبراطور وعامة روما ورؤساء مجلس شيوخها في ساحة الكوليزيوم، صديقتي مدمنة مشاهدة أفلام السكس ليلاً حتى الصباح.

صديقتي المفضلة التي تعبِّر بتلك الأداءات والأفعال عن نفس عنيفة جريئة تملؤها قدرة الاقتحام والاختراق لكل ما هو ممتهن للإنسانية سواء قتلاً جسديًّا أو رُوحِيًّا، وقد أصبح الدم والجنس محورين أساسيَّين في تشكيل يومك الحياتي تعاندين به يأسك ووحدتك وخيبتك في الحب والزواج والأمومة. آه! يا لها من أسماء بديعة، نزعت عنِّي كل الأنوثة والأحلام والطغيان البادي في مشاعري وعواطفي كامرأة، سحبت عنِّي صفة كوني امرأة وسيدة وعاشقة وأنثى وأُمًّا وبقية صفة الفتاة العانس التي تنتظر على الدوام وتعالج الأمر بسخرية قائلة كما يقول المصارع الذي كان يومًا جنرالاً (فارسًا) ومحاربًا عظيمًا ثم عبدًا ثم مصارعًا، منتظرًا الموت للقاء أحبائه، ولكن ليس بعد.

أشعر بشعور أمقته كثيرًا، أشعر بالخوف... الخوف! ما الخوف؟ الخوف أراه كائنًا قويًّا، بل وحشًا شرسًا.

الخوف يضحك منا جميعًا، وكل ما يستطيع أن يفعله المرء أن يضحك في وجهه هازئًا به أو غاضبًا ينهره.

- إليك عنِّي أيها الخوف، لن أخافك لأنك صديق الموت.

ولكن رغم كل تلك الشجاعة البادية، من منا لا يعرف الخوف؟ والخوف من الموت؟

إني بحاجة إلى لحظات فقط حتى أصبح كنحلة صغيرة مشغولة عنكما، فأنتما الاثنان عدوَّاي الحقيقيان، ونحن أمامكما لسنا سوى خيالات مهترئة وذرات غبار تتناثر هنا وهناك في ذلك الفضاء الفسيح الواسع، وما لديَّ أيُّ قوة أو شرف يحميانني منكما.

كل رغبات في الطموح، والحكمة، والعدل، والثبات، وضبط النفس، والإخلاص لأسرتي ولعملي، وهل لي أن أقول لوطني؟ كل تلك المبادئ والمُثُل تقسّم رأسي قطعًا وتذبحني ذبح الحمل البريء، ولكن يبدو أن هذا هو مصيرك أيها المخلوق البشري الضعيف، مصيرك في تلك الحياه أن تدرك كيف تولد القلوب، بيضاءَ وبريئةً جدًّا، والحياة وأصدقاؤنا في البشرية، تجعل منها قلوبًا حجرية تدمى شقاءً وتعاسةً ولامبالاة. ثم التوقف عن ابتلاع الحسرة والندم بملعقة الصمت البائس والنوم بليدًا فاغرًا فاك الذي تنثال منه قطرات لعابك الذي سال غصبًا عنك دون أن تشعر.

بعد رحيل صديقتي السرية المفضلة، وإن كنت أراها دائمًا بحضورها إلى مدينتي نحو مرة أو مرتين كل فترة وذلك بعد نصيحة من المحامي أن يقوم بتحرير شيكات مزورة ضدها يقوم بعملها أهلها حتى تستدعى ثم يتنازلوا عنها، وهذا مسلك معتاد ممن يهتمون بسجينتهم. وإن كان رحيلها مؤقَّتًا فإنني أدركت الآن إدراكًا كاملاً شاملاً أنني كائن عاجز عن النسيان والمسامحة، وكل ما مر بي من حياتي الماضية العابسة في سقوطها الأبدي مع قمة عجزي المتكرر وافتقادي المؤلم صديقتي السرية المفضلة، فلا بد للإنسان أن يتحادث مع إنسان آخر لا سيما الإنسان الذي تشاطره وتشاركه في مواقف حياتية هامة لكي تجيبه عن جميع أسئلته مهما كانت عقيمة وغير مفهومة، وينبغي من أجل ذلك التحلي بالصبر والقدرة على التفاهم، وهذا بمثابة واجب لأن الكثير منا بحاجة إلى كلمة عذبة دافئة، وعليك أن تتكلم، لأن الصمت شعور مريع بالخواء وإيحاء بالجبن... وهو إلى ذلك يهدم أواصر المحبة بين الناس، فكم أنا في تلك اللحظة الآنيَّة أحتاج إلى حديث دافئ لا يطول وإجابة عن أسئلتي، حتى لو كانت غير مجدية يا صديقتي السرية المفضلة.

الأن يا صديقتي المفضلة ستذهبين لرحلة، ليست طويلة نعم، لكنها رحلة مختلفة عن كل الأحلام والطموح بأن تكوني فيها، هي ليست رحلة بمعناها الشكلي والمضمون، لكنها رحلة المحنة مهما اختلفنا في مغزى المضمون، فالرحلة ليست بالضرورة هي تغيير المكان وإنما قد يكون في بعض الأحيان تغييرًا من وجهة النظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل.

وما علينا سوى الانتظار، ولكن كما اتفقنا معًاو NOT YET.

إليك انتظاري الموجع الصامد، وليس لديَّ أيُّ حيلة غير البوح والفضفضة بحكايات أملأ بها وقتي الفارغ من دونك، فقد كان لي ماضٍ مع بشر بعضهم كانوا أبرياء وعظماء مثلك وإن كانوا اختفَوْا من حياتي الآن، كالبرق الذي ومض بنور ساطع ملأ عينَيَّ وانطفأ فجأة وترك لي السواد والظلام لحياتي الباقية، فلعل تلك الثرثرة تعيد إلى ذاكرتي الأوقات السعيدة لتلك الذكريات الماضية، حين حضورك إليَّ، ولكن ليس بعد.

وأول اعتراف أدلي به:

لا أشعر بأي أسًى أو ندم لأنني غادرت مسقط منذ خمس سنوات بعد الحادثة التي ماتت فيها صديقتي القديمة فاطمة البلوشية، التي كنا أنا وهي نتشارك الاسم ذاته، وكان أحباؤنا وأصدقاؤنا العرب والمصريون يطلقون علينا فاطمة المصرية وفاطمة البلوشية للتمييز بيننا. عندما عرفت أنني لن أستطيع أن أستمر في العيش هناك دون فاطمة رغم محاولات الأصدقاء إقناعي بالبقاء، قررت أن أقطع صلاتي بكل شيء وأن أطرح عنِّي كل ما له علاقة بحياتي السابقة وأعود إلى مدينتي الصغيرة البليدة! لأنني كنت أرى في صديقتي السرية المفضلة صديقة قديمة كنت أعرفها تُدعَى فاطمة البلوشية التي رحلت إلى الأبد، وعليَّ أن أنتظر صديقتي السرية التي رحلت هي الأخرى رحيلها المؤقت، ولكن ليس بعد كما تقول صديقتي السرية المفضلة.

- ليس بعد... ليس بعد يا صديقتي المفضلة.

 

الفصل الثاني
السفر
9
أبريل - 9 مايو 2003
ها أنا أشارك بورخيس، وهو يكتب عن الآخر في مهنته القصيرة، وأقلده في بداية حكي وسرد أحداث فاجعة عامة وخاصَّة، شملتني أنا وبابل العظيمة عام 2003.

وقع هذا الحدث في 9 مايو 2003 في مدينتي الصغيرة، لم أسجله في حينه لأن تفكيري الأول اتجه نحو نسيانه حتى أنسى سببه، والآن عام 2008 بعد مضي خمس سنوات من وقوع هذه النكبة في زمنه وظرفه التاريخي الخاصّ بي، وبالشرق الأوسط والأمة العربية بوجه عام، أفكر بإلحاح في كتابته الآن وانتظارًا لخروج صديقتي السرية المفضلة من السجن الآخرون سيقرؤون هذا الحدث كقصة، وبمرور الزمن ربما يصبح كذلك بالنسبة إليَّ، أعرف أنه كان فظيعًا في أثناء حدوثه، والأفظع هو أرق الليالي التي تلت حدوثه، بمعنى أن رواتبه قد تؤثر في شخص ثالث أو لا تؤثر مطلقًا.

لقد مات ما كنت أعتبره الحقيقة الواضحة لبقائي وهدفي من الحياة، مات زوجي السابق الحبيب (سي محمد أفندي) كما كنت أطلق عليه دومًا هذا اللقب حتى ونحن نتعارك، وسر هذا اللقب هو حب زوجي الشديد لنجيب الريحاني وأفلامه وخصوصًا فيلم سي عمر، وهو أيضًا ابن عمتي المليونيرة، وتوأم طفولتي ورفيق شبابي ومساري في تلك الحياة القصيرة، أما موقفي الآخر من ذلك التاريخ فهو اشتراكنا في يوم واحد برحيل زوجي السابق مع انهيار بابل العظيمة وإن كان ذلك الحدث قد سبق ما حدث لي تقريبًا بشهر إلا أننا نشترك في وقع المصيبة على رؤوسنا في اليوم ذاته.

وذلك عندما غزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق في 9 أبريل 2003 وأسقطت نظام صدام حسين عام 2003 حتى إعدامه صباح يوم عيد الأضحى المبارك 2006.

فقدْ فَقَدَ الشرق الأوسط بأكمله استقراره، وفرضت القوات الأمريكية سيطرتها على دولة عربية غنية بالبترول وآهلة بالسكان. هددت واشنطن بعدها بالإطاحة بحكومات إيران وسوريا وشكلت بغداد أول حكومة شيعية في العالم العربي منذ مئتي عام اجتاحت المنطقة بأكملها موجة عارمة من العداء لأمريكا.

وكان من آثار الغزو الأمريكي للعراق الذي أصبح أرضًا خصبة بنت فيها الجماعات المسلحة التي يرصد فيها 18 فصيلاً تحت لواء خمسة أقسام هي: الجماعات السلفية، وفصائل المقاومة الوطنية، والجماعات البعثية والعشائرية، والجماعات الكردية، والجماعات الشيعية، كما رصد أيضًا عراق ما بعد الحرب، مشددًا على أن البلاد تراجعت مئات السنين إلى الوراء حيث إن 40% يعيشون تحت خط الفقر في ظل خدمات محددة، كما زادت نسبة البطالة على 50% وهرب نحو 4 ملايين مواطن من الحرب الأهلية، إضافة إلى مسلسل استنزاف العقول العراقية قتلاً أو اختطافًا أو هجرة بعد ظروف لا تحتمل.

"أيضًا ليزداد الطين بلة.. شهدت سنة 2003 حدثًا اقتصاديًا، وأحداثًا سياسية كانت سببًا رئيسيًا في وضوح الرؤية حول طبيعة النظام لدى قطاعات عريضة، رؤية كانت واضحة لدى القلة المستنيرة الساعية إلى التغيير، مِمَّا أتاح لها مبرر التحول من النقد الجانبي ولدى أوساط محددة، إلى العمل داخل مجموعات متشابهة الفكر أو الفئة الاجتماعية أو المهنية لسهولة التواصل بينها. والحدث الاقتصادي هو تعويم سعر الصرف في يناير 2003 مِمَّا أفقد المصريين ما نسبته 35% تقريبًا من قيمة مدخراتهم وزيادة الأسعار بنسبة متقاربة، وهذا قد جعل الطبقة الوسطى في مواجهة حقيقة حاولت إخفاءها تجملاً ورياءً وهي أنها عاجزة عن تلبية متطلبات أساسية للحياة، مثل التعليم والصحة والسكن، ليس بالمرتب فقط، ولكن بما أمكنها الحصول عليه من فساد صغير تُرِك لها عمدًا للسكوت عن الفساد الأكبر للنظام، وفي نفس السنة كان غزوًا أمريكيًا للعراق، وقد وصل الاكتئاب بالناس أشده عندما سقطت بغداد وتمزق العراق الذي كان يحتضن نحو مليونين من المصريين البسطاء.

سبتمبر 2004 كان ميلاد حركة كفاية من قوى عدة كان أغلبها من اليسار مع حزب العمل، وقد خرجت كفاية إلى الشارع في 12 سبتمبر 2004 وانتزعت حق التظاهر وكسرت هيبة النظام مِمَّا أدى إلى كسر حاجز الخوف، وهو التعبير الذي استخدمه الكاتب، ويعتبر أول من استخدمه في الاحتفالية التي تمت في 2005 في تشبيهه هذه الحركة باقتحام سجن الباستيل في 1789 من أنه كسر حاجز الخوف من أصحاب الحق الإلهي.

كان يجب أن يؤدي رد فعل الغزو في الشرق الأوسط إلى تركيز أكبر على ما يفكر فيه المصريون والفلسطينيون والسوريون واللبنانيون والإيرانيون، لقد ضعفت مصداقية الأنظمة الدكتاتورية الواضحة منذ أمد بعيد، فزاد من ذلك الضعف عدم إرساء ذلك النموذج المشرق للديمقراطية في بغداد وعجزت تلك الأنظمة عن التعامل مع الأزمة، لدرجة أن قامت مظاهرة في القاهرة 2006 رفع أفرادها شعار:

"إلى ملوك وأمراء سفراء العرب، إننا نبصق على وجوهكم".

حتى وصلنا إلى 6 أبريل 2008 حيث أنشأ أحمد ماهر وإسراء عبد الفتاح "جروب على فيس بوك "، بلغ عدد أعضائه 70 ألفًا ومن هنا نشأت حركة شباب 6 أبريل ساعية إلى حل مشكلة الاستياء في مصر لأنها تقف عائقًا أمام تطور المجتمع.

ومصر التي كانت في وقت من الأوقات بلدًا يمكن أن يمد نفوذه إلى سوريا، الآن هي بلد يواجه قادته المصاعب في السيطرة على شبه جزيرة سيناء موطن مئتي ألف من البدو الذين يشبهون "الباشتون" الوحشية التي تسيطر على السياسة الأفغانية وصنع الحروب، "الباشتون" التي تمثل 45% من عدد سكان البلاد و100 بالمئة تقريبًا من عناصر حركة طالبان.

والذين كرهوا خط الحدود الأفغانية الباكستانية الذي يسمى خط DURAND فقد سمي على اسم المسؤول الإنجليزي الذي أجبر أفغانستان في سنة 1893 على قبوله ممثلاً حدودها مع الهند البريطانية، هم كرهوا دائمًا هذا الخط وبالتالي لم يحترموه، مع قسوة طباعهم وجمودهم، وهذا يشبه تمامًا احتجاجات البدو في سيناء، فهم يبدون أكثر وأكثر أنهم غير راغبين في القبول بحكم القاهرة، وعلاوة على ذلك المشكلات بين المسلمين والمسيحيين وضعف المنظومة التعليمية والصحية.

وعلى الرغم من كل هذا، فإن الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط قد تكون مستبدة وفاسدة وممقوتة من شعوبها، إلا أنه يصعب إسقاطها، فالحكومات في مصر وسوريا وليبيا أمسكت بزمام السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية التي حدثت في الماضي، وبالتالي تعلمت كيف تقي نفسها حتى من قواتها الأمنية والمسلحة، وفي كل دولة من تلك الدول كونت أسر الرؤساء مبارك والأسد والقذافي سلالة حاكمة جديدة.

ولقد نشر أسامه حرب (رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية المعتدلة) أن جهود الإصلاح المزعوم ليست إلا خدعة، ولكنه وجد أنه لا يستطيع الانسحاب من موقعه في لجنة السياسات بالحزب الوطني دون أن يعرض نفسه للخطر، وهو يعلق قائلاً:

"ربما يكون من السهل عليك أن تعوِّد نفسك على أن تقول لا، ولكن ليس هنا، تلك هي مصر".

وفي نهاية الأمر المرير (المأساوي) يختفي تمامًا (المتخيل الوطني)(6) ونقول ببساطة موجعة إن أبطالنا الذين كنا نقرؤهم في رواية الثلاثية لنجيب محفوظ، وعودة الروح لتوفيق الحكيم وغيرهما من الأعمال الإبداعية التي رصدت ذلك التاريخ لمصر، حيث كان المتظاهرون ضد المستعمر البريطاني يهتفون له "نموت نموت .. وتحيا مصر"، هو هتاف لا بد أن يسخر منه الآن السواد الأعظم من الجيل الجديد، وهو تقريبًا الجيل الذي وُلِد قبل حرب 73 مباشرة أو بعد انتصار أكتوبر وعبور القناة 73 أيضًا مباشرة، هذا الجيل المسكين الممزق الذي أصبح من جراء انتصار لم يعد له أي معنى وطني أو انتماء إلى ذلك البلد الذي أصبح ينقض أولاده ويطردهم دون أي حقوق لهم، بل ويجازف بعض الأفراد بالموت غرقًا كي يهرب من مصر، وهو فعل يؤكد نقيض منطوق الهتاف القديم، وهو الانقلاب الكامل عليه.

لا شك بعد مرور خمس سنوات من رحلتي إلى ذلك البلد الهادئ عمان، يثار في نفسي العديد من الأسئلة حول تغيير مواقفنا تجاه الذكريات مع تقدمنا في العمر، حينما أتمعن متأملة لاستكشاف العديد من الشخصيات التي كانت في ذلك الزمن حميمة ولصيقة بأذهاننا، أتأمل وأستطلع الطبائع الذاتية الكامنة والمتأصلة لتلك الذكريات التي أصبحت كمذاق سيجارة قديمة.

ولأن قصتي مع الحب والزواج والفِراق ككل قصص الحب المعهودة التي تبدأ عادة بأن هذا الولد الأسمر ذا الشعر الأسود المجعد والعينين السوداوين، هذا الولد الريفي الجامعي قد أحبني بجنون وكنت أنا في الصف الثالث الإعدادي ما زلت أحتفظ بضفيرتي المنسدلة بلون بني فاتح مائل إلى الشقرة، وعيون بنية داكنة اللون وسط بياض ناصع به قليل من النمش على أنفي، وبعض منه يتناثر على الخدين اللذين تميزهما غمازتان رائعتان كلما ضحكت، فأبدو كفلاحات المنصورة والوجه البحري، الأقرب منهن في الشبه من بنات الصعيد المعروف عنهن السمرة، أو الحمرة، وتقاسيم وملامح هي أيضًا فاتنة، ولكنها تخصّ جميلات الوجه القبلي، مشتركة بين بناتهن وسيداتهن. ولأن دوام الحال من المحال كما تقول أمي الصعيدية الجاهلة، فقد حال بيننا عدم قدرتي على الإنجاب لمدة ست سنوات، وإصرار عمتي التي أصبحت مليونيرة فجأة، مِمَّا زاد من تملصها وإجحافها عليَّ واستهتارها بي، وتوجيه الكلمات والتوسلات ليلاً ونهارًا في أذن زوجي بتطليقي، والزواج من أخرى لإنجاب الذرية الصالحة، وتعليلها المغرض: لمن تترك كل هذا المال؟ أليس لك حق أيضًا فيه أنت وأبنائك القادمين إن شاء الله يا ولدي العزيز؟!

وتحت وقع كلامها الممزوج بالبكاء والنهنهة ومصمصة الشفايف، استسلم توأم روحي (سي محمد أفندي) أخيرًا إلى زن والدته الذي هو أمَرُّ من السحر كما يقولون، وإن كنت لا أعرف كل الحقيقة الكاملة، ربما كانت هذه أيضًا رغبته، وهل لنا بعلم يقيني بما تحمله أفكار الآخرين، مهما اعتقدنا بالحب ومعرفة وفهم أحبائنا فجأة يظهر النكران الشديد، حتى أشعر أنني دخلت فقاعة ضخمة شفافة أصبح فيها معزولة عن رفاق صباي، عمتي وبنات عمتي وأمي وإخوتي وأصدقائي وأصبح مثارًا للشفقة، متروكة في آخر الأمر جالسة بجانب الحائط واضعة يدي على خدي ضِيقًا وتبرمًا وأنا مدانة بلا شيء، امرأة عاقر، منبوذة، مهجورة، وعند بدء ظهور تباشير العرس الجديد، أيقنت أنني سأصبح كهيكل حافلة قديمة، وعليَّ أن أمضي إلى مكاني القديم عند أمي كما تمضي أوراق الشجر اليابسة إلى البِلَى على سطح التربة.

وفي جو من الارتباك الشديد المتبادل بيني وبين جميع أفراد أسرة زوجي، دفعني الحزن والغضب الشديد أن أهيم على وجهي تاركة كل شيء خلفي، حتى مفكرتي الصغيرة أو يومياتي التي أطلق عليها "يوميات العباقرة" التي أحتفظ بها منذ كنت في العشرين، اعتدت أن أسجل بها ما يتبقى من آخر الأشياء والأحداث الكارثية، أو حتى المضحكة، تسجيل الكلمات هو ما يبقيها ويجعل لها مئة حياة وحياة كلما استعدت القراءة مرة أخرى، حتى بعد رحيلي ربما يعبث آخرون بها ويرغبون في قراءتها، فيبدو لي أنني أحيا مرة أخرى معهم وهم يعيشون معي أكثر من التفاصيل القديمة لحياتي الماضية والأخيرة، وأتذكر جيدًا أنني بدأت تلك العادة عندما ماتت جدتي العزيزة أم أمي التي كانت تمارس معي ذلك الدور الحكائي الشفهي وهي تهدهدني وأنا طفلة للنوم.

أحسست أن حسرتي وحزني اللا منتهي على موتها، لن يفتته غير كلمات ساخنة مثل دموعي الصامتة التي لا تنتهي. ها هي مفكرتي العظيمة رفيقي الوحيد الآن، وأنا أسير عبر باحة موقف السيارات الترابي المتجه إلى بيت أمي، ونعل حذائي يحدث صريرًا مع كل خطوة دموع تسقط بغزارة مثل مخالب وحش شرير يريد أن يلتهم الآخرين من غيظه وكمده.

وأشد ما ضايقني، أننى لم آخذ ظرفًا ضخمًا كان به لفيف من الصور الفوتوغرافية أغلبها لي ولزوجي، شاهد على كل مرحلة من مراحل تطور علاقتنا منذ كنا صغارًا يسعى كلانا إلى إثبات رجولته أو أنوثته.

تلك الصور التي شكلت كل ألوان سنوات حياتنا معًا، والتي تشي بقصة الحب المعهود بين سي محمد أفندي وفاطمة، التي انتهت بالهجمة المباغتة لانسداد الشريان التاجي لزوجي السابق، وأشد ما في الحدث غرابة، أنه سقط ميتًا في الحمام ليلة زفافه إلى العروس الأخرى. من كان يظن أن هذا الموت الدرامي الذي لم أره إلا في مسلسل تليفزيوني تقريبًا كان موجهًا إليَّ؟! وحدث فعلاً، ومات زوجي - أو من كان زوجي- في ليلة الزفاف.

كيف ستتطور الأمور فيما بعد؟ ليست هذه هي المشكلة، كل ما يمكنني قوله إنني أصبحت بعيدة عنك، وبعيد أنت جدًّا بُعْدًا لا يحتمل العودة، وأنا في الوقت ذاته لا يمكنني أن أحيا إلا بالاستسلام للخوف.

والاستسلام له أكثر مِمَّا يلزم، وهذا ما أفعله عن طيب خاطر، وبكل همة أغوص في بحار الخوف، حتى تصبح مشاعري وأحاسيسي كجسر من الأوهام تسعى دائمًا إلى قتل الحقيقة، حقيقة أنك لم تعد هنا وحقيقة السفر إلى وطن آخر. وبعد تأكيد رؤيتي واستيعابي لتلك الحقائق أمام عيني أتحول إلى فتاة نصف قروية والنصف الآخر مدني، ثم نصف امرأة، وأخيرًا نصف وطن، وأظل أحيا في فراغ النصف، قبلت أو تمردت الأمر سيان، لقد اختارني هذا القياس النصفي، حتى وأنا لا أزال جنينًا في بطن أمي كنت هذا النصف، يشاركني توأم ذكر تركني ومات، وبقيت أنا النصف الحاضر الغائب غير المرغوب في وجوده لأمي وأبي اللذين كانا يتمنيان بقاء النصف الآخر.

بعد إنجاز رحلة شاقة إلى الوطن الآخر، سيكون ذلك برهانًا كبيرًا على مرور السنوات، ومحاولة النسيان والتجاهل لكل ما مر من حياتي السابقة ليجهز على ما بقي من شبابي وعافيتي، وتملؤني تلك الخواطر من حين إلى آخر وتتغذى داخلي وينمو معها عدوي اللدود، الخوف، فأنت يا حبيبي تسهم مرات ومرات مساهمة فعَّالة في شقائي، وأنت ترعاني بذكرياتك عنك وعن نفسي وعن كل الآخرين والأخريات الذين شاركونا تلك الحياة التي رحلت الآن بين ثنايا الأوراق التي تحتويها بالحكي بعد موتك المفاجئ والغريب، فتظهر كالإله الذي مات بصمت يليق بالملائكة العاشقة، وإن كنت أظن أن ملائكة هذا الزمان ليسوا سوى من صعدوا إلى السماء ولم ينجوا من تلك المؤامرة السماوية التي جذبتهم إليها. وفي كل صباح باكر بعد رحيلك عني أشعر أنني ضجيج خفي شاحب باهت لا يصرخ أبدًا لا يتفوه حتى بمجرد الكلمات، لكنه أشبه بطنين أسمعه في أذناي مخترقًا هذا السكون الممل، وتنتابني قشعريرة فجأة. كم من مرات عديدة أعاني من هذا الخوف الهائل، وهو بدافع الحب والاشتياق إليك والافتقاد إلى وجودك الحي الناطق، كما كان أيضًا يملؤني حتى وأنت حي ترزق وسواس قهري بأنك ربما لا تحضر بغتة كما حدث الآن، ونجلس معًا جنبًا إلى جنب، وتقص لي قصصًا عن عينيَّ اللتين كانتا أجمل بحيرتين داكنتين بالتألق، حيث الأفكار والأحلام تسبح فيها كحوريات البحر، وتحدثني في حينها إنني أبدو لك كجبل ثلجي ناصع البياض بأبهى الفضاءات والصور وهو بعيد وراء كل الآفاق، تختبئ فيه الكلمات ولا أستطيع أن أسمعها، لكن نظرتك وحدها ما تزال تتكلم، فالنظرات ثابتة وقوية الإيحاء وهي لا تغادر مطلقًا الأماكن التي يولد فيها البشر الذين يحيون ويعيشون ويحبون بها وللأسف ينتهون حتى وهم أحياء. وتحدثني مرة أخرى عن اللقلق الذي يأتي بالأطفال إلى الثريا، ويتبدل الحديث إلى دردشة عقلانية عن الأصدقاء ونصدر الأحكام ونمارس النميمة، وآراء مختلطة لكلينا عن نيات الأصدقاء تجاه كل الأمور، وحينئذ ترمقني بنظرات الحب المشتركة بيننا تجمعها لحظات صادقة، إلا أنني أحس بالخجل ولا أعرف ماذا أفعل؟ كنت طائرة من الفرح مثل الفراشة ولكني لم أكن مزهوة، لأن الذي له قلب صادق طيب مثلك لا يمكن أن يغتر ويتعالى، إلا أنه أيضًا من الصعب قول الصدق الكامل، فعلى الرغم من أنه لا يوجد سوى صدق واحد فقط، صدق مفعم بالحياة والتلقائية، وعلى هذا كله فإنه أيضًا له وجه متغير، ممتلئ حيوية وهو ليس وجهًا جميلاً على أي حال في حقيقته مهما كان انبهارنا به، فهو ليس جميلاً جمالاً تامًا، وهذا استنتاج يدعو إلى الأسف، لأنه صدق. يتحول ويراوغ مع صدق الآخرين لكنه قد يبدو جذابًا في بعض الأحيان مع تلك النظرات في حينها التي لا تعرف الحقد ولا الانتقام.

حبيبي، ليس هذا الخوف هو خوفي كله، إنه مجرد جانب منه فقط مِمَّا يؤسف له حقًّا أنه كذلك بالنسبة إليَّ، وإن يكن هو الخوف الذي يلازم كل أشكال الإيمان منذ بدء الخليقة. إن استمراري في الكتابة عنك في يومياتي ومفكرتي "يوميات العباقرة" ليس فقط لك، بل هو أيضًا للكلمات التي أشعر بها كأنها بشر يهربون عبر الحوارات والأحاديث وفتحات القبور التي تدلف منها كلمات ونحن لا نعي ذلك داخل كل الوجوه التي ماتت، وتنغلق عليها الشفاه لتصنع أبوابًا أسمنتية حتى لا تستمر في الحديث عن الجروح التي لا تندمل، فما من شيء لينتهي حتى بعد الرحيل والسفر والذهاب إلى أقاصي الدنيا، وأخيرًا تؤوب الكلمات إلى آخر ملجأ، إلى الورق الأبيض والقلم وهي ممدودة بين السطور المستوية وأنفاسها تلهث بتعسر رويدًا رويدًا حتى يتيسر مرورها بين ثنايا الأسطر.

وربما في ذلك الحين أغلق اليوميات، وأزحف كالحية تاركة آثاري على الأوراق شبيهة بآثار الدراجات فوق الرمال، أمضي محاولة النوم والكلمات تلمع على سطح الأوراق كما يلمع القمر في فضاء السماء الليلي، وتتوالى الصباحات الباكرة بعد رحيلك الذي يحاصرني كوهج الشمس، فكما أن العالم ليس ضئيلاً إلى هذا الحد ونحن لسنا بهذه الضخامة أمام إمبراطورية الشمس بل أنا جارية طغيانها الذي يزيح سواد الليالي الغاشمة وينزع ويشرق بقوة وهي تعلن قائلة:

- أنا الشمس وأنتم حقول القمح التي أرعاها بنوري الوهج، ففي البداية كانت الأم إيزيس، نعم سيدتي، إيزيس هي من بدأت الحياة في مصر القديمة، في نفس المكان الذي أشرقت فيه الشمس، أصل الحياة ورمز الرب الأكبر "رع "، وأصبح المكان يعرف بمدينة الشمس أو هيليوبوليس.

وتحكي الأسطورة القديمة أن "رع "واهب الحياة لكل من السماء التي أخذت صورة امرأة جميلة تدعى "نوت" وللأرض التي أخذت صورة رجل يسمى "جب" وأحبت السماء الأرض، كما أحببت أنا رجلي الراحل بعشق ووله، ومع هذا الحب الذي بدأت أسطورته أمي السماء وأبي الأرض جاء البشر إلى الوجود وتكونت أول أسرة عرفها التاريخ، إيزيس وأزوريس وست ونفتيس، وتنجب الأم إيزيس العظيم حورس الذي خلص البلاد من شرِّ عمه "ست" في معركته الشهيرة التي سجلتها جدران معبد إدفو بينما أنا أؤخذ بطعنة غادرة من القدر ولا أنجب الولد أو البنت. أيتها الشمس أهاتفك بنبع إيزيس الخصب رمز الوفاء والإخلاص إنها ليست تلك الغيرة القاتلة، إن الأمر لا يخرج عن أن أفكاري تتواثب حولك لأنني أردت أن أمسك بك من عدة جوانب، منها جانب الغيرة وإن كان ذلك أمرًا سخيفًا، لا أظنه سيحدث مرة أخرى في أثناء التفكير والقراءة عن جلالك وعظمتك، فمرجع ذلك فقط إلى أحلام مرضية بدأت تداهمني لا بد أن سببها أنني أعاني من الوحدة والحزن وقسوة الناس ورحمي الناضب.

خصوصًا أنني في الليلة الماضية حلمت حلمًا مخيفًا، كانت ليلة سيئة إلى أبعد حد، وإن كنت لا أكاد أذكر شيئًا من التفاصيل غير أنني أسمع أصواتًا صاخبة وعراكًا مهلكًا بيني وبينك يا سيدتي، تنبعث في برودة شديدة إلى أطرافي، تصل في بعض الليالي الشتوية إلى التجمد والصداع المزمن والقاتل. أترين أيتها الأم إيزيس إلى أي حد يفتقر المرء إلى التحكم في ذاته ومشاعره تجاه الآخرين؟ إلى أي حد يتطوح ذهابًا وجيئة في بحر هائج من الكوابيس بدوافع من الغضب والتمرد على الكوارث الإلهية؟ وما على المرء غير أن يبتلع كل ذلك في جوفه وتعانقني روح إيزيس التي بداخلي، رأفة بحالي وهي تتضرع إلى السماء.

أعطني ردائي وتاجي

وأيضًا عطري وبقية ثيابي

سأكون في أجمل صورة

كالعظيمة إيزيس

إنني أذهب إلى الموت بإرادتي

أو يكون الموت نصيبي

ولتعطيني يا مصر في موتي السلام

الذي حرمت فيه في الدنيا

أخيرًا أيتها الكلمات رفيقتي وظلالي في هذا العالم الوحشي الآن وبعد الآن، أشعر أنني أتحدث معك عن الموت ومن ماتوا طوال الوقت، لكنني لا أموت حتى الآن.

صديقة لي من أيام الجامعة وجارة لي في نفس الحي الذي تقطن به أمي طرحت عليَّ سؤالاً مهمًا خلال زياراتها المتلاحقة، تواسيني أو تعزيني عما حدث لي، سؤالها أصبح فيما بعد نقطة مصيرية أخرى من حياتي: لماذا لا أسافر إلى ذلك القُطْر الذي سافَرَت إليه هي من ثلاث سنوات سابقة نحو عام 2000؟ ستُحَدِّث الكفيل (أي المسؤول عن العمل) وهو بمثابة الأب الروحي للمعلمات في مدرسته الخاصَّة التي يملكها، وإن كان يدير نحو ثلاث مدارس أخرى معها في مناطق عدة في سلطنة عمان.

ويقوم هذا الكفيل بإدارة الأمور الخاصَّة بالإقامة واستخراج بطاقة العمل تحت كفالته، وله الحق في إنهاء أو مد فترة العمل لديه في أي وقت يرغب، ما يطلق عليه هنا التفنيش والترحيل من البلد، وقالت إنها ستجعله يرسل إليَّ فيزا زيارة ثلاثة أشهر أرى فيها الأمور ويراني أيضًا، إذا صارت كما أرغب تتحول الزيارة إلى عمل وإقامة وكتابة عقد بيننا يتحمل كلانا تنفيذ كل شروطه ويتحمل هو دفع الكفالة لاستخراج بطاقة عمل وتوفير السكن والمواصلات إلى المدرسة وتذاكر الإياب والعودة إلى مصر وسيكون الراتب مئة ريال فقط لأنها مدرسة خاصَّة.

لاحظت من حديثها المرتب والمنطقي أن الموضوع له خلفية أكثر من مواساتي أو الترويح عني، وقد كان لهذه الملاحظة مغزاها، وتفسير نقاط بعينها، فأوضحت أنها بعد عودتها من عُمان أصبحت تجلب له معلمات لمدارسه الخاصَّة من جميع التخصصات، وهذا بعد أن قامت بتوثيق علاقتها مع الكفيل ذات نفسه ومديرة المدرسة التي كانت تعمل بها في مسقط، وتتقاضى ألف جنيه نظير ما تقدمه من تسهيلات واتصالات مع الكفيل لسفر المعلِّمة، ولأنها صديقتي القديمة من أيام الطفولة فسترأف بظروفي الخاصَّة، وسـتأخذ فقط 500 جنيه.

أشد ما لفت انتباهي بعد انتهاء حوارنا بعدم إجابة واضحة مني سواء بالقبول أو الرفض، أنها ستعطيني مهلة لا تزيد عن أسبوع لأفكر، لأن الإجراءات تأخذ بعض الوقت، وعززت إغواءها لي بأنها فرصة لغسيل الأحزان وتناسيها. والملاحظة الفارقة لجارتي وزميلتي القديمة أنها كانت تؤدي كل هذا بملامح وأسلوب جديد عليها في الحديث لم أعهده بها أيام دراستنا معًا منذ الصغر وصولاً إلى الجامعة، لقد تبدلت تمامًا وأصبحت أكثر مرحًا وتفاؤلاً وهي تتلاعب بالحواجب والغمزات، لا أعلم بعد سر تلك التغيرات التي ظهرت عليها فجأة، خصوصًا بعد سفرها وعودتها من ذلك القطر العربي، فهي لم تقم هناك غير ثلاث سنوات لا غير، ثم آثرت البقاء في مدينتي بعد أن تم خطبتها لأحد المدرسين المعارين لمدة أربع سنوات في السعودية، وتنتظر قدومه لإتمام الزفاف.

ترددتُ في بادئ الأمر، فهو ليس إلا فيزا للزيارة وربما لا أعمل وأعود مرة أخرى، وماذا سأجني غير خسارة ثمن تذكرة الطيران ذهابًا وعودة؟ فذلك شرط شركات الطيران في حال وصول تأشيرة الزيارة من عمان، ضمانًا للعودة ما دامت الدعوة موجهة للزيارة فقط، إذ هي فرصة عمل غير مضمون والراتب مئة ريال عماني فقط.

ولكن ما البديل؟ أنا هنا أعمل مدرسة بالأجر، وهو عقد موسمي ينتهي مع بداية أشهر الصيف (أي مع انتهاء العام الدراسي) وراتبي لا يتعدى مئتي جنيه، وأصبح لي الآن أكثر من شهرين لا أذهب إلى العمل مللاً واكتئابًا للفاجعة التي حدثت في حياتي ولا بد أنهم فصلوني وجاؤوا بغيري.

ولكن ماذا أفعل بنفسي وسط هذا الحزن العارم الذي جعلني أشبه بامرأة شبحية كما لو كنت مرسومة بالطبشور على السواد وأنا أحدق ليلاً ونهارًا في سقف حجرتي، وحينما أضجر من جلستي بمفردي في الحجرة أذهب إلى البلكونة في المساء حتى يأتي الليل وأحدق في السماء الكئيبة بعد كل فرح السنوات المنقضية وبهجتها، وتتبدى لي السماء للمرة الأولى في يأسها الحقيقي عديمة الحيلة مثلي تمامًا؟ إذن فلتكن المغامرة، ربما تكون مخرجًا لإنقاذي على نحوٍ ما، وهي فرصة للسفر إلى وطن آخر.

الوطن... الوطن.

أتذكر فقط هذه الكلمة، هل لي وطن؟ ألا زال يلهيني ويلهمني حتى اليوم؟ أشعر شعورًا غريبًا، كما لو أن الوقت لم يمر وليس هناك من إجابة مطمئنة دونما شك، أين وطني؟ هل لي وطن؟ كل ما في الأمر أننا نتبادل أماكننا الآن بالسفر إلى وطن آخر. إن لك وطنك، ويمكنك أن تنبذه أو تهجره، لعل هذا يكون من الأفضل للمرء أن يفعله بموطنه، طالما أن المرء لا يمكن أن ينبذه أو يتمرد على تلك الأشياء والأحوال البالغة السوء إذ أنت لا وطن لك في نهاية الأمر، ولهذا فليس لديك ما تنبذه، وعليك أن تفكر طوال الوقت في البحث عنه أو إقامته متخيلاً أن لك وطنًا، أن لك وجودًا وانتماءً داخله سواء كنت مستلقيًا تحت أشعة الشمس الدافئة في ليالي الشتاء أو مختبئًا منها تحت الظل في ليالي الصيف الحارة أو على فراش النوم. كم أنا أحاول جاهدة في تلك الأيام العابثة أن أعانق الظلمة التي تسود غرفتي حتى أنام، وإن كنت في تلك الأوقات أنام على الأغلب نومًا سطحيًا للغاية، وعندما لا أنام لا أكون متعبة فحسب، بل حزينة، ثقيلة ثِقَلَ جِوَال، أكاد أتمزق إربًا بفعل القلق والخوف والاشتياق إلى الوطن.

مرة أخرى لا يمكنني أن أتذكر الوطن كثيرًا، إن كنت شخصًا فلست أتمنى أن أقبلك وأرحب بك وذلك لأن حبي لك إنما هو كمن تذكر حوارًا قديمًا وأنا أقول وأسمع العبارات الأولى والأخيرة، أما لب الحوار لا يمكن نقله ووصفه لأي شخص بواسطة كل الكلمات وأفصح التعبيرات، ذلك هو الوطن الغائب -للأسف الشديد- بالنسبة إليَّ.

وجاء يوم سفري في منتصف يونية2003 موعد وصولي إلى ذلك البلد العربي الجديد عليَّ وقد كنت في اليوم السابق نتسابق أنا والانتظار في لعبة سخيفة، حيث أنا جالسة خلف سور البلكونة في منزل أمي أفترش البلاط البارد عمدًا، فتلك البرودة تتسرب إلى إليتيَّ فيتخللني إحساس منعش وسعيد بالبرودة المحببة إليَّ في ليالي الصيف الحارة مساءً، مستندة إلى السور وجهي ناظر إلى الأمام حيث يواجهني التليفزيون في المقابل، كنت أنتظر أمل ابنة عمتي الثرية الظالمة وأخت زوجي السابق (الراحل الآن) حتى تحضر لي الصور الفوتوغرافية الخاصَّة بي أنا وزوجي والكثير ممن لم يعد لي صلة بهم، فتلك الصور الساكنة الساكتة اللقطات أحيا بها وأنا أدس نفسي بنظرات طويلة ممعنة في التذكر وفحواها المشهدي القديم تسجيل وشاهد على سن الخامسة العشر والعشرين والثلاثين بدءًا من لقاءات الحب إلى قصة الحب المعهودة والمتكررة لدى الآخرين والأخريات والتي أظن أنها تخصني بواحدة لن تتكرر في حياتي القادمة مرة أخرى.

وذاكرتي تبدو كالنعامة، تدس رقبتها مختبئة بين رمال الذاكرة عامرة بخطوات ثقيلة على تلك النفس الضعيفة التي تحمل من الانكسار والحيرة ما يكفي لأن نرجو ونتمنى لو تبتلعها عجلات سيارة طائشة.

صديقي الانتظار، يبدو أن عمتي من حسرتها على ما حدث لابنها رفضت تمامًا أن تحضر ابنتها نكاية لي على أفعال لم أرتكبها، هل كان ذنبي أنني لم أستطع الإنجاب؟ هل كان خطئي أن يموت ابنها في ليلة زفافه إلى العروس الأخرى؟ إنها أفعال إلهية لا علاقة للبشر بها غير تزامن زمني وفروق توقيت جعلتها تبدو كتمثيلية من صنعي، ها قد ذهب رجائي الأخير أدراج الرياح ولم تأتِ أمل، ولن أحتفظ بتلك الصور العديدة التي لم أفكر يومًا أن أعدها وأحصيها، فكم من المرات رغبت وفعلتها، أن التقط صورًا لنا في كل مكان نذهب فيه معًا، وتأخذني الخفة والجرأة في بعض الأحيان إلى أن يلتقط لي زوجي السابق صورة خاصَّة بارتدائي قميصًا للنوم في مرته الأولى له قبل أن يطارحني الغرام، تعليلاً مني أن هذا تدوين لبهجة قميصي الجديد على جسدي ولمعانه الأول يملؤني بكل السرور، والفرحة، والحب الدفين، الذي انتقل إليه من عضلة قلبي المتيم، فالأميرة دائمًا في حاجة إلى قبلة لتعيش. أفقت من انتظاري قائلة لنفسي بفزع:

ما هذا؟! إنني لن أراها مرة أخرى بقية حياتي، سأعيش دون أي وجود لماضٍ، أو شاهد لذكرياتي المتجسد في تلك الصور التي تجعلني أتمحور حول ذاتي وأتوحد في ذات الآخر الراحل، بعد ساعات سأصعد إلى السماء، ولأن تفكيري في البدء سيتجه إلى الطائرة وهي تحلق بين ضباب السماء، ثم تستحضرني فكرة متخيلة أن أقفز من الطائرة وأسبح في الفضاء السماوي باحثة عن حبيبي، ونحن صغار كنا دائمًا نسمعهم يقولون إن أحباءنا يصعدون إلى السماء، خالدين في الجنة، وينفجر صوت أمي مخترقًا انتظاري التائه بين الخيال واليأس من فكرة عدم حضور أمل. تعاتبني وتلومني بحدة قائلة:

-      يا بنتي صور إيه اللي انتِ مستنياها من أمل؟ هتسافري ولا لأ؟ أختك جات علشان توصلك المطار.. ناسية إن لسه في سفر من هنا لمصر؟ مش كفاية إنك سيباني؟

وتتنهد ذاهبة إلى المطبخ تعد ما تعده، وترطن باكية:

- يخرب بيت الحب وسنينه.. دا إيه الجنان دا يا ربي؟

تسرب الزمن من يدي، وحان ميعاد الرحيل (السفر).. وفجأة رأت مخيلتي بحورًا.. أمواجًا.. أعاصير وطوفان من الغضب.. كل هذا ملأ عينيَّ بغتة، وتساءلت نفسي المنكودة لمَ لم تأتِ وتنقذني من الانتظار الذي سأظل في شباكه كعنكبوت أحكم حصاره الشبكي حول عقلي وروحي.

أشعر أن لغة البشر تعجز عن وصف ما بداخلي، ألزم الصمت، أبكي.. أهدأ.. أتبلد.. الآن أعلم وأحس أن البلابل تسمعني، والأشجار تهمس لي، الآن عليَّ أن أبصق على كل ذكرياتي المريرة طفولتي البعيدة جدًّا عن ذهني، وحبي المرهف، مرورًا بأحلامي المجهضة، وصراعي مع عمتي وكل المجتمع القاهر ورحيل حبيب صبايَ وشبابي الذي انتهى برحيله، حتى حضر هذا السفر المفاجئ.. وعندما جاء لم أعد أعرف أريده أم لا.

أيها الانتظار اللعين لم أعد أحب لعبتك المميتة، عنوان الخيبة والهزيمة، عيناي زائغتان بهما شرود وغضب مكتوم، لن تأتي من أنتظرها، لن يحدث كالعادة ما أتمناه وسأعض على أناملي ارتباكًا وفشلاً وتفوت الفرصة الباقية لي، بل كل الفرص.. وأصبح خالية الوفاض.. وأهب نفسي القلِقة للاحتمالات وللكثير منها الذي أخشاه، ماذا بعد الانتظار الوقح المتعجرف؟ اذهب عنى أيها الانتظار، فالأمر لا يتعلق بالخوف منك، ولكن أعتقد أنك تضمر لي نية سيئة بأنك ستشرع في قتلي ببطء، بانتظاري المجهول، وأنا لا أريد أن أعود إليك، لن أنتظر أحدًا، اذهب ودع عني حذلقتك أيها الانتظار العدائي، الأفضل لي ترك الأمور تسير كما هي، فالناس جميعًا يعلمون أن الحياة لا تستحق أن يحبوها، وأنا في أعماق سريرتي لا أجهل أن الموت في عمر الثلاثين أو في سن السبعين لا أهمية له.

لقد مررت عبر باحة الانتظار، وصعدت بي طائرة الاغتراب لكي تلخص الزمن الحائر في أفكاري المشتتة من مقولة أختي الكبيرة التي رافقتني إلى المطار وهي تدعي بحزم ودونما أي دموع أو حزن للفراق بيننا:

-      اعرفي يا فاطمة إن الوطن هو اللي فيه رزقي ومالي وستري، سيبك من هنا ووَش هنا.. هناك كل حاجة جديدة عليكِ، ودا أحسن لك في الفترة دي.

وأنا أصعد الطائرة، رأيت صديقات كثيرات، تركن مثلي بلدهن وخصصن كل وقتهن للكفاح من أجل حريتهن المفقودة، لا بد أن كلهن قد شعرن لبعض الوقت أن الرابطة التي تربط بينهن وبين وطنهن مجرد وهم. وقد علمتنا غرائب الأمور وأحكام القدر المبهمة التي تحكمها الصدفة، أن الاستثنائي والفريد الذي يحدث في حياة الناس العاديين في كل يوم هو قمة الحقيقة، وأعلى بطولة يختارها الإنسان يوميًا التي ليس لها مكان بين أفخم المهرجانات وكل أشكال منظمات حقوق الإنسان وكل الأوسمة الرائعة، وسر تلك البطولة أنهم أبناء وبنات القدر الحقيقيون الخاضعون خضوع الرضا والقناعة، وهذا ما نعبر عنه بقولنا: القسمة والنصيب ومشيئة الله.

والحق إن هذه المصائب الثلاثة وهي عدم إنجابي وطلاقي وموت زوجي، وهو أمر فظيع أن أعترف بذلك، تجعلني سعيدة على نحو من الأنحاء، فلقد اختفى الآن وإلى الأبد بعض شهود الإثبات على حياتي المتسربلة بالعار.

وسيزداد العالم وضوحًا أمام عينيَّ وروحي وأنا أعترف بقولي أخيرًا، نعم أخيرًا، لن يكون هناك من يتذكرني في تلك السنوات القادمة المضطربة من حياتي الباقية بينما أغدو وأروح بلا استقرار بين البيوت البيضاء مثل ثعبان لا يمل من تغيير جلده، أو مثل وحش أناني بحاجاته الغريبة الصريحة، الجارحة، ويتدنى حضوري الاجتماعي حتى أصبح هدفًا لكل هجوم، وموت الآخرين يأخذ من حياتي شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى مني شيء، فهذا على نحو ما رحمة كبيرة منحها لي ربي، وفي المقابل لتلك المنحة إنها الطريقة الوحيدة لإطالة حياة محبوبي، هي أن أحتفظ به في ذاكرتي، فتوقفه عن الحياة يعنى أن نصف ذاكرة فقط ستتوقف، بينما لو توقفت أنا أيضًا عن الحياة ستتوقف الذاكرة كلها ولا يعد له أي وجود أو حياة.

 

الفصل الثالث
بـئر الـعفاف
ما إن هبطتُ من سلم الطائرة إلى الوطن الآخر، حتى شعرتُ كأن شيئًا جديدًا يشتعل في رأسي، وهمست لنفسي قائلة:

- ها هو الآن حلمك لمحو الماضي قد قرب، ها أنا الآن في بلاد إخواننا العرب أصحاب الجلابيب البيضاء، مع اختلاف عرب تلك البلدة، إنهم يرتدون تحت الجلباب الأبيض ما يسمى الدشداشة والكاب العماني والإزار العماني، وهو عبارة عن قطعة قماش بيضاء مربعة يمتد طولها من خصر الرجل الذي يلفها حوله لفة أو لفتين بإحكام ويثني جزءًا منها داخل بطنه حتى أسفل الركبة بقليل. وهذا يعنى أنه لا يرتدي سراويل أو لباسًا داخليًّا مطلقًا تاركًا عضوه هكذا يتموج في حركته دون ستر حقيقي بتلك القماشة البيضاء المصنوعة غالبًا من القطن أو الكتان.

وهذه عادة منتشرة كثيرًا بين الشباب والرجال حتى سن الشيخوخة، أما الأطفال عمر خمسة عشر تقريبًا يرتدون سراويل رياضية أو "شورت"، فهم لا يعرفون التعامل مع اللباس الداخلي، وهذا ما يفعله صغار السن من الصبية، حتى يدركون فن التعامل مع الإزار. ولكن ماذا لو سقط سهوًا، خصوصًا إنه لا يتحرك به بمرونة حول عجيزة الرجل. ونساؤهم كلهن يرتدين العباءات السوداء المطرزة، المفتوحة من عند الصدر أو من الوسط أو من الجانبين، وهي ليست ملبسًا أساسيًا كما عندنا هنا في مصر، إنما هي أشبه بالطربوش في زمانه الأول في مصر، تحتها ترتدي المرأة كل ما تشتهيه من ملابس حريرية، أو بناطيل ضيقة تغطي الأرداف الكبيرة المدملكة المتمايلة يمينًا ويسارًا بلا رادع، ومنهن المبالغات في التأنق وعرض مفاتن الجسد، بقمصان نوم مستوردة أو فساتين السهرة التي نراها في حفلات "الهاي كلاس" وكلها منسوجات مستوردة وليس لها أي علاقة بالزي العماني، فمسقط سوق مفتوحة لكل الماركات العالمية، ومنهن من لا تزال تعتز بالزي العماني المُكوَّن من بدلة حريرية أو كتانية النسيج تزخر أطرافها عند الأكمام وأطراف البنطلون بتطريز أشبه بنمنمات الأرابيسك، مشغول بشكل دقيق ومتعدد الألوان تملؤه الغرز والترتر الساطع ببريقه كالكريستال، ومنهن من يزعمن أن من علامات ثرائهن أن تلك الخيوط بها خيوط ذهبية، وأن هذا الدبوس الذي تلف به الطرحة ذهب خالص، وهذا حقيقي لبعضهن. وتلك الطرحة تكون كبيرة وطويلة من نفس لون البدلة العمانية ومطرزة عند الحواف، وعند التفافها حول رأس السيدة تغطي جانبًا كبيرًا من صدرها وتصل إلى أسفل ظهرها من الخلف.

أما الزي الشائع والمستخدم في الحياة اليومية المعيشة هو "الويل" العماني، وهو قطعة قماشية واحدة أشبه بالعباءة ولكنه مجسم عند البطن والأرداف ومستدير الحواف عند الرقبة ويكاد يدخل من الرأس، يشاركه طرحة كبيرة مستطيلة المساحة أو مثلثة مصنوعة من قماش رخيص وجودة أقل، لأنه ملبس يومي وأحيانًا كون فضفاضًا، وهذا غالبًا يرتديه السيدات الكبار اللاتي لا يعنيهن توضيح وإظهار مفاتن أجسادهن من العمل الدائم والحمل والولادة المتكررة.

بلاد العرب، هذا المصطلح يذكرني بالطفولة، في تلك البلاد، بلاد النفط السوداء ذات الطقس الحراري الشديد الوطأة، يغيب عنها أكثر شهور السنة الشتاء والبرد الحقيقي، كان أمي وأبي بها منذ زمن بعيد، وأنا لا أزال بعد في السابعة من عمري.

ها أنا أعود إليها في الثلاثين من عمري، ولكن الفارق أني الآن بمفردي، لا أحد معي، لا شيء يلازمني غير وحدتي، ومزاجي المسيطر على ملامحي، والاكتئاب لِما مر علىَّ من أحداث هالكة. طفولتي كانت هنا حتى تقريبًا انتهاء المرحلة الابتدائية، ما بقي يداعب ذاكرتي عن تلك الرحلة التي استمرت تقريبًا أربع سنوات عبر أطياف وأشباح لرجل سعودي يضع فوق رأسه العقال السعودي والغطرة يحملني دائمًا، ويشتري لي الكثير من الحلوى والألعاب، وآخر مصري يرتدي أيضًا مثله الجلباب الأبيض دونما شيء على الرأس وله كرش كبير يزعجني انتفاخه، وأنا في الوسط بينهما مثل قطة شاردة، وأحيانًا يحاولان استلاب اللذة مني باللعب معي عبر ما نتأ من بروز صغير، وما لم يظهر من أعضائي الأنثوية البريئة، لولا أختي الكبيرة التي دائمًا ما كانت تنقذني في الوقت المناسب بندائها عليَّ فجأة وقد شعرت أنها قطعت عني شلالات الرغبة واللذة البريئة التي لا أعرف كنهها.

فجأة انكمش قلبى من الخوف، وأنا أتذكر نصائح معارفي:

- كوني حذرة، فما حدث في ماضيكِ قد يتناوله آخر ليقتحم أنوثتك بلا براءة في بلاد العرب.

كنت أنتظر من يقلني، ويأخذ بيدي إلى الحياة الجديدة علىَّ، واندفعَتْ أحلام الطفلة الصغيرة الماضية والحاضرة، فهي الآن امرأة مكتملة الأنوثة والتجربة، والحزن القائم في قلبها على الدوام يشعل جوفها من امتداده إلى الأعماق وهي تغمض عينيها تكرارًا حتى تهدأ كل الأحداث الماضية المتشابكة كشباك الصيد، تحاول أن تلتقط الهدوء كما يلتقط خطاف السمك وأفتح عينيَّ مرغمة على التواصل لأصل إلى بياض ناصع كاشف عن حقائق عجيبة وغريبة، بل أحيانًا شاذة، آه هل هناك حقيقة داخل تلك الكمائن البيضاوية؟ الفارس العربي هل هو في انتظاري؟

يا إلهي لا زلت أنظر مشدوهة أرتجف وأنا واقفة على أعقابي أنتظر في الباحة المؤدية إلى الوصول النهائي لتلك المدينة من المطار إلى مسكني وعملي الجديدين، ألتفت يمينًا ويسارًا لا ألمح غير دشداشات بيضاء وبيوت بيضاء تتخللها العباءات السوداء كخلايا سرطانية غريبة عن الاكتمال البيضاوي.

وصلت مسقط في نحو السادسة مساءً، كان في استقبالي هذا العربي الرشيق القوام، بابتسامة منفرجة من شفته ملأت ملامح وجهه القريب من الشيخوخة، يحمل عني الحقائب، ويضعها بهمة ونشاط في مؤخرة السيارة المرسيدس الفضية اللون، سيارة رائعة ولمعانها يضوي في عينيَّ وأنا أحس بها تسبح في نن عيني وهي تقف مثل إوزة ضخمة تسبح في بحيرة ثلجية.

تشاركه الابتسامة -على ما يبدو- مساعدته الملازمة له ابتسام، وأخريات لا علم لي بأسمائهن بعد.

كنت مضطربة، ومرهقة إلى حد كبير، طلب مني الكفيل بمجرد ركوبنا السيارة الفارهة جواز السفر، فاستغربت، بل رفضت وتساءلت لماذا؟! حتى ضحكت إحدى الحاضرات وقالت بصوت حاد ورتيب يشير إلى أول إنذار لي:

ما لك يا حبيبتي؟ أنت لسه فاكرة نفسك في مصر؟

واستطردت قائلة بفجاجة:

- عايزة تاكلي عيش في البلد دي ما تسأليش كتير.

بعد لحيظات صمت، أوجمتني، أخرجت جواز سفري مع التذكرة، وأعطيتهما لابتسام التي استدارت من كرسيها الأمامي ناظرة إليَّ نظرة طويلة غريبة ومتحفزة ولها الكثير من التفسير في الأيام القادمة بيننا.

حل الظلام سريعًا، لم يعد من الممكن رؤية شيء سوى الأبنية ذات الطابقين المطلية باللون الأبيض تلمع وسط هذا الليل، والنجوم الساطعة المتناثرة فوق رؤوسنا على نحو غير مألوف، والقمر غائب، فعجبت من عدم ظهوره في الأفق، وشعرت بغموض يحوم في الأعالي ويهبط على قمة رأسي، ونفسي متقلقلة، هائمة، حزينة لغياب القمر، إحساس بالخوف قد مضى عندما رحلت عن وطني، ولم يبقَ لي إلا مرارة الفقد، والدهشة والأسى لكل آتٍ سيحدث لي.

عندما وصلت إلى سكن المعلمات، كانت مدرسة قد وصلت قبلي تُدعى أبلة فوزية، ولقبت دون غيرها بلقب أبلة احترامًا وتبجيلاً لروحها المتفتحة على العالم ولبشاشة الوجه الصافي من أي تجاعيد رغم أنها تخطت الثالثة والأربعين، نحيفة جدًّا ومتوسطة الطول، وهنالك القليل من اللون الرمادي يتداخل مع الأسود الذي يتوج رأسها بهذا الشعر القصير بقصة آلاجارسون، وعيناها تلمعان توقدًا، وتبهج بابتسامة تظهر على وجهها بمجرد أن تراك، فقد كانت بمثابة جب عميق للأسرار لكل المعلمات، ليس فقط لأنها أكبر سنًا، ولكن لأنها تمتلك روحًا مغناطيسية، تستقطب بها كل من حولها، سخيَّة، منصتة جيدة لكل المشكلات والحكايات.

تجري على لسانها عبارات دينية كأنها تعلن عن تدينها بقولها تعقيبًا على كل موقف: قال الله، وقال الرسول، وهذا امتحان من ربنا. وتستشعر بصدق تدينها رغم أنها ممن ينطبق عليهم "يقولون ما لا يفعلون" فهي خريجة دراسات إسلامية جامعة الأزهر ومدرسة تربية دينية، وتحفيظ القرآن وتجويده.

بدأت صداقتنا القوية بحادثة مفزعة لن تجعلني أنساها أبدًا، ففي اليوم التالي للاستقرار في سكني، استيقظت على صرخة أبلة فوزية، وكنت نائمة بجوارها على سرير واحد، فالغرفة واسعة جدًّا وبها أيضًا أربعة سرائر ودواليب معدنية من ضلفتين وتليفون وبلكونة واسعة.

في البدء تجاهلت تلك الصرخة، ثم توالت الصرخات، مؤكدة إعلان الألم الشديد، يفوق تحمُّل من يستصرخ بها، ففي ثدييها المنتفخين ببقايا اللبن الذي لم ترضعه لطفلتها التي تركتها وهي لم تتم أربعة أشهر بعد، تحت وطأة السفر مفاجأة، ومن توهتها لم تتذكر أن تأخذ شفاطة اللبن في ثدييها أو الحبوب التي تجفف اللبن، ما دامت ستنقطع عن إرضاع طفلتها.

برزت حلمتا ثدييها باحمرار قانٍ كثيف وكادا يخترقان الجلابية التي شفت عنهما، فهي لا تلبس أبدًا "السوتيان" إلا عند خروجها إلى العمل متعللة بأنه يجثم على أنفاسها، قائلة:

- خليهم كده أحسن طايرين في الجو.

وازداد هياجها مع تحجر الثديين تحجرًا كاملاً، واللبن يعاندها في نزوله، وهي تحاول أن تضغط عليهما بيديها بشدة، وتجز على أسنانها وتبتلع ريقها وتغرس أسنانها في شفتها السفلى، فالأمر يحتاج إلى طبيب، حدث هذا تقريبًا في الساعة الثامنة صباحًا ولا يوجد أحد من المعلمات، فكلهن خرجن إلى العمل. وزاد هياجها، وأنا لا حول ولا قوة لي، كل شيء جديد عليَّ، حتى هذا الوجع الأمومي الذي حُرِمت من متعته، وأبلة فوزية لا تهدأ، تمر الدقائق والثواني كوحش كاسر يفتك بأعصابها تمامًا والمرأة تهذي وتتأوه، تناجي ربها أن يرحمها، وتستحضر صورة طفلتها الرضيعة، فتصرخ أكثر من آلامٍ عدة تجمعت كلها وحطت في ثدي المرأة المسكينة، وأخيرًا أخذت تضرب الحائط بيديها إعلانًا عن هذا الوجع الذي يكاد يفتك بها، ونزعت أزرار مقدمة جلبابها وشقته إلى المنتصف، فظهر ثدياها كاملين، وزمهرير ينفلق من حلمتيها المنتفختين، وأمام هذه الانتكاسة الصباحية جلسْتُ بجانب أحد حوائط الغرفة أبكي حتى جاءت لي والاصفرار بادٍ على وجهها، وعيناها غائرتان في الدموع، تسألني بنبرة منهكة:

- إنتي قلتي اسمك إيه؟ نسيت.

فأجبت متعثرة في حروفي:

- فاطمة.

- ممكن تمسكي صدري، وتحاولي تضغطي عليه؟ يمكن اللبن ينزل، وأنا أحاول أتحمل.

فنظرت إليها، والدموع تملأ خديَّ، وضحكتُ استهزاءً بالموقف، أنا من أفعل هذا؟ ما علمي بهذا يا سيدتي؟ فأنا محرومة منه، أنت لا تعرفين من أمري شيئًا. رفضت على استحياء:

- والله ما اعرف يا أبلة.

وعندما يئسَتْ من كل الأداءات ومساعدتي لها، أطلقت صرخة ثكلى مدوية واقتعدت الأرض فاردة ساقيها العاريتين، مستندة بظهرها إلى الحائط، رافعة رأسها منكوش الشعر إلى أعلى بنظرات استغاثة.

بعد نحو ست ساعات مرت على عجزي معها جاءت إحدى معلمات رياض الأطفال، وذهبنا معًا إلى عيادة خاصَّة بجانب المنزل مباشرة تديرها طبيبة عراقية مع زوجها الطبيب أيضًا.

فضحكت من البله؛ العيادة على بعد خطوات ونحن لا نعلم، صحيح على رأي أمي: الغريب أعمى ولو كان بصير.

تقريبًا كنت لا أشعر بانتهاء اليوم الدراسي الكامل، ففي المساء الذي يبدأ من الرابعة عصرًا دوام في معهد مفتوح طوال العام، وهو أشبه بمركز تعليمي لتعليم جميع المواد الدراسية ودورات حاسب آلي، وله أجر إضافي إلى راتب المدرسة صباحًا. وفي الليل أدفن نفسي بجانب أبلة فوزية على نفس السرير الذي تَشَارَكنا فيه بوضع السريرين حتى أصبحا سريرًا واحدًا وجسدًا واحدًا، فقد اختارتني واخترتها في كل شيء حتى تقاسمنا لحظات الطعام والشراب والحديث المتبادل ليلاً، وكنا أحيانًا نشتري نفس الثياب الجديدة بعد شرائنا أول حقيبة سفر من بلاد النفط؛ بعد قبض أول راتب تبدأ شهوة الشراء، وتستبدل شخصيتك تمامًا عند انتهاء العام الدراسي، كم حقيبة لديك، وكيفية المراوغة من الوزن المحتوم عند العودة إلى الوطن.

كان الوقت قد مر عندما جئت إلى مسقط وانتهى العام الدراسي، والحقائب منتشرة في كل مكان في الحجرات والصالة في الطابقين، حتى خلف وأمام الساحة الكبيرة التي تحوط المنزل يتوسطها "درب بئر المياه" الذي كان يعتبر هبة من الله لمنزلنا وميزة لا توجد كثيرًا في البيوت البيضاء، فنحن غير كل السكان الآخرين من الجيران لا نحتاج إلى عبوات المياه، حيث لا توجد بعد مجاري أو مياه صرف صحي يسير في المواسير. ودائمًا يعلو البيوت خزان صغير دائري أبيض اللون في جوفه ماسورة كبيرة متصلة بمنفذ معدني تسير من خلاله المياه عن طريق عربة نصف نقل زرقاء اللون جسمها بيضاوي الشكل وحلزوني وهي تنكر المياه، والخزان فوقه غطاء حديدي سميك حتى لا تتسلل أي حشرة إليه، وتتكلف الملوة نحو ثلاثة ريالات.

أما نحن المحظوظين فلدينا درب بئر المياه، التي لا تحكم استخدامنا للمياه في الاستحمام وغسيل ملابسنا وأدوات الطعام وتنظيف كل حاجاتنا الشخصية، وإن كنا نقوم بتخزين مياه للشرب وطهي الطعام، فمياه البئر غير صالحة للشرب، ولدينا في المدرسة برَّاد مياه به فلتر عبقري وماؤه بارد، نعبئ منه الماء في زجاجات بلاستيكية أو جراكن. كل غرفة تحتفظ بما يكفيها أسبوعيًا فتلك العملية نقوم بها مساء كل أربعاء حيث يبدأ الدوام يوم السبت، ومن يداومن في المعهد يذهبن في صباح الخميس دون عائد.

وتختص كل معلِّمة بتنظيف وترتيب حجرتها، أما السكرتيرة فتختص بالدور الأول كاملاً، فقد سافرت معلمات رياض الأطفال في الفوج الأول لقضاء إجازتهن الصيفية التي تبدأ من 6 يونيو إلى نهاية أغسطس، ثم سافر في الفوج الثاني معلمات المواد الدراسية، ولم يبقَ غير خمس معلمات يعملن في المعهد، ما عدا أبلة فوزية التي أصبحت معلِّمة في مدرسة المنار لتحفيظ وتجويد القرآن. تشرف على ثلاث عمانيات يقُمْن بتحفيظ القرآن للأطفال والكبار، وكُلِّفَت باستقبال الوفود الراغبة في العلم، وتحرير إيصالات نقدية، في حال عدم وجود المدير الرسمي لها، وجدي، حتى تبدأ الدراسة فتعود إلى العمل في المدرسة صباحًا ومساءً.

بعد توالي الأيام، أدركت أن هذا العالم المحدود بالمعلمات المصريات تلفه أسرار البيوت البيضاء الحديثة المطرزة طرازًا قديمًا تشوبه فنيات وإمكانيات العصر الحديث، القيشاني والسيراميك والرخام والتكييف في كل حجراته، وأمام الطابق الأول الذي تصعده بعدة درجات سلم من الرخام في مساحة واسعة من الفراغ تسمح بوجود حديقة أو وضع الأراجيح للأطفال أو كراسي بلاستيكية، أو بسط صوفية في الجوانب للتفكه والحديث في أمسيات الصيف الرطبة ليلاً، يغلفها باب حديدي صغير مطلي باللون الأبيض، كأن العالم أصبح في تلك البلدة بيضة ضخمة الحجم، هلامها حكايا كثيرة ومتنوعة وكلها حكايات مخيفة تحوي قدرًا عاليًا من المأساوية لتلك المصريات الحائرات، كلهن يحملن أوزار الوطن الراحلين عنه، لديهن أكثر من سبب للصمت، والعمل والانشغال بقوة للنسيان، والتركيز بإتقان لتحقيق أفضل كفاءة وإرضاء الكفيل الذي هو إله على الأرض في تلك اللحظات، حتى لا يتم تفنيشهن دونما حصد العديد من القروش مِلء الحقائب السوداء التي تبارين في عدها، وإذا سمحت الظروف الشديدة الانغلاق وفُرِض حظر التسلية والمتعة فيمارس بعضهن الجنس حاصلات على نقود أو هدايا أو نزهات خلوية وجبلية تعويضًا لحرمانهن من الزوج، الأبناء، الأهل.

صباح كل خميس أتنفس نفسي في كتابة مذكراتي "يوميات العباقرة" ظلي في الوطن، وهذا بعد تنظيم الكتب وإعداد المواد اللازمة لتدريس يوم السبت، لمختلف المناهج من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية، فالآتون إلى المعهد أغلبهم يكونون من طلبة الثانوي. واجتياز شهادة الثانوية العامة هنا بمثابة البكالوريا قديمًا في مصر؛ من يحصل عليها يستطيع أن يكتفي بها ويعمل أو يسافر، إلا إذا كان متفوقًا ويمكنه الالتحاق بجامعة السلطان قابوس، وهذا شيء لا يستهان به ولا يمكن تحقيقه بسهولة، فمن يلتحق بالجامعة يحصد الكثير من المزايا والمبالغ المالية، وإذا استمر تفوقه له راتب شهري ومنحة سفر إلى بريطانيا التي غالبًا ما يختارها الكثير للدراسة والسفر، وهذا له جذور تاريخية واقتصادية. ويوجد عدة قواعد إنجليزية وأمريكية كخبراء في الخليج، وكثيرًا ما يعملون في مواقع البترول، والجامعة والمستشفيات وحتى المدارس، مثال ذلك كانت موجهتي التي تأتي لتوجيهنا، تدعى ميشيل وهي إنجليزية الأصل، وكذلك الكثير من الوفود المحترمين وذوي الكفاءة العالية في طرق وأساليب وإعداد وتحضير التعليم الصحيح، وهذا غير الهنود والجنسيات الأخرى. وعدد طلاب الفصول قليل، عند قدومي سنة 2003 كان الكمبيوتر متداول استخدامه وشائع، وهو الوسيط الوحيد بين الطالب والمدرس، ليس هناك من طباشير أو كراسات أو صراخ أو هذا الجنون الرسمي الذي يحدث في مصر: اسكت يا واد، اسكتي يا بت، بص معايا على السبورة، والمعلِّمة تنادي كأنها ترعى قطيعًا من الأغنام.

ورغم كل هذا الاهتمام بالعلم والتكنولوجيا لا توجد سياسة في عمان، فهو شعب هادئ الطباع حتى في استقبال فواجعه، فلا توجد أسرة في عمان، وهذا مألوف وعادي بينهم، عادي أن يموت شاب أو فتاة أو رجل في حادث سيارة، فالفتاة أو الشاب من حقه أن يقود سيارة، والتحصل على الرخصة بمجرد الانتهاء من الثانوية العامة، خصوصًا إذا كان يعمل، فتكون ذريعة قوية لاقتناء السيارة. لا يتحدثون كثيرًا. يقودون السيارات برعونة فائقة، والحوادث لا تنقطع ولا تنتهي في أيام تلك البلدة.

يقيمون طوال الوقت في بيوتهم، ينتقلون من بيوتهم المُكيَّفة إلى سياراتهم المُكيَّفة، ليس هناك من طريقة لفهم المكان وحب المكان، والطريقة المثلى لذلك هي المشي واختراق الدروب والمسالك والأزقة كما نفعل في مصر. الناس هنا ينظرون إلينا بدهشة من خلف زجاج سياراتهم وأنا أمشي مع أبلة فوزية؛ لا أحد يمشي، الناس هنا في الخليج يملؤهم حزن ما، هناك حزن معين لا تلمسه لكنه محفور في تجاعيد وملامح وجوههم بشدة، ربما حزن على فقيد أو عزيز عليهم، ربما إحساس بالضياع، أجدادهم وآباؤهم الأولون كانوا يسكنون الصحراء، يعيشون في الخلاء، والبدائية في كل دروب حياتهم، أما هم يعيشون في المباني الواسعة المُكيَّفة، يحوطها برود نفسي، لا يملكون غير السيارة، والإسلام. كل شيء في حياتهم أمريكي وإنجليزي، هم محاطون بالصحراء، والجبال، ولكنهم لا يعرفونهما، الحياة مثل واقع افتراضي، كأن الناس يحبون في شاشة كمبيوتر، الثراء والنجاح يصبحان مفهومين ذوي إشكالية غامضة، خصوصًا عندما يأتيان بسرعة، الثروة هنا جاءت سريعًا، لذا فهي مجتمعات عنصرية للغاية، أعني الطريقة التي يعاملون بها الهنود والباكستانيين والمصريين بشكل خاصّ. أنت محظوظ فقط عندما تكون إنجليزيًا أو أمريكيًا.

صباح الخميس أجلس إلى مكتبي، وأدوِّن وأفرِّغ كل ما يستحق اهتمامي وشغل تفكيري. حيث تتاح لي سويعات من الفراغ لا أفوز بها أبدًا في العمل أو في مسكن المعلمات.

من عدة أيام ناداني الكفيل أنا وأبلة فوزية بصيحة عالية من الطابق الأول، حيث إنه - وهذا من غرائب الأمور- يقيم في الطابق الأول مع ابتسام وابنة عمها رشا، وإن كانت الأخيرة هي الباقية الآن، فالأولى ذهبت إلى قضاء الإجازة السنوية، وهي معلِّمة رياض أطفال جاءت إلى عمان سنة 2000 ويطلقون عليها مهرة الإسكندرية لجمالها الأخَّاذ، وجسدها الممشوق، بيضاء، وجهها دقيق الملامح، شعرها أسود طويل حريري الملمس وغزير، والحقيقة أنها ليست من الإسكندرية، بل من ضواحي البحيرة. وقد استحوذت ابتسام على عقل الشيخ سعيد، وأسرت قلبه، حتى إنه هجر زوجتيه الاثنتين اللتين تعيشان في مدينة الرستان، (إحدى مدن عمان) في منزل واحد واسع كبير، ويظل بجانبها في مسقط طوال العام الدراسي حتى تأتي الإجازة، ولا يأتي مسقط إلا في مرات محدودة لمباشرة عمل ما، ويقولون أيضًا - وكل هذه الأقاويل تحكيها لي أبلة فوزية الثرثارة، فقد وهبها الله نعمة اللسان فكانت عذبة الصوت والحديث، ساحرة في قدرتها على جذب الجميع إليها- إن هذا الرجل القصير، الحاد الذكاء صانع مؤسسة كبيرة تسمى مؤسسة الهاشمي، وهي أسرة لها أصول وجذور لإحدى القبائل العمانية الأصل والمنبع، ليس بها أي عناصر وافدة، وتشمل مؤسسته خمس مدارس وثلاثة معاهد، وثلاث مدارس لتحفيظ القرآن، ومزرعة دواجن كبيرة، وكثيرًا من المحلات (لبيع الخضار – حلاقة – مطعم – سوبر ماركت) المتناثرة في مسقط لهنود ومصريين.

وهذا الرجل العملي جدًّا والفاسق جدًّا في عهد مضى من عمره الذي قارب على الخمسين الآن، كان مفتونًا بمضاجعة الفتيات ما فوق سن العشرين، ولا يتوانى في دفع أي مال أو هدايا غالية الثمن أو تذاكر طيران للتنزه بالهند أو بريطانيا، كل ذلك من أجل استرضائهن وإغوائهن ليكون هو السيد الأول في فض بكارتهن، والفائقة القدرة والأداء من تستطيع أن تجعله ملازمها، وأن تجعل من نفسها محظيته، وقد نجحت في هذا مهرة الإسكندرية ذات الرابعة والعشرين.

وعندما تقابلْتُ معه أنا وأبلة فوزية بحجة التريق والتفكه (أي بمعنى شرب القهوة العمانية اللذيذة الطعم رغم خلائها من أي ذرة سكر مغموسة بالهيل وبعض المكسبات العمانية الصنع التي تحد من مرارتها ويلازمها الرطب المحشو باللوز) جلسنا في مجلسه العربي في غرفة واسعة مفروشة بالبسط الفاخرة الزرقاء والوثيرة وعلى جوانبها حشايا صغيرة خضراء، وهي غرفة الجلوس لمقابلة كل آتٍ غريب، بجانبها غرفة ثانية لا يفصلها إلا قمرة مستطيلة، وبها حمام وأثاث متواضع يتكون من سرير خشبي ودولاب صغير أيضًا خشبي، وبدأ قوله موجهًا إليَّ:

- إن صديقاتِك ينعتنكِ بأنكِ مخلوق صموت، ومنطوٍ على نفسه، وهذه صفة لم أعهدها في المصريين الكثيري التحدث والفكاهة.

صمت برهة ثم قال: ما رأيك في هذا الكلام يا أستاذة فاطمة؟

فأجبته سريعًا:

- أنا ليس لدي الكثير لأقوله، ولذا فإني ألزم الصمت.

بدا الاضطراب عليه من سرعة إجابتي، وصب لي بشخصه قدحًا من القهوة العمانية، وناولها لي مبتسمًا:

- تفضلي هذا.

ربما كان هذا النعت المبدئي لي صحيحًا، خصوصًا بعد انقضاء أشهر الصيف وحضور بقية المعلمات، يظنُنَّني غريبة الأطوار؛ لا أتحدث أو آكل أو أنام أو أخرج غير مع أبلة فوزية، وفي المدرسة لا أصادق غير فاطمة البلوشية معلِّمة الحاسب الآلي في نفس المدرسة التي كنا نعمل بها صباحًا. والبلوش ليسوا عمانيِّ الأصل، بل هم جنس آخر، ربما من الزنجبار أو باكستان وغيرها من البلاد المجاورة، جاء بهم السلطان الأول أبو السلطان قابوس من زمن غابر للاستعانة بهم في الحروب، وتشييد وبناء عمان الحديثة، وهم ذوو طبيعة مثابرة وبشرة داكنة السمرة، يتميزون بالنشاط والهمة في إنجاز الأمور الخطيرة وإجادة الحديث بطلاقة باللغة الإنجليزية، وتوالت السنون وأثبتوا إخلاصهم وجدارتهم في تحقيق أصعب المهام، فعاشوا في عمان وتزوجوا وأنجبوا، وأصبح يوجد لهم جيل ثالث ورابع بعد اندثار آبائهم الأولين، وانتشروا في الدوائر الحكومية (الجيش والشرطة) وعلا شأنهم، وأصبح العديد منهم يتبوأ مناصب هامة في البلاد، وإن كان لا زال الكثير من الأسر العمانية الأصل ترفض بتاتًا الزواج منهم، تعزيزًا للأصل والنسب والعصب. في النهاية أنا فاطمة المصرية كما نعتنني للتفريق في الحوار بين الفاطمتين من وحي الصداقة القوية بيننا. أنا فاطمة الهادئة، التي تبدو عيناها مظللتين بالحزن، منكسرة، وصامتة، وغامضة تدعو إلى الشفقة لظروفها الاستثنائية، فاطمة المولعة بقراءة الأدب الإنجليزي، المتخصصة في أفضل طرق صحيحة وسليمة جدًّا لتعليم اللغة الإنجليزية التي هي غاية مهمة وملحَّة لدى العمانيين، ورغم مرور الأيام على تلك الجلسة الأولى التي احتوت على ثلاثتنا، إلا إنها ظلت لصيقة بعقلي، وأنا أستمع إلى كلماته وهو يشرح لي ما هو العمل الذي ينتظرني، كان مؤدبًا في مكر، رقيقًا في افتعال كأنه يقول لي رغم كل الصياغات "المؤدبة" إنه يعرف لماذا جئت؟ وبكم جئت؟ وما دمتِ قد حضرتِ فعلينا أن نعيد ترتيب الحسابات والأفكار وكل ما يلزم فعله حتى تبقين ولا يتم تفنيشك وترحيلك من هنا في أقرب فرصة.

وفي الواقع إن هناك أحداثًا، لم أكن أود مطلقًا الكلام عنها مهما طال الأجل، لكن فيما بعد لم أجد أهمية لهذا النفور منها. عندما بدأت حياتي هنا في الغربة، انتابتني حالات من الشبق وانقباضات متلاحقة في الرحم جرَّاء فقداني للآخر ما زال بعضه في ذاكرتي، ومع توالي الأيام وانهماكي في العمل والصداقة تحول كل شيء إلى لا شيء غير القنوط واليأس، والتجاهل لتلك البؤرة الخبيثة في جسدي، بينما أبلة فوزية المرأة غير المستهان بها كشخصية اجتماعية مرحة، وامرأة لعوب، لها شطحات وخيالات جامحة عن لياليها الحمراء مع زوجها وغيره، فنضحك باستحياء وهي تخبرني أنها تعوَّدت في ساعة الظهيرة والمعلمات نائمات أو مشغولات ليلاً بعد نومهن أن تدخل الحمام وتقعد فيه، وتفتح رشاش الماء متجهًا إلى فرجها، لعله يهدئ من هياجها الجنسي، وإن كانت لم تكتفِ بهذا في المستقبل، لم تكن تطبق من مظاهر التدين إلا العيدين والمواسم وأذان الجمعة ومغرب شهر رمضان. بعد مرور أكثر من شهر في تلك البلدة أشعر أن هناك شيئًا يفوق كل ما أبحث عنه وأريده، وذلك الشيء يجعلني لا أشعر بالاغتراب، وأبدو متوائمة مع نفسي وأحلامي، وأحاسيسي، لا أرغب غير في مهلة واسعة من الوقت كي أنكر الماضي، وأطرح ما أريد من الأوهام الجديدة والأفكار، لأدور في أفلاك أخرى، معتقدة أنني ما زال لي اتصال وثيق بالحياة. فراق الآخرين علمني أن أحب الكلمات وأكتبها، تعلمت ألا أرددها دون فَهْم أو معرفة. فَهْمُ الكلمات ومحبتها وخطها على السطور البيضاء تشبه تلك الكتل الأسمنتية البيضاء المتلاصقة، لا ترى منها غير واجهة واحدة من كل جانب، وعندما يهب الليل تبدو كطاقة نور أبيض انفتحت لك فجأة، فتملأ عينيَّ بألق متوهج وتقودني كما يقودني سحر الكلمات على السطور البيضاء إلى بهجة العقل ونعيم الفهم والتفكير في العالم الغريب الذي أصبح بلا أحلام، حيث أمارس الأشياء لأنه عليَّ فعل ذلك دون أن أستفسر عن هذا أو ذاك من الأحكام. دخلت الحجرة وخرجت منها وقد فعلت آخر ما أفعله عادة، وهو تغيير التاريخ، فالثانية عشرة ظهرًا هو انتهاء وفناء يومي الحاضر، حتى لو بقي منه عصر أو مساء، وليل بهيمي سينقض عليَّ وأنا نائمة بجوار أبلة فوزية لأشعر بالوحدة والغربة من جديد في انتظار صباح خميسي آخر لأنفرد بالكلمات.

درب بئر الماء رغم أنه حظ كبير فاز به الكفيل عندما استأجر هذا المنزل ليكون سكنًا للمعلمات، إلا أنهم يدعون أن تلك البئر بها جني يتصل بامرأة عمانية من أصل زنجباري تقيم بجانب منزلنا مباشرة، وعندما نصعد درج السلم إلى الدور الثالث لنشر الغسيل نرى سطحها كاملاً أمامنا، وهي امرأة شعرها أسود خصلاته قريبة الشبه بسلك غسيل الأطباق لدينا، ذات بشرة شديدة السمرة إلى حد السواد، ولا يظهر من ملامح وجهها إلا بريق عينيها اللاهب بالشرر، وتوجُّسٌ بالخطر بأنه ربما يحدث شيء ما لو قابلتها، ترتدي الزي العماني الكامل، تلك المرأة العفريتة ترعى وتربي العديد من القطط بين الأَسْود الفاحم بأعين خضراء مضيئة كالكريستال لها ضوء برَّاق، وأخرى لونها رمادي فاتح في خطوط بنية أو لون جلد النمر، وتلك القطط هي العناصر المؤدية الفعَّالة لتشغيل وبث أعمالها السحرية لأذى البشر، فيقال إن هذه القطط ما هي إلا أشخاص آدمية الأصل تحولت بفعل السحر القوي لأصحاب الجن والسحرة المعروفين والمتخصصين في ممارسة تلك المهنة من زمن الأوائل، وسَكَن تلك القطط هو عبارة عن عشش متوسطة الحجم مصنوعة من أسلاك خفيفة كتلك التي نستخدمها في شبابيك المطابخ والحمام لدرء أي حشرة للدخول، مثبتة قوائمها الأربعة بالخشب، وفي وسط المربع باب خشبي له سقاطة لوضع قفل حتى لا تخرج وتحاول الهرب، وبجانب تلك العشش كميات هائلة من قصاقيص قماشية مختلفة الألوان ومتنوعة النسيج، ولا نعلم ماذا تفعل بها، وفي كل عشة يوجد إناءان فخاران، واحد للطعام وآخر للشراب، ويقولون أيضًا إنه عندما تكبر تلك القطط الآدمية المسحورة وتفقد قدرتها على بث السحر يسكنونها الكهوف في الجبال, مانعين أي طعام أو شراب حتى تموت من الجوع والعطش والظلمة ويأس المصير، وتزاح مسؤوليتها عن كاهل ساحرها.

جاءت المعلِّمة عبير بوصاية من صديقتها ابتسام التي حضرت قبلها, وعبير ملأها فضول خفي وخطير, جذبها إلى متابعة تلك المرأة السوداء , ويأتيها نداء خفي في صباح الخميس والجمعة لتصعد درجات السلم إلى السطح, وتجلس ناظرة باستغراب وتتأمل تلك السيدة وهي تطعم قططها كأولادها رافعة إحدى قدمي قطها الأماميتين وتضربه ضربات خفيفة لومًا وعتابًا عن أمر حدث بينهما هما الاثنين فقط، وتحنو على آخر وتحمله حاضنة إياه كأمه، هامسة في أذنه بكلمات الحب والسحر، وهكذا حتى يمر الوقت إلى العصر، فتذهب وقد أغلقت العشش بعدة مفاتيح غريبة الشكل. وظلت عبير تستخف غير عابئة بحنق وغيظ السيدة التي اشمأزت من ملاحقة تلك الفتاة لها في أيام وساعات بعينها، وبعد فترة ليست طويلة تحولت عبير الفتاة ذات الخمس والعشرين إلى فتاة نزقة , عكرة المزاج، صفراء اللون، تأتيها نوبات صرع تجعلها تصرخ بشكل هستيري لمدة لا تقل عن ربع ساعة حتى تهدأ فجأة كأنما يسري في جسدها تخدير مجهول، فتذهب جالسة على فوهة البئر، لا بد أن جني البئر سكنها، وأن نوبات صرعها المسكون بالجن مبعثها تقدم العرسان لخطبتها أو الزواج، فهو يرعبها كلما رأى غريبًا يتقدم نحوها، فالجني يعذبها في جسدها لتكون له وحده، وأقام سحره برصد على الزواج، ويقال أيضًا إن عبير أصبحت لا تفارق الجلوس بجانب البئر في أوقات فراغها أو أوقات غريبة في عمق الليل أو في الصباح الباكر.

هل يصدق أحد أن هذه أول مرة أرى الشارع الكبير رغم مرور أكثر من شهر على وصولي؟ فأنا لا أذهب بمفردي إلى أي مكان؛ في الصباح يأتي "الباص" ليأخذني، وهكذا في الفترة المسائية، وهذا منبعه ليس فقط عدم رغبتي في الخروج، لكن أيضًا لتناقض سلوك هذا الكفيل، فهو يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها، ويصوم ويزكي وأدى فريضة الحج أكثر من مرة وهذا غير المسلمين الشيعة المشهورين بأداءات وفروض تخصهم، فهم عدد كبير مثل المسلمين السنة ولكنهم متوافقون، وخصوصًا أن أكثرهم من البلوش.

ذلك الرجل القصير منتفخ الوجه بعض الشيء عريض الجبهة له أنف يدل على الحزم والقوة، وتوحي هيئة رأسه بأنه من أصل نبيل، فقد كان هذا شعوري على الأقل وأنا أراه عن بُعْد أو صدفة، له سياسة بها قدر من التعنت والمبالغة في الحفاظ على عفة المعلمات، والتقاليد، مدعيًا أن كل الآخرين من الجنسيات المتنوعة المنتشرة في مسقط هم ذئاب بشرية، فالبلد بسكانها الوافدين يتساوون بعدد سكانها الأصليين أو يزيد، ومن الأمان ممنوع اقتناء الموبايل، واستحضار الطعام اللازم يتم من خلال أبلة فوزية بصحبة أخريات، وممنوع التأخير عن العاشرة مساء وذلك في الصيف، والتاسعة في الشتاء، وغير ذلك من الالتزامات المجحفة، فهو بمثابة الأب الروحي لكل معلِّمة، وهذه الأقوال نابعة في الحقيقة من فساد أخلاقي يستبطنه، وحياة ذاقت واشتهت مختلف الفتيات العذراوات، وآخرهن ابتسام التي لا يقدر على فراقها، ويقيم في الطابق الأول معها ومع ورشا وصديقاتهما سهام وعبير وإلهام.

من يوم السبت إلى الأربعاء معنا في السكن، وبقية الأسبوع يقضيه مع عائلته في الرستان بلدته الأصلية، التي بها مقر أسرته العمانية الأصل، في منزل واسع بحديقة كبيرة، يقطن به زوجتاه وأولاده العشرة، وهو دؤوب فيما يدر عليه الربح.

ولكننا في نهاية الأمر وفي عالم يكافح فيه الجميع من أجل البقاء، أيًا كان ثمن ذلك ومهما كانت الأخطاء واضحة حتى في اختبائها وراء ستار العفة وممارسة السلطة الأبوية المفتعلة، كيف يستطيع المرء أن يحكم على هؤلاء الأشخاص الذين قرروا أن يعيشوا تحت أي سلطة؟!

خرجت أنا وأبلة فوزية فقط للتمشِّي إلى سوق الحرامية، وكنا نمشي بين صفوف الفيلات الصغيرة التي تحيط بها أسيجة بيضاء والتي يبدو بعضها متواريًا بشرفاته الواسعة تحت أشجار الآثل والكافور وبعضها الآخر يبرز عاريًا وسط الخلاء الترابي، واجتزنا شارعًا ضيقًا تحده بيوت متلاصقة لا ترى فيها غير واجهة واحدة من كل جانب، حتى أصبحنا في الطريق العام، به زحام شديد من السيارات البيجو والمرسيدس والشيفروليه والتويوتا والداتسون والهوندا والفيات، وماركات أخرى لا أعرفها لأني أراها للمرة الأولى في حياتي. وسوق الحرامية أطلق عليه هذا الاسم لأنه من وقت ليس بعيد كان مكانًا يختص ببيع الأشياء المسروقة، هذا قبل طفرة التحديث التي شملت جميع المناطق في مسقط، وهو شارع طويل به محلات يتراصُّ بعضها بجانب بعض، يدير أغلبها الرفيق الهندي - كما يطلق عليه العماني - فهي عمالة أفضل له من حيث قدرة التحمل والقيام بجميع الأعمال الشاقة والبناء، حتى في منازلهم يفضلون الخادمات الهنديات.

تواعدت أبلة فوزية على التليفون مع زوجها أن يتقابلا ويتحدثا على النت لترى ابنتها الرضيعة، وما إن رأتها صرخت باسمها وكادت تنقض عليها تخيلاً منها أنها تعانقها، تتقافز تعبيرًا عن بهجتها بينما الطفلة كانت بدورها تموء "ماما" وتبكي وتشبك ذراعها وترد بهستيريا:

- وحشتيني قوي يا حبيبة ماما وحشتيني قوي.

وأمام هذا المشهد الدرامي المؤثر صَمَتُّ تمامًا وملأني شعور بالضيق لنفسي المحرومة، وسئمت من هذا الشعور، فذهبت إلى إحدى طاولات الكمبيوتر ألعب كوتشينة وأحتسي "كانز" برتقال قد اشترته لي أبلة فوزية قبل دخولنا النت.

غدًا صباح الجمعة سنرسخ لتواجدنا في تلك البلدة، لقد قررنا أن نذهب معًا مع معلِّمة أخرى لها دراية بشراء العباءات بسعر أقل مِمَّا هو معروض في "سوق السيب"، وهي سوق روي، منطقة تجارية أكثر سكانها هنود وباكستان، وسيكون اختياري أنا وأبلة فوزية عباءة مقفولة تمامًا بدون أي تطريز، مستديرة الشكل عند الرقبة بمنفذ تكاد تدخل فيه رؤوسنا، مجسمة بعض الشيء عند الأرداف واستدارة الصدر والبطن، وسيذوب اللون الأسود داخل أجسادنا متخللاً الأوردة والشرايين حتى تبلى العباءة من كثرة الارتداء والغسيل، ونملها ونتركها عند رحيلنا في الدواليب الخشبية المثبتة في الحائط كأثرٍ طاغٍ على وجودنا السابق للحاضرين الجدد، ها قد أتى خميس آخر وآخر لأكون مع مفكرتي التي لا يقرؤها أحد، وربما لن يقرأها أحد سواء كنت على قيد الحياة أو فارقتها. إن المرء يتعود على كل شيء، ويكون الأمر أسهل وأسرع بالنسبة إلى الشعوب الفقيرة مثلنا، فأنا أعتقد فيما لا بد له أن يكون قدرنا أن الحياة مليئة بأحداث صغيرة قد تبدو لا أهمية لها، وأحداث أخرى تشغل في لحظات معينة كل ذهننا، وعندما يعيد المرء التفكير فيها بعد ذلك في ضوء عواقبها نجد أن ذكرى هذه الأحداث المهمة تلاشت، في حين اكتسبت الأحداث الأخرى صفة الحدث الفاصل والحاسم، أو على الأقل، هي حلقة في سلسلة أحداث متتالية، ومن بينها ما تحكيه رشا في قصة ابنة عمها ابتسام محظية الكفيل كأنها تحكي مسلسلاً إذاعيًا، تتصنع في صوتها نبرة مأساوية ذليلة تعود إلى خضوعها التام لكل أوامر وتعليمات ابنة عمها التي تتعمد إهانتها، كانت رشا شخصية كئيبة، دائمًا مكتئبة وفزعة وخائفة على القروش التي تتقاضاها، ولمَ لا؟! فرشا من أسرة معدمة، أبوها عامل بناء مسلح، وأمها فلاحة جاهلة، ولها خمسة إخوة، وكلهم في مراحل تعليم مختلفة، وأبوها أصبح رجلاً مريضًا لا يقدر على حمل القصعة والصعود بها، فتلك المهنة أصبحت شاقة على نفسه بدنيًا ونفسيًا، ورشا الشابة الجميلة دفعة 2003 هي المَخْرج الوحيد بسفرها إلى الخليج، وابنة عمها تعلم مدى احتياجها إلى هذا العمل، لكن رشا الماكرة لا يخفى عليها أن ابنة عمها التي أصبحت ملكة السكن والعمل، ما هي إلا ابنة فران، في الأصل كان يعمل باليومية لولا الطفرة والجمل المحمل بالذهب الذي تسوقه إليه، رغم أن هذا جاء بعد مأساة مروعة أطاحت بابتسام في أختها، حيث ماتت بالسرطان، ولم تستطع الأسرة دفع أثمان علاجها.

كان الوقت يمضي ما بين ساعات العمل صباحًا ومساءً، والنوم، والذهاب كل جمعة إلى سوق الحرامية، وكتابتي صباح كل خميس التي كانت بمثابة طاقة نور، وتعاقب النور والظلام، حتى أدركت أن المرء بمرور الوقت ينتهي بفقدان إدراكه للزمن.

جاء منتصف أغسطس وقاربت أشهر الصيف على الانتهاء وأوشكت المعلمات على العودة إلى مسقط، وشعرت بحَرٍ ليس له مثيل في وطني، فأحسست أن جبيني ينتفخ ويتورم تحت وطأة الشمس، وكل هذه الحرارة تنيخ فوقي، والرطوبة الشديدة تجعل جسدي ملتصقًا كالصمغ، ودومًا أشعر بأنفاس الشمس اللافحة الحارة تلفح وجهي والعرق الساخن يسيل بغزارة خاصَّة في الأماكن المحظورة، الحر الشديد يشد أعصابي كلها بتوتر خفي، وهو يقف في وجه تقدمي لأي صنع، خيرًا كان أو شرًا.

وفي أحد المساءات رفضت الخروج للتمشية مع أبلة فوزية إلى سوق الحرامية وطرأت عليَّ فكرة طائشة، وهي أن أذهب أتأمل وأمعن النظر في درب بئر الماء الذي يقبع به جني المرأة السوداء الذي ألبسته عبير وسلبها روحها النضرة وجعل المعلمات تشفقن عليها وهن يرين فخذيها ينكشفان أمامهن وصدرها الناهض بالفتنة يخاتل أعينهن حين تداهمها نوبات صرعها المسكونة بالجن، لقد ماتت روح عبير الفتاة ذات العفاف والبراءة القديمة، وأمست رغم وجودها الحي ذكرى جسد وروح غير قابلة للامتلاك، فقد دخلت عالم الغيب مع ساكنها الجني.

بعثت تلك الأوهام في نفسي انقباضًا في الروح غير مُفَسَّر وضوء القمر آتٍ من بعيد ملقيًا ومسلطًا على بئر العفاف بشكل غريب، والغربة تتساقط حولي ثقيلة، وقد تحول الانقباض إلى قلق شديد من المجهول الآتي، حتى أتى صباح الخميس، ميعاد الكتابة في مذكراتي لأكتب عن بئر العفاف الذي سحق شخص عبير في أعماق مجهولة وأفنى نضارتها، فأحسست بالضيق الشديد واليأس من حالتها التي لن تتحسن.

 

الفصل الرابع
خبز البراءة
اليوم الأربعاء، بعد مرور أول أسبوع من حضور أغلب معلمات السكن لبدء العام الدراسي الجديد، لقد كان هذا اليوم بالذات يومًا استثنائيًا في العمل، وسأسجله في يومياتي الخاصَّة بي، لم نمكث في الدوام المسائي سوى ساعتين، ثم أقلتنا حافلة كبيرة لحضور مالكه(7) سهام في منطقة ريفية تسمى النخيل. والحدث الجديد والغريب في آنٍ واحد ليس هذا بالطبع، إنما هو زواج صديقة ابتسام الحميمة سهام من مواطن عماني ثري للغاية، والاعتراف به بصك من البلاط السلطاني نفسه، فالزواج هنا من الوافدات الأجنبيات مُحرَّم وغير معترف به إطلاقًا من الجهات الرسمية العمانية، وبالتالي منزوعة عنه حقوق المواطنة، وفي مؤسسات بعينها مثل الجيش والدوائر الحكومية المرموقة يتعرض الرجل العماني للاضطهاد والفصل من عمله أو النزول إلى درجة أقل كثيرًا في الرتبة الوظيفية إذا تزوج من وافدة، ولكن سهام السيدة المحظوظة، التي جاءت من نحو سنتين، لا تحمل حتى حقيبة ملابس، وفي حالة مزرية وبائسة من زوجها المصري الفيومي الأصل، هاربة من جحيم الزوج الذي أهانها بكل أساليب الإهانة البشعة من سب ولعن وضرب وتجريدها من ملابسها وطردها من بيت الزوجية في ليلة شديدة العراك بقميص النوم، تاركة له من شتاتها وبؤسها الفادح وولدها الوحيد، الذي تحملت من أجله العيش لسنوات مع هذا الرجل البغيض، حتى مل وزاد في افترائه وتعلل المشكلات والإهانات لتحقيق مأربه الحقيقي، وهو الزواج من فلاحة جاهلة أرملة من إحدى عزب الفيوم لديها ثلاثة أبناء وميراث ضخم من زوجها الراحل.

عندها هربت سهام من مصر كلها، ووطأت قدماها أرض الغربة، وأقسمت ألا تعود، ولا تخلو كل أحاديثها مع القريب والبعيد من تصريح: "طز في مصر ورجالة مصر".

ولقد حققت لها السماء المعجزة في ذلك الوطن الجديد، فزوجها كان مليونيرًا عماني الأصل، وذا نفوذ سلطاني استطاع به أن يكون الزواج رسميًا يكفل جميع حقوقها كأية مواطنة عمانية محترمة، فأصبحت سهام الشحاذة، التي كان زوجها يأخذ راتبها الشهري، ولا يعطيها منه يوميًا إلا حق وجبة الغداء بالكاد، تعيش وتمرح مع مولودها الجديد في قصر كبير له ممشى طويل على جانبيه الزروع الخضراء اليانعة، وألوان ورائحة زهور ونباتات لا علم لنا باسمها، تلك الأماكن التي لا نشاهدها إلا في حكايات الأميرات وليالي ألف ليلة وليلة، تمارس فيه رياضة ركوب الخيل، ولها مهرة قريبة إلى نفسها وعزيزة عليها تطلق عليها رامي، على اسم ولدها الوحيد الذي غادرته في مصر وتذهب إليه في زيارات خاصَّة أو في رحلة تقوم فيها بزيارة عواصم عربية وأوربية شهيرة ثم تنهي الرحلة بزيارة الساحل الشمالي أو شرم الشيخ، فترسل في استدعاء ابنها سيارة بسائق خاصّ ليحضره إليها للاستجمام والاستمتاع معًا.

تبدلت أحوال المعلمات بحضور جميعهن، وأصبحت كل غرفة تتكون من شلة متوائمة الميول والأمزجة، يتشاركن في صياغة حياتهن من حاجيات ضرورية كالطعام والشراب وغسل الملابس والخروج للتمشية أو شراء ملابس وهدايا لذويهن، ومن تداعيات الروح المصرية المعروف عنها التنكيت والسخرية حتى من نفسها، أُطلِق على كل غرفة اسم مقترن بفائدة الغرفة ومن فيها، فغرفتنا تأخذ لقب العفاريت، وتتكون من أبلة فوزية وسعاد قلبي وابنها سيف وإيناس ومروة وأنا. والثانية غرفة الرائحة الكريهة، لأنك مجرد أن تطأ قدماك عتبة الغرفة، تشم رائحة غريبة، شبهتها أبلة فوزية برائحة بيوت المسيحيين المعبقة برائحة زيوت نفاذة تخصهم تشويهًا واستهانة وتقليلاً من شأنهم، تقول:

- ريحتها عاملة زى ريحة الكفرة ولاد الكلب اللي مصيرهم النار حدف.

بينما الحقيقة، أن أماني فتاة غزيرة الشعر، ويظهر لها ذقن وشنب من شعيرات سوداء مدببة وواضحة تحتاج دومًا إلى تشذيب وتهذيب، وهي تفعل هذا أسبوعيًا عند كوافيرة هندية، ولا تفعل هذا تحت الإبط، ولا فرجها ولا حتى قدميها وساعديها، ومع الحر الشديد والرطوبة المرتفعة وعدم استعمالها لأي مزيلات عرق معطرة حتى ولو الرخيصة المشاعة ومع استحمام قليل، تتراكم الروائح داخل جسدها، كتراكم مياه المجاري العفنة في الأحياء العشوائية، وباقي طاقم الغرفة -بالصدفة- فتيات لا يهتممن بالكراكيب وتناثر بقايا الطعام، والملابس المتسخة الممزوجة بالعرق والطهي، فشاركنها تلك الرائحة التي تحمل لواءها الزميلة أماني، التي تمقتني كضرتها، ولا أعرف لماذا؟ والغرفة الثالثة يطلق عليها غرفة الصعايدة، لأن كلهن من المنيا، تحت قيادة المعلِّمة ثناء، وبها خمس معلمات أيضًا، وأخيرًا الطابق الأول الذي تستحوذ عليه ابتسام وصديقاتها المقربات رشا وعبير وسهام التي رحلت للزواج وأحضرت أختها إلهام بدلاً منها، وهو يطلق عليه الطابق الملكي، لأن به غرفة تخصّ الكفيل للراحة والمتعة واستقبال المعلمات والزوار في بعض الأحايين.

في لحظات بعينها يتوقف الكلام بيننا، وقد أصبحت غرف المنزل مجموعة من "الكانتونات"، كل "كانتون" له شخصيته وسيادته وأفكاره وميزاته الخاصَّة به، عنوانه الوحيد دبروا حالكم، فالسيدات لا يدخلن الجيش، ولكنهن يعشن ما هو أشد صرامة وقسوة وحرمانًا، إنه سجن الغربة الذي تتصلب فيه الشرايين والعواطف الإنسانية من الدرجة الأولى لتتحول كل مواهبهن إلى ألواح خشبية أو "ربوتات" متحركة تعمل بالإلزام والطلب والحاجة، فتبدو لك أعينهن بعد فترة ليست طويلة كأعين من الحجر، كل شيء محاط بحلقة من الصمت القسري، لا أحد يريد أن يشارك عالمه الداخلي مع غرباء، رغم أنهن من مكان وجنسية ووطن واحد، وفي الظاهر يظهر على الدوام إحساس التودد، والابتسامات المفتعلة والتجاور الجسدي داخل الغرف، إلا أن لهن قطعًا حيوات مستقلة، وأصدقاؤهن لا يعرفن بعضهم البعض، أو بحبٍ كافٍ لملء الفراغات والإحباطات التي تتجلى بوضوح فائق في ليالي الغربة العبثية، وهذا شيء يدعو إلى الأسف الشديد في ظني، ونحن نعيش بعقول أشبه بخزانة قذرة مليئة بالنفايات والخرق البالية.

إن لحظة القرار بالسفر، تلك الحاجة المُلِحَّة إلى فكرة المال المستعصية في وطننا، لحظة تهيمن على مصيرنا البشري، وعندما أتأمل فكرتها أمام نفسي، أجد أنها مجرد لحظة شطح بها خيالي دون أي تفسير أو ندم أو ماضٍ مر عليَّ سريعًا، فدفعني إلى الهروب إلى مستقبل غامض، أحس أن آلياته مرعبة وجاثمة على نفسي وأنا أرفض وأقبل في آن واحد، أي الاستسلام، أم هو لإحساس غريزي شائع بالرضا بالنصيب والقدر دون سؤال، فالسؤال لدينا يعني الكفر بإرادة الله، والرضا هو قبول الشيء كما هو حيث لا حل آخر.

ويأتي يوم المرح والزيطة والهيصة الملازمة ليوم الخبيز صباح الجمعة الباكر، وأصحاب تلك البدعة الريفية هن سيدات غرفة الصعايدة، فالخبز هنا من أثمن الأشياء التي لا يمكن الحصول عليها بسهولة، الخبز الموجود في مسقط خبز أبيض أو لبناني في أكياس، ولم نتوصل إلى مخبز يصنع الخبز البلدي الرخيص، بالإضافة إلى أنه لا يُشْبِع، وغالي الثمن بالنسبة إلى وافدات يدخرن أي قرش زيادة عن حاجتهن المحدودة في الجيش. تنهض أبلة ثناء الصعيدية بعد أذان الفجر تصلي وتحجز الطبق البلاستيكي الأحمر الواسع بعد أن تحل طرحتها ويظل على رأسها منديل كحلي على شكل سبعة ينسدل منه شعرها المسبول اللامع والمائل إلى الاحمرار من تكرار استعمال صبغة الحناء خمس خمسات وغديرتاها الغليظتان سارحتان على ظهرها، وفي أحد أطراف المنديل مربوط ثلاثة مفاتيح لأقفال صغيرة لدولابها، وغرفتها، ودرج نملية تحتجزه في المطبخ، تخزن فيه مؤونة الشهر من سكر وأرز ومكرونة وزيت وخلافه، لها ولصديقات غرفتها اللاتي تعتبرهن بمثابة أخواتها الصغار، لأنها الأكبر سنًا، ومسؤولة عن شؤون الخبيز وطهي الطعام، وتقسيم الأدوار عليهن من غسل الملابس يدويًا لكل أفراد الغرفة، أو الذهاب معها لشراء مستلزمات الطعام طوال الشهر، ترتدي جلابية خفيفة قديمة بها قطع طولي يبرز قمة ثديها الأسمر الضخم المتماسك دقيق الحلمة، تشمر عن ساعديها، مقتعدة الأرض، فاتحة قدميها على أقصى اتساع واضعة الطبق البلاستيكي ومنطوية عليه بكل حماسة واضعة الدقيق وبعض الماء والخميرة والملح القليل، وتلت وتعجن بكل همة.

حتى تفرغ منه وتغطيه بجلابية ممزقة تاركة إياه حتى يختمر، ذاهبة إلى الموقد الإفرنجي الصغير الذي يشتعل بأنبوبة بوتجاز، وليس كالفرن البلدي الذي لديها في البلد، تخبز فيه مع سلائفها في بيت العائلة، وتتذكره قائلة لنفسها بحسرة:

- فرن محترم بصحيح، ده غير الطبلتين، والمطارح والصواني واللمة والعيال.. حاجه حلوة ومحترمة.. مش الفرن السكة ده.. يلاّ الحمد لله..

رغم تبرمها، تجر قدميها، وتجهز لحومة خبيز فقيرة مع هذا الفرن الآلي الصغير ترحمها من العيش الأبيض الذي تأكل منه عشرة أرغفة ولا تشبع أبدًا. تحضر لوحين عريضين من الخشب لدولاب لا يستعمل، وتبلل خرقة نظيفة تمسح وتحك في ذرات التراب المتراكمة بسكين صغير حتى تزول تمامًا، ثم تفرش ملاءتين قديمتين، مطبقة كل واحدة لأكثر من طبقتين بشكل طولي ثم تنثر حبات الدقيق استعدادًا لتقريص العجين ورصه على الملاءات بانتظام، ثم تحضر كوبي ماء شرب طويلتين مستويتين لفرد العجين بعد تقريصه ودقه بكفها على طبلية بلاستيك بأقدام قصيرة متوسطة الاستدارة اشترتها خصيصًا للخبيز، ثم تدحوها قليلاً وتفرده بالكوب الزجاجي تعويضًا عن النشابة أو المطرحة، وقبل اختمار العجين بقليل تشعل الفرن حتى تتوهج فيه النيران لاستقبال العجين الذي مجرد ما ينبسط ويشم أنفاس النار المستعرة تدب فيه الحياة وينتفخ وجهه متوردًا ناضجًا، فتجذبه أبلة ثناء سريعًا بسكين طويلة قديمة بمقبض خشبي متآكل.

تجلس أبلة ثناء أمام الفرن الصغير تحت وطأة العوز والحاجة، ثم يحضر شريكات غرفتها، وبقية الغرف الأخرى ليشاركنها فرحة الخبيز، وينحصر دور أبلة ثناء في الجلوس أمام لهب الفرن، وقد ضايقها الحر والجهد وسعير النار التي تزداد باستعداد الأخريات للخبيز بعد أبلة ثناء التي بدأته صباحًا باكرًا قائلة:

- بسم الله الرحمن الرحيم يا ستار يا كريم ألف صلاة عليك يا نبي.. يجعله عيش العافية يا رب.

تعلو الصيحات والأصوات بالثرثرة والغناء، وتنفرد رشا به وتصيح بصوت عذب "أمه نعيمة"، فترد أخرى: "نعمين"، فترد رشا بدلال وحس أنثوي "خلي عليوة يكلمني "، وتضحكن الأخريات، ويستكملن مشوارهن مع أغانٍ أخرى حتى يظهر سيف ابن سعاد قلبي كما لقبها المعلمات، لأنها حين تتحدث تُشْعِر بانسياب وسريان صوت خافت ناعم للغاية إلى الروح والجسد وليس إلى الأذن. مطلَّقة ولديها الطفل سيف، لا يتجاوز الأربع سنوات. وافق الكفيل إحضاره بعد إلحاح، فما من سبيل لتركه لأحد. تلمحه أبلة ثناء قادمًا فتصرخ حاضنة إياه مهللة:

- حبيب قلبي.. تعالَ.. وحشتني.

ثم تخلصه من عناقها مفزوعة عليه من حدة النار الملتهبة، وسخونة الحواف المعدنية اللاسعة في الفرن: "لا يا روحي يا حبيبي.. روح لفاطمة".

ويلتقطها بنظرات عينيه الخضراء من بين المعلمات جالسة في ركن من أركان الصالة. كان أشقر الملامح، بهي الطلعة، ذكيًا، عندما ينفرج فمه ضاحكًا تظهر له غمازتان طفوليتان رائعتا المأخذ، ويجري إليها وقد تلاقت نظراتهما وقد فتحت ذراعيها تستقبله، محتضنة إياه بقوة قائلة بعفوية والابتسامة تملأ وجهها وروحها:

حبيب ماما... صباح الفل... صحيت إمتى؟

وترمي في لمح البصر لها أبلة ثناء رغيفين على كفها أخرجتهما توًا من الفرن لتغمس به فاطمة الزبادي الذي تجهزه بعد استيقاظها مباشرة انتظارًا لاستيقاظ سيف.

بعضهن يضحكن ببساطة، وأخريات رغم ابتسامتهن الظاهرة يشعرن بالغيرة والحقد على فاطمة التي حصلت على الأمومة المجانية، فسيف لا يذهب أو يلعب أو ينام من يوم أن جاء هنا إلا في حضن فاطمة، وسعاد التي لديها خطط كبيرة وواسعة عن حياتها الجديدة هنا في مسقط تجاهلت الأمر، وسعدت بالراحة التي توفرها لها فاطمة برعاية سيف دون مقابل، فهي تدرك أنه في نهاية الأمر ولدها ويخصها، وفي أي وقت سيؤول إلى أمه، كأن سيف أتى من أجل فاطمة، وفاطمة المحرومة من الأمومة وجدت طفلها الذي كانت تتمناه، وبقدر ما كانت فاطمة تسعد رفيقاتها في الحجرة وغيرهن من رفيقات الغرف الأخرى بصحبتها الودودة، إلا أنهن يشعرن تجاهها بالغيرة والتبرم، فهي قليلة الكلام وكتومة ومخلصة في عملها الدراسي ورعايتها لسيف، وصديقاتها يسعين إلى إبرام الصداقة معها، ابتسام وأبلة فوزية وأخيرًا فاطمة البلوشية، وهذه أشياء صعبة المنال في الغربة. الوحيدة التي لا يرن هاتفها أبدًا إلا من أقاربها وصديقاتها، ولا تسجل أي أرقام غريبة، ولا تخرج للتسكع مثلما تفعل الأخريات، فيخرجن يومي الخميس والجمعة، ويعدن محملات بهدايا، وطعام فاخر أو على أقل تقدير كروت مجانية، وقد يخرجن سربًا ولكن لكل واحدة طريقًا مختلفًا، ويتقابلن في موعد ومكان محدد للعودة معًا، وغالبًا يكون سوق الحرامية عند محل فلافل مصرية، لأن كل العاملين به مصريون ويحوي الأكلات المصرية الشائعة عندنا في مصر من فول وطعمية وبطاطس وباذنجان وبابا غنوج وبوريه ومخللات وخلافه. مهما تلاعبن بألفاظ الرقة والود إلا أنها توقظ في صدورهن غصة وغيرة دامية، ويحرقهن الاقتراب منها، فبقدر ما تسعدهن بروحها الطيبة الهادئة إلا أنها تبدو أمامهن قادمة من تاريخ غامض، يجهلن سقطاتها، ومكامن ضعفها أو حتى معلومة صغيرة تنقص من التزامها وعفتها لكي يعايرنها بها ويشفين بها غيرتهن، لذا ظلت بعيدة عن الهمز واللمز.

أما سعاد قلبي ذات الصوت الرقيق الخافت الذي يبدو كأنه صادر من جوف كهف عميق هو في حقيقته صوت المأساة آتيًا من حلقٍ جفَّ من مرارة التجربة التي عاشتها، هذا الوجه الملائكي المستدير استدارة كاملة كالبدر يتوسطه عينان خضراوان تظللهما رموش طويلة دون تدخل صناعي، وشعر ناعم حريري مائل إلى الأشقر الفاتح تتماوج فيه خصلات البني الفاتح وفوقهما حاجبان رقيقان مرسومان ومزججان على شكل هلالي، وفم مكتنز مشبع بامتلاء مثير للشهوة، كل هذا الإبداع الإلهي تشوهه على وجهها دمامل أشبه بالأخاديد محفورة ومتناثرة في ثنايا الخدين حفرًا مقززة، وقد عانت من استخدام الكريمات والأدوية الطبية في علاجها، حتى أشار عليها قَوَّاد من سوق الجمعة في روي قد عاشرته بأن مني الرجل هو علاجها الوحيد، ضحكت سخريةً من جرأة هذا القَوَّاد وظنت أنه يستخف بجمالها المشوه وعهرها، فتركت الأمر.

سعاد من إحدى قرى البحيرة، أبوها كان موظفًا في التأمينات الاجتماعية ولديه أرض يؤجرها للفلاحين، ومنزل كبير في قريته وورشة لسمكرة ودهان السيارات القديمة. كان شخصية معروفة بالضحك والجدعنة والمروءة، له شلة يقعد معها أغلب وقته في سهرات الخميس على الجوزة واستنشاق الحشيش والتنكيت والاستهزاء والسخرية ومبارزة العمدة وأعيان القرية، عندما ماتت زوجته ساءت حالته النفسية، ورغم أنه رجل طيب، فقد أصبح ذا مزاج فوَّار كأن فلفلاً وتبغًا داخله يغلي، يتعارك ويتطاحن مع أولاده الأربعة التي هي أكبرهم في غِلٍّ واحد، وعندما حدثت تلك الحادثة المشؤومة ثم تلتها حادثة أكبر بشاعة أتت على مصير حياتها الباقية كلها إلى الأبد، أما الأولى، أن أباها بعد عودته من جلسة السهر والسكر مع أصحابه تكون هي في انتظاره مهما تأخر حتى تحضر له العشاء وتلبِّي ما يحتاجه كما كانت تفعل الأم حينما كانت في أولى جامعة، فتاة شابة أصبحت بين ليلة وضحاها أمًا مسؤولة عن أسرة تتكون من ثلاثة إخوة في مراحل تعليم مختلفة وأب مستهتر، شديد العصبية، ظل من تلك الليلة يذقر لها، ويتعمد الاصطدام بها وملامستها، حتى احتضنها في ليلة ما بعنف وشرع يقبلها ويعصر جسدها بعنف ورغبة جارفة، صرخت مسرعة إلى غرفتها تبكي وهي تضع كفيها على وجهها وقد أودت الصدمة بعقلها، لا تتخيل ما يحدث، كأنه كابوس أرادت بكل جوارحها ألا تصدقه وأن يذهب عنها، لكنه لم يكن كابوسًا، بل حقيقة دائمة، وعاشت جحيم الساعات، وكرهت ساعة الحائط الكبيرة التي ترن ببندولها النحاسي الساعة الثانية عشر قرب مجيء الأب، وتوسَّلت إلى الأيام والليالي أن تمر وتنقذها من جحيم الليل الأسود حين يحضر أبوها الذي تعلم أنه ما زال أباها الطيب، وقد جالسها في إحدى الليالي باكيًا على ركبتيها، نادمًا عما فعله بها، ويرجوها في نفس اللحظة، إنها ابنته الوحيدة ولا يريد إيذاءها باعتباره أبًا حزينًا مكلومًا في قلبه جرَّاء موت زوجته الوفية، وفي عقله جرَّاء إدمانه الحشيش والخمر، يريد فقط منها أن تستوعب حالته المزرية قلبًا وعقلاً، وتعبث في ذكورته، حتى تنسكب شهوته، ويرقد كتيس أفرغ شهوته، وملاذه النوم الثقيل بفعل المخدرات التي يلتهمها كل ليلة مع أصدقائه وحزنه الذي ذهب بعقله وروحه. وهطلت عليها رحمة السماء تغمرها فرحًا وابتهالاً لدعائها المستمر أن تُروَى صحراء حياتها القاحلة، جاءها من كانت تتمناه طوال حياتها منذ كانت طفلة ليطلب الزواج منها، ابن خالتها الضابط، وكتب كتابها في ثالثة جامعة وتزوجت بعد التخرج وذهبت تسكن بيته وهي لا تصدق ما يحدث لها، حتى أدارت السماء وجهها الحَسن وحدث ما كان. في إحدى سفرياته المعتادة إلى المدن الأخرى بحكم وظيفته كضابط ملازم أول ينتقل من مدينة إلى أخرى أصيب في حادث هزلي وبُتِرَت ساقاه وأصبح كسيحًا معتلي الكرسي، مشلولاً، مُصرًّا على الطلاق، رغم كفاحها أن تبقى معه لكنه رفض أي إحساس بالشفقة منها، حتى لو كان حبًّا ورغبة دفينة في الوفاء والاستمرار في حياتها الزوجية معه، وعادت إلى الجحيم مرة ثانية في بيت أبيها، وبعد ثلاثة أشهر من السعادة المتواصلة، انقطعت عنها كل وسيلة ممكنة للحياة، وحبلها في سيف لم يجعلها تصالح الحياة، وكانت كارهة لوجوده في أحشائها وقد أتى على أنقاض الخراب والطلاق وفِراق من أحبته، والبؤس والشقاء يلتهم أحلامها وشبابها كما يلتهم هذا الطفل أحشاءها ويتغذى على دمها، فأحست به نذير الشؤم والأسى وقررت السفر وظلت تبحث عنه لتهرب من جحيم أبيها الذي تدهورت حالته دون أي أمل، وقد زاده خيبة ابنته إدمانًا وكفرًا، ولم يعد شيء يمنعه عن معاشرتها كما يريد.

أحس بها مثقلة بالتعب والهم وأنا أرقبها عن كثب، وهي جالسة لا تشاركهن في أي شيء، فقط تتأمل الخابزات وحَمْي الخبيز بأعين شاردة، وروحها مهجورة داخل غصون قلبها، وثمة فيض من زخم الحياة يتفجر هنا وسط حلقة الخبيز، لعل منابعه لا تُرى، لكنه عارم وغامر وساحق، فقد كان في قلوبهن شيء مكسور ذليل مناطه أوجاع الوطن وليالي الغربة الثقيلة، وأنوثتها الطاغية تريد أن تنفجر على عتبات أي رجل، فتحاول بجهد أن تشارك ولو بصوت خافت غناء المعلمات اللاتي وتكررن نفس الأغنيات حتى يعدن إلى الأغنية الأولى كأنها مصدر إلهامهم وشغفهم الحسي المدفون في أعماقهم بحثًا عنه:
أمه نعيمة.. نعمين
خلي عليوة يكلمني...
بينما سيف في حِجْري، يقضم الخبز "حاف" بكل براءة وانتشاء، وملأني القلق عليها، فرُحت أرقبها بإمعان، فقد أحسست أنها ربما تطير في الساحة مثلما تتطاير ذرات الدقيق الأبيض، ناعمة، خائفة فجأة أن تتركني وحيدة مع سيف بعد انتهاء هذا المرح الريفي، تجمع أبلة ثناء الخبز في أكياس بلاستيكية سمكية حتى لا يتسرب إليها الماء في فريزر الثلاجة، ثم تبقي بعض الأرغفة وتضعهم في كيس وسادة قماش نظيف وتضعه على ترابيزة في غرفتها اعتقادًا منها أن وجود الخبز يعم الغرفة بالخير والبركة، وتعطيني بعضًا منه لسيف الذي يشتهي أكله دون غموس أو مشتهيات داخله، وقبل أن تطفئ نيران الفرن المؤججة تضع عددًا من البطاطا لتشويها لنا كتهنئة وختام مبارك ليوم الخبيز الذي لا يتكرر إلا مرة أو مرتين في الشهر.

مللت من التمشية، بعد أن تركت لي المعلمات سيف كعادتهن للخروج أو الاختلاء مع عمانيين أو مصريين يلتقطونهم في المولات أو من مكالمات مغلوطة أو مبتورة بلا أسباب مفهومة، يمارسن علاقات تفور مثل المياه الغازية، مغشوشة ومصطنعة وزائفة، توقفت فجأة وكان اتفاقنا أن نلتقي عند مول ثناء في السيب، ولكن الوقت ما زال بعيدًا عن هذا، قررت أن أتصل بصديقتي فاطمة البلوشية لتنقذني من متاهة الغربة، قالت بانبساط وترحيب إنها قريبة من سوق السيب وستأتي بسيارتها لتأخذنا إلى كارفور للتنزه، انتظرت بشغف طلعتها البهية، وابتسامتها الدمثة كأنثى دمثة في كل ذرة من كيانها الناعم، لينة في يدها التي تمدها للمصافحة، وكانت ترتدي عباءة سوداء مفتوحة من الوسط مقفلة بزرارين عند البطن فقط أبرزت تقاطيع جسدها تحتها وهي ترتدي بنطال جينز ضيقًا وبلوزة ياقتها مستديرة لونها وردي فاتح وتلبس جوربًا ورديًا خفيفًا في لونه، جالسة في مقعد السيارة مستريحة بكتفيها على ظهر المقعد، ويداها على مقود السيارة الداتسون اليابانية وقد فتحت ساقيها قليلاً واضعة إحداهما على دواسة البنزين فظهر انسجامها وفتنتها، وكان وجهها الخمري مستطيلاً، وفي شفتها السفلى اكتناز ظاهر، وانثناء بارز في الذقن الصغيرة، وأهدابها تلقي ظلالاً خفيفة على خديها الموردين، ووجهها يعلوه شيء من بهجة اللقاء. دخلنا المول الضخم العاجَّ بكل شيء يخصّ البشر، واتجهت بنا فاطمة مباشرة إلى مركز الألعاب وبدلت البيسات التي تعادل الجنيهات المصرية بصكوك معدنية لتضعها في منافذ اللعب فتعمل ويلعب سيف، وتمنيت ألا يمضي الوقت معها أو يفوتني ميعاد الالتقاء معهن للعودة إلى سكن المعلمات.

لاحظت أن كثيرًا من اللاتي عرفتهن من المعلمات يتحدثن عن آلام ومصائب حيوات الأخريات كأنهن مهتمات وقلقات بالفعل، ولكن الحقيقة أنهن يستمتعن بمعاناة الأخريات، لأن ذلك يجعلهن يؤمِن بأنهن أفضل حالاً، وأكثر سعادة ممن ينصتن لمواجعهن في الحياة، وبذلك تكون الحياة كريمة معهن للغاية، إنني أكره هذا النوع من الأشخاص، لذا عزمت ألا أمنحهن أي فرصة لاستغلال حالتي، فبدوت غامضة كتومة، شحيحة الحوار معهن ووجهي يعلوه شيء من السهوم والحزن الدفين، يعلمون منهما أن في حياتي سرًا خطيرًا من تلك الأسرار التي يتساوى أمامها الحياة والموت.

مع توالي الأيام تبهت ثيابهم وتصبح أقل ازدهارًا وفي بعض الأحايين تبدو متسخة، ووجوههم تشحب من الإرهاق، وضحك متدفق أكثره يعبر عن بلادة صخرية، لا عن سرور عذب رقيق أو ابتسامات حقيقية، بل ابتسامات ميكانيكية من وجوه عصبية مجهدة، وأعين محمرة يسيل منها عرق الغربة الذي ضاعف من إحساسهن بالجهد والتفكير الدائم في حل السؤال الأبدي: كيف يحافظن على القروش؟ تحت شعار فك الارتباط عن الوطن الأم للانتماء إلى وطن مغاير هن فيه أسيرات الكفيل، والعمل الدائم والتلاميذ العمانيين.

كنت أسمع كل تلك الحكايات من أبلة فوزية، التي كانت بمثابة مرآة لي تنزلق عليها الوقائع والأحداث المثيرة، دون أن أعلن وأفسد إحساسًا بالتأمل كانت تحكيه في كثير من الضحك الساخر، لكن التعاسة تُلون الكلمات ويستبد بها الرعب والاشمئزاز من أحوال الناس الغريبة.

ساءت أحوال عبير، وأصبح يعتريها نوبات حادة من الاكتئاب والغضب الهستيري تريد به أن تكسر أي شيء أمامها، وتظل تصرخ دون مبرر حتى تفقد الشعور بساقيها، وتهرع إليها أبلة فوزية بلهفة تتلو عليها آيات من القرآن، يزداد بها فزعها وهياجها، وتسد أذنيها بكفيها زاعقة فيها ألا تقول شيئًا، لا تريد أن تسمع، حتى يخرج الزبد من فمها، وتتصلب أطراف قدميها ولا تقوى على الوقوف وتسقط وقد هدها الصراخ، فتحملها أبلة فوزية وابتسام إلى غرفتها وتحاولان تهدئتها حتى تغوص في نوم عميق يمتد إلى ساعات. وتلك الموجات التي تتلبس عبير تارة خفيفة، وتارة أشد قوة، وبين هذا وتلك الأصداء المتناثرة لتلك النوبات تسبح في الهواء وتتبلور وتتجمع في شخص عبير المسكينة ورأسها يتلوى من فرط الألم ملسوعة بنداء خفي تستيقظ منه مرعوبة فجأة من نومها، وعندما يئست ابتسام من سوء حالتها، وبعد أن أشار إليها الكفيل لأكثر من مرة أنه يجب تفنيشها، فلا يوجد مكان هنا للجن وأفعاله، أصرت ابتسام على الوقوف بجانب صديقتها إلى آخر رمق، فذهبت بها إلى شيخ كبير يقطن في نزوى، يعالج مثل تلك الحالات بقراءة القرآن وعمل أحجبة لإخراج الجن، لكن رده غير المتوقع بعد جلسته المغلقة مع عبير أوجمها وأخرسها، وشل جسدها عن الحركة للحظات وهو يخبرها بنبرات صوت بها شيء من الأسى والضياع، وفي تعبيرات وجهه شرود بالغ دون أن ينظر إليها وهو جالس في مجلسه العربي، ثم استقام وشدد الضغط على ذراعها وإحدى كفيها كأنه يواسيها قائلاً بحزن:

علاجها ليس عندي يا ابنتي، فأنا علاجي ومقصدي كلمات الله الطاهرة المباركة، التي تغسل القلوب وتعصر الأرواح من نجاسة الجن وإغواء الشيطان، بينما صديقتك تحتاج إلى سحَّار كافر، لأن من أقام سحره عليها قصد صديق إبليس (الذي كفر بربه) الذي يعمل أعماله فقط لأذى الناس وضررهم، ويصعب فكه وذهاب الجن عنها إلا عن طريق سحار مثله غير مؤمن. عبير وابتسام لديهما بعض من الإحساسات الدينية الأولى المغروسة في قلبيهما بحكم التربية والمجتمع والطابع الديني المهيمن على ثقافتهما، مهما فعلتا من أخطاء أو ذنوب فادحة لا تستطيع الأيام والليالي والتجارب المؤلمة أن تقتلعها من قلبيهما. تضايقتا جدًّا من تلك الفكرة الملعونة، وكان قرار ابتسام الاضطراري والقسري: لا بد من سفر عبير إلى مصر، حيث يتولى أهلها احتضانها وعلاجها بعيدًا عن مكان الرزق الوحيد لابتسام وغيرها من المعلمات، وأدركت عبير من نظرات ابتسام الطويلة والصامتة لها ما عليها فعله سريعًا تحت إلحاح الكفيل ونظرات الأخريات لها بالشفقة والبؤس لما يحدث لها، ورغم ذلك لم يبد على عبير حتى يوم رحيلها أي حزن أو فجع من معرفتها لحالتها وتفنيشها ولكن بدا عليها ذهول وكثر ابتسامها ولكنه ابتسام لا يفهمه راؤوه.

ظللت ثلاثة أشهر أو أكثر لا تأتيني العادة الشهرية، ولا أعاني من أي آلام غير تضخم بدأ يظهر في منطقة السوة، والأرداف ووجهي، وقد نسيت لفترة من الزمن تفاصيل جسدي القديمة، ضايقني أن منفذ انفجار الدم لا يأتي، وملأني شعور بالضيق الشديد بأن هناك كثيرًا من الدم الفاسد في بؤرة ما في جسدي وأنا أسير به، فأحسست بالزهق والاختناق، كأنني حبلى، أو طفلة لم تأتها بعد بشارة الأنوثة، ولاستحالة الحالتين ذهبت مع أبلة فوزية إلى طبيبة عراقية في منزلها المكون من طابقين، تجعل الأول للعيادة والثاني للسكنى، وكانت قريبة من سكن المعلمات لا يفصلنا عنها إلا بيوت معدودة من البيوت البيضاء المتناسقة في خط "هارموني"، كان اسمها عبلة، في منتصف الأربعينيات، نَضِرَة، مبهجة الوجه، وأشد ما يميزها عينان سوداوان جميلتان، لهما حور بديع فاتن، وإذا أطبقت شفتيها الرقيقتين لا تتحدث تجد بصرها قد تلبسته حالة من القوة والصرامة لا عهد للنساء بهما، ويحيط جيدها عقد أزرق (تركوازي) لامع يتدلى على نحرها به قلب من الذهب، شكله لافت للنظر بلمعانه الذهبي، فقد اعتدت رؤيتي لقلوب فضية وليست ذهبية، تلبس حجابًا من طرحة صغيرة شيفونية تكشف عن لون شعرها الأسود والناعم، سمينة إلى حد ما، وكانت بداية الحوار بعد أن جلسنا أمامها سؤالاً فتح الشهية للحوار الطويل بيننا بعد ذلك، نستشيرها في أي أمر طبي لنا بدون دفع فيزة الكشف كما تفعل مع كل الجنسيات الأخرى.

- أنت من المنصورة لا بد؟

قلت بعفوية: لا، وانتظرت أستفهم: لماذا؟

قالت: جمالِك يخصّ فلاحات المنصورة أكثر من أي إقليم آخر في مصر.

ضحكت خجلاً لتبريرها الذي يحمل مديحًا خاصًا بي، وقلت:

بنات مصر كلهن حلوات. وأنتِ من أين جمالك بالضبط في العراق؟

قالت بفخر: أنا كردية، من كركوك ذات نفسها.

قلت ملتقطة خيط ابتسامتها المثير:

وما الفرق أن تكوني من بغداد أو الموصل أو حتى كركوك هذه؟

بادرتني بالإجابة كمن يخطب في الساحة:

- فرق كبير.. نحن شعب الأكراد الذي قريبًا بمشيئة الله وبفضل أمريكا سيحصل على حقوقه المستلبة من أكثر من عشرين عامًا جرَّاء حكم صدام الجاحف.

وكمن فُتِح له بوابة الحلم والأمل القريب تحقيقه أخذت تحكي عن حلمها بعودتها إلى بلدها كركوك الذي هو بمثابة القدس لها ولغيرها من الأكراد، الذين طردوا من منازلهم واستحوذ عليها عرب من الجنوب بفضل نظام صدام حسين، وندت عنها شهقة طويلة تعبر عن ارتياحها من الانتظار الطويل قائلة:

أخيرًا سنعود إليها، وسنعيش حياة أفضل في بلدنا الأصلي كركوك (شمال العراق) وسيبدأ التاريخ الجديد لاستقلالنا وحريتنا، حياة صحيحة، نعيشها بعيدًا عن بغداد وحكامها السُنِّيين.

وَجِمْنَا أنا وأبلة فوزية دون أن نتفوه بأي تعليق عن حديثها البعيد تمامًا عن أذهاننا نحن المصريين، فنحن لا نعرف إلا العراق البلد الكبير الذي يُحكَم بالحديد والنار، لا ندرك شيئًا عن الشيعة الأكثرية الذين يحكمهم من بغداد الأقلية السُنية، أو حتى هؤلاء الأكراد الذين يسعون إلى استقلالهم بالتحالف مع النظام الأمريكي وحربه ضد العراق ونظام صدام، وأشارت بسبابتها كأنه تحذير لجهلنا وتخلفنا:

- لا بد أنني سأعود قريبًا إلى أسرتي ووطني كركوك.

ثم استدارت فجأة كمن أفاق من حلمه وخطبته، وجلست على مكتبها وقد رفعت من على المشجب المجاور لمكتبها البالطو الأبيض لتصبح عبلة الطبيبة التي أتينا من أجل استشارتها الطبية وقالت:

- ماذا بكِ؟

- لا تأتيني الدورة، ولست متزوجة؟

- إذن لا بد أن هناك أسبابًا نفسية شديدة التعقيد في حياتك، خاصَّة بتغيير المكان والطعام والحالة النفسية السابقة والحالية لكِ. منذ متى حدث هذا؟

- أكثر من ثلاثة أشهر.

- هذا شيء خطير، فالدم فاسد ولا بد من خروجه من جسدك. هل أنتِ محبطة إلى حد الاكتئاب واليأس من حياتك.

قلت بتلعثم وتردد:

- لا أعلم بالضبط أيهما، ولكن أرجِّح كليهما.

انفرجت شفتاها عن ضحكة بسيطة:

- سأكتب لكِ فورًا حقنًا حتى ينزل هذا الدم، وستلزمين علاج الضبط لهرمونات جسدك والطعام حتى تعودي إلى حالتك الطبيعية.

نظرت إليها مستجيبة وحائرة، فردت سريعًا بذكاء:

- أعرف.. لا تعرفين أحدًا يعطيك الحقنة، وتخافين منها إلى حد الرعب، سأحقنها لكِ بنفسي.

واستقامت واقفة، وهي تضغط على زر بجانبها لاستقبال مريضة أخرى وإنهاء المقابلة، ثم مدت يدها تحييني أنا وأبلة فوزية وشدت على يدي مواسية:

- لا تقلقي... كلنا عرب في النهاية.

فقلت في خاطري دونما تفوُّه صريح، مكتفية بنظرة طويلة إليها: فعلاً، على العاقل ألا يستهين برفيقه مهما كان صغيرًا أو ضعيفًا، فالتاريخ لا يعود إلى الوراء، إلى ما كان من قبل، أبدًا لن يعود.

بعد رحيل عبير، قررت أماني بكل تمرد وغضب واستهانة بتلك المرأة الشريرة السوداء أن تعرف ما حدث لعبير بأي طريقة، ولو بمحاكاة عبير بالصعود إلى السطح والجلوس بالساعات أمامها نكاية فيها وفي قططها الشيطانية، وهي تضحك دون سبب، وتعلق تعليقات سخيفة لكي ترد عليها المرأة أو تأخذها إلى حوار يفضي عن أي شيء، ولو كان عراكًا، لكن المرأة الخبيثة النيات كانت تكتفي بنظرات حادة، كلها شرر وبغض، تلمع لمعانًا غريبًا ومخيفًا مثل عيون القطط الجنية التي تأويها حتى استشاط غضبها آخر مرة، فما كان منها إلا أن ألقت في وجه أماني حفنة من التراب بغتة.. وكانت تلك الحفنة نذير شؤم ورائحة كارثة أخرجتنا من المنزل إلى الأبد.

في أحد نهارات الجمعة، قررت أبلة ثناء برضا كامل التفريط في طبقات البتاو المتراكمة عندها منذ حضورها من الصعيد، حتى لا يصيبه التلف من اختراق الحشرات الصغيرة مثل النمل المنتشر هنا بكثرة والسوس ومن بقائه طويلاً، أو ينشف إلى حد التيبس فيفقد مذاقه، وأخرجت صفيحة الجبنة القديمة التي تخزنها أسفل سريرها، ودعت الجميع إلى الجلوس عند ابتسام في الطابق الأول للغداء قائلة بسخرية:

- يا ختي زهقنا من الفراخ واللحمة والسمك، نرجع شوية لأصلنا، يلاّ يا حبايبي ناكل بتاو وجبنة قديمة.. ياللا تقشف وزهد شوية يا حبايبي.

وأتمت ابتسام الوجبة الفقيرة متهللة قائلة:

- وأنا عليَّ البسبوسة.. أستاذة فيها.

وقفزت رشا فجأة إلى وسط مدخل الطابق قائلة:

- ونشغل فيلم هندي.

ثم ترفع كتفيها تهز به ثدييها الصغيرين بحلمتين بارزتين يتقافز أمام أعيننا من تحت جلابية ترتديها دون قميص داخلي أو "سوتيان" يشف عنهما قائلة بميوعة وهي تضحك:

- أو أرقص شوية أصلي بحب الرقص قوي يا إخواتنا الصعايدة.

شعرت أن مسقط تلاشت من وجودها كليًا، وأنهن يردن برغبة جامحة أن يعشن وقتًا مصريًا في أعمق أعماقه، نعم إنهن يرفضن مسقط، ويعشن حياتهن الحقيقية التي ألفنها، ولا ينسونها إلا مضطرات ويائسات من حالة الشوق والحنين إلى البلد والأهل والأقارب وأرض بعضهن اللائي لا زلن يحتفظن بالإرث، حتى مواشيهن التي تركنها، مهما نأتْ بهن الحدود الجغرافية بعيدًا، لا تلتقي قلوبهن وأرواحهن إلا مع من أحبوهم وعاشوا معهم.

وسط الضحكات والقفشات النسائية الماجنة والموحية إيحاءات جنسية بحتة تفشت الزيطة والصياح وجلبة أنستني غياب سيف للحظات، وقد ذهب سهوًا إلى المطبخ بعبث طفولي، يبحث عن شيء، حتى أفقت لغيابه والتفت أناديه ولا يرد:

- سيف.. سيف.. سيف.. انت فين؟

فهرعت إلى المطبخ بحركة آلية، ورأيته في أحد جوانب المطبخ واقفًا يصرخ ويبكي ويحمل في يده رغيف خبز، في الجانب المقابل له الأنبوبة والبوتجاز بهما نار لاهبة مرتفعة إلى حد السقف، والنار تتدفق وتزداد كتدفق دماء من جرح في جزء من الجسد دون بقية أجزائه، فالنار لا تتسرب عن تلك الحدود محصورة في ذلك الجانب فقط. حملته بسرعة من وسط بطنه، وهرعت إلى الصالة، فارتطم جسدي بجسد ابتسام التي كانت تتأهب لمتابعة صواني البسبوسة وصرخت فيَّ:

- في إيه يا فاطمة؟ مالِك؟

- حريقة يا ابتسام اطلعي بره.. اطلعوا بره كلكم.

لم تصدقني واتجهت نحو المطبخ، فرأت أنه حقيقة، وصرخت:

- يا لهوي.. دي حريقة بصحيح.

وجرت وجرى الأخريات إلى خارج السكن صارخات زاعقات:

- يا لهوي... حريقة.

- حريقة يا ناس الحقونا.

- حريقة.. يا عرب الحقونا.

ولكن لم يحضر أحد أو يستجب لنداءاتهن المتلاحقة، ربما لأن أغلبهم في خلوات للتنزه وزيارة الأهل، فمعظم السيارات لم تكن متراصة كالعادة، أو لأن نوافذهم محكمة الإغلاق ومصنوعة من الألوميتال والزجاج المعدني الذي لا يخترقه الصوت والضوء بسبب المكيفات التي في كل حجرة تقريبًا، وعمَّ توتر شديد وهن يصرخن ويبكين، وينادين على بعضهن، رغم أنهن جميعًا أمام بعضهن البعض أو يجلسن متجاورات ملتصقات، وابتسام استجمعت شجاعتها ودخلت أحضرت الموبايل، وقد خشي الجميع الدخول لإحضار أي هاتف يخصّ أي واحدة منهن، وظلت تتصل بالكفيل ووجدي، دون أي أمل في الرد، فاليوم إجازة من كل شيء، وكلما توقف الرنين تعيد بشكل لا واعٍ الضغط على زر إعادة الاتصال، وعندما يئست هطلت دموعها التي احتجزتها حتى تبدو قوية أمامنا، وجلست بجانب الأخريات تبكي بشدة معهن وبيأس تام، جالسات القرفصاء على الأرض الترابية البعيدة عن السكن وإلى حد ما عن رصيف الشارع العمومي، وبعضهن تجاهلن أمر انحسار رؤوسهن والجلاليب الشفافة لبعضهن وافترشن الأرض غير مباليات بما سوف يقال عنهن.

جلست أحتضن سيف، الذي أصابته نوبة صراخ وبكاء من هول ما رأى، فذهبت به بعيدًا جدًّا عنهن، حتى غبن عن مشهدي تمامًا وجلست بجانب إحدى البنايات البيضاء أتوسل رؤية أحد للمساعدة، وقد توقف بكائي حتى يهدأ سيف، وشجعته أن يأكل من الرغيف الذي استمسك به بشدة.

أعلم أن الهواجس والأفكار اللعينة تملأ عقولهن، رغم نجاتهن بحياتهن، إلا أن أرزاقهن من ذهب وملابس وأشياء كثيرة اشترينها ستبتلعها النيران هكذا بكل سهولة، وسوف تأكل النيران نفوسهن الضعيفة قبل أن تقضي على حاجاتهن التي يقتنينها بشهوة وشراسة تقهر ليالي الغربة الشاقة على نفوسهن رغم كل شيء يدَّعونه.

أتى رجلان عمانيان فجأة كأنهما سقطا من السماء، حاملان بطانية ومسرعان تجاه النار لإطفائها ونحن لا نعلم أين وصلت الآن، ثم جاء بعدهما مباشرة رجال المطافئ مكممين حاملين أنابيب حمراء برشاشات قوية، ولكنهم جميعًا خرجوا دونما استعمال لأي من تلك الأشياء، فقد وجدوا النار خمدت تمامًا ولم يبق إلا بقايا هباب عالق في السقف، والبوتجاز والأنبوبة وصواني البسبوسة لم يحدث لهم شيء بتاتًا وقد نضجت وأصبحت جاهزة للأكل، بدت نظرات الدهشة ودوائر من الاستفهام تملأ ملامح وجوههم، كيف يكون هذا؟! وقد اقتربن معلمات السكن للاستيضاح عما حدث، لكن لم ينطق إلا أحدهم برد واحد:

- الحمد لله.. الحمد لله يا أختي ما صار شيء.. ادخلوا واستروا نفسكم.. ما في شيء خلاص.

وذهب رجال المطافئ مباشرة، ودلف العمانيان إلى ابتسام التي اقتربت منهما تريد أن تعرف ما حدث، فأدركا مباشرة أنها السيدة مديرة هؤلاء اللائي انخرطن في احتضان بعضهن البعض بفرح وابتهال وحمد لله على النجاة، قال أحدهما بحزم قاطع وشدة:

- ست المديرة، خذي صديقاتك وروحوا بيت تاني حالاً.. أصحاب هذا المنزل غاضبون منكن.. ولن يسمحوا لكُنَّ بالبقاء.. وهذا الحريق إنذار لترك المنزل حالاً.

لم ترد ابتسام، ليس من الرفض وإنما من الجهد النفسي والبدني اللذين أنهكاها تمامًا. فاستطرد يؤكد ويكرر بنظرات حادة قوية:

- اسمعي كلامي يا أختي.. احنا أصحاب البلد ونعرف كيف النار تشب وما تحرق شيء ولا حتى الصواني اللي كانت في الفرن.

وتركها... قائلاً أكثر من مرة:

- اتركوا البيت حالاً.. المرة الجاية كل شيء ينحرق من غير حتى تشعروا بشيء.

أغمضت عيني وإن كان عقلي منتبهًا لما حولي، وغفا سيف في حضني، حتى سمعت صوتًا ينادي عليَّ وعلى سيف، فأدركت أنه صوت سعاد وقد رأتنا، فجرت بأقصى سرعة إلينا ودموع تملأ عينيها بفرح:

- الحمد لله يا فاطمة ربنا وقف جنبنا.. ما احنا ولايا.

ورفعت يدها تمسح دموعًا كانت باقية على وجنتي.

- سيف نام.. هاتيه يا فاطمة.

قلت بوهن شديد:

- لأ أنا كمان عايزة أنام. دا واد عفريت.. تصدقي لسه ماسك رغيف العيش؟!

توقفت عن الكتابة، وقد برقت في ذهني ذكرى مماثلة لصديقتي المفضلة التي أنتظرها، هي أيضًا كانت شديدة الارتباط بأبناء أخيها، وأشدهم قربًا إلى قلبها فرح الصغيرة، التي كانت هي أيضًا تحب أن تأكل أرغفة الفينو الساخنة "حاف"، وتلازم صديقتي المفضلة الطعام والخروج والنوم في حضنها منذ سنوات، شعرت ببهجة الذكريات تُخمِد نيران المرأة الجنية الساحرة في وقتها حينذاك.

 

الفصل الخامس
الطير الأخرس
وجدي، الطير الأخرس، كما أطلقت عليه أبلة فوزية، وهما الاثنان كعنصرين متنافرين إلى حد التقارب طبقًا للمثل الشعبي الذي يقول "القط لا يحب إلا خنَّاقه"، لا يجتمعان معًا إلا وكان الصدام والتأفف هو نهاية حديثهما، فهو المدير المالي، ليس فقط لمدرستنا، بل لكل المؤسسة، وهي تتولى المسائل الإدارية والمالية لمدرسة المنار، لثقة الكفيل وثقة ابتسام في الإحاطة الوجدانية البارعة لديها وتحصيل المصروفات بسهولة ورقة مع الأهالي الذين يحترمونها ويحبونها كثيرًا، لذا تتقابل كثيرًا مع وجدي لتسوية الكشوف وتحرير الإيصالات المالية قبل أن يضيفها وجدي في البنك لحساب الكفيل، يقطن في الدور الثالث في المدرسة الذي به حجرة واسعة بحمام منفصل وردهة طويلة تشغل الطابق، وقد بنيت من أجل أن يعيش فيها وجدي، بينما بقية السطح به صهريج المياه وكثير من الكراكيب القديمة لوسائل تعليمية، ومقاعد ودكك مكسورة، في وقت فراغه يتولى تصليحها وأخذ ما يمكن استعماله والاستفادة منه ولو لبضعة أشهر، وأشياء أخرى ليس فيها أي نفع، ومهملة دون أي نية للتخلي عنها أو إلقائها في صناديق القمامة، وهي عادة تخصّ وجدي المصري الأصل، بينما العمانيون يلقون بكل ما هو زائد عن الحد وغير مستعمل.

والغريب أن تلك اللفظة لها استعمال جنسي لديهم، فالمومس يطلقون عليها مستعملة، أي تمارس حرفة الدعارة، بينما الكراكيب يلقونها بكل همة حتى لو كانت جديدة بعض الشيء، فربما تجد في صناديق القمامة أثاثًا أو ملابس أو مفروشات لا يبدو عليها أنها استُهْلِكَت إلى حد الرمي، لكن أغلبهم يحبون التجديد دائمًا وتبديل القديم بالجديد والأحدث، حتى سياراتهم وهواتفهم، وكم من مرة يأمره الكفيل أن يحضر هنديًا لتنظيف السطح ونفي هذه الأشياء غير المستعملة، ولا يتوانى وجدي صاحب العادة المصرية عن الاحتفاظ بها قائلاً له:

- حاضر، سيتم الأمر كما تريد، لا تقلق يا شيخنا.

وبالتأكيد لا تتم أي أمور وتظل الحال على ما هي عليه، حتى ينسى شيخنا الأمر.

شخصية وجدي تلك الشخصية النوميدية، الهائمة على وجهها بلا هدف، ولكن ليس بلا معنى، هنا وجد وطنه الحقيقي، يبدو قريبًا إليهم في بداوته الأصلية، فهو من عرب الواحات، لديه طفولة قاسية وفقر مدقع وضعاه على طريق الأقوام البدائية أو أقوام الثقافات الأولية كما صارت تسمى اليوم، فكلمة بدائي تحوي معاني التقييم والتعالي بنا نحن أهل المدن، حتى أحسها تلفظ بالعنصرية تجاه هؤلاء الآخرين البدو، كان يلازم أباه في رعي الغنم، وخدمة الآخرين، لكنه شق طريقه وتعلَّم إلى أن حصل على دبلوم المعلمين، مصممًا على ترك الصحراء وامتداداتها الأثيرة الحارقة الموحلة، باحثًا عن مسلك آخر للحياة، عن طريق زوجته حنان ابنة خاله التي كافحت حتى سافرت قبله، فهي تكبره بعدة سنوات، وهي من الواحات أيضًا ولكنها من الخارجة، وللغرابة لا نعهد فيها أي جمال بدوي، بل قبيحة وفظة وخشنة التعامل مع الآخرين، ويقال عنها هنا بين المعلمات "دي دكر متخفي في ست".

سيدة قوية وحادة تسيطر على الأمور بدراية وخبرة وموهبة البقاء، حتى لو جاء هذا على حساب الآخرين من المصريين، فالكل هنا يؤسس لوجوده على مبدأ الحركة والدأب والتأويل والتآمر، فتلك المفردات هي علامة نجاحهم وحريتهم، وحنان التي تعمل مديرة مدرسة تأسست على يديها في الرستاق لا ترفع إلا شعارات ذات إيحاءات جنسية بحتة، لكن مقصدها عملي ديناميكي للغاية:

الدفع قبل الرفع... والشهر اللي ما تقبضوش ما تعدش أيامه.

لأكثر من عشرين عامًا يعملان ويعيشان في عمان هي وزوجها، وأنجبا ثلاثة أطفال يتحدثون بطلاقة اللهجة العمانية، ويمرحون في كنف المحيط العماني بكل بساطة وانتماء متناهٍ، لا يذهبون إلى مصر إلا في زيارات قليلة كل سنتين أو ثلاث، لا يفعلان إلا ما هو في صالح العمل، ولو كان بقطع أرزاق من يحضرن من مصريات جدد يريان أنهن لسن ببراعتهما في الإخلاص للعمل، والتذلل، والانصياع لكل الأوامر بدقة وتفانٍ، لا تبرير له غير الخضوع التام لمفهوم العمل هنا.

فهذا مصدر قوتهما واعتدادهما بنفسيهما اللتين تشعران بالنقص، والنظرات البدائية إليهما من الآخر داخل المحيط الكبير، الأم مصر.

عندما حضر الطير الأخرس إلى عمان تعلَّم من جماعات الشيوخ العمانيين الأوائل الذين كانوا يقطنون الجبال والكهوف والخيام في الخلاء الرحب، اكتشف وعرف منهم كل علائق الإنسان بمحيطه الطبيعي التي نسيتها وتجاوزتها الحضارة الحديثة، فمُنجَز هذا البلد لا يتجاوز الخمسين عامًا بعد الطفرة التي أحدثها سلطانهم في كل المجالات، فهؤلاء الشيوخ الباقون بعد من الزمن القديم ومنهم بلوش غيَّروا حياته بما يحملون عن تصورهم للزمن وللنفس البشرية المعقدة والهدف من الوجود، إن العلاقات التي تربط بين أفراد العشيرة أو القبيلة لا زالت لديهم أهم من أي تطور تكنولوجي، ووجدي لا يعيش أو يدَّعي ذلك بوصفه باحثًا بقدر ما هو قرب شديد وتشابه بين عالم طفولته وصباه مع هؤلاء الذين يتحركون بكل انسيابية وبساطة توافق حدسه الخاصّ وميوله الأولى دونما أي تنظير أو تأويل، فتلك التنظيرات والتأويلات بمثابة عنف يمارس عليهم من الآخر المدني.

انتقلنا بمساعدة وجدي الذي أحضر عربة نصف نقل تريلاّ كبيرة وحافلات المدرسة إلى البيت الجديد الذي استأجره لنا سريعًا دون حتى أن يراه ويفحص مدى ملائمته للسكن، بالإضافة إلى بُعْدِه عن مكان العمل، إلا أنه أيضًا كان بيتًا مقبضًا وجدرانه قديمة، والدهان متسخ ومخشوشن والبياض بألوان صفراء مبتذلة ومبقعة ومتساقط من جوانب الحوائط وأعلى السقف، ونوره باهت والأثاث قبيح وبالٍ وكل شيء مؤثث بطريقة تضغط على الشعور، وطابق واحد يتكون من باب خارجي يؤدي إلى غرفة كبيرة وحمام، ثم قمرة ملحقة به تتسع بالكاد لشخصين يناما متجاورين، ثم باب يؤدي إلى صالة صغيرة مربعة ومطبخ صغير وحمام، ثم ردهة طويلة تتناثر بها أربع غرف، واحدة فقط بها حمام. وكان تشطيب المسكن شديد الرخص والرداءة، ومصاريع الشبابيك والأبواب رقيقة ومخلعة لا تغلق بإحكام، والسقف الأسمنتي يسخن في الصيف حتى تصبح الحجرة جحيمًا، والجدران الرقيقة مبلولة (مبتلة) وحول البيت في الخلفية شجرة كافور كبيرة فروعها منقطعة وتكاد تكون شجرة جرداء نحيلة وعارية، والساحة الأمامية ترابية متسخة، إلى أن نصل إلى باب حديدي صدئ يغلق الفيلا القبيحة الطراز. عندما تجولنا داخل المنزل بعد نقل متاعنا الكثير إلى الغرف تضايقنا من ضيق الغرف التي لا تتسع لنا ولأغراضنا، فاستعاضت المعلمات بوضعها تحت السرير، فلا يوجد مكان آخر، فالدواليب داخل الحوائط، ولعدم كفاية مساحة السرير لكل الحقائب أغلقنها بأقفال حديدية ووضعنها في الساحة الخلفية دون أي اعتبار لإمكانية سرقتها.

أحسست باختناق شديد، وإحباط قاتل، كيف العيش في هذا المنزل مع هؤلاء الوحوش النسائية؟ فقد عشت بينهن مرعوبة في بداية الأمر، حتى ألفتهن، وعرفت أنهن ضعاف كالقش، لكنهن أيضًا ينقضضن كالقطط بلا رحمة ويخمشون بوحشية. وعمَّ صمت قاتل كصمت البحر القاسي، فلا أسمع إلا حفيف المراوح الكبيرة تخض الهواء الثقيل في الغرف والصالة خضًا شديدًا، قد أصبح في قلوبهن شيء مكسور مهان، مناطه هذا البيت، والقبح يضيق حول الحجرات مثل حلقات ثعبان الكوبرا الناعمة الملمس.

حتى مرت الأيام كالعادة، وأصبح ضوء النهار يحوِّل كل الأشياء إلى مسارها المعتاد، وعاد كل شيء إلى ما كان، مع كثير من الأعباء الجديدة، كطابور الحمام الذي تتشارك فيه معلمات ثلاث غرف، والاستيقاظ مبكرًا جدًّا عما تعودنا لحجز إحدى عيون البوتجاز الوحيد الموجود داخل المطبخ لعمل مشروب ساخن، أو سلق البيض وخلافه للإفطار قبيل الذهاب إلى "الباص" الذي لا ينتظر أكثر من خمس دقائق وإلا تخلف عنا وخُصِم اليوم، حتى تكيفن على البقاء والسرعة واللهوجة، في انتظار أمل في الانتقال إلى منزل آخر، دون أي أمل في العودة إلى جنتنا القديمة التي أخرجتنا منها المرأة الساحرة، هذا ما توحي به دائمًا ابتسام كلما شكونا أو زاد سخطنا على هذا المنزل، فهي أيضًا لا تطيقه، وتقضي أيام الإجازة إما في الرستاق أو عند سهام في النخيل أو زيارات لصديقات عمانيات أو التنزه حتى يحين ميعاد النوم، وقد انهارت بعد رحيل صديقتها الغالية عليها عبير إلى مصر، ومكث معها في الحجرة رشا وإلهام أخت سهام فقط، وهي تؤكد وتصرح عن أمل الهروب من هذا القبح، وعتبة هذا المنزل المشؤوم، إلا أن أشد ما يجعلنا نشعر بالتفاؤل ونضحك من قلوبنا، ما تفعله أبلة فوزية -وهذا جديد عليها- من تطبيق ما تقرؤه عن نصائح لإخفاء معالم العمر، وأفكار ذكية للمرأة العصرية، وإتيكيت المرأة العاملة، في صباح الجمعة تقفز فجأة وسط غرفتنا طويلة الأطراف بسرعة شديدة كالحدأة، وعيناها مختفيتان ومفزعتان من تشكيل وامتلاء وجهها بالماسك، فننهار ضحكًا طويلاً وهي تحمل طاسة قديمة وتأكل، فأسألها ببلاهة:

- إيه ده يا أبلة فوزية؟

ترد متبرمة من السؤال:

- إيه؟ حلبة بالعسل، ماسك، وباكل الباقي، أرميه يعني علشان ترتاحي؟!

فيزداد ضحك الأخريات ويضحك سيف لضحكهن.

فأرد بسذاجة وسخرية:

- اعمليلي واحد يا أبلة فوزية نفسي أتخن شوية.

ترد ردًا صرعني بعتاب مصطنع:

- مش عيب يا فاطمة تقولي كده؟ احترمي نفسك يا بنت الوسخة، هو أنا برده اللي بعمل؟!

فأكاد أسقط ضحكًا من المباغتة، والأخريات يدققن على أيديهن بقوة الإشارة الجنسية.

ورغم سخريتنا بدأ تأثير الأقنعة ونصائح إخفاء العمر، فظهر على وجه أبلة فوزية الذي أصبح ناصعًا أملس ليس به أي غضون، لا عند ثنايا الشفتين، ولا عند العينين، ولا في الجبين، فأدركت أنها تستعد لنزهة الجمعة مع صديقات غرفتها، وبالتدريج عادت الأمور إلى سابق عهدها، وخرجت معهن حيث يتركن سيف معي، فلا أجد مفرًا من الاتصال بفاطمة البلوشية ليمضي الوقت وأحقق سعادتي البالغة إلى حين قدوم الأخريات بسيارات من يقلوهن إلى سوق السيب حيث مكان التجمع للعودة كالمعتاد. فاطمة البلوشية التي ظهرت في حياتي مثل القمر الذي لا يشبه أي قمر آخر، وهو ينجلي للناظر مرة على شكل طاووس من ذهب، ومرة على شكل عريشة ياسمين، ومرة على شكل سوار من الياقوت في معصم امرأة جميلة، ومرة على شكل كأس من الكريستال.. ومرة على شكل راقصة باليه ترقص على صوت الطيور الليلية، بل إن المعجزة الكبرى في فاطمة البلوشية ليست شعرها الأسود الطويل الحالك السواد، ولا جسدها الفارع ولا عينيها الفاحمة السواد، إنما المعجزة الكبرى هي إنسان فاطمة الرائع الحنون في سمارها الفتاك وقلبها الأبيض، وكفيها المخضبتين بالحناء موشوم عليها قلوب ورسومات بديعة تعبر عن روحها الطهورة والنظيفة الخبيئة.

لم تحضر بمفردها كالمعتاد، كان معها شاب وسيم للغاية، يرتدي بدلة ضابط، وجهه صغير بعينين عسليتين وبشرة خمرية وفم صغير وأسنان نَدِيَّة ناصعة البياض، فأغلب العمانيين لا يدخنون، وقوس الشعر البني فوق الجبين وتحت الكاب العسكري ينبئ عن شعر غزير خلفه. قدمته فاطمة باقتضاب:

- أحمد الشبلي.. ضابط في المرور.

نظرتُ إليه بإمعان، وظللت للحظات أنظر إليه في ذهول ودهشة، حتى لاحظ نظراتي الطويلة، فبادر خجلاً منه، جالسًا على استحياء، قائلاً بوجه باسم وبشوش:

- انتِ بتشبهي عليَّ ولا إيه يا أستاذة؟ مش بتتقال كده في مصر؟

فابتسمت ابتسامة استنكار:

- انت بتعرف تتكلم مصري.

ثم عاد إلى لهجته وقال بأدب جم:

- انتِ يا أستاذة مصرية، ولدينا من مصر دم بيجري في عروقنا.

واستطرد قائلاً دون أن ينظر إليَّ:

خالتي تزوجت مصري قبل صدور المرسوم السلطاني بمنع الزواج من الوافدات، وبعد موته عادت إلى مصر تعيش في الجيزة، وأولاد خالتي يحضرون كل عام في الصيف لزيارتنا، وأنا أذهب إليهم تقريبًا كل إجازة سنوية.

قلت بفرح طفولي:

- صحيح؟!

وفجأة صمتُّ وتوقفتُ تمامًا عن الحديث، وتركت لفاطمة إدارة الحوار، فيبدو أنهما يعرفان بعضهما جيدًا وليس ذلك باللقاء الأول، واستأذنت أن أذهب إلى سيف في مقر الألعاب التي يحبها، تاركة لهما الوقت والحديث والطاولة، وتركت لأفكاري العنان، وإحساسًا متماهيًا بين الحزن والسعادة، وقد ذكرني أحمد هذا بزوجي الراحل، فهما متطابقان في الملامح والجسد والهيئة كاملة، حتى روحه الخفيفة تسبح في الفضاء كطائر حر مثل زوجي تمامًا، كما يقولون (يخلق من الشبه أربعين)، هل يحدث هذا في غير الوطن؟

سؤال صعب وإجابته مستحيلة، أن يستدعيك الراحل من مكان بعيد ومختلف تمامًا لأراه وجهًا لوجه، كأني من يوم حضوري إلى ذلك البلد الغريب وأنا على موعد معك رغم الغياب النهائي والرحيل والهروب الكبير من أشواقي القديمة إلى روحك. وأحلم بروحك تحتضن كامل جسدي بعد مضاجعتك لي، وتهدأ أنفاسي المتلاحقة وفحيح الرغبة يكمن في نفسي الملتاعة، فأفيق من حلم اليقظة، وأشعر بدعوة الموت والفقد الأزلي، حتى أتذكر هذا العربي الذي سقط على روحي كالصاروخ ليجعل من جسدي كيانًا حيًا ينبض بالشهوة والرغبة، لكن بلا أدنى حيوية فعليَّة أو قدرة على الفعل، بينما هو يتجسد أمامي كجني يحشد طاقته السحرية الفائقة للخروج من الزجاجة محترقًا بنظراتي المستديمة المحدقة واستكانتي الكسيرة التي تؤجج فضوله الذكوري عن تلك الأنثى الوافدة من أم الدنيا.

عندما عدت إلى فاطمة هلَّلتْ قائلة:

- فاطمة، الأسبوع القادم سنُعَرِّفك على جمال مسقط أنتِ وسيف.

قلت كتائهة عادت من متاهة الذكريات، كما عاد سيف من متاهة ألعابه:

- مع من؟

قالت:

- أحمد.

واتجهت فورًا إلى أحمد بودٍ وحبور:

- أحمد من فضلك خذ الرقم لتؤكد عليها.. فاطمة صديقتي خجولة؛ ربما لا تحضر.. لا تنسَ يا أحمد أرجوك.

سكتُّ، وعقلي يخشى من لعبة القدر القادمة، والأفكار تعبث في جراح الماضي وتدفعني إلى أمور أخشاها ولا حيلة لي لإيقافها.

الأسبوعان الماضيان لم أكتب في مذكراتي، بسبب إجراءات انتقالنا إلى المنزل الجديد فشعرت بحنين إلى الكتابة عن الطير الأخرس.

وجدي، ذلك البدوي بتهذيبه الزائف وابتسامته الباردة، وهدوئه الإجرامي، نظراته إليَّ حادة تُصوَّب إليَّ كالسهام، فأشعر بعينيه تمسحان جيئة وذهابًا على تفاصيل جسدي وتتركزان على وركيَّ والنهدين بنظرات جائعة أحسها واضحة ومتلاحقة، لا شيء يشبع جوعه أبدًا، رغم احتفاظه (الكوندوم) الذي يمارس به الجنس مع فتيات عديدات فلبينيات أو هنديات، مزاجه المفضل، لكنه دائمًا جوعان جوعًا يجعله يبكي بكاءً حارًا وهو يبحث عن مذاق آخر، كان يغرق نفسه في العمل حتى يفر من الجوع المستمر، وعبء كل هذا على مشاعره كان ضاغطًا، وفي صدره جفاف لا يرويه نهر، يطارده خوف غامض لا يمكن إدراك كنهه، فيغمض عينيه ويستدير برأسه غير واعٍ لما حوله من فرط الإرهاق والتوتر والخوف الغامض.

يعشق الملكة ديانا ويجمع لها صورًا عديدة متنوعة، ومجلات عن حياتها وقصتها وعشق الصغير والكبير لها، وحتى موتها المفاجئ، يحلم بها كثيرًا وهي ترتدي له قميص نوم شفافًا فوقه ينسدل رداء حريري بجسدها الأنثوي البديع وشعرها الأشقر القصير وملامح وجهها البريء، ويتخيل قماش القميص وهو يشف عن تكَوُّر ثدييها وقرص بطنها المستوي الفاتن ثم يتصور نفسه وهو ينتظرها بعد الاستحمام ويتلمس بخار جسدها الدافئ في برودة وعتمة تلك الغرفة المتواضعة الحال وروحه تتنشق رائحتها، ودفئها وهي تستسلم له بعينيها الزرقاوين المفعمتين حنانًا وصفاء، ليعانقها ويتشبث بها وَلَهًا وعشقًا.

يقابلني في أحد اللقاءات العابرة مبتسمًا في العمل، مندفعًا ناحيتي بتكَلُّف يود أن يطلعني على هذه الصور مبتسمًا وقائلاً بفرح:

- إنكِ تشبهينها.

أفزع قليلاً، لكني أبدو مسرورة من جلال الشبه، وأتلوى قلقًا تحت فتك نظراته التي تعلق بلحمي، ثم فجأة أجمع الصور متعللة بحضور الحافلة وأعيدها إليه مادة يدي إليه كأنني أقول له اذهب الآن أرجوك.

يأخذ الصور من يدي، ويعود إلى غرفته، ويسدل الستارة اتقاءً للشمس الحارة، ثم يلقي بنفسه على السرير مكسورًا، يعذبه الندم على ما يفعله معي، لكنه في قرارة نفسه يعرف أن الحياة تحتاج إلى كثير من النذالة، ورغم ذلك هو في نهاية الأمر، كالطير الأخرس، أو كخيال لرجل يُحتضر ولا يموت، يقتنص كل فرصة سانحة له باستخدام "الكوندوم" مع الخادمات لأنه يخشى الأمراض واستعمالهن المستمر، وعليه أن يبحث عن فرج نظيف لا يحتاج إلى "كوندوم" لتكون ذكورته حرة وطائشة.

مرت الأيام الأولى في هذا المنزل الضيق الكئيب بالغة القسوة، لكنها خلقت فرصة غريبة بيني وبين ابتسام للتعارف من جديد، فقد أصبحنا نلتقي أسبوعيًا. ففي ليلة عندما نامت المعلمات رحت أتخلص من هذا الجو المشحون بالعمل حتى تأتي لحظات سكاتهن التام بالنوم منهكات من شدة الحر وعبء العمل الدائم لأسبوع، فخرجت إلى الصالة، لأتفرد بمشاهدة التليفزيون كما يحلو لي، فتحت ابتسام الباب الذي يفصل عالمها عن عالمنا بهدوء، وألقت التحية، فهززت رأسي إيجابًا دون أن أتفوه بها، مصوبة نظري إلى فيلم أجنبي، ثم جاءت تجلس بجانبي تحمل طبقًا به حلوى عمانية وقدمت إليَّ الطبق:

- اتفضلي.

قلت باستحياء:

- شكراً.

وضعَتْ الطبق بجانبها وتحدثت بألفة كأن بيننا رابطًا ما يوحي بتلك الألفة والانسجام:

- الشيخ حكى لي اليوم في أثناء حضوره الغداء حادثة مرعبة تجعلني لا أستطيع النوم يا فاطمة رغم وجود رشا وإلهام بالحجرة.

قلت بتجهم دون أن ألتفت إليها.

- ما هي؟

أخبرني وأنه في طريقه إلى أهل بيته في الرستاق أمس، ظهر له رجل غريب الأطوار، وترجاه أن يأخذه معه، وافق الشيخ فورًا وركب بجانبه في السيارة، فطرقت نظراته سهوًا وعلى غير قصد إلى قدميه في أثناء الحديث، فإذا بها أرجل ماعز، فزع الشيخ وارتجف وتوقف عن الحديث وحبس أنفاس الصدمة ثم حاول تشغيل القرآن، فرفض الرجل، ولأن الشيخ على دراية بالكثير من أحوال الجن والسحر المنتشر هنا استحكم أعصابه وفكر سريعًا في حيلة يتخلص بها من هذا الرجل المسحور، فهو يعرف أن هؤلاء لا يأذون إلا من يأذيهم أو يسخر منهم، قائلاً له بتصنع اللا مبالاة والجدية: إنه يوجد عطل في السيارة وعليه أن ينزل من السيارة، عندئذ مع غلق الرجل الباب طار الشيخ بالسيارة كما تطير أوراق الأشجار مع الريح، وفي أثناء تقدمه في اجتياز الطريق يلتهمه التهامًا رآه مرة أخرى، فتجنبه بالسرعة الفائقة واستعاذ من الشيطان الرجيم وأدار الراديو على إذاعة القرآن الكريم حتى وصل إلى بيته آمنًا، مجزوعًا، وجسده هامد وخامد من حمية القيادة وهول ما رآه، عازف عن أي شيء إلا النوم.

التفتُّ أنظر إليها بذعر وقد سلبتني الحكاية من مشاهدة التلفزيون وأثارت حماسي إلى نهايتها، وقلت:

- هل يحدث هذا يا ابتسام؟!

بدا شعور الخوف قابع في عينيها الواسعتين، وابتسمت ابتسامة خافتة لم تخف مظاهر الجدية على وجهها، فبدت متحفزة لي، لا أدري لماذا، وأنا في الحقيقة راعني اتساع عينيها السوداوين وألق بياضهما في غبشة ضوء الصالة الخفيف، وقالت:

- ألن تأكلي حلوى؟ إنها لذيذة وأصلية.

قلت وقد داخلني شعور بالغبطة، رغم انغمار كلتينا في ذكريات الحادثة المفزعة وقد تناولت بالملعقة جزءًا منها إلى فمي:

- فعلاً إنها لذيذة جدًّا يا ابتسام.

ثم قالت بغتة، بينما كررت تناول الحلوى التي سحرني مذاقها:

- أنا آسفة يا فاطمة.

ابتسمت نصف ابتسامة وأنا ألوك الحلوى في فمي وهززت رأسي بالإيجاب كأني أهمهم لنفسي قائلة:

- فَهْمُ البشر واستيعابهم ليس بالأمر الهين هنا.

ثم هتفت أفكاري قائلة لها:

- لم يحدث شيء.

حينئذ اطمأن قلبي، فقد أدركَتْ ابتسام أنه ليس لي مخالب مثل الأخريات، وأنني لا أهددها في شيء، وأخذت علاقتنا بعد ذلك صيغة الود المتباعد في بداية الأمر ثم تعددت لقاءاتنا الليلية بين الحكي والثرثرة عن تلك وهذه مِمَّا يحدث من غرائب الأمور أمامنا.

رن هاتفي، وكان ما توقعته، إنه أحمد يؤكد عليَّ الحضور للقيام برحلة للفرجة على أماكن جميلة هنا، ويجب ألا تفوتني الفرصة، وذكر كلمات كثيرة، وحاولت بعد غلق السماعة أن أتذكر كل كلمة ولم أفلح، لم أدرك حتى عن ماذا كان يتحدث غير الموضوع الرئيسي، وهو الحضور، وقد كان كل ما يحيطني هو صوته الحنون الرائع الذي أغوص فيه مع عالم متوحد معه، وشعرت بدقات قلبي عالية، فامتعضت وتلوَّت حركة أمعائي بألم وأنا أكاد أجزم أنها حمى الحب اللعين.

الشمس الحارقة مع مرور الوقت تصبغ بشرتهن باللون الغامق في أثناء العمل صباحًا ومساءً، ومن لا يعملن في الفترة المسائية مخبوصات بالزمتة دائخات من الحر، تجلس من تجلس في الصالة أمام التليفزيون أو يأوين إلى غرفهن، لكنهن جميعًا كسيرات الأعين، ويكُنَّ في المساء بالذات في أتعس حالاتهن المزاجية والنفسية، لأنهن متقاعدات ومحرومات من الأجر الزائد الذي تتقاضاه الأخريات، لذا دائمًا ما يكون المساء جنونًا من الحقد والكره والسموم عندما يلمحن الحاضرات من العمل المسائي، وهن يملن يمينًا ويسارًا، لتدخل كل واحدة غرفتها، تحيي الجالسات منهن وهي متعبة، وترد الأخريات في قرف يزيد قلوبهن كمدًا.

تغيبت سلمى الهندية لأكثر من أسبوع حتى عرفت ابتسام أنها سافرت إلى بلدها الهند لأمر عاجل، وأصبحت دورات المياه والأرضية في المدرسة مباءات مقيتة من تكرار تبول التلاميذ الصغار، واستهتار الكبار، لم تفكر ابتسام حتى في أن تبحث الموضوع مع أحد، أمرت المعلمات الجالسات في السكن بالقيام بدور سلمى بأجر إضافي، لقتل الوقت والاستفادة، بعضهن رفض والأخريات استجبن، لا حياء في العمل ما دام رزقًا سيجلب المال، وهذا ليس لأنهن شاذات، إنما هن في الحقيقة مربوطات، ولا تأخذ منهن إلا ابتسامة لعينة لا تعرف بالضبط أهي سخرية من ذواتهن أم إشفاق، لا شك أنه عمل مخزٍ وشائن أن يحدث، وأن يقبلن، لكن مبدأ "استفِد بكل وقتك هنا" هو قرار ضمني، فحواه التخلِّي عن الكرامة وكل ما لا نعرفه، كتجربة في الغربة، لن يراك أحد، أو يستعلي عليك أو يسجل عليك أخطاء الإدانة والمهانة كما يحدث في بلدك.

عندما بدأت أتعوَّد على جو العمل وإيقاعه الجديد، أدركت أن هناك قواعد للعبة هنا مختلفة عن العمل في مصر، وهو أن تكون موجودًا بقوة تطرح شغفك وتكالُبَك على اقتناء المال، ولكن عليك ألا تظهر ذلك بشكل واضح فج وصريح، فكمية العمل صغيرة، ولكنها خلقت محيطًا من خفة الدم والاهتمام المبالغ فيه بإرضاء أولياء الأمور، والإدارة، والكفيل. وإحداث الكثير من الضوضاء حولهم هو المطلوب، فالسنوات تمر بسرعة، حتى يصبح قرار العودة لا يستطاع تحديده، تمر السنوات فجأة دون أن تعي، حتى تشعر أنك واحد من أبناء هذا الوطن، ولا أحد يفكر في ذلك، عزيمة الشباب والمال تنسيك العمر، ولكن عندما تسقط على رأسك مطرقة حادة تجمد كل أحلامك وتنكر كل إخلاصك وتفانيك في العمل لينتهي أمرك دون سابق إنذار ويحدث التفنيش النهائي، تأتيك الصدمة وتقاوم الأمر التنفيذي بكل سبل الترجي وإهدار الكرامة حتى تبقى وتستمر حياتك، كما حدث مع أستاذ محمود مدير مدرستنا، حينئذ فقط تدرك أن قواعد اللعبة مختلفة ومرعبة في آنٍ واحد.

أستاذ محمود يعيش مع زوجته في مسقط منذ سنوات عديدة تعدت العشر سنوات، رجل عصبي وجَشِع، في الفترة الأخيرة بدأ يعاني من صعوبة في النطق، حينما يتكلم يبدو كأنه يبتلع أو يتقيأ، وكان طقم أسنانه لا يساعده على التحكم في لعاب فمه، حتى يمل صعود وهبوط كلماته بسرعة عجيبة، فيعتمد على الإشارات، يزوم ويرفع يديه عاليًا ويهزهما فنفهم أنه غاضب، دائمًا هو غاضب من سير العمل، لا يعجبه أحدًا، متلهف على البقاء والنقود في آن واحد، يبرر سلوكه العصبي بأن ابنه مريض بالفشل الكلوي ويلتهم علاجه معظم ما يكسبه، أشعر أن البؤس يستولي عليه، بل ما هو أكثر من البؤس، إنه الإحباط التام الذي يتملكه عندما يدرك أنه رغم جهده وميزاته وكل إرادته الطيبة من أجل العمل يرتطم بعقبة منيعة لا قِبَل له بالتغلب عليها، وقد كانت تلك العقبة المنيعة هي طموح ابتسام الجامح في أخذ منصبه، واستياء وجدي، حتى كان نهارًا مقيتًا حينما تقابلا على باب السلم المؤدي إلى مكتب كليهما صدفة في أثناء اليوم الدراسي. فأخبره في غفلة من حساباته المستقبلية بنبرة الخسيس حينما يتمكن عن موعد سفره ومغادرته النهائية بتذكرة ذهاب بلا عودة، فأسفر وجدي بذلك عن خسته بكل ضراوة، وتركه دون تعليق أو انتظار وقْع الخبر على نفسه وملامحه الحادة، وبذلك أصبحت ابتسام مديرة المدرسة رسميًا كما تمنت من أعماق نفسها الشريرة، هذا هو الشر بعينه، ألا تنال أي عقاب وتفر بالجريمة، بل علاوة على ذلك تسمع عبارات التشجيع والتأييد والترحيب.

جاء يوم الخميس وحان موعد الكتابة في يومياتي: التعاسة لا تنتهي أبدًا (فان جوخ).

مر يومان على ترحيل الأستاذ محمود، إنه تقريبًا أصبح شيئًا عاديًا بعد سفر عبير وزواج سهام، لكنه من الجلي للنفس المغتربة أن يكون المرء محتاطًا لكل شيء في حياته هنا، مِمَّا أفسد إحساسي بالراحة، ومما زاده شعور الانتظار والسعادة التي تملؤني بذلك الفتى الأسمر الذي استحوذ على اهتمامي بطريقة مغايرة، لم يكن إحساسي هذا منطلقًا من غريزة الأنثى، إنما تؤكده قوة سيكولوجية عميق لذلك الشبَه لماضٍ رحل، وبطغيان تأثير طيفه من حولي، فتمنيت بشدة أن يأتي غدًا سريعًا حتى أراه.

خرجت في صباح الجمعة ومعي سيف، بتعزيز من أبلة فوزية دون أن أشارك المعلمات، انفرجت أسارير أبلة فوزية لعلمها أنني سأخرج مع فاطمة في نزهة خلوية، لكني لم أخبرها عن وجود أحمد بأي شكل خوفًا من اهتزاز فكرتها المسبقة عني بالتحفظ والاستقامة وأني لست كالأخريات، كان لا يزال النعاس في عينيها، ثم رفعت بعض خصلات شعرها إلى الخلف واعتدلت جالسة على السرير وقالت بنظرة حادة:

- عايزة أفكرك انك ما تتماديش في صداقة حد قوي كده، ما تنسيش، احنا في غربة.

ثم ربتت على كتفي بعد أن جلست أمامها وقالت بحنو بالغ وحزم:

- خللي بالك من نفسك يا فاطمة.

احمرَّ وجهي وتلعثمت كلماتي، وخشيت أن تكون عرفت كل شيء وتتخابث عليَّ، لكني قلت بحزم أيضًا:

- فاطمة صاحبتي وطيبة قوي؛ ما تخافيش عليَّ يا أبلة فوزية.

وقبلتها قبلات سريعة هاربة من كذبي، وجذبت يد سيف قائلة له:

- يلاّ يا حبيبي.. يلاّ هنتأخر.

تقابلنا في سوق السيب بابتسامات وود صافٍ نحن الأربعة، على أثر الاستعداد للخوض في جغرافيا المكان وتاريخ الإنسان فيه، رحلتنا كانت بسيارة أحمد، تاركين مسقط إلى صحار موطن أحمد الأصلي، وحتى نستطيع الاستمتاع بالمناظر الخلابة اخترقنا الطريق الذي تسلكه الجبال على الجانبين ويمر بمحاذاة مجرى نهر يعرف "بوادي الجزي "، ويمكن أن يتحول النهر الذي يتدفق عبره إلى تيار صاخب بعد انهمار المطر المفاجئ، ولهذا تنصح السلطات بعدم التخييم على أرض الوادي خوفًا من الفيضانات، وما أن انحدر الطريق إلى السهل حتى وجدنا أنفسنا في صحار، وهناك التقينا عائلة أحمد، لم نر إلا أباه وأخاه وصديقًا له ضابطًا وزوجته. قام بإلحاح بدعوتنا إلى الغداء في إحدى حدائق فندق يطل على ساحل صحار، ويهب علينا نسيم عليل ونحن نتناول ثمار البحر الطازجة من الروبيان والكركند وسمك الأسقمري، وعند نهاية حدائق الفندق نجد البحر والرمال القاتمة بلون قمم الجبال، ونجد هناك شبابًا عمانيين يلعبون كرة القدم، فيقول صديق أحمد ويُدعى علي الشكيلي معلقًا بفخر:

- شبابنا يهوون كرة القدم بشكل كبير، وفازت سلطنة عمان أخيرًا بدورة الخليج لكرة القدم.

كان السيد علي الشكيلي يود أن يرينا المواقع الأثرية البحرية لمدينة صحار والقرى والبلدات الساحلية بما فيها بلدة سهام المشهورة، إلا أننا تأخرنا وبدأت الشمس بالمغيب ونحن نود أن نكمل طريقنا إلى مسقط قبل مغيب الشمس، لذا قررنا التوجه إلى العاصمة مسقط مباشرة حيث وعدناه بقضاء يوم آخر في صحار. تبلغ المسافة من صحار إلى مسقط نحو 200 كم، وبذلك سنصل بعد مغيب الشمس، فتذكرت متبرمة ميعاد عودتي إلى سكن المعلمات، فطلبت من فاطمة بإلحاح العودة، وتعللت بتعب سيف وحاجته إلى النوم والراحة، فأبلغَتْ رسالتي لأحمد، الذي أجابها على الفور وهو يقول ناظرًا إليَّ بوجهه البشوش الجميل الطلعة:

- ولا يهمك يا أستاذة.. لدينا الوقت الكثير للذهاب إلى أماكن أخرى الأسبوع القادم وبعد القادم.. إيش رأيش الأسبوع القادم يكون شاطئ قنطب؟

ابتسمت ابتسامة طويلة لا تفارق وجهي، والرضا والبهجة يغمران كل جوارحي، وروحي منتعشة برائحة زكية وهواء منعش يرسله إلينا البحر والجبال والزروع الخضراء بعبق يدغدغ كل ثنايا جسدي، وأزاح عن عقلي كل ضلالاته، وروحي مسالمة للغاية.

في طريقنا تمكنا من مشاهدة المساجد الرائعة والأبنية الرسمية والمناطق السكنية الجديدة، إذ إن الطريق كان مضاءً، وهذه الأبنية حديثة وقد صممت بطريقة مميزة، تعتمد على الهندسة العربية التي تدمج الحداثة بالأصالة، فهنا في عمان يحافظ التجديد على تاريخها العريق، وتقاليدها، وثقافتها، وطبيعتها المذهلة مِمَّا يجعلها مميزة.

وقد بدأ إنتاج النفط في عمان 1967، وتم تعبيد ستة طرق في عمان، عندما خلف السلطان قابوس بن سعيد والده المحافظ جدًّا السلطان سعيد بن تيمور 1971، كان السلطان قابوس متحمسًا للاستفادة من مردود النفط لإفادة شعبه وتأسيس دولة متماسكة حديثة، فبنى العديد من المستشفيات والمدارس وخطوط الهاتف والجسور التي وصلت إلى المناطق الوعرة والقليلة السكان، إضافة إلى هذا تطبيق القوانين التي سُنَّت لحماية الآثار العمانية والهوية الثقافية والطبيعة البحرية والصحراوية بصرامة، وتعليم الأولاد في المدارس هذه الموضوعات في سن مبكر، مِمَّا ينمي الوعي والاعتزاز المدني القومي، ويذهل الزوار من مدى تنظيم البلد ونظافتها، فلا نجد الأكياس البلاستيك والقناني والنفايات ملقاة هنا وهناك، فالناس هنا لا يلقون الأشياء في الطرقات، حتى السيارات المتسخة تعتبر خرقًا للقانون ويُغرَّم صاحبها.

شدني سحر منظر السماء الرائع من حولي وهي تتوالى أمام بصري بدرجات لونية فاتنة، تبدأ بالأخضر الزيتوني فالبنفسجي، حتى تتبدى في الأفق البعيد بلود دخان رمادي مزرق، حيث تشكل القمم الوعرة والقاتمة سلسلة دراماتيكية من الجبال التي تتسطح تدريجيًا وتصل إلى الوديان المتناوبة في العمق تحت هامات الجبال، وبستان من أشجار النخيل ومسارب الطرقات الدفينة التي تدور حول المرتفعات وتنساب في الأودية، يبعث كل منعطف منها مشهدًا جديدًا، فألمح قرية صغيرة ذات بيوت قديمة من الطوب الطيني تعشش بين المنحدرات الحادة وبساتين النخيل، وبرج مراقبة قديم يجثم على قمة ذات موقع استراتيجي، وجدول ماء صافٍ يتدفق عبر الوادي حيث تتنزه العائلات على ضفتيه.

يعانقني سيف بحنان وقد غابت الشمس تمامًا، وأطل شبح الليل بسيارته العمياء ليغلق أبواب السعادة والمغامرة، فيقول مؤكدًا:

- ربنا قفل النور.

ويتشبث بي معانقًا إياي:

- عايز أنام في حضنك يا ماما.

وكمن أذهلتها فرحة لا تصدق أو توصف رددت حاضنة إياه بقوة:

- تعالَ يا حبيبي، بتقول إيه؟ قلت ماما؟

 

الفصل السادس
مشهد تدريبي
في الماضي ... في البدء كنا بشرًا... أتقياء... أنقياء... كان كل منا يعرف الآخر، يعرف ملامحه... يميز حتى في الظلام خطوط جبهته، ويتجسد بالإلهام خيوط أنامله.. وذات مرة قال غاضب منا أغوته قوته: "هذه الأرض ملكي.. أنا سيدكم ومليككم.. انثروا العطر من أمامي، وسيروا خلفي لا أمامي، ألبسوني التاج والديباج..."، من يومها انقسمت الأرض إلى أغنياء وفقراء ومستغلِّين ومستقلِّين، وضاع الإنسان منا فلا أصبح السيد إنسانًا ولا العبد إنسانًا.

وهذا ما حدث بين أبطال قصتنا، في مشهد غريب الامتزاج، توثقت العلاقة بين إلهام وسعاد قلبي حتى إن سيف أصبح طوال الوقت معي، وأماني التي لا توجِّه إليَّ إلاّ نظرات لافحة من الغل والحقد لا مبرّر لها وأنا لا أبادر إلاّ بالتجنب المريح والصمت المتباعد، كن يتقاسمن الطعام والنوم والخروج، لا رابع لهن، يستخدمن الإشارات والحركات الغريبة لتمرير أمورهن وأسرارهن المحوطة بالحذر والحيطة من المعلِّمات الأخريات، ليتبعن منهجًا واحدًا وخطَّ سير واحدًا لا يتنافر مع أي منهن، مؤمنات بحقيقة واحدة: هنا في هذه الغربة الموحشة لو أعطاك أحد شيئًا خذه بلا تردُّد، ولو طلب منك أحد شيئًا افعله، أو أعطِهِ أملاً حتى تحصل على فائدة سواء أأنجزتَه أم لا، فميزة عدم معرفة أحد هنا ميزة قوية تسمح بارتكاب أفظع الأشياء، ومرورها بسلام ما دامت لن تؤدي إلى مشكلة أو كارثة، فأنت راحل راحل والرحيل يعني أنك لن تراهم ثانية وتسير الرياح بما تشتهي ولن يحاسبك أحد، فالحياة فرص لا يعاد تكرارها للشخص الذكي، وعليه اقتناصها بكل مهارة وحذق.. وسيكون ما ارتكبته وحدث كحفرة غائرة من عمق الزمن، تردم ذكرياتها كما تريد ولن يعرف أو يعلم أحد، وعلى مرور الزمن ستندثر كأن شيئًا لم يكُن، ولسبب آخر يخصُّ أماني ذات نفسها أن تحتفظ بعذريتها لمن تنتظره في الوطن، لتتزوج به. وهي لا تشتري شيئًا غير الذهب الذي تعشقه كنور عينيها، وهي الوحيدة بيننا التي تفعل ذلك قائلة بتبجُّح:

- دا انتم نسوان عبط... مصر فيها كل حاجة، المهم الفلوس، الدهب حاجة ما نقدرش نجيبها بسهولة ف مصر.. مش الهلاهيل اللي عمالين تملوا الشنط بيها.

ثلاثتهن لا يتوانين عن صنع أي شيء من أجل المال والمتعة، وإن كانت سعاد تفضِّل الجنسين بنظراتها المريبة والناعسة وهي تلامس وتستلطف الأخريات بشكل وقح ومقزِّز، وقد عرفت هذا مصادفة، في لحظة كدت أصرخ فيها من الارتجاف والخوف يعتصرني في مكان لا يستطيع فيه الإنسان أن يجد أي مفر، وذلك عندما نسيت فوطة الحمام، وأنا أستحم، فسمعت صوت طرق خفيف، ظننتها أبلة فوزية فقلت بعفوية:

- أيوه يا أبلة فوزية، عارفة اني نسيت الفوطة، هاتيها...

وأعدت قائلة:

- هاتيها يا أبلة فوزية.

لم تردّ فسألت بارتياب:

- مين؟

فأجابت سعاد بنعومتها المعهودة ورفقها المغرض قائلة:

- أنا يا فاطمة تحبي أدعك لك ضهرك؟

أوقعت ماء الدش سريعًا وأسرعت إلى الباب أغلقه بالترباس، وظللت واقفة خلف الباب تتساقط مني قطرات المياه، أتلفت يمينًا ويسارًا أخشى إصرارها وأنفاسها المتلاحقة التي أشعر بها تسري من تحت عقب الباب لا أقوى على احتمالها حتى تشجعت قائلة بحزم:

- سعاد، قلتلك مش عايزة حاجة.

- أدّيكى الفوطة؟ أبلة فوزية مش هنا... افتحي يا فاطمة ماتخافيش.

مقولتها سلبتني كل هدوء، وقلت غاضبة وقد ارتفعت حدَّة صوتي وأنا أطرق على الباب بخبطات متوالية فزعة:

- قلت لك مش عايزة حاجة.. امشي من هنا، سامعة؟ امشي، أنا خلاص بالبس.

فجَرَت مسرعة إلى الغرفة قائلة بوجل وخشية:

- يخرب بيتك دا انتي فضيحة!

الثلاث تكدست في أجسادهن إحساسات الجنس المحروم، وخرجت واضحة لاذعة لا سبيل إلى إسكاتها، باستعداد نفسي وتلهُّف على جمع المال، ولسبب آخر يدعو إلى لغرابة والعجب كما هو في حالة أماني، التي تعشق ابن خالتها ولا تقبل غيره زوجًا رغم اعتراض أبيها لفقره وأوضاعه المالية التي لا تسمح له بفتح بيت آخر، وهو محاط بسبعة إخوة يتكفل برعايتهم وتربيتهم بعد موت الأب، وقد التقطت سعاد الخيط وأفسحت لها مكانًا بينهن بعد إقناعها أنها لن تخسر شيئًا، فالأمر لا يحتاج إلاّ إلى قدر من الحيطة والحذر، لا تؤذي عذريتها المحفوظة لحبيب القلب بممارسات خلفية وتكنيكات الحب المحترفة بإثارة الطرف الآخر من قبلات وأحضان ومص وانتشاء وأخيرًا إيلاج من الخلف، يعشقه أغلب العرب وغير العرب الذين يفرقون بين المرأة للزواج والأسرة والمرأة التي تحترف بيع الهوى، والحق إن إلهام كان لها الفضل في إخبارهن وتدريبهن على تلك المهنة الجديدة بالنسبة إليهن بمشاهدة أفلام sex، وشراء قضبان بلاستيكية بمختلف الأشكال والأحجام يمارسن العادة أو السحاق معًا وربما للعرض كما يهوى بعض الزبائن رؤيتهن حتى يجعلن من أنفسهن محترفات متميزات، فيرفعن من السلطة، سُلطتَي العقل والروح اللتين تُرَدِّدان في فحيح اللذة حتى تعوي كذئب الفلاة في ظلام دامس: هل من مزيد؟ وإلهام القائدة قد احترفت تلك العلاقات غير المشروعة والمدفوعة الثمن منذ كانت في الجامعة، وهذه الحادثة وإن كان بادئَها عشقٌ غامرٌ أدَّى بها إلى حادثة مأساوية عندما أحبَّت أخ صديقة لها في أولى سنوات الجامعة، تَخَرَّج في كلية التجارة وكاد يحقق باقي حلمه الكبير بالزواج بإلهام التي عشقها عشقًا جنونيًّا حتى استسلمت له وعاشرته روحًا وجسدًا، ولم يكن أي شيء يمنعه عن إتمام الزواج فهو من أسرة كبيرة وميسور الحال، فإن والديه عارضاه بشدة، فكيف له وهو سليل عائلة معروفة وذات نفوذ، أن يتزوج بتلك الفتاة البسيطة الحال، رغم أنها من عائلة معروفة أيضًا ولكن الظروف أهلكتها وهذا طبيعة العديد من جذور الطبقة الوسطى، تلك الأسر التي رغم ميراثها القديم المشرِّف أصبحت لا تستطيع أن تناطح هذا الثور الهائج الذي يُسَمَّى الغلاء الفاحش، هناك حالة من الشد والعصر تغلق أي منافذ للاستطلاع، وتمرير الأمور بمرونة وسَعَة، فطبقة الموظفين والتجار الصغار، وحَمَلة المؤهلات الذين ما زال كثير منهم يعتمدون على إنجازات الثورة، وما أعطتهم من وظيفة ميري لا قيمة لها الآن، ولا يملكون غيرها، أما الجزار، والبقال، وخصخصة المدارس، والدروس الخصوصية التي أصبحت موضة تبدأ من الصف الأول، أحيانًا الآن كحِسٍّ متعالٍ من بعض الأهالي ومستثمري التعليم السفهاء والمتوحشين في قتل مجَّانية التعليم، تلك المقولة التي أصبحت نكتة يتداولها الفقراء، ما هو أقرب بأن أصبحت شهادة لمحو الأمية، بينما كل الامتيازات لحاملي شهادات التعليم الخاصِّ، ومالكي السطوة والنفوذ على الجلوس في مقاعد العمل الحكومية أو الخاصَّة. إلاّ أن الفراق كان الإجابة الحاسمة لكليهما رغم شعوره بالذنب والغضب والمقت من سوء الأمور بينهما، وأخيرًا عدم قدرته على معصية والديه والتنازل عن حبيبته التي عرفها وعاشرها ويبَّس روحها، ومصَّ عظامها، وهي أيضًا عرفته وشبعت ما شبعت، مستحيل أن تنسى مذاقه أو ينسى مذاقها. وتحدِّيًا للأمر ظَلاَّ على علاقتهما الغرامية الكاملة، حتى يئست من الحب، والفشل من الزواج التقليدي فحسمت أمرها، بانتهاج مسلك مريع أمام كل هذا التعقيد للبنيان الاجتماعي الذي هو في كنهه ليس سوى قصر من الورق البالي، فلكل كائن بشري ميزاته وميوله وأشكال من المتعة والرغبة في المغامرة، مهما كانت قبضة المجتمع الذي يفرض دائمًا علينا طريقة جماعية للسلوك، ونحن لا نتوقف عن التساؤل: لماذا علينا أن نسلك بهذه الطريقة؟ غير أننا نقبل بذلك ونذعن للأمور بكل بلاهة وغباء. لكن إلهام أصرَّت أن تفعل ما هو ضد كل هذا وإن كان -للأسف الشديد- ضد نفسها، وهي في الحقيقة تنتقم من نفسها لا من المجتمع، وهي شبه موقنة أن شيئًا ما إلى الأبد لن يكتمل، منوطة بهزيمة روحها العاشق أمام نفسها المجروحة والمنتهَكَة من طغيان الآخرين، ويلبسها إبليس الشر والحقد على كل الآخرين، وينسحب نظرها الطبيعي عن رؤية الصح والخطأ، كأنما شخص ما يسدل الستائر حتى يكتسح الظلام كل شيء، ويختفي الروح القديم في بئر من الألم والعذاب، وترى العالم الجديد بأعينها، والأعين ترى ما تريد، وتخلق تنوُّع العالَم المتمثل لتصنع العجائب، حتى إن كانت هذه العجائب في أشكال متعددة من الابتذال والشذوذ، وقد أصبح الحب والعشق والآخر مجرد أوهام نستعملها لقتل أنفسنا، وبهذا يصبح الأمر واقعًا مريرًا أدلى بنتائج مذهلة، رفع صاحبه إلى ذروة الاكتشاف المفاجئة للأرقام من قوة سحرية، فأقبلت إلهام على تقليب كل الوجوه المبتذلة وتستحضر بذهنها التائه وجسدها الأنثوي اللذات الموغلة في حصد أعلى الأرقام بروح أجفَّ من الهشيم اليابس، تردد في ضحكات هستيرية عندما تغرق في السكر والمتعة الزائفة قائلة بانهيار تامٍّ:

- يا اختي بلا حب بلا وجع قلب، الفلوس هي الأمان.

يوم آخر من يومياتي عن كل المهمشين العباقرة، الذين يظهرون في حياتي، ويختفون تاركين لي سديمًا من الإحساس العالي يتكون بداخلي بأن يبدأ بحركة هائلة الضخامة، بطيئة الوقع، لتتخلق الأفكار من هذه الحركة السديمية للأحداث، والشخصيات، وتتشابك علاقاتها، وتتحدد مساراتها حتى تتوقف هذه الحركة، فتكون القصة قد تخلقت واكتملت في ما أسمِّيه القصة، الكون، والحياة التي هي أعلى مراحل السديم، فإلهام وسعاد وابتسام وغيرهن لا يُرِدْن غير بيت يكون لهن الوطن، وهنا في تلك البلاد البعيدة يصبح هذا هو الوطن الذي اكتفينا به.

أشد ما كان يقلقني ويعكِّر مزاجي من هذا الثلاثي الشيطاني، توجُّسٌ تجاهَهُنَّ مليء بالخطر والتوتر، يدفعني الخوف إلى التفكير مَلِيًّا في نظراتهن الدائمة إليَّ، فأنا أدرك أنهن يردن أن ينَلْنَ مني بأي طريقة، وبخاصَّة أماني، ولا أعرف ماذا أفعل غير أن أبادلها العداء الصامت، ويلح عليَّ سؤال كريه: يا ربي هل سيصيبني مكروه منهن؟ فأعود إلى منطق العقل الطبيعي وأقول لنفسي: ولكنهن يعلمن أنني مثال الاستقامة، بالتأكيد لست تهديدًا لهن، كما كانت تظن ابتسام في بدء حضوري إلى العمل هنا، أو حتى أمثل أي تهديد على الأخريات اللاتي يكافحن بشتى الطرق لتحصيل أي قروش زائدة بأي السبل والوسائل، وكنت قانعة فقط بالمحافظة على مواعيد العمل دون أي صراعات، أو حدوث أي فرقعات تلفت إليَّ الأنظار، كل ما أردته من مجال عملي كان مرتَّبي في نهاية الشهر، لكنه في النهاية المنطق العبثي، ولن يكون لكل هذا الرضا أي حجة قاطعة لحمايتي من شرور العالم، ففي عالم الإنسان المعقد المستقيم كارثة لا يتحملها غير المستقيم دون أي منطق. حاولت نسيان تلك الهواجس والهلاوس العقلية بالتفكير في صباح غد الذي سوف يأتي فيه أحمد وفاطمة لنذهب للتنزه على شاطئ قنطب كما وعد أحمد الأسبوع الماضي، وأنا في حاجة الآن إلى كل الوقت القادم، بل إلى الآلاف من الأوقات للتفكير في أحمد، متخيلة كيف سيكون حالي الجديد، وأنا أستنشق نفحات أمواج البحر الهادرة، وتبتلّ أطرافي ثم أحاول الإبحار في المياه العميقة لأرى الزرقة تصبح أفتح والنوارس بيضاء تحلق في ألق الشمس المشع، وبينه روحي تحلِّق أيضًا إلى عالم سحري، ثم فجأة لا أخطو خطوة أخرى بعد أن شعرت أن قدمَيَّ لا تلامسان الصخور وأن جسدي سيغوص في أمواج المياه العميقة، فأتردد في الاستمرار، وأعود وقد ملأني شعور شديد بالخوف من الغرق على كل حال، الغد المنتظَر سيمنحني حياة حقيقية هَفَتْ أمامي.. يا ربي! أم ماذا أم هو أيضًا؟ غد يخبئ لي خطرًا داهمًا؟ وطافت بي غيمة ثقيلة بالذكريات المحزنة، فعاودني الألم الذي ينغّص عليّ صفو لقاء الغد المنتظر إلى قرية الصيادين في قنطب، إذن لا بد أن أنام حتى يتأكّل القلق من نوم عقلي واستسلام جسدي للراحة، وسوف أبدأ بإغلاق عينَيّ، ولو عنوة حتى يأتي نور صباحي، غدي المنتظر.

انطلقنا أنا وسيف مع أحمد وفاطمة، وتلك المرة كان الذهاب بسيارتها وهي التي تقود وأحمد بجانبها ونحن في الخان. القيادة في عمان متعة والطرقات ممهَّدة والمشاهدة مذهلة، نسير بين الطرق الجبلية وتنشقّ الطرق فتبدع تباينًا مميزًا مع قمم الجبال القائمة... وصلنا إلى قنطب في صباح يوم الجمعة قبل صلاة الظهر مباشرة ولهذا توجه أحمد إلى المسجد، وجلسنا ثلاثتنا ننتظره، وبدأت أنا أدقِّق النظر في عينيها المكحولتين برموش سوداء طويلة، كانت كفيلة بأن تُشعِرَني بإحساس حِسِّيٍّ غامض، وتخوم من أضواء بيضاء تلمع في اتساع البحر والفضاء، أخذني المنظر إلى خَدَر الطبيعة الساحق ونحن نستكشف هذه البلدة الصغيرة والغريبة من نوعها، حيث تتَّحِدُ الجبال الشامخة السوداء مع البحر ويتجول الماعز ويتسلق الجبال بخفة، ويسحرك منظر البحر الذي يتموج لونه الأزرق الرائع من اللون الفيروزي الفاتح إلى الأزرق الياقوتي الغامق. تبعد المنازل الصغيرة مسافة بسيطة عن الشاطئ الصخري ونرى أطفالاً يلعبون في الباحات الرملية، وفتيات بجلاليبهن الطويلة ذات الألوان الخلابة كأنهن فراشات، ابتسمن لنا بخجل حين رأيننا، وحاولن التحدُّث وجَذْب سيف للعب معهن، بينما أخواتهن الأكبر سِنًّا ينظرن من السطوح ويلوِّحن لنا بأيديهن، تتوجه العائلات إلى الشارع بعد انتهاء صلاة الظهر للنزهة. التقينا أحمد مرة أخرى وكان معه صديق عماني أصر على دعوتنا لتناول طعام الغداء عنده، لكننا رفضنا الدعوة بشكر حارٍّ وتعللنا بأن علينا استكشاف المزيد من الأماكن قبل أن يمر الوقت.

عدنا إلى مسقط ومررنا أمام قصر السلطان قابوس المقابل للبحر وهو بجانب مرفأ مطرح، ركنَّا السيارة وتنزَّهنا مقابل المرفأ فوجدت في المرسى الصهاريج والمراكب التي تنقل بضائع الأسطول البحري العماني الذي يضم سفينتين كبيرتين تعودان إلى ما قبل عهد السلطان قابوس وعددًا من الزوارق.

إن موقع سلطنة عمان الاستراتيجي على الخطوط البحرية الخليجية والبحر الأحمر وآسيا وشرق إفريقيا جعل منها مركزًا بحريًّا وتجاريًّا ومركزًا لبناء السفن والقوارب، وقديمًا طمعت القوات الأجنبية في ثروة وموقع عمان الاستراتيجي خلال القرون الوسطى، ففي عام 1507 سيطرت القوات البرتغالية على المرافئ العمانية بما فيها مرفأ مطرح، إلاّ أن المقاومة العمانية الشرسة تمكنت من طرد القوات البرتغالية في عام 1560، ويمكن حتى يومنا هذا مشاهدة العديد من الحصون من عهد الاحتلال بما فيها قصر رائع يقع على الجبل المقابل لمرفأ مطرح.

كنا ننوي زيارة السوق القديمة في منطقة مطرح، إلاّ أن السوقت كانت قد أقفلت لاستراحة الظهيرة فوقفنا نتأمل المكان، وإذا برجل مُسِنٍّ يعرض المساعدة والحضور عنده لشرب القهوة مع الحلوى العمانية المشهورة.

فاكتشفت خلال زيارتي مدى لطف وطيبة أهل البلد، فتذكرت أن هذا ما يحدث بالضبط في صعيد مصر عندنا، ثم عرض علينا أحد المواطنين شراء حلوى عمانية بمجرد أن سألت عن مكان بيعها وخاطبني بلهجة مرحة:

- اعطيني رقم جوالك وأنا أتصل فيكي.

تدخل أحمد فورًا وأخبره بأدب جَمٍّ بأنه أيضًا عماني وتلك ضيفة من مصر وأنه سيتولى شراء الحلوى العمانية لي.. وشكره على إبداء المساعدة، أكد لي أحمد أن سوق مطرح لا تفتح قبل الساعة الرابعة والنصف من بعد صلاة الظهر، وأخبرني عن سوق أخرى مشهورة تسمى سوق الجمعة تقع بالجوار من ضاحية روي آخر الوادي الكبير. وجدنا السوق بعد عشر دقائق إلاّ أن معظم المنتجات كان من صنع الصين باستثناء المنتجات التي يبيعها رجال قبائل المهرة ذوو الشعر الطويل الذين يسكنون في محيط صلالة في ظفار جنوبي عمان، وبما أن التجارة تعود إلى العصر القديم فإنهم يصنعون البخور واللبان اللذين كانا مطمعًا للمصريين واليونان والرومان وفاقت أثمانهما سعر الذهب.

نجد على إحدى المنصات فخَّارًا ملوَّنًا يدوي الصنع يُسَمَّى مبخرة أو محرقة البخور بسعر ريال عماني واحد، ما يعادل عشرة جنيهات مصرية. وما يلفت النظر في السوق وجود بعض المتسوقين الأجانب من الأفارقة والإيرانيين والهنود والباكستانيين وغيرهم من الأصول الشرق أوسطية، مِمَّا يعكس تاريخ الهجرة المتنوعة إلى عمان، فنجد النسوة بأردية من القماش البراق تضعن العباءات السوداء، وترتدي أخريات الزيَّ العماني التقليدي وهو عبارة عن عباءة ملوَّنة تلبس فوق بنطالاً من القماش نفسه وهو متدرج ومطرَّز حتى الركبة، في حين يعتمر الرجال العمانيون القبعات أو العمائم الملوَّنة والمزخرفة، والدشداشة، ويتميز المُسِنُّون باللحية الطويلة. بعد أن أمضينا بعض الوقت في السوق عدنا إلى مطرح وكانت المحلات قد فتحت، وفي طريقنا إلى السوق مررنا بالقرب من جامع اللواتية وتأملنا المنارة بلونها الأزرق المذهل، بناه أطراف طائفة اللواتية -وهم مهاجرون من الهند- منذ ثلاثة قرون. منازل التجار المقابلة للواجهة البحرية، تتميز بالشرفات الخشبية، المزيَّنة بالجبس ودفات النوافذ الخشبية، إضافة إلى الإطارات المطلية باللون الفيروزي الرائع، ونجد في السوق في أزقتها الضيقة الأسقف الخشبية المنحوتة والرائعة والمحلات الصغيرة التي تعرض مجموعة مذهلة من المنتجات كالفضة، وشالات الكشمير والقماش والسجاد والسلال والمصابيح الزيتية بالإضافة إلى التحف والبخور والعطور والأعشاب والبهارات والخناجر من طراز قديم أو جديد كالخناجر الفضية العمانية والكثير غيرها. يأخذ التسوق هنا وقتك كله واهتمامك، ويحتاج المرء إلى القدرة على التفاوض مع البائع وتفحُّص المنتجات في حال أردت اكتشاف منتجات جديدة من التحف، وأرشدني أحمد إلى محل هدايا وراء محل أعشاب، حيث أب وابنه يمارسان تجارة عائلية تعود إلى أجيال. يجلس الأب متربعًا على منصة بين الأعشاب والتوابل إلى جانب ميزان كبير قديم، ويقول ابنه بفخر إن الميزان يعود إلى مئات السنين وإنه ينتمي هو ووالده إلى المجتمع الهندي الذي تمركز في عمان منذ 300 سنة، وعندما سألته عن علاج قوي لأنني كنت أعاني من مشكلات في القولون نصحني بدواء الأيوفيزديك الذي يحتوي على أوراق السينا (الملح الأسود) ومكونات طبيعية أخرى، اشترته لي فاطمة بريالين عمانيين بعد إصرار منها على الدفع. توقفنا أمام بضعة محلات إلاّ أننا شعرنا بالاكتفاء لكثرة ما رأينا.

ثم اتجه بنا أحمد للتنزُّه على شاطئ البحر عند المغيب، كان الشاطئ يعج بالناس كما في صحار المليئة بالأطفال الذين يلعبون كرة القدم. أيضًا كان يوجد أعداد كبيرة من الأطفال الذين يلعبون، ويركضون في كل اتجاه على طول ساحل الباطنة. وبعد قسط من الراحة، ذهبنا لتناول الطعام والتمشِّي في منطقة سوق جديدة، حيث المقاهي والمطاعم في الهواء الطلق ليتمتع الوافدون والعائلات العمانية والأولاد والسيدات بجو عشاء فاخر وممتع للغاية. بعد العشاء ذهبنا للتنزُّه في المكان حيث يعج بالناس والحيوية، وهناك التقينا مجموعة من المواطنين الذين يقفون بجوار درَّاجاتهم النارية اللامعة، وبتوقُّفنا إلى جانبهم بدا إعجابي بالدرَّاجات فسألني أحدهم بكل لطف:

- إيش لونك أستاذة؟

تلعثمت ولم أردّ، ثم قلت:

- نعم!

قال سريعًا بابتسامة عريضة ملأت وجهه:

- مصرية انت أستاذة، جمالك يشي إنك من مصر.

واستطرد ضاحكًا قائلاً:

- كيف حال أبو الهول؟ إحنا نحب مصر كتير أستاذة.

فضحكت ضحكة قصيرة، فقال:

- ما تحبي الدراجات النارية يا أستاذة؟

وفجأة قاطعه أحمد بحزم:

- شكرًا عمي... ما في وقت، شكرًا عمي.. حيَّاك عمي...

سرت بمحاذاة حافة الماء، الأرض صلدة، وذرات الرمل كبيرة، لا أشيح بنظري عن الأفق والريح تتغلغل في عظامي، وأنا أستنشق هواءً منعشًا لا أفكر في أي شيء بتاتًا، روحي كصفحة بيضاء تطفو على سطح الماء، والسماء الساطعة الزرقاء بلا أي غيمة تنبسط فوقي بإغواء متسلط أغواره عميقة في نفسي التي انفصلت عن كل هذا اللغط الذي حولي لا أنصت إلاّ إلى زقزقة روحية، وهَسَّات الريح أكاد لا أحس بها وأنا أحتضن الأبعاد اللازوردية غير المتناهية وهواء البحر العليل الطلق المالح وقدماي مغروستان في الأرض الصخرية، وعلى اليمين فاطمة وعلى اليسار أحمد وسيف يترنح أمامي بطفولته البريئة، وشيء ما داخلي ينكمش ويتوتر لينبسط بعد لحظات كالنابض من الابتهاج والإعجاب وروحي هائم بهذا الفضاء الرحب المكشوف الساحر.

وفي يوم أسود كالهباب أفقت على رائحة الكارثة، وقد حل بي ما كنت أتوهمه عن الخطر الداهم، حتى أصبحت ذكرى مريرة تحضر في نفسي التقزز والاشمئزاز كلما جالت في خاطري مهما مرت الأيام. كان في أحد أيام الإجازة يوم الجمعة ولم أُرِد الخروج كما اعتدت، وقد أخبرَتني فاطمة من هاتفها أنها ذاهبة لزيارة الأهل في بركة(8) ودعتني إلى الحضور ولكني تكاسلت ومللت من صحبة هؤلاء المعلِّمات، ودوري ينحصر في انتظارهن أنا وسيف بعد أن يقضين وقتهن مع من يعرفن من رجال. كرهت دور الممثلة، وهم لا يحبونني إلاّ لتأدية دور المطيعة، والسكوت عما يفعلن، الذي يرين أنه من حقهن. لم أعترض يومًا وأصرخ في وجوههن بكل شجاعة بأن ما يفعلن خطأ وعذر أقبح من ذنب، فتلبية حاجاتهن العاطفية والجنسية وتحصيل الهدايا والمنافع التافهة لا يتمُّ أبدًا بهذا الشكل. ما الفرق إذن بينهن وبين محترفات الهوى؟ وجزائي في آخر الليل يكون بالحكي عمَّن قابلنه وما حدث بينهم وضحك وسخرية واستهزاء على تلك أو أخرى والتباهي بما جاءها واستفادت منه، ثم عشاء فاخر يجمع الجميع وأنا أول من يجلس أنا وسيف لإثبات تواطئي ومشاركتي غير المقصودة لكل ما يفعلنه من جرائم يعتبرنها صغيرة، ولا شيء يُذكَر في ليالي الغربة المقيتة، واليوم لسبب غير معهود سألتني إيناس بتودُّد وحبور شديد:

- تحبي تتعشي إيه يا فاطمة النهارده؟ أنا اللي عليّ العشا، وليد المصري اللي باحبه قرر إنه يعزمنا، ما انتي عارفه انه شغال في مطعم شيف بريمو وهو ريسهم كمان.

كل مرة لا أردّ، ولا أهتمّ حتى لا أشعر بقدر دوري المخزي الذي أمثله، فأنا بالبلدي كده "معرّصة عليهم"، لأني أعلم كل شيء وأعرف فحوى مقابلتهن التي بها يبتززن الرجال، ربما ليس فقط من أجل المال، ربما أيضًا رغبة في الاستهتار أو نزعات مكبوتة شريرة، أفسحت لها الغربة مجالاً وطرقًا ومسالك لتحفر في أجسادهن وأرواحهن كالأخاديد في فراغات الاغتراب، وجنون الحياة الذي يدفعنا إلى الانشغال الدائم بها، أنا ضجيج أنا مومس مثلهن تمامًا، لا أقلّ عهرًا عنهن، ماذا يفرقني عنهن؟ عدم ممارسة آليات ما يفعلن؟ لكنه أمر ذو بال وأنا أعيه أن يخلق هذا الضجيج صدى داخل نفسي، رغم أن فمي مغلق، لا يعوي بأي كلمات النفور والاعتراض، ثم أضع نفسي مكان أولئك اللاتى يعانين أكثر مني في الغربة، وتدفعهن حياتهن القاسية وهمومهن المكبلات بها من الوطن إلى حسم الأمور بالعنف وانتهاك حتى أعز ما يملكن، تعويض رخيص للوحدة والتهميش وهن يهدرن كرامتهن، وأدق التفاصيل، وما عليهن سوى لعق قطرات الكأس المتداولة هنا:

- يا اختي اتحركي.. سلِّي وقتك.. حد عارف حاجة؟ أهو كله شغل.

حتى يبدو ببساطة تمرين علاج أكثر منه تمرينًا لامتهان النفس والجسد بنظرة ثاقبة إلى أعمق أعماق هذه الحياة، يتضح لي أنني واحدة من هؤلاء الذين يعانون من عذابات العالم أكثر من كوني أستطيع تغييره أو تحريكه قيد أنملة، بل أنا أتكيف معه، ولا أتوقف عن مساعدتهن، نعم، أنا قوَّادة، عاهرة مثلهن، أو عرصة، أو أي كلمة تؤدي إلى مفهوم واحد بصمتي ومؤازرتي إياهن بكل هدوء واستسلام، أو كما يطلقون عنِّي: دي فاطمة طيبة.

... وسألَتني للمرة الثانية وقد أشاحت بيدها:

- إيه يا بنتي؟ عايزة تتعشي إيه؟

قلت وقد عاد انتباهي بعض الشيء -وإن كان عقلي لا يزال يردِّد لنفسي كالوخزات الحادة كالإبر في مسامِّ جلدي: "أنا عاهرة، أنا قوادة، أنا عرصة"- قلت بلا مبالاة ما جاء على ذهني مباشرة وأنا أبتسم ابتسامة باهتة:

- هاريس عماني يا إيناس.

فبادرت أبلة فوزية وقالت:

- لأ دا عليا، أنا النهارده هاقابل راشد العماني.

ثم التفتت بتحدٍّ تنظر إلى إيناس قائلة:

- أظن وليد مصري مش هيعرف يشتريه.

تلاهت إيناس عما قالته أبلة فوزية كأنها لم تسمع شيئًا واتجهت بنظرات حب وحنان وحسد إلى سيف ثم احتضنته وقبلته كثيرًا:

يا رب يبقى عندي عيل زي سيف ومن وليد.

- لبِّسِيه والنبي يا فاطمة آخده معايا، وليد عايز يشوفه.

أدركت من سماعي موسيقى صاخبة لإحدى الأغاني الشعبية أن الثلاثي الشيطاني يرافقنني الجلسة فقط في السكن، انتابني الفضول، فخرجت إلى الصالة فرأيت أماني ترقص على نغمات أغنية لرمضان البرنس: "جرحوك يا قلبي، ظلموك يا قلبي...".

وكانت ترقص بكل أنوثة حقًّا، ومن حولها إشعاع غامض لا يسع أيَّ نفس أن تنكره، وطوال الرقص تبتسم ابتسامة عريضة حتى أشارت إليَّ بالجلوس فجلست ولم أكفّ عن الابتسام حتى بدا لي فجأة أنني شخص شديدة الحماقة، بينما سعاد تطبِّق قاعدة شد الفلس عند الصعايدة، حيث تمسك بدوبارة سميكة الخيط ولفت بها لفة حول إبهامها في قدمها ممتدة بلفة في ضرسها، وأخذته على غفلة حتى سقط، فارتعشت أهدابي، وحوّلتُ عينَيَّ إلى رقص أماني بينما سعاد تُهرَع إلى الحمام وراحتها بها دماء قائلة بحنق:

- ضرس ابن وسخة الله يلعنك... خلصت منه.

لكن الأخيرتين لم تهتمّا بأمرها، وظلت إلهام تأكل من أطباق تكاد تكون فارغة وفتات خبز، وعظام لامعة وبقايا طعام التهمنه من وقت قصير في أثناء جلوسهن يتلمظن ويضحكن ويتصايحن مع هذا الصخب الغنائي. عادت سعاد وجلست بهدوء كأن شيئًا لم يكُن، معها قماشة صغيرة مزقتها من إحدى الجلاليب القديمة، وضعتها داخل فمها وتناست أي ألم، وإلهام تحكي لها عن زيارتها الماضية لقصر أختها في النخيل بأنها شاهدت أحد العمانيين يصعد النخلة، مرتديًا الإزار وفانلة فقط، وكلما يصعد أكثر النخلة، يتدلى عضوه من الإزار واضحًا جليًّا لكل من يرفع نظره إليه وهو يتخبط يمينا ويسارًا مع حركة ساقَيه في أثناء التسلُّق، فشهقتُ واضعة كامل راحة يدي على وجهي وأغمضت عينَيّ أطلق ضحكات متتالية إلى أن دخلت القصر وقد ثارت نفسي بشدة وأنا أهتف بصوت خفيض:

- يا ربي ما هذا؟! ألا يرتدي رجال هذه البلدة السراويل مثل كل رجال العالم.

ثم جذبت رأس سعاد بيدها وهمست لها بشيء كالمفرقعات في أذنها أطلقتا به صرخة مدوّية وطرقتا على أيديهما بقوة. وتكرر الضحك والتصايح مع ذكريات قديمة لسعاد وإلهام... حتى جاءني ظن طفولي أنهما تتهامسان عليّ، فتوقفت عن الابتسام، وقد شملني خجل ما بدماء حمراء قفزت من وجهي وعروقي بعد نشوة رؤيتي الرقص وبهجته حتى أربكتني ضحكاتهن العالية القاسية وأماني تنظر إليّ بعينين وقحتين لا يقتلهما الرصاص إذا أُطلِقَ، فنهضت إلى غرفتي بمجرَّد أن انحطَّت أماني حطًّا على الأرض تشهق قائلة:

- يا لهوي! حيلي اتهدّ.. أمال الرقّاصات بيعملوا إيه؟

بينما اتكأت سعاد برأسها على كتف إلهام والثانية تمسد بأصابع يديها خصلات شعر سعاد بحنان ورفق ثم قالت فجأة بعد أن حولت نظرها إلى أماني:

- ليكي عندي بدلة رقص معتبَرة.

ووقفت أماني متجهة إلى المطبخ تحمل أواني الطعام الفارغة وهزَّت لها عجيزتها ثم نهديها قائلة:

- وأنا أعملك كسكس اللي بتحبيه يا روح قلبي.

كنت لفترة قريبة من عمري لا أعرف غير المثال الكلاسيكي للنشوة وهو لحظة التهيُّج الجنسي الطبيعية بين أي رجل وامرأة، لدقائق قليلة من لحظات الجماع ينزلق سائله إلى داخل فرجها وبعدها تصبح أُمًّا، ويتخلق مخلوق جديد آخر من صلبه لتتحول إلى ثقل وحياة وتفكير يسمِّرك في الأرض لوجود هذا الكائن الحي الذي أتى ربما من لحظات طيش أو عشق أو حتى عدم رغبة في حضور، أما تلك التجارِب فلم أشاهدها أو أتلامس مع وجودها الحي، كانت تمر أمامي بحكايات عابرة، ولكن كيف للمرأة أن تداعب جسد امرأة أخرى وأن يكون هذا أفضل ومحبَّبًا إليها من أي رجل؟! لا شك أن المرأة المدربة على مثيلتها تعرف جيدًا كل أسرار هذا الجسد، بينما الرجل والمرأة يعيشان كل مراحل الاكتشاف الأولى حتى يعتادا المضاجعة ويتفانيا في فعل أمور وقول ألفاظ، كما تتفوه الأنثى الجميلة لكلمات ممجوجة وبذيئة لتخبره عما تريده أن يفعله بها، حتى تموت في انفجار عظيم من اللذة. لا أظن أن ما يفعلن من محرمات تخصّ القانون الإلهي أو الإنساني، وإنما هو مجرد سلوك إنساني منحرف لا يمكن فصله عن طبيعة البشر المعقدة، بدليل احتفاظ بعضهن بعلاقتهن مع الرجال الآخرين، فسعاد أحبت وتزوجت وأنجبت طفلاً، هل شهوة طارئة أوعزت إليها أم ماذا؟ مهما كان تفسير الأمور بالسوء أو غير الطبيعي أو الشاذ والمنحرف، لا بد أنها أفكار لميول موجودة بالفعل، أخرجها الحزن واليأس والفراغ والخلاء والغربة الموحشة التي تصيب الكثيرات منهن بالانهيار العصبي والاختلال، ولك أن تتخيل حجم الأفكار التي يمكن أن تسرق العقل في بلد بعيد وفي مكان خالٍ من أي وصاية أو أحباب مقربين.

جلست متمددة على سريري في الغرفة، أستمتع بقراءة رحلات جاليفر Pneu mema thombosiss، تلك الرواية أحتفظ بها من أيام دراستي في الجامعة، وأحب قراءتها كثيرًا، فالرواية تحاول من خلال شكلها المضحك الفانتازي أن تعالج أخطر المشكلات التي مرت بها إنجلترا وأوربا في تلك الفترة، فالمؤلف يحاول دائمًا أن يبرز سخريته من الأوضاع الاجتماعية، وينتقد الحياة السياسية والاقتصادية لإنجلترا عن طريق مقارنة أشكال الحياة في هذه الجزر التي قام بمغامراته إليها، وهو يركز على توضيح مدى التعسف وهيئة النظام القضائي والمجلس العمومي (أي مجلس الشعب) في تحقيق النظام، والعدالة الاجتماعية باستخدام أسلوب ساخر جدًّا.

ثم دخلت سعاد الغرفة فلم أبالِ بها وانهمكت في القراءة كالعادة، بعدها بدقائق معدودة دخلت إلهام وأماني فلم أبالِ أيضًا.. ثم انفصلتُ عن العالم فصلاً تامًّا وهو يحجبني عن استيعاب ما حدث في الدقائق الزمنية الآتية عندما جرَّتْني على غرة أماني من شعري بكل عنف ثم أمسكت سعاد وإلهام بكلتا يدَيّ، فدفعتهما بقدمَيّ وصرخت، فأسرعت أماني بوضع خرقة قماشية صغيرة في فمي فلم أستطع غير إطلاق تأوهات بسيطة ولعاب في ملتقى شفتَيّ من الخوف والغضب الذي انصهرت به مقلتاي وهما تبرقان بالشرر والفزع، أكظم غيظي ويشحب وجهي وتتقلص ملامح وجهي، وكان داخلي مبهوتًا من حس المباغتة، وسرعة حركتهن جعلتني عاجزة عن فعل شيء رغم إصراري وحركاتي العابثة بمنعهن من تجريدي من ثيابي، حتى مزّقن الجلابية والقميص الداخلي ولم ينقص غير الكلوت، وبدأن معي ما هو الموت بعينه أن أراه يفعلنه بي، لكني لم أستسلم رغم عريي فربطن يدَيّ في حامل السرير المعدني، فألصقت قدمَيّ حتى لا ينزعن ما تَبَقَّى من ساتر لي، حتى شعرت بعضلات قدمَيّ تتصلب من حدة التشنُّج والفزع الذي أصابني، لكن أماني فازت به ورفعته أمام عيني بكل وقاحة وبذاءة وضحكة هستيرية، وألقته بعيدًا وأنا أهزّ رأسي بحركة آلية عصبية تكاد تفتك بدقات قلبي، التي أحسست بها عالية بشدة، وأتمَّت أماني فعلها بإصبعها مرة وبقضيب صناعي مرة وسعاد تشاركها المداعبة لثديَيّ وباقي جسدي، بينما إلهام توقفت عند دور المشاهدة وإحكام قبضتها على قدمَيّ وهما منفرجتان، وتذكرت جرائم الاغتصاب وتعجبت أنه يحدث من إناث لا من ذكور، أنا التي لم أواجه هذا الموقف من أي رجل، إنما كانت مجرد ملامسات ونظرات إغواء وتلميحات فجة. يحدث لي هذا من فتيات! يا إلهي! هل يحدث هذا؟! لم أحتمل فكرة اللذة التي اتجرعها بكل تلك الشراسة ومن نفس جنسي، وقد كانت أجسادهن وأنفاسهن تنتفخ بثقلها المقزز على ذهني وجسدي كبلور حاد يحز ويجرح أسرار جسدي، وأتخيل دماءً تتدفق وتتناثر أمام عيني بوخزات مميتة مع هزات رأسي التي لم تتوقف كأنها نداء أخرس للنجاة من مخالبهن الوحشية، وتمنيت من كل قلبي أن أموت حتى تنتهي معاناتي إلى الأبد أو حتى أغيب عن الوعي لتنزاح عنِّي تلك الحركات الدائبة من رأسي جيئة وذهابًا. والألم العصبي يحدث ثقوبًا في عقلي الذي جُنَّ وقلبي الذي زادت دقاته ودمائي التي جفّت من جسدي وأنا أتهدم على نحو لا نهائي وأنا أنصت إلى لغوهن وفظاظتهن، وتلتقي عيناي اللتان تغمضان وتتفتحان بصرع أماني تنظر إليّ بخيلاء وانتصار قائلة:

- إنتي فاكرة نفسك مين؟ عاملة فيها طيبة وغلبانة وانتي سهُونَّة وخبيثة.

حتى إنني لأول مرة في حياتي أدرك ما الحقد الأعمى، وبكيت بحسرة شديدة على مدى بغضها ومقتها الذي تكنّه لي من غير أسباب واضحة، غير أنه الشر من أجل تقديس فكرة الشر الذي يملؤها نحوي، وانفجر على عتبات تلك الحادثة الشائنة، وعندئذ فقط تحقق بحثي عن الملاذ فغبت عن الوعي تمامًا وتركت العالم بكل راحة واستسلام، وأمنية شاقة المنال لفكرة الغياب الأبدي كما تصورته.

...

أفقت بعد عدة ساعات. وجدت نفسي في حضن أبلة فوزية، فابتعدت بشكل لا إرادي عنها، وكل عين من عينَيّ كبرتقالة تحت المعصرة تسرسب دموعًا حمراء، وجسدي يرتجف مبتلاًّ بعرق غزير أشَدُّه عند جبيني الذي تمسحه أبلة فوزية بيديها وهي تحنو وتفيض علي عطفًا وحنانًا بالغًا وأنا أنظر إليها نظرات زائغة وتبرق عيناي بريقًا جهنَّمِيًّا بالتشكك في كل شيء حولي. حاولت باستماتة تهدئة روعي وبكائي الصامت بعد أن جلسَت بمفردها معي في الغرفة تقرأ عليّ القرآن وتتلوه بصوت شجي عذب، ظنًّا منها أن عفريتًا يركبني ويبدل أحوالي، ولا تعرف الحقيقة، أنهن عفاريت بشرية ليست نارية، بعد عناء ومكابدة وقد تحشرجت الكلمات في حلقي وتعسر التفوه، وأنفاسي لاهثة تخرج من جوفي نيرانًا تلسعني وأنا أشعر بأن دماء الحياة تسري في جسدي ببطء حتى أشرت إليها أن تتوقف عن تلاوة القرآن وقلت بصوت خفيض مكسور:

- أبلة فوزية، أنا عايزة أنام عند ابتسام، مش قادرة أقعد في الأوضة دي تاني، أرجوكي يا أبلة فوزية، وديني عند ابتسام.

استقبلتني ابتسام ورشا بحفاوة بالغة وقد أشفقن على حالتي البائسة التي خشين أن تكون مماثلة لحالة عبير، ومع مرور الأيام تأكدن أن لا شيء من هذا بي وأن شرًّا مختلفًا تمامًا قد أصابني، وانتقلت إلهام كبديل إلى غرفتنا لتتشارك النوم مع سعاد في سريرها. وبقيت أنا في غرفة ابتسام إلى أن سافرت سمايل للتدريس ولم أخبر أحدًا بشيء عما حدث لي إلاّ اضطرارًا أبلة فوزية.

ارتجف القلم في يدي فجأة، وسقط على الأوراق وقد شعرت بهزة نفسية، عادت إلى الظهور مع الحكي عن تلك الحادثة الأليمة في حياتي، سقطت دموعي على غرة غزيرة وبشكل لا واعٍ. جذبت الهاتف من فوق الطاولة وهاتفت صديقتي المفضلة لأطمئنّ على أحوالها في السجن وربما لرغبة ملحّة أفرغ بها شحنة ألألم الذي لا يزال بعضه عالقًا في عقلي وروحي كبقايا بن في قاع فنجان قهوة احتسيته من وقت مضى.

- إيه أخبارك؟

- إزيك يا حيوانة؟

أضحك قائلة:

- قولي لي نكتة.

- إيه مالك؟ فيه حد مضايقك؟ صوتك متغير... إنتي بتعيطي يا بت؟

تجاهلت استفسارها عن حالتي المزرية وقلت:

- وحشتيني.

- وانتي... هانت، ما انتي عارفة سنة السجن بـ9 شهور، وبعدين هاجي قريب واتصل بيكي أشوفك.

- ماشي. قولي لي نكته.

- .... ....

 

الفصل السابع
وجه البلياتشو الطفولي
لا شك أن إدراك الأشياء المؤلمة لا يتأتى إلاّ بإرادة الإنسان الواعية، وسعيه الدائب إلى بلورة الإدراك فيتشكل وينمو ويكبر ليصبح عملاقًا يتصارع مع ميكانيكية العقل الشديدة التعقيد، ونفسي المحزونة تحاول أن تدفن كل تلك الانطباعات الشديدة السوء التي أحدثها الآخرون في روحي لتسقط في أغوار النسيان. انطباع بعد انطباع وتأثير يلحق تأثيرًا حتى تتحول تلك الانطباعات والتأثيرات بفعل التراكم وبالتدريج إلى سياق متصل، مفهوم في بعضه وغرائبي التشكيل في بعضه الآخر ليخبرني بإصرار، أن طريقي مليء بالتوتر والحيرة والخوف، لكن عليّ في النهاية أن أسير في دروبه ومسالكه الوعرة سواء كنت طيبة أو شريرة، أنت اخترت المغامرة، والمغامرة اختارتك مئة في المئة، لسنا حتى أحرارًا في اختيار السلام، والتماس الحوائط والانزواء في الأركان، هناك آخرون يمتلكون قدرة الفعل والقوة التي يمتهنون بها أفعال الحياة بخيرها وشرِّها، سيجرُّونني من شعري وقدمي ويدي ويقرصون أذني حتى أنصت لقول الحياة وأرى الحياة بلون مغاير عن الألوان التي اعتدت أن أراها أو أحبها، إنه لون قرمزي، غامق لامع برّاق بسحر الدهشة.

أكثر من شهرين وأنا ضائعة، تائهة لست على ما يرام وأنا لا أملك أي قدرة حتى على الفضفضة لأعز صديقاتي فاطمة البلوشية، أو أبلة فوزية رفيقتي، وإن كانت ملآنة بالشفقة والرغبة في معرفة ما حدث لي بالضبط، وإنهائه بأي شكل يرضيني، فما كان مني غير الصمت، وتجاهلها والأحلام الهذيانية تطاردني، فتتداخل فيها صور لأثداء وأوراك وبطون وقضبان ذكورية، وصور لأجساد فتيات يمارسن السحاق ومآدب مبتذلة للنوعين، اضطربت ساعات نومي وصرت عاجزة عن انتزاعها من خيالي حتى فقدت السيطرة على أعصابي وتبدلت شخصيتي الوديعة وأثارت فيّ السوقية، وصرت أنفر من كل من حولي حتى سيف الذي تكرر سؤاله عنِّي، حتى اقتحم خلوتي في إحدى المرات بإيعاز من ابتسام حتى تخرجني من صمتي الغامض، وبكى بكاءً حارًّا يريد أن ينام في حضني فهرعت أحضنه وشعرت بوحشة عارمة أنا الأخرى تارة من غيابه وتارة من كبر الألم الذي شاركَت فيه أمه مع رفيقاتها الشيطانات، وإن كنت على يقين بأن الأمر برمته كان من تدبير أماني التي تستمدّ طاقتها من كراهية الآخرين، فلكي تحيا لا بد أن تقرع في نفوس البشر سموم ضغينتها. فقدت الرشد واستقر بي الحقد وشهوة الانتقام وتدميرها بأي طريقة، ولكن كيف؟ أنا لا أطيق النسيان، لكني ضعيفة والشر يحتاج إلى القوة والكراهية الكافية ليستمد عزمه، أم أظل أسيرة جرح غائر لا تلتئم جراحه محجوب عن أعين الآخرين، لكنه جاثم على صدري مثل جناح أحد الكواسر عند مطاردته طريدته، ينهش صدره ويكتم أنفاسه فأحسّ بعضلاتي ممزقة ووجهي كامدًا لا بهجة فيه، نفسي واهية، عاجزة عن عبور الحياة بشجاعة، ووضعي يسوء كل يوم يمرّ أمام نفسي، وأمام الأخريات، وقد عيل صدري، وأخذت أتصرف بعدوانية ملحوظة عن عهدي السابق لمعرفتهم بي التي كان يشيد بها الجميع، وأبسط الأقاويل والأفعال أصبحت تستثير العنف والتدمير تجاهي دون قصد أو بقصد، ودون علمي سكنني شؤم كالعفريت يسري، ويعصف بي من حال إلى حال كالمهووسة.

هاتفتني فاطمة البلوشية منزعجة بصوت متهدج:

- فاطمة، كيف حالش؟

ولم تدعني أرد، استطردَت بقول:

- إيش فيكي يا فاطمة، لا بد أشوفش أنا محتاجالش، فاطمة، أرجوش.

قلت بنبرة باردة هادئة:

- تعالي انتي يا فاطمة، أنا مش قادرة أخرج.

حتى مذكراتي، هجرتها، وكنت أذهب عمل صباح الخميس الفاضي إرضاء للكفيل، وأقوم بترتيب أوراقي وكتبي التي تخصّ العمل والقاعة، ووضع خطوط أساسية لكل صف سأقوم بتدريسه خلال أسبوع كامل، كل طبقا لقدراته، ثم أجلس على عدة كراسيّ متجاورة في القاعة، ممددة جسدي، وأحدق إلى السقف، يدور داخلي حوار وأسئلة ليس لها إجابات، وكان العالم لي الآن قد توقف عند تلك الدائرة الثابتة، لا تتحرك، ولا يتحرك داخلي شيء، وتزداد نظراتي وجومًا، ويعاودني القلق المتزايد وجنونه إلى أن يصل بي إلى بكاء حادّ، ثم جال بخاطري أنني أنتظر فاطمة، وستأتي في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، فانفرجت أساريري بعض الشيء، وجاءت لتأخذني بسيارتها للحديث بعيدًا عن أجواء السكن الذي كرهته، وكانت على غير العادة متهللة فرحة، وجهها نضر، صافحتني بدماثة وبادرت تقول:

- سلامتش فاطمة. تحبي أخذش للطبيب؟

قلت بابتسامة باهتة:

- شكرًا يا فاطمة، أنا خلاص بقيت كويسة ما دام شوفتك.

كان روحها يشتاق إلى الحديث معي، وقلبها فرحًا جذلانَ كما أوضح وجهها من قبل، أغمضت عينيها لبرهة ووقفت سحابة داكنة خفيفة على وجهها وقالت باندفاع:

- فاطمة أنا أحب أحمد واكد.

قلت بعصبية مفاجئة:

- ومين قالك إنه بيحبك؟

لم تنتبه لردي المتعصب وأخرجت من حقيبتها بكل رفق كأنها تخرج كنزًا من البحر منديلاً قماشيًّا بنفسجيًّا زاهي اللون، مطرَّزة حوافُّه بدرجة فاتحة من لون البنفسج مكتوبًا على أحد أطرافه بقلم حبر ثقيل النقش وجميل الخط "أنتِ ما أريده يا فاطمة من الدنيا.. وماذا عنك؟"، ثم فتحت لي هاتفها عن رسائل SMS منه وقرأتها بصوت عالٍ.. ارتجفَت نفسي بشدة وأنا أعيد إليها منديل الحب وغصت في مقعد السيارة بعد أن ربطت حزام الأمان الذي شد من عضلات بطني وشعرت بالتواءات غصة داخلها، وانهمرت عليّ الذكريات السيئة لما حدث في السابق، حتى أتمَّتها فاطمة بإخباري عن حبها المجنون لأحمد، الذي كنت أظنُّه حبيبًا لي لا لها. وفي الحقيقة ارتبكتُ، لم أعرف ماذا أقول أو أفعل حتى لا ينفضح أمري أمام من أحببتها حبًّا جمًّا حتى قطعت سكوتي الذي لفحني ببرد جافٍّ، ينهش في عظامي، ويجثم على صدري، ويطرقع في جنبات جسدي وأنا أنصت إلى صدى صرخات آتية من بعيد وإن كنت أحسها تصعد من جوفي، وقد بدت في نفسي فجوة معتمة قبيحة، وهم جديد مباغت سيدخلني ويكاد يقضي عليّ.

وطرفت عيناي ناظرةً إلى السماء، فرأيت السحب القطنية تغمرها تبشر بالأمطار، حتى قالت فاطمة بعد تفكير:

- فاطمة، عايزاش تكتبي لي خطاب رد لأحمد، أنا عارفاش شاطرة في القراءة والكتابة وانتي صديقتي العزيزة، سوّي لي دا الرجاء يا فاطمة.

قلت بتلعثم، وقد طرأ إلى ذهني مبرر قوي ودافع للرفض:

- بس أنا يا فاطمة هاكتبه بالمصري، هيعرف إن انتي مش كاتباه، مش هينفع، اكتبيه وانا اساعدك...

قاطعتني وقالت فورًا:

- ولا يهمش، أنا أكتبه تاني واسوّيه بخطي، بس انتي اكتبيه حبيبتي أرجوش.

هززت رأسي بالإيجاب.

وتهللت كطفلة بريئة وقبَّلَتني مبتهجة:

- موافقة موافقة موافقة.

كنا سائرتين بالسيارة، ننوي الذهاب إلى المطعم للتريق وتناول القهوة ثم الغداء. أمسكت يدها وقلت بصوت خافت:

لو سمحتي يا فاطمة روّحيني السكن؛ أنا تعبانة وعايزة ارتاح.

- ليش فاطمة؟ لساكي تعبانة؟ أوديش للطبيب؟

قلت بحدة وقد نفد صبري واحتقنت عيناي بدموع ظلت محبوسة بكل طاقتي حتى لا تنهمر وتتحرر:

- معلش يا فاطمة.. علشان ألحق أكتب لك الجواب.

ثم استدرت برأسي خارج شباك السيارة الذي بجانبي فرأيت السحب تزداد كثافة وتشابكًا وارتباطًا كأنها أقفلت مسرح السماء، وهذا ليس دليلاً على شتاء في مسقط، إنما ربيع نضر يغسل الشوارع والأشجار والبيوت البيضاء، ووقفت السيارة دون أن أعي فجأة عند باب السكن، وظلت فاطمة واقفة لبرهة بالسيارة ثم أمسكت يدي بقوة وقالت بصوت رقيق صافٍ:

- أوكي فاطمة، ربنا يخليش ليا، إنتي مصرية أصيلة ما في زيك في العالم كله.

لقد اكتشفت مدى العنف الذي يمكن أن يؤول إليه الشخص عندما تعاكسه الأقدار باستمرار وإلحاح، إلاّ أنني مع تقلبات الزمن وما سمعت ورأيت لم يعد شيء يدهشني أو يسبب غير صدمة مؤقتة تزول مع الوقت والاعتياد، إلاّ أنني خبرت الشراسة وهذا ما كان جديدًا في حياتي الآن، حتى هذا النسيان لم يعُد يمثِّل لي أي عاطفة إيجابية، لكنه صار مرضًا أريد العلاج منه، وهو يدفعني إلى التفكير في أفعال شريرة، وأنا فرحة بالشعور الجديد من الغضب والتذمُّر والقسوة، التي ستمنحني القوة العمياء لتنفيذ ما أفكر فيه وليست مجرد أفكار عاجزة تدور في رأسي فقط. واستلقيت بملابسي على فراشي دون أن أبدّلها كما لو لم أكُن قد استلقيت مطلقًا من قبل على الفراش، وغُصَّة في حلقي، ووجهي شاحب إلى درجة الاصفرار كأن الدماء فرَّت منه. تصلبت في جلستي للحظات طويلة وأنا مستلقية معذَّبة بالحب كما لم أتعذب من قبل.

عادت علاقتي الحميمة بمذكراتي حينما بدأت كتابة خطاب فاطمة لأحمد ردًّا على رسائل sms واعتراف على منديل الحب البنفسجي:

"حبيبي أحمد:

أشعر برغبة في كتابة خطاب إليك على المنديل الورقي، ولكن يا للعار! فالمناديل لا تكفي للمرض والحب وإذا اجتمعا، ما أجملهما! الليل والمرض والحب، والفخر والرغبة، كل تلك المعاني تملأ كياني، أما أنت فلا ينطبق عليك إلاّ الآلام. فوجودك في حياتي يُشعِرُني بالدفء، ولا شيء أرغب في الزيادة منه سوى لغاتنا السرية والداخلية التي بيننا أنا وأنت فقط.

لك أن تعشقني وأن تحبني، وصدقني إذا قلت لك أنا وسط عشقك وحبك الهائل أصبحت كإلهة النور، وجارية من جواري سلطانك الملكي. أحمد، قرأت جملتك التي تشكلت بلون البنفسج الرائع الذي أعشقه في مختلف ثيابي ومكياجي حتى طلاء الأظافر بكل مستوياته الفاتحة والداكنة، ثم عدت لقراءة رسائل الـsms أكثر من ثلاث مرات وأنا لا أستطيع في كل مرة أن أمنع دموعي المنهمرة، لا من شدة الانبساط والنشوة، ولكن من أشياء أخرى قد لا توصف بأنها حزينة، لكنها شديدة الوطأة علي... ليست المرة الأولى ولكنها قد تكون الألف، تلك المرات التي أشعر فيها باليأس من الحب، نعم، اليأس من الحب، ولأحكِ لك كيف يكون ذلك، سأستعير كلمتك في إحدى رسائل الـsms [الحقيقة أنني لا أعرف ماذا أفعل في نفسي في هذه اللحظة]، أنت كتبت هذا، وهذا معناه ببساطة أنك تكنّ لي حبًّا جارفًا وحارقًا لا تعرف ماذا تفعل به، وأنت مكبَّل بأشياء كثيرة تمنع انطلاقك وتفجُّرك وإحساسًا عاليًا باتساع الحب لكل شيء تراه، وكم تساوي هذه المشاعر والأحاسيس التي تغمرك وماذا فعلت أنا غير أن دموعًا قد فرَّت من أعيُنِي خلسة فور اعترافك لي بأنني كل ما تريده وترغبه في هذه الدنيا، إلاّ أنني أدرك وأعي ما أريده من نفسي في لحظة الكتابة إليك، تعرف ماذا أريد؟ أريد أن أصحبك في رحلة تراني فيها من داخلي.. رحلة طويلة ليتها تحدث رغم خوفي منها، ولا تدرك من ذلك أنني أعرف مُسبَقًا فكرةً عن نفسي، صدقني لا أعرف شيئًا غير أنني أحبك، وأخاف عليك، وأغار عليك من الجمال والقبح معًا فكلاهما يجذبك، وهذه كارثة، وهذه هي مأساتي معك، فأنت روما المدينة المفتوحة لكل الغزاة كي يستعمروها ويدنسوا جمالها ويحرقوا قلبها، هل أصبت في تسميتك، حبيبي؟ معذرة، هل أثقلت عليك؟ أحب أن أسمعك دائمًا، تحديدًا أنت، أحب دائمًا أن أراك تكتشف سر هذا الحب العجيب، وسأكون على وعدي دائمًا معك.

حبيبتك.. فاطمة البلوشية".

ومرت الأيام لتطمس معالم ورؤوس الأحلام التي اندثرت فجأة عنِّي في غياهب القدر والنصيب، لتصبح طويلة وقصيرة في آن واحد، حيث ينتهي بها الأمر إلى تداخل بعضها في بعض، فتفقد معناها ولا أتذكر غير اليوم أو أمس أو غدًا، لا تفارق مونيتور عقلي الدائر حولها ولا شيء يعادله خطورةً مثل استباحة الإنسان واغتصابه على نحو يقلِّل من أي تقدير لأنفسنا، بل إنني أعتبرها من المحرَّمات التي تخصُّ القانون الإنساني. انتفض روحي بغضب عارم على الأيام التي مرَّت سابقًا ولاحقًا دون جدوى... حتى ذات مرة أفقنا جميعًا وكانت الساعة بعد الحادية عشرة على كارثة جديدة نفَّذَتها إلهام وسعاد، وحده الخبر أصابنا بالخرس، وقد حضر إلى السكن ضابط ومعه عسكريَّان بعربة شرطة من التي تحمل أنوارًا أعلاها، لم نشعر بتفاقم الموقف إلاّ عندما وجدنا الكفيل صوته يتعالى ويسبُّ في المصريات وما يجيء منهن من مصائب وهو منفعل من الغضب والحنق عندما أمره الضابط بارتداء دشداشته فورًا وابتسام أيضًا للذهاب إلى القسم للتحقيق في مذكرة مقدَّمة ضدهما من معلمتين تعملان لديه تُدْعَيَان إلهام وسعاد، يشير المحضر إلى أن هذا الكفيل يقطن السكن دون وجه حقٍّ مع معلِّمة تُدعَى ابتسام وصديقاتها وهذا شيء مُنافٍ للقانون، ويأتي في ليالٍ بعينها من أيام الأسبوع. وعندما اعترضت المعلمتان أي سعاد وإلهام، تعرضتا للاضطهاد، وحاول الكفيل التحرُّش بإلهام والاعتداء عليها أكثر من مرة لأنها رفضت بإصرار الإذعان له، وتطلبان التحقيق في تلك الأمور، وترك العمل عنده بشرط أن يعطيهما حقَّ التنازل والإعفاء النهائي من كفالته حتى يستطيعا أن يجدا رزقهما في مكان أفضل تأمنان فيه على نفسيهما، وقام العساكر بتفتيش حجرة الكفيل تفتيشًا دقيقًا في ملابسه القليلة وبعض الأدوية والروشتات التي تبعثرت، وأيضًا تم تفتيش غرفة ابتسام التي نحن أيضًا نقطن فيها أنا ورشا، فصرخت ابتسام في وجه الضابط، معللة بأن هذا ليس من حقِّه وأن أشياء كثيرة تخصُّ زميلاتها في الغرفة وليس مسموحًا له العبث بها، حتى رأى درجًا صغيرًا في دولابها فأمرها بفتحه على الفور، وعندما رفضت هدَّد بكسر القفل، فأذعنت وهي منهارة، فلم يجد غير ما هو معتاد نقود مصرية وريالات عمانية ودولارات وبعض جوازات سفر لمعلِّمات وأوراق معاملات تخصُّ معلِّمات لم يأتين بعد، وشهادات وسير ذاتية... ثم امتدَّ الموقف عندما ذهب الاثنان في عربة الشرطة إلى القسم للتحقيق، فوجدا إلهام وسعاد معهما ابنها تبكيان بدموع ملفَّقة لكل من يراها ويتحاميان بضابطين واقفين بجانبهما يبدوان على معرفة مسبقة خشية إيذاء الكفيل لهما، ونجحت تمثيلية سعاد وإلهام نجاحًا بالغًا وإن كان مؤجَّلاً إلى نهاية العام الدراسي، فما حدث كان تقريبًا في منتصف أبريل، وطلبا عربون الصدق باستعادة جواز السفر، الذي لا نراه مُطلَقًا إلاّ في صالة حضورنا من الوطن ثم في صالة المغادرة إلى الوطن، وتعهد الكفيل وابتسام بعدم التعرض لهما بأي إيذاء ولو كلاميّ في مقابل التنازل عن المحضر والاستمرار في العمل إلى حين انتهاء العام الدراسي، حتى لا يشكو أولياء الأمور وحرصًا على سمعة المدرسة وكتمانًا للأمر، وإعطائهما تنازل الكفيل وجميع حقوقهما المالية وشهادات خبرة بالدورات التدريبية والعمل في المدرسة.

من يومها ساد صمت بارد وكئيب في السكن، وأصبحنا لا نرى الكفيل إلاّ قليلاً في زيارات محدودة في الأسبوع، لشرب القهوة العمانية المرة اللذيذة، وإذا امتدَّت الزيارة يكون أقصاها الغداء مع ابتسام ورشا وأنا وأبلة فوزية التي تقوم بطهي الطعام، بناءً على طلب من الكفيل ورغبة مِنَّا في الراحة، وبخاصَّة أنها كانت بارعة في صنع المشهِّيات المصرية والعمانية على السواء. ويُلِحُّ في رؤية الأخريات والسؤال عن أحوالهن، وقد أصبح أكثر ليونة ومرونة وينصت إلى أيّ شكوى ويحلُّها على الفور بأمر مباشر وحازم لابتسام أو وجدي.

الظروف أضاعت عليّ الانتقام من إلهام وسعاد، بل وباتت مستحيلة بعد علمي أنهما ستسافران إلى الإمارات مباشرة بعد الحصول على كل الأوراق الرسمية في نهاية العام الدراسي لزواج المسيار اللذي تَلَقَّتا عرضًا مغريًا من رجل أعمال عربي به، وكانت المعلومة أكيدة لأن مصدرها أبلة فوزية، الوحيدة اللي كانت تتجاذب معهما الحوار والقفشات والفكاهة والنكت البذيئة، رغم اجتناب كل الأخريات لهن بحسم وترفُّع. شط جنوني وزاد اكتئابي لأن سيف سيرحل معها ولن أراه إلى الأبد، استيقظت ليالي طويلة مريرة، وقد تناسيت رغبة الانتقام أمام عاطفتي الجياشة لسيف وقرب رحيله عنِّي، ليس فقط لأنني أحبه وأحتاج إلى طفولته التي حُرمت منها، ولكني أراه ظلمًا فادحًا لهذا الطفل المسكين مع تلك الأم الذاهبة إلى الإمارات من أجل المتعة والمال والانتقال من أحضان هذا إلى ذاك، ليعيش سيف تحت وقع سلوكها الانحرافي والمبتذَل الذي لا يعي غير المتعة المدفوعة الثمن وأفعالها الشاذَّة والجشعة دون مراعاة لهذا الطفل البائس، الذي سيدنَّس ويختلط بمسالك حياتها الموبوءة المتقلبة لا يحكمها غير منطق الأرقام القذر الذي سلب عقلها وروحها وقلبها وجسدها إلى الأبد. حتى جال في خاطري فكرة طائشة فاجأت بها نفسي، فدائمًا يسبقني لا شعوري في كشف ما أريد ستره.. لماذا لا تتركه لي أما أو مربية أو أي معنى تقبله؟ أنا أحق به، بل وأستحق عليه مالاً لرعايته وحمايته من عالمها المنحطّ، أليس هذا يا ربي العدل وأفضل لها ولي ولسيف البريء، إلاّ أن حكايتي مع سيف انتهت سريعًا كما كان يحدث لنا في الطفولة وجدتي تحكيها لي لتنقطع الحكاية التي تُروَى ليلاً لأنام في أكثر الأماكن إثارة، وماذا بعد؟ وجدتي تهدهدني حتى يغلبني النعاس رغم رغبتي الملحَّة في سماع بقية الحكاية، فأستكملها في أحلامي وقد امتطيت لتوِّي مع بطل الحكاية سيف جوادًا جامحًا كفارس نبيل يسير بي في مجاهل الغابة المظلمة المرعبة إلى الشاطئ البعيد عن أعين كل الغرباء والأعداء وقد بعث في قلبي الأمل بعد النجاة لأعيش مرة أخرى مع من أحبه ويحبني، وتندمج اليقظة في الخيال، وتصبح عقدة الحكاية مع حلول الظلام الواقع الوحيد أني وحيدة وحدة مطلقة ومحاطة بأشخاص قساة، لا يعرفون الرحمة أمام حكايتي مع سيف التي انقطعت بلا عودة وليس من غد أو بعد غد لتكتمل روايتها، وقد أجابتني سعاد قلبي بكل استهزاء وسخرية مزقت قلبي:

- فيه إيه يا ست فاطمة؟ دا ضنايَا.

واستأنفت تلدغني بكلماتها المسمومة كالأفعى:

- وبعدين إيش عرفك انتي بالضنى...

وتعالت نبرات صوتها بفجاجة:

- إنتي ناسية انك ما بتخلّفيش...

- واستدارت إلى الناحية الأخرى، فظهر لي جانب وجهها المشرئبّ كالقطة الشرسة قائلة أخيرًا بامتعاض وهي تسير بعيدًا عنِّي:

- عن إذنك يا ماما فاطمة.

اليوم سأكتب في مذكراتي عن الحب الجبلي بين عنان السماء والجبال وهما يتعانقان كأجمل عاشقَين وسط نصوع السحاب الأبيض في خبايا العشق الأخَّاذ.

ابتسمت فاطمة البلوشية ابتسامة عريضة مشعة تألقت بها عيناها تألُّقًا فائقًا عندما قرأت الخطاب، مفتاح الحب الذي بدأ وتغير ونما مع الوقت ليكتشف طرقًا جديدة للتعبير عن نفسه مع أحمد، وهما يجدانه تارة في مقهاهما المفضَّل، ملجئهما وخيمتهما، وهما يحتسيان قهوة عمانية فيطيب الهمس وتحلو النجوى، وتنهمر الاعترافات كقطرات المطر، فكأن نكهة البن العالقة من فنجان القهوة اللذيذة المذاق رغم خلوها من السكر مع مزازة الحلوى العمانية المشهورة تردّ إلى العاشقين والحب اعتباره وقدسيته وشرعيته في إثبات نبض دقات القلوب العاشقة، بينما أنا في الجانب الآخر مع سيف أنظر إليهما بتأمُّل وسعادة وأحيط أحمد بحدقتَيَّ، وأسمع الصوت الذي يخترق قلبه وأنفاسه معبرا عن صدقه وإخلاصه لزمن الحب، وكلما أمعنت الإنصات يتحول الزمن إلى سلاسل، أتحطم حولها وأستسلم للذهول، فكلما غصت في التنهدات والتأوهات والهمسات والكلمات المستحيلة، وأنا أشتهي ريقه وعرقه، وعذاب حبي الذي ليس له مثيل وسط عزف ألحان الغرام، الذي ينبثق منه صوت غامض كالميلاد، يبدأ بسيطًا صغيرًا، ثم يتسرب صاعدًا ويواصل الصعود متسعًا، حتى تظهر على وجهي هامة من الانتشاء والملامح المبتهجة بقوة، وفجأة تصبح عيناي لا تطرفان بل ساكنتين، تتعذبان بالمشاهدة فقط، وفي هنات قصيرة من عمر الزمن يحسّ نظراتي الحائرة، ولكنه لا ينظر إليّ ويعتصم بحبل الودّ المتباعد والتجنُّب المريح، وعلى الرغم من أنني كنت صامتة فإن صمتي لم يكن منفرا لي. كنت حزينة حزنًا سعيدًا وأنا أرقبهما يتسلقان الجبال، هذه المغامرات الجبلية، هواية الشباب والشابات والصغار والكبار حتى العجائز ممن لديهم القوة، فجلست على كرسي خشبي صغير لأرى هل في استطاعتي أن أميزهما من هناك وهما يصعدان أعلى الجبل وسط المنحدرات الضخمة والجرف الراسية تظهر بكل جلالها الشامخ وعذريتها المدهشة وهي تكاد تعانق السماء.

نعم إنه الحب... الحب! ما الحب؟ الحب أظنه هو الاستسلام للمغامرة، هو التفاهم والتلاقي في كل الأوقات، الحب هو أنوثة طاغية تريد أن تتفجر على عتبات رجلها، الحب هو روحي المشبع بجرعات حنان تحولني إلى روح رقيق هفهاف كفساتين طفولتي التي كنت أعشقها، الضيقة عند نهدَيَّ الصغيرين وخصري ثم تتسع كالبرجل بدوبل كلوش مطرَّزة حوافُّه تطير وترتفع هفهافة في الجو كلما عاكستها نسمات الصيف العليل، الحب يجعلني أنظر في المرآة وأبتسم ابتسامات متوالية كلما تفحصت ملامحي كالممسوسة، الحب جنون وتبلور يشقُّ في معاول روحي وجسدي بعطائه، الحب هو أن تلهث وراء المحب بعطش وجوع لا ينتهي، الحب هو أن تقول "آسف آسف" لتتجدد الآمور، الحب هو اقتسام مشروب القهوة الإسبرسو على المقاهي أو كأس بيرة مثلجة، الحب هو انتظار التليفون يرنّ، الحب يمنحني بشرة جيدة وتحقُّقًا يشمل العالم بأسره. الحب هو موضوع الأغاني والقصص والحكايات والأشعار، لكنه أعمى، وحش ضرير يفتك بالقلب والروح حينما يتضاءل وينتحر ويموت ويلوث مشاعري ويجرح أحاسيسي ويخرجني من لغة الاكتشاف الأولى العظيمة إلى الحيرة والشك في كل مشاعر الآخرين حتى أفقد الثقة في نفسي وأحسُّها في نهاية الأمر كلمة خاوية، تدور في فلك فراغها كمن يناطح الهواء ويريد أن يمسكه ببلاهة أو فائدة غير إدمان الدموع والهمّ، الحب في الحقيقة له وظائف ونوهم أنفسنا أننا نؤدِّيها من أجل الحب ولن يتبقى غير حركات الجسد المدرَّبة على ملء فراغ الشهوة وإخماد الاحتياج الجنسي.

أما أنا لأنني خبرت الحب، والجنس، فسأكتفي بأن أتعلم أن أحب في يأس وقد دخل بغير إرادتي في أفكاري دخولاً صريحًا في أوقات غير مألوفة وفي أماكن ما كان ينبغي أن يدخل فيها.

لم يكُن أمامي طريق مفتوح لأسكب فيه غضبي وحنقي الذي لا يفارقني كظلٍّ يعرِّيني من آدميتي التي انتُهكت بعد حادثة الثلاثي الشيطاني، غير أبلة فوزية، ولمعت الفكرة وأنا أتابع نظرات وجدي بعينيه الذابلتين من السأم والحزن الغائر على وجهه يوحي بأن غياب المرأة كوعاء للجنس هي مشكلته الأساسية في حياة رجل كرَّسَها للعمل ليل نهار في الغربة لأكثر من عشرين عامًا وربما باقي عمره، نظراته إليَّ حادة، نافذة تشي بكل الإغواءات، وفي لحظات ضبابية مرتجفة بالتوتر عميقة في قاع كيانه الملتاع بشبق خاطف كالبرق يلسعني وتكاد تنطق وتصرخ فيّ لماذا لا تأتين إليّ يا فاطمة وترحمين رغبتي وأشواقي المشتعلة اللاهثة لرائحة جسدك ونفحات أنفاسك لتبعث فيّ دبيب الحياة البائسة التي أعيشها من دونك، لكني كنت أكرهه، لا أطيق رؤيته، لذلك كنت أقوى منه، ولم أكن أتيح له أي فرصة للاقتراب مني أو إقامة أدنى علاقة معي، بل استعملته لحسابي كما يستعمل كل الآخرين والأخريات، فقمت بتدبير مؤامرة على أماني برعاية وإدارة أبلة فوزية التي حاكتها بدربة ومهارة وحس مصري بالفهلوة والشطارة واللعب بالنار، أخذني إلى نهاية على غير المتوقع تمامًا بدلت الأحوال وأصبح بها الأعداء أشدَّ الأصدقاء، لا أعلم كيف حدث هذا لي! ونحن نبحث عن الغريب والمدهش الذي يجوب في داخلنا العميق وهذا لكونه شكلاً من أشكال الهروب من التعاسة التي تتجلى كلما أمعنَّا النظر في داخلنا المخرَّب ومن دوره ينزلق بنا في التفكير تفكيرًا مضنيًا عما فعلنا بأنفسنا مِمَّا يجلب لنا الندم والحسرة على أفكارنا السوداء وحتى البيضاء. ونحن نتساءل ما فائدة كل هذه الألاعيب بين البشر التي نقوم بها ونحن مغمورون بذكرياتنا الحزينة عن كل ما تم فعله بأيدينا ونخشى المجهول الذي ستخطوه أقدام القدر القاسية، أضحك سخريةً من نفسي وأشعر بالبله وأنا أتحدث بيني وبين نفسي، سمت المفكر الذي تقلقه همومٌ عامة، حدس الخطر قريب قريب، وأنا أرى نفسي مع الآخرين يندفعون اندفاعًا رهيبًا مقصودًا إلى الهاوية، بينما الأشياء في ظاهرها متماسكة تسير في فوضاها الخاصَّة يحرسها مَلَك الفقر وشيطان اللذة، وأنا بلا جذور في الحالتين سواء في وطني الأم أو الوطن الثاني لي.

سهَّلَت أبلة فوزية علاقة مدفوعة الثمن لوجدي الذي عاملناه ككلب جائع شرس، فألقي إليه بفتات عظام ليسد جوعه المستبد، ودفعت أنا لأماني من مالي الخاصّ 50 ريالاً عن طريق أبلة فوزية، حتى لا تُشعِرَه بأي مكابدة مالية ويستسهل الأمر ويجدها فرصة لا تعوَّض، وما تمتاز به أماني من ميزة نادرة بين السيدات، ممارسة الجنس من الخلف مبتغاه ومدى سعادته الذي يحبه مثل نور عينيه في المرأة التي يضاجعها، أقنعت أبلة فوزية الطرفين وانتظرنا موعدًا مناسبًا ومكانًا يتلاقيان فيه، وقد اقترحت عليه أبلة فوزية حجرة المصادر في المدرسة ليلاً لأنها بعيدة، ولا تُفتَح إلاّ في الصباح وهو معه المفتاح باعتباره أحد المختصِّين على إدارة المدرسة، ثم نتصل بالكفيل وابتسام، ويتمّ تفتيشهما بجُرْسَة وفضيحة لا مثيل لها.

توالت الأيام، وتضاربت المواعيد، وإذا اتفقا على موعد تكون أبلة فوزية في العمل وتنسى وإذا تذكرت فتذكر أن الكفيل ليس هنا، وأحيانًا لا تعلم بميعاد لقائهما، وفقدنا التركيز لتنفيذ الخطة، ونحن نؤجِّل ونتناسى، فلتتوطد العلاقة حتى تفوح رائحتها، ويعلم بها الجميع وتلوكها الألسنة، وتصل الأخبار إلى الرستاق مكان إقامة زوجته حتى تتعقد الأمور وتنهار البيوت ويقطع رزقهما، أشد ما يؤلم البشر.

ولأني كنت أراقب أماني بخفة وهدوء من بعيد، لمحت بعد عدة أسابيع تبدُّل أحوالها ولازمتها عادة الصعود إلى الدور الرابع من أحد مباني المدرسة حيث توجد صهاريج المياه، وبعض الكراكيب المدرسية حيث من لا يعملن مساء في المعهد يذهبن إلى المدرسة أحيانًا إذا رغبن لإنجاز مهامَّ تخصُّ المدرسة وأيضًا لمضي الوقت الثقيل، وهذا دون أجر، وفي إحدى المرات جاء الباص لتوصيلهن إلى السكن، ونسوا أماني التي لم تسمع بوق الباص الذي ينذر بالرحيل، والوحيد الذي تذكرها وعرف مكانها هو وجدي، بعد ذلك أصبحت ابتسام تأمر إحدى المعلِّمات أن ترنّ جرس الحصص لينبه الجميع، وإن كان المقصود أماني، وشاع أمر جلوسها وحيدة، فعلَّلُوا ذلك بأن سعاد وإلهام اللتين قد حزمتا أمرهما بالسفر والأحلام العريضة مع التربيطات الجديدة لصنع عالم جديد ومختلف وحافل عن كل ماضي الوطن القديم الذي تراءى لهما كغبار تنفضانه عن ثيابهما الحاضرة اللامعة المتأنقة بعطر فاخر باريسي وسلطان المال والمتعة وأبهة الشباب، وتعاملتا مع أماني ككلب أجرب وابتعدتا عنها تجنُّبًا عدوى الجَرَب، وما حدث لأماني أصبح لقمة سائغة في حديث المعلِّمات الدائم في الساعات القليلات التي يجدن فيها خلوة وراحة، يجلسن قريرات لطيفات، يتخففن في القول والسلوك، ثم يشعرن بالملل فيوغلن في النميمة حول ما يحدث لأماني وابتعاد بقية الثلاثي عنها جارحات ممرورات في أوصافهن الوحشية لأماني وغيرها، ظنًّا قد تداول أن جنيًّا شريرًا سكنها، فالأشرار يلبسهن أشرار أيضًا ويصبغ ملامح وجوههم بعتامة أشبه بعتامة كهف تتراقص داخله أشباح الضعف الإنساني والغرائز الدنيئة. إلاّ أنهن في نهاية القول، ومع إطلاق كل الظنون السيئة بلا حياء، يدركهن الملل من قول كل شيء ونسيانه ثم يُعِدْن قوله مرة أخرى من جديد في دائرة الحديث العبثي... حتى تزفر إحداهن بصيحة موجعة من الضمير:

- والنبي صحيح شرَّانية وبنت أبالسة، بس والنبي حرام يا ربي، هي العفاريت مش راضية تسيبنا في البلد الوسخة دي؟

وفي أحد مساءات الجمعة التي آثرت فيها البقاء أنا وسيف في السكن، وكانت السماء غائمة وضوء رمادي يأتي من خلف البيوت الذي بدأ يعانق غروب الشمس للرحيل، جالسة في الساحة الخلفية أتنسم الهواء العليل والبيوت التي يلمع بياضها في النهار قد تحولت إلى كتل صمَّاء، وقد هبط عليها الظلام، فأزال كل انتعاشها الصباحي إلى منظر موحش تشكل أمامي كعالم مهجور، فانقبض قلبي وطفقت أقلب البصر في ما حولي شاردة ساهمة حتى تشخصت أمامي أماني كشبح مخيف ظهر لي على غرَّة قائلة:

- ازيك يا فاطمة؟

لم أردّ جفاءً، شعرت بارتجافة وارتعاشة اختلجت بها ملامح وجهي المتجهمة بلا استجابة لسلامها، لكنها جلست على الكرسي الذي أمامي ودست وجهها في راحتيها وبكت بكاءً طويلاً مُرًّا يتسربل من أعماق نفسها المحزونة بلون حداد أسود شديد التعاسة والحسرة، وظل بكاؤها حارًّا ينهش في صدرها وحطَّ عليها كغراب البين فنحسها وبدَّد حظَّها، تعثرت الكلمات للخروج وأنا أتذكر جرمها الآثم وقسوتها معي، وأنا في خصام وتنافر مع جسدي كأنه أصبح عبئًا أسير به، وأريد التخلُّص منه حتى تنزاح عنِّي خطاياه التي أثخنت ذاكرتي بالمرارة، وعذاب تفاصيل ما حدث له وهو كامن في روحي وجسدي كالبقِّ، كلما تَعَرَّى جسدي للاستحمام أو ارتداء ملابسي أبكى بكاءً متحسرًا موجعًا تهتزّ له أعطاف ذاتي المنتهَكة. فتحطم كل تعاطف مع بكائها الممرور وشظاياه تتناثر في قولي بسخرية وتهكُّم:

- مالك يا أستاذة أماني؟ بتعيطي ليه؟

لم تردّ وظلت تبكي، فسئمت وجودها، فوقفت استعدادًا لمغادرتها فالتقطت يدي بقبضة قوية فدفعتها بعنف وركلتها بقدمي وشرارة الغضب وهي تجثو على الأرض ملأتني بنظرة مخيفة:

- اسمعي... لو لمستيني...

ظلت جاثية على الأرض ولم تُعطِني فرصةً لاستكمال وعيدي وتهديدي لها حتى قذفت بقنبلة في وجهي المتعكر، وشلَّت عزيمتي على العراك والتهديد:

- فاطمة أنا حامل، ومش عارفة اعمل إيه.

ودموع حارَّة مدرارة، ومخاط أنفها يسيل وهي تقبِّل يدي وقدمي دون وعي وتهتف قائلة:

- أرجوكي ساعديني يا فاطمة، انتي الشخص الوحيد النضيف في السكن وما حدش بيحبني يا فاطمة، وانتي كمان، بس ساعديني يا فاطمة، أنا كنت بنت ولازم أفضل كده علشان اتجوز ابن خالي في البلد لما أرجع.

هزَّتني المفاجأة وفقدت حاسة السمع وأذني لا تلتقط الكلمات إلاّ كطنين ناموس مزعج يزنّ في أذني فتوترت تمامًا وقد ملأتني لُجَّة شكوك سوداوية عمَّا فعلناه أنا وأبلة فوزية بفهلوة وشطارة، والدهشة حوَّلَتني إلى لوح ثلج لا يتحرك، حتى إنها هزَّتني أكثر من مرة:

- فاطمة، مالك؟ انتي سامعاني؟ بقول لك سامحيني فاطمة، هتنجِّيني من المصيبة دي؟ فاطمة! فاطمة!

أفقت وعاد وعيي واسترددت أنفاسي كأني آتي من بعد عميق وقلت بتلعثم أمام رجائها وذلها الخاضع بفجيعة المصيبة التي تنمو في أحشائها:

- طيب اهدي، إن شاء الله هنلاقي حل.

وربتُّ على ساعدها وجثوت على الأرض أبعد يديها وهي تلفحني بقبلات الاعتذار والندم ورجاء المساعدة، وقد نفرت منها تمامًا فصرخت فيها بصوت عالٍ هلعًا من مثولها الشاخص أمامي عاجزًا بائسًا هكذا، وقد افترشت الأرض وتسمرت بها كنبت شيطاني:

- قلت لك اخرسي، اخرسي، كفاية... قومي اقعدي ع الكرسي... ولاّ أقول لك، روحي يا أماني دلوقتي وسيبيني أفكر، ماتخافيش، أنا معاكي.

تباطأت أطرافها في النهوض كمن شُلَّت من الصدمة وانهيارها العصبي حتى دفعتها كلماتي الأخيرة إلى قيامٍ عاجزٍ أمام عراك الحياة الباطش، بنظرات زائغة منطفئة وقد ثقلت بظلال المحنة والتوجُّع الذي تحاول أن تفر منه فصوبتُ إليها نظرات لا هي صدق ولا كذب إنما مراعاة لبؤسها، وقلت بعفوية:

- صدقيني يا أماني، أنا معاكي وهاساعدك.

فقالت:

- فاطمة، حتى لو ما وقفتيش جنبي أرجوكي ما تقوليش لأي حد حتى أبلة فوزية.

زهدني النوم وأسدلت ستائر داكنة قاتمة على عقلي، والأيام كلما مرت زادت الطين بلة كلما لمحت أماني وقد امتقع لون وجهها وبانت عظمتا وجنتيها من القلق والحيرة في أمرها الذي سيظهر بعد شهور موصومًا بالعار والخزي، ونيرانه تشبّ في عقلها التائه، فتشوه روحها وملامحها حتى أثارت شفقة كل من حولها، وأنا الوحيدة التي تعلم علَّتها، والذهول من انقلاب المزحة الشريرة التي فكرت فيها للانتقام وهي تتحول إلى كائن حي يتخلق من الدنس والرذيلة، ماج عقلي بالأسئلة التي تبحث عن الإجابات كأمواج بحر تتلاطم على صخور الندم والمقاومة، ويشطح تفكيري في الغدر وخيانة الزمن وأنا أعلن أن هذا وقت انتصاري الذي عليّ أن أحتفل به، لقد سلبتني شرفي وعصفت بكياني وجسدي، فليكن مصيرها ثمن ما اقترفته بي.

ثم تحدتني نفسي الطيبة التي اعتاد كل الآخرين إطلاقها عليّ وأنكص على أعقابي، لأوقف هذا التفكير الشرير. كيف لي أن أفعل هذا بها وقد لجأت إليّ؟ يا إلهي! ما هذا العبث الذي تضعه نصب عينَيَّ؟ يا إلهي توقف عن اللعب معي، كفاني تمثيل أدوار الكومبارس التي أشغلها في حياة الآخرين، كفاني كفاني يا ربي لقد تعبت!

أنت تختبرني إذن، أنا نجحت ونيتي صادقة لمساعدتها، وبأي طريقة، هذا ما تريده مني أن أقوم به، إذن أنا مستعدة للمقامرة بكل الأوراق للحصول على النجاح بتفوُّق أمامك، أطبق الليل عليّ بزخم التساؤلات التي لن تؤدِّي إلاّ إلى مزيد من الغوص في الوحل كمن يغوص في الرمال الناعمة، وردَّدْتُ لنفسي بهذيان المحموم:

- لا... لن أسامحها، لكن يجب على أن أنقذها... نعم، هذا ما يجب عليّ.

لمحت الأضواء تخفت ثم تنطفئ ضوءًا إثر آخر، فأطبقت جفني على التماعات ظلال نور آت من فتحات خصاص الشبابيك المكسورة وأنا أسمع نباح الكلاب ونعيق غربان في الخلاء المحيط بنا خلف البيوت البيضاء، فتمنيت للصباح أن يأتي سريعًا بنهاره الساحق كلهيب شمعة يبزغ من ردهات الليل الملتوية وقد وقر في سريرتي أن في الصباح الحل النهائي، فتركت نفسي لنوم قلق أحتاج إليه لأمور باهظة الثمن عليّ إتمامها بكل السبل.

هاجت وماجت ابتسام غضبًا عندما أخبرتها بما فعله وجدي من إثم لا يغتفر ويجب أن يدفع ثمنه، ذهبت بعيدًا عنِّي وأشاحت بيدها أن الأمر لا يخصها وأنها في النهاية بنت شرموطة وعليها لوحدها أن تتصرف وليس لي ولها شأن بهذا، واستأنفت كقطة شرسة "ولا حتى وجدي"، معلقة جملتها الأخيرة بإنذاري من الخوض في ذلك الأمر قائلة لي بتحدٍّ وانحطاط:

- ولا تنسي يا أستاذة فاطمة أنه الرجل الأول في مؤسسته، شيخنا.

ازداد همي وكمدي وكلما قابلتها صوبت إليها نظرات الاستياء والاحتقار لموقفها النذل هذا وزاد امتعاضي وكرهي لها بشدة، والضيق أصبح كالتلِّ من الحيرة واليأس في حلِّ أمر هذه المسكينة التي ينضب روحها ويجفّ عودها يومًا بعد يوم كمن ينتظر الموت بفارغ الصبر، حتى أثبتت لي الأيام مدى خدعتي في شخصية ابتسام وسوءاتها الواضحة للجميع وأنا فقط الغافلة عنها وعلى أثرها تركت غرفتها أنا وسيف وعدت مرة أخرى لنومتي مع أبلة فوزية وفي وسطنا سيف، وقد زال ألمي بعض الشيء وبدأت أتناسى ما حدث لي من إلهام وسعاد بمرور الأيام، وشعوري تجاه أماني تحول إلى ذنب شديد لِمَا تعانيه الآن. وإن كانت الاثنتان تجاهلتاني تمامًا، بل تجاهلتا الجميع ولم تعودا تجلسان في السكن، حتى النوم بعد أن أذعنت ابتسام لكل نزواتهما، اتقاءً لشرِّهما وتجنُّبًا للمشكلات حتى تذهبا إلى أي مصيبة تأخذهما مع نهاية العام الدراسي. وهما التقطتا الفرصة وتمادتا إلى حدِّ الفجور، والمبيت دائمًا خارج السكن ولا أحد يعلم أين، ولا أحد يجرؤ أن يسألهما، والعجيب أن سعاد التي تتهمني بجهل الأمومة، تترك سيف معي ولا تراه إلاّ إذا خلا وقتها من العمل والمتعة. أي أمومة هذه التي تدَّعيها هذه العاهرة، المنزوع منها كل مشاعر الأمومة الحقيقية، أما الحادثة المقززة التي أدخلت في نفسي مشاعر من الاستنكار والنفور إلى حد بالغ، ففي أحد الأيام العادية من صباحات العمل المعتادة لنا في المدرسة كانت ابتسام تصرخ وتزعق بصوت عالٍ وتعاتب خادمة هندية جديدة أمرتها بتنظيف المخزن من الفئران الصحراوية التي فتتت وأنهت على مخزن كامل مليء بأكياس من الفستق واللوز وعين الجمل، وكراتين بسكويت فاخر وغيرها من حلوى تُباع في مقصف المدرسة، وعلمنا سرًّا أن تلك الأكياس ما هي إلاّ هدية من الكفيل تُوَزَّع على المعلِّمات قبل السفر، لكن ابتسام استأثرت بها لنفسها واحتفظت بها في المخزن ولم توزع شيئًا وأخفت الموضوع والأكياس حتى التهمتها الفئران وأفسدت باقي الأشياء. وبالتأكيد دارت بين المعلِّمات تعليقات خبيثة ولكنها طبعًا بعيدة عن أذن ابتسام التي يخشين بطشها ولسانها السليط وبعضهن يقول خلسة لبعض:

- والنبي مش كنا كلناهم احنا أحسن يا ابتسام هانم؟

تردّ الأخرى بسخرية وتهكُّم:

- لأ يا حمارة، الفار ابن البلد أولى مش غريب زينا.

لا شك أن ما حدث عمَّق ضيقي واشمئزازي منها، لكن ما يشغل بالي من نذالتها وتخليها عن أماني ما فاض به الكيل وزاد تبرمي وغضبي عليها، حتى لانت وأذعنت لأمري بود وحميمية تبغى منه إرضائي وعودة الأمور معي إلى عهدها القديم، وحبكت المؤامرة حول وجدي بتهديده أن تخبر الكفيل وزوجته بكل شيء إذا لم يتعاون في إخفاء فضيحته وإزالة أي آثار لها بإجهاض أماني وسفرها فورًا كالجرثومة التي لا بد أن تُقتلع من هذا المكان سريعًا، ودبرت ابتسام عنوة وكرهًا المال من وجدي حتى حصلت على باب مفتوح يُخصم من راتبه آخر الشهر، وكانت هذه ضربة قاضية لوجدي الحريص جدًّا إلى حدِّ البخل على ماله وهيئته الاجتماعية وزواجه العسكري بتلك المرأة الفولاذية، وكنت في ذاك الوقت واقفة بعد انتهاء اليوم الدراسي دون أن أغادر مع صديقاتي في الحافلة وقد قطعت أمري أن أعرف اليوم الرد، حتى لو كان رفضًا لأبحث عن طريق آخر لتلك المشكلة التي مللت التفكير فيها ليلاً ورؤيتها صباحًا ونهارًا وعصرًا أمامي في وجه أماني الممتقع. انتظرت ابتسام، مع السائق رشيد في السيارة التي تُقِلُّها إلى السكن، جلست في الخلف، والتفتُّ فلمحت سيارة وجدي المرسيدس وسمعته يفتح ويغلق باب السيارة بعنف، ثم ينزل مرة ثانية، ويعود إلى المكتب؛ يبدو أنه نسي شيئًا، ويفتح ويغلق باب السيارة بعنف أشد من المرة الأولى وتدور السيارة ثم يعود بها إلى الخلف في سرعة، وهو ينظر إليّ شزرًا وغضبًا كظيمًا، ثم يندفع إلى الأمام بقوة فيملأ الفضاء بغبار أكثر مِمَّا هو فوق الأرض، فابتسمت بزهو لأنني عرفت الردّ، كأن جبلاً أزيح من فوق عقلي، وشعرت برضا وانتعاشة كمن دبَّت فيها الحياة، وأغلقت زجاج السيارة لأستمتع بمكيِّف السيارة بعد تعليق رشيد لي بأدب:

- ليش أستاذة فاتحتش لزجاج؟ المكيف شغال.

واتكأت برأسي على الكرسي براحة وسعادة وانشغل ذهني في التفكير في ترتيب أفكاري وحل المشكلة الكبرى: من سيجري العملية؟ وكنت سعيدة فأرجأته إلى وقت آخر وظللت طوال اليوم أفكر، ولكن الابتسامة لم تفارقني حتى أتاني النعاس ليلاً وأنا ما زلت أبتسم ابتسامة عريضة ملأت ملامح وجهي، ثم غفوت في نوم عميق ولذيذ.

عانيت من الجدال مع عبلة الطبيبة العراقية حتى أقنعتها أن تقوم بإجراء عملية الإجهاض لأماني وأنا ألحّ وأستقصي بها كل مشاعر الإنسانية والرحمة لتلك المخلوقة التعيسة، وهذا الرفض لأسباب دينية بحتة، وذهنها مشغول بالاستعداد للسفر إلى كركوك والعودة إلى الوطن بعد التغييرات الجديدة، وطموح الاستقلال والعيش بكرامة كما تعتقد، وعندما أصبح لا حيلة لي بكيت بحرارة اليأس وهي الأمل الوحيد الباقي لي، فقالت بعبارة مقتضبة:

- زوجي أيضًا طبيب، سأقنعه بإجراء العملية، وميعادنا صباح بعد غد الساعة التاسعة، وتكاليف العملية 100 ريال عماني... وهذا عنوان عيادته الخاصَّة.

انتهت المقابلة دون أن ننبس بأي كلمة زيادة، حتى الشكر لعرفانها لم تمهله لي، بمجرد أن رنّت جرسًا بجانب مكتبها جاءت به الممرضة لتخبرها بالكشف الذي بعدي، وسرت أنا وأماني التي كانت تنتظر خارج العيادة. نظرت إليّ بتشكُّك وريبة تريد الإجابة المصيرية، فأومأت إليها دون أن أتفوه خافضة عينَيَّ المبللتين من أثر الدموع وأشرت إليها بيدي أن نذهب استعدادًا لصباح بعد غد.

هاتفتني فاطمة بعتاب ولوم شديدَين عن عدم سؤالي عنها، وشوقها أن تراني، فاعتذرت لها بأنني مشغولة بصديقة متوعكة صحيًّا، وأداوم على رعايتها، قالت بطيبتها المعهودة:

- ليش فاطمة ما نروح نزورها ونسوي الواجب؟ ما انا صديقتش.

قلت بهدوء:

- إن شاء الله يا فاطمة، أكيد هنروح وهاتصل أقول لك.

رفضت ابتسام أن تذهب معي، وقد أخبرتها على عجالة بما تم الاتفاق عليه مع الطبيبة العراقية، وسألتها أن تشاركني في إتمام الأمر فأنا خائفة ولا أتحمل هذا الموقف بمفردي، ففاجأتني بصراخها كمن لدغتها عقرب، ونظرات الاحتقار والاشمئزاز تملأ حديثها معي كأنني المخطئة فتضايقت من شعوري بالإثم وقلت صارخة لها أيضًا:

- هو في إيه؟ ما يكونش انا اللي اتعمل فيّه، وباشحت منك يا اختي!

فلم تردّ وتركت لي الغرفة بعد أن رنّ هاتفها.

واشتعلَت في نفسي مشاعر العصبية والضيق من الموضوع برمته فهتفت في نفسي بصوت مكتوم:

- يلعن دين أماني واللي جايبينها!

رفعت رأسي بنظرة متجمدة وقد أمسكت بالفكرة التي طرأت في عقلي بعد إنهاك وتمتمت شفتاي هامسة في حوار داخلي مع الحل الجديد:

- مافيش غير فاطمة البلوشية.

حتى أفقت على مزاح أبلة فوزية:

- اتجننتي يا بت؟! بتكلمي نفسك يا اختي؟!

رجفت واستعدت وعيي مسرعة القول:

- ما فيش حاجة يا أبلة فوزية دانا افتكرت حاجة كدا يعني.

لم تهتم ّوعادت تستكمل الضحك والمزاح:

- طيب يلا بروح امك علشان تروحي تقلي السمك، ماليش نفس أطبخ النهارده، يلاّ يا حلوة.

فهُرعت سريعًا من أمامها كالهارب من حكم حتى لا تلحظ ارتباكي:

- حاضر يا أبلة فوزية، حاضر.

فقالت:

- وماتنسيش رز السمك يا مخفية.

في المساء عندما هدأت نفسي، رتبت في مخيلتي الكلام لأُجرِي حديثًا مطوَّلاً مع فاطمة عقب حضوري أنا وأماني إليها صباح بعد غد بعد العملية للراحة والشفاء، والدافع هو رغبة الزيارة، والود والاستئناس بها، ومعرفة الأهل والضيافة، وهو مطلب ما أكثر ما طلبته مني لحبها الشديد لي، فهاتفتها على الفور ووافقت على الفور أيضًا، وأغلقت الهاتف الذي أغلق معه كل حواسِّي ونظرت إلى السماء وقد خارت قواي وتنفست الصعداء أناجي ربي:

- يا ربي يا معين متى ينتهي صباح بعد غد هذا؟

حتى تردد إلى سمعي هتاف سيف المتكرر:

- ماما فاطمة، تعالي مرجحيني... ماما فاطمة... ماما فاطمة... تعالي يا ماما بقى...

الخوف يعني التعاسة، وهذا أيضًا لا يعني أن الشجاعة تحقِّق منتهى السعادة، كنت أرغب فقط أن تذهب عنِّي مشاعر الخوف التي استبدَّت بكياني وأنا أستقلُّ التاكسي أنا وأماني للذهاب إلى عيادة الطبيب زوج الدكتورة عايدة، حاولت التماسك حتى تتماسك أماني وهي صامتة صمت المعذب والقلق ينهش في قلبه بفزع وهلع لا مثيل له.

أملأ نفسي بطاقة شجاعة غير حقيقية، فأنا خائفة جدًّا وتأتي إلى ذهني مشاهد سينمائية حفظناها تكرارًا أن تموت الضحية عقابًا لها... بينما الآخر يحيا ويمرح كأن فعل اللذة تم من غيره، يا له من ظلم فادح يجلب التعاسة والخزي والعار، لا للفعل ذاته وإنما لنتيجته العشوائية البوهيمية.

استقبلَنا رجل طويل شديد التأنق ببدلته الزرقاء وكرافتته المقلمة بالرصاصي في الأزرق وقميص أسود، وجهه أبيض مستدير، موفور الصحة ولديه سوالف شعر أسود ناعم جراء صبغة جيدة النوع، لامع، تحيطه هالة من الإشراق والأبهة الواضحة من حديثه المهذب. استقبلنا ببساطة وابتسامة رقيقة لم تفارق وجهه حتى تركنا العيادة، بعد دقائق حضرت سيدة مصرية نحيفة هادئة سمراء اللون ترتدي زي الممرضات لكن أنيق ولطيف، ناصع البياض، وعلى رأسها المتحرر من غطاء الرأس تضع كابًا أبيض، تتماوج خصلاته بين البني والأصفر الذهبي، فاستغربت مشهدها البديع عن كونها ممرضة مصرية لا نرى مثيلاتها في المستشفيات المصرية كثيرًا، كانت هي الأخرى لطيفة وتبتسم كأننا في كرنفال ابتسامات وحفل لشراب الكوكتيل، لا لإجراء عملية إجهاض تتوقف عليها مصائر ناس يخيفهم الأمر إلى حدٍّ بعيد.

لاحظت أنه لا يوجد في العيادة غير أربعتنا، وأغلقت الممرضة باب العيادة فتحولت إلى شقة وأسدلت الستائر فشعرت كأننا في وكر متأهبين لصنع جريمة كبرى خطيرة، تحاشيت نظرات أماني التي التصقت بي كطفل، وقد انكمش جسدها حتى إليتها التي تفتخر بعلوها وسمانتها كأمثولة للشهوة الملتاعة قد انخفضت بشكل ملحوظ، وأبعدتها عنِّي قليلاً لسأمي من اقترابها منِّي هكذا، ورفعت يدي التي ضمتها بقوة إلى راحة يدها، لتبعث في قلبها ولو بعضًا من الطمأنينة كأنه لا سبيل غيره، وجال في خاطري المشهد القديم معها، فقلت أداري حرجي وتجهُّمي رغم أنني أعرف أنها لا تقصد شيئًا سيِّئًا:

- ماتخافيش يا أماني... ما فيش حاجة... إن شاء الله خير.

ثم أمرتها الممرضة بالدخول إلى غرفة كبيرة واسعة مكيفة بها سرير قوائمه معدنية وبجانبه طاولة مملوءة عن آخرها بآلات تخصُّ العمليات، وأمرتها أن تخلع ملابسها بالكامل وترتدي قميصا أخضر اللون مفتوحًا من الخلف ويربط من الرقبة والوسط بأربطة دون نصفه الأسفل تأهُّبًا لفتح ساقيها، وكحت دم الجنين المجهض، انهارت وتشنجت وانهمرت دموعها، فنهرتها أن تسكت وأنا أهزُّها بيدَيّ الاثنتين هزات قوية:

- قلت لك ماتخافيش... الله! خلينا نخلص من الهمّ ده.

وبادرت الممرضة تربِّت على كتفها وتحدِّثها بوداعة كطفلة تهدهدها للنوم:

- تعرفي يا أماني؟ نص ساعة بالظبط، وهتخلصي من كل ده ومش هتحسي بحاجة، هنديكي بنج كلي مش نصفي علشان كمان ما تشوفيش وشّنا يا ستي، المهم ماتخافيش... يلاّ يا حبيبتي اخلعي، الدكتور مستعجل ووراه شغل، إحنا قافلين العيادة بسببك.

وقد كان ما قالته الممرضة مثالاً للرحمة والشفاء، ما حدث إلاّ الذي كنت أظنُّه قولاً مازحًا لتهدئتها، رأيتها تخرج وأماني تتكئ عليها بعد أقلَّ نصف ساعة، فأسرعت بمساعدة أماني على الجلوس، وأحضرَت لها عصيرًا تشربه ولي روشتة مكتوبًا عليها مواعيد الدواء لتسكين آلام حادة ستحسها بعد أن تفيق من البنج، ثم ابتسمت ضاحكة:

- اعملي لها فرخة بكِشْك تسندها وتقوّيها.

فنظرت إليها وأنا أضحك قائلة لها:

- إنتي مصرية بجد مش هزار.

أما الطبيب فقد اختفى تمامًا بعد الدقائق الأولى التي رأيناه فيها في بدء حضورنا كأنه طيف لشبح زالت ظلاله ليدفن هذا الكابوس المهيب إلى الأبد، وإن كنت أتمنى رؤيته لأحيِّيه وأشكره وأصافح يديه المباركتين.

باتت أماني ثلاث ليالٍ كاملة عند فاطمة، وقد لاقت الراحة وكرم ضيافة لم ترَه في حياتها من قبل باعتراف منها، وقد بدأ وجهها يتورد وترشف كؤوس الراحة واستعادة الاتزان، والعودة إلى الحياة مرة أخرى، وظلت تحتضنني وتقبِّلني عندما حضرت لإعادتها إلى سكن المعلِّمات، وركبنا التاكسي شاكرة فاطمة بحرارة وقبَّلتُها متفقين على اللقاء قريبًا فقالت ما أوجعني ببساطة وعفوية:

- أحمد بدّه يشوفش فاطمة، ما تتصوري كيف خطابش سوّى فيه، صار متيَّم بي بفضلش فاطمة.

وتركتها بنظرة طويلة شاردة لعجلة من أمري لألحق بأماني التي وقفت تاكسي، وفجأة اكتأبت نفسي وأخذت إيقاعًا مختلفًا عن جو الفرحة والألفة والود الذي ملأ سماء الأخريين وأنا أتساءل: لماذا يا ربي اقتصر دوري في الحياة على دور الفدائية وفاعلة الخير بداية من مشواري المتعرج وزواجي ورحمي المعطوبة وطلاقي ثم موت زوجي في ليلة دخلتننا؟ أكثر ما أحببت وتمنيت له الخير في حياتي حتى بعد فراقنا، هل أنا امرأة أم ظل امرأة باهتة لا تصلح لشيء غير إسعاد الآخرين، والتضحية من أجلهم مهما أخطأن في حقها؟ يا إلهي لقد مللت، بل كرهت هذا الدور، كأنني كائن من كوكب آخر، لا أرتبط بالخيط البشري في شيء. كفى خيرًا، كفى نيات حسنة وطيبة، أريد حقدًا وحسدًا والشر مثل كل الآخرين. كرهت دور المهرج الذي عليه أن يطلق نكاتَه وفكاهاتِه ليسعد السلطان وحاشيته، ويجلب البهجة والمرح بشتى الطرق. فأجهشت في بكاء حارٍّ ودفين وعميق دون أن أعي أننا ما زلنا في التاكسي، فدُهِشَت أماني واحتضنتني قائلة:

- مالك يا فاطمة؟ انتي لسه زعلانة مني؟ علشان خاطري كفاية يا فاطمة.

ووقف السائق يبدي تعاطفه وإذا كان من الممكن تقديم أي مساعدة، ففاجأته بالقول وقد مسحت دموعي وأزحت أماني عنِّي بعصبية وحدَّة:

- لأ لو سمحت، وصّلنا بسرعة، إحنا اتأخرنا.

وصلنا إلى سكن المعلِّمات، وأنا أعلم أن أماني تشعر بالأسف الشديد والندم، وكنت في مزاج متعكر لا أبالي بما تظنُّه أو تحسُّ به، فلتذهب إلى الجحيم، بل ليذهبن جميعهن إلى الجحيم، ثم قلت لها بحزم:

- السفر الأسبوع الجاي... ما فيش مكافأة، هتقبضي راتبك بس اتخصم منه أيام غيابك... والتذكرة بدون عودة، تفنيش نهائي.

وتركتها ذاهبة إلى غرقتي مباشرة، وقبل أن أضع يدي على مقبض الباب فتحت لي أبلة فوزية الباب وهي تنظر إليّ نظرات استغراب وقالت بأسلوبها التهكُّمي:

- كنتي فين يا فاطمة انتي وأماني؟ وكانت صايعة فين الأيام اللي فاتت...؟ إيه اللي لمّ الشامي ع المغربي؟ دي حتى أماني تطيق العمى ولا تطيقكيش... ولاّ نسيتي اللي عملته فيكي.

أثارت كلمتها الأخيرة غضبي كمن أصابته لوثة وقد توترت أعصابي واستفاض كمدي وضيقي:

- أبلة فوزية، اخرجي بره... مش عايزة اشوف حدّ... عايزة انام... كفاية حرام عليكو، انتم عايزين مني إيه؟ عايزة انام، اخرجي بره... بره عايزة انام... اخرجي بره...

وظللت أصرخ فيها بكل جوارحي المشتعلة كالبركان ففتحت فاها فاغرة من صراخي فيها:

- طيب يا فاطمة، مالك؟ ما كانش قصدي والله، طيب هاخرج... ربنا يهديكي يا بنتي...

لم يمرّ الأمر على عقل الكفيل الذي تساءل بضيق:

- موفيها أماني؟ ليش تطلع صهاريج المدرسة؟ وليش تغيب؟ وليش تسافر؟

تردّ ابتسام بنبرة باردة وهادئة بنفس لهجته التي التقطتها:

- ما فيها شي... تبغي تسافر، إيش اسوي؟

فقال:

- ليش تسافر حسب ما تقولوا انتم المصريين؟ شوطة وجات المعلِّمات عبير وسهام وإلهام وسعاد ومواسمها أماني! انتو المصريات ملعونات، تريدوا تخربوا بيتي! كيف تصير مدرسة بدون معلِّمات؟!

وسار عنها ضاربًا كفًّا بكفٍّ تعجُّبًا وسخطًا:

- لا إله إلاّ الله محمد رسول الله على المصريات، ما عندهم عقل! والله صحيح ناقصات عقل ودين.

سافرت أماني وقد بُهِتَت حين جاء الطير الأخرس ليحمل حقائبها ويقودها إلى المطار ليكون انتهاءً مروعًا لكل حكايتنا عن أماني، السيدة الأولى التي عرفتها في حياتي تمارس الجنس من الخلف ببراعة وإجادة منقطعة النظير حتى فقدت عذريتها.

انتهاء الوقت وأعظم الأشياء والبشر، أعرف أنه من طبيعة الأمور أن يحدث، لكن فراق سيف يكاد أن يصيبني بسكتة قلبية، ألا أراه مرة ثانية في حياتي القادمة مطلقًا ودقات قلبي أسمع صوتها كلما رأيت الحقائب السوداء وغير السوداء بكل الأحجام تغلق بأقفال ذهبية ورصاصية اللون إيذانًا بالرحيل، وسيرحل سيف ولن أتمكن حتى من سماع صوته في تلك البلدة الأخرى، وستسخر أمه من كل توسلاتي وقد تهزأ بي مرة أخرى بكل إجحاف لقولها لي مرة ثانية كمن يطعن طعنات عديدة إمعانًا في القتل بينما الضحية ماتت من الطعنة الأولى الفاصلة في قلبي:

- إنتي ناسية يا فاطمة انك ما بتخلفيش؟

آه يا ربي! كُتب عليّ شقاء الحب، هل لأنني لا أمتلك شقاء الكره مثل كل الآخرين؟

اليوم سأخطّ في مذكراتي الخميس الأخير لي ولكل الأخريات الراحلات إلى الوطن وغير الوطن لرحلة بلا عودة بعضهن إلى بعض، التي بدأتها عبير وسهام أماني وسعاد وإلهام ومعلِّمة تُدعَى نُهَى للزواج والاستقرار في مصر، وأنا إلى سمايل للعمل وأول شيء سأضعه في حقيبتي صورة قمت ببروزتها بإطار أسود لامع تتخلله خيوط ذهبية اختاره لي المصور الهندي، وفيها سيف يرتدي زي بلياتشو ألوانه زاهية وعديدة أصفر وأحمر وأزرق وأخضر، كوكتيل ألوان تناسقت مع كنهه بلياتشو وباروكة شعر منكوشة لونها أحمر قانٍ مع قمطة توضع على الأنف بلون الباروكة الوبرية الشعر، وقد اختاره سيف من بين العديد من الملابس في قسم الأطفال بمول كارفور، وقد زقزق رُوحُه وهو يهلِّل بفرح ويشير بيده:

- عايز دا يا ماما فاطمة.

فرفعته من الأرض أحمله ذاهبَين لشرائه.

صوَّرته بأشكال عدة وهو يرتديه، واخترت إحداها التي تجمعني معه وقد نزعت الطرحة وفردت شعري وجعلته منسابًا وخصلات تتدلى على جبهتي، وصبغت فمي بلون أحمر قانٍ لون باروكة شعر وقمطة البلياتشو لتتناسب مع البلياتشو سيف. احتضنت الصورة وظللت أقبِّله داخل الصورة حتى وقف طوفان الدموع تجلُّدًا فقادني العجز عن ذلك إلى مزيد من الدموع فوضعت الصورة جانبًا على المكتب واتكأت برأسي على ساعدي كأنني في بحر من الأحزان بلا قرار.

وهكذا مرَّ العام الدراسي الأول ليرحل عنِّي البلياتشو الصغير، وأرحل أنا إلى تلك البلدة التي تاه اسمها عن ذاكرتي للتعليم صباحًا ومساءً في مركز خاصٍّ لتعليم اللغة الإنجليزية ودورات حاسب آلي في دورات طويلة أو قصيرة أو مكثَّفة كل على حسب، وهذا المعهد تديره سيدة مصرية معروفة، لأنها لم ترحل عن عمان منذ أربعين عاما تقريبًا، وقد تجاوزت الآن الستين من عمرها تُدعَى فاطمة عبد الناصر.

 

الفصل الثامن
طائر الموت الأسود
لا ينبغي الاستسلام للغمِّ أمام وجه فاطمة عبد الناصر تحت وقعها السحري عندما لامست شفتاها خدِّي تقبِّلني ترحابًا بقدومي للعمل معها في معهد سمايل بعد رحيل السابقة لي في العمل هنا، وأنا في دهشة لسير الأمور بهذه البساطة وقد هزَّت كتفيها قائلة:

- نورتي سمايل كلها يا فاطمة، وكمان اسمك زي اسمي!

ألقيت عليها نظرة مُثقَلة بالقلق على الأحداث الجديدة المحيطة بي بعد كل ما مر في مسقط، وشعرت بإرهاق الرحلة الماضية من حياتي، كأني قدمت إلى فاطمة عبد الناصر لأتوب وأعيش في كنفها بأمان ودفء أغدقَته عليّ فاطمة عبد الناصر، والأستاذ عبد العزيز العماني الذي يشاركني التدريس، ومحمد المصري معلِّم الحاسب الآلي الجديد أيضًا هنا، وأسرة الدكتور عبد الله في ووي أصدقاء عمر فاطمة عبد الناصر التي تقضي إجازتها الأسبوعية في مسكنهم. ووجدت الأسرة المصرية تجرُّني لأذيال الكنف الأسري المتماسك وهم ينيرون سبيلي إلى الحياة الجديدة، واخترقت فاطمة عبد الناصر قلقي وتوتري بكلماتها الدافئة العذبة:

- ماتخافيش يا فاطمة، إنتي زيّ بنتي... هنا هترتاحي معانا قوي.

واستأنفت تربت على كتفي:

- هتشوفي يا فاطمة.

أغطُّ في نوم هادئ، فقد كان الوقت ليلاً حالكًا، أنتظر بزوغ وجه شمس ساطعة، أشرقت نور حياة لي هنا مع وجه فاطمة عبد الناصر الحنون البشوش. في الصباح رأيت بوضوح فاطمة عبد الناصر، التي تَعَدَّت سنواتها الستين مشدودة النحر، رغم مرور السنين، مصبوغة الشفتين بجذور شجرة الجوز، مكحولة العينين مخضوبة البنان بالحِنَّاء، مبهرجة من الرأس حتى أخمص القدمين في أثواب حريرية لامعة من جميع الألوان، مدعوكة ومرشوشة بالمساحيق المعطرة المصنوعة من الليمون والعنبر والياسمين والنيلوفر. وقد شرع وجهها إلى الأمام، تعبيرات عينيها غارقة في إنسانية عالية الصفاء والجلال والحنان، ذلك التعبير الذي افتقدته في وجه أمي منذ أن غادرت الوطن، مهما مرت السنون لن أنسى هذا الوجه الإنساني، فقد ظل محفورًا في خيالي وذاكرتي أستقي منه شوقًا لا يرتوي إلى عوالم فاطمة عبد الناصر الملائكية وسط غبش التجاعيد، التي كانت تقطِّب حاجبَيها كثيرًا وتتضح أكثر عند انزعاجها، فيستحيل محوها عندما تبتسم، إلاّ أنها لم تكن قَطّ كتجاعيد جدتي التي يغطيها هذا المظهر العابس أو تلك الدوائر المزرقّة أسفل أعيُن جدتي والزغب في وجهها والبصيلات في أقدامها واضحة، بينما فاطمة عبد الناصر سمهرية، حريرية، ومتلألئة في كيانها الناعم، ليِّنة في رأسها الذي يميل كأنما يثقل على رقبتها، وهي تمد يديها للمصافحة والحفاوة بك تجلِّلها ابتسامة عريضة تلقائية وحقيقية. في سمايل لم أقطن في فيلاَّت تتكون من طابقين أو ثلاثة، ولم تكُن البنايات مطلية كلها باللون الأبيض مثل البيوت في مسقط، بل عمارات متوسطة الارتفاع بها شقق منفردة كل منها على حدة، ومختلفة الألوان على حسب مزاج مَن يرتاد المكان وكان عملي وسكني الجديدان في عمارة في حيّ راقٍ في سمايل في الدور الثاني، شقتين متقابلتين إحداهما عليها لافتة كبيرة مكتوب عليها بخط عربي جميل "معهد المراتب لتعليم اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي"، فضحكت؛ المراتب! ما هذا الاسم العجيب؟ وقلت في نفسي تفكُّهًا: أين النكتة المصرية لتلتقط هذا الاسم العجيب لتقسم عليه القفشات والنكات البذيئة؟

في الشقة المقابلة كان سكني مع الأستاذة المبجَّلة مديرة المعهد فاطمة عبد الناصر وحجرة تقريبًا منفصلة عن الشقة بحمام للمعلِّم الجديد محمد المصري الآتي من إحدى المحافظات سعيًا للعمل هنا، لأن زوجته تعمل مدرسة كيمياء في الغبرة(9) ومعها ابناهما، ويذهب لرؤيتهما مساء كل أربعاء بسيارته الخاصَّة، التي كانت أول شيء اقتناه عند تسلمه العمل في سمايل ليسهل أمر الانتقال إلى أسرته، ففراقه عدة أيام أفضل من فراق يتجدد بالزيارة شهرين في السنة في الإجازة الصيفية في مصر.

سوف أشارك الأستاذ عبد العزيز العربي الأصل من أسرة تُدعَى آل بن راشد وليس في عائلته أي عناصر غربية، مثل البلوش أو متزوجون بنسب غير عربي مثل بعض الأسر في عمان، خريج جامعة السلطان قابوس قسم تجارة إنجليزي بتفوق يتقاضى عنه راتبًا شهريًّا، هذا بالإضافة إلى أنه التحق بجامعة عين شمس وأتمَّ دراسة كلية الآداب قسم اللغات الشرقية قسم العبري، وتخصص في الدراسة اليهودية، ويعمل في النهار مدرسًا مساعدًا في البحرية، يعلِّم ضباط البحرية إتقان اللغة الإنجليزية، صاحب ثقافة إنجليزية واسعة، ومُغرَم بالفن والتاريخ الفرعوني والقراءة فيه بتوسُّع وشغف ووله أقرب إلى التقديس. وفي المساء يعطي كورسات للمهتمين باستكمال دراساتهم في أوربا وبخاصَّة بريطانيا للعلاقة الوثيقة بين البلدين ومنهم من يسعى للتقديم في شركات أجنبية ضخمة ومتعددة الجنسيات في قواعد كثيرة من عمان في ميدان البترول والصناعة والتجارة ويطمع أصحابها في الالتحاق بالعمل بها ويشترط الإجادة التامة للغة الإنجليزية، ويبدو أن هذا عمل تطوعي أكثر منه استفادة مادية مجزية له في المعهد، لصداقة ومودَّة شديدة بين الأستاذة فاطمة عبد الناصر وبينه.

أما أنا فاختصاصي تعليم المبتدئين سواء كانوا في المرحلة الثانوية أو في الجامعة ويحتاجون إلى دراسة مناهجهم الدراسية فقط لا غير.

أًصابتني لوثة بالدهشة مِمَّا رأت عيناي وأنا أتجول في أرجاء القاعة فوجدت أن القاعة بأكملها مغطاة برفوف خشبية وقد امتلأت بالمجلدات الصغيرة المصفوفة بنظام وفن عالٍ والكتابة الدقيقة المذهَّبة في كعوبها الجلدية الداكنة، وألوان المجلدات متعددة ومتباينة ومتناسقة بين البني والأحمر والأزرق وكل ألوان الطيف فكأنك في حديقة أزهار فاتنة وأنت تتعلم وسط هذه الحديقة المزدهرة فيضًا من الكتب الملونة التجليد، بينما رفوف الكتب مصنوعة من خشب الماهوجني، ومكتب كبير في ركن من أركان القاعة، عليه عدد ضخم من الأفلام لبرامج وتمثيليات تعليمية متراصَّة بنظام، أيضًا كان هناك دلة قهوة زرقاء وفنجانان موضوعان على طاولة بيضاء مصنوعة من حديد مدهون أبيض مشغول، ومغطاة بمفرش وردي، وكان هذا الركن مؤثَّثًا بأريكة ومقعد ذي مسند لونهما فاتح، وقماشهما يخلو من النقوش مصنوع من نسيج لامع يشبه الساتان.

ثلاث سجاجيد تفترش أغلب مساحة القاعة، لونها بني غامق بلا نقوش، بينما تقبع في السقف ثُرَيَّا كبيرة فخمة وفي الثنايا مصابيح عديدة رقيقة بدوية الصنع تشعُّ ضوء خفيضًا فخمة فأشعرتني أننا في حجرة تعقيم تخصّ الأطباء، وبين ثنايا الرفوف الخالية، ينتشر العديد من المقالات الملصقة على الجدران والمنزوعة من جرائد أجنبية أو عربية مثل: أساليب التعليم الصحيح للغات الأجنبية - السفر إلى بريطانيا هو الحل - عناصر الاستمرار في تعلُّم اللغة الإنجليزية - حساب النفس بعد كل درس - النظرة الباردة لاحتواء الفشل في نطق سليم - مقاومة الذات أمام بطء الإدراك في أثناء التعلم... في ركن بعينه تتناثر رسوم فرعونية ومقولات من كتاب "الخروج إلى النهار" (الموتى) كصورة فرعونية مصوَّرة بدقة مكتوب أسفلها "مقبرة نفرتاري"، تحفة فنية في روعة صورها وجمال ألوانها، بل إنها تُعَدُّ من أجمل المقابر في وداي الملكات على الإطلاق، واكتُشفت هذه المقبرة على يد العالم الإيطالي شيباريللي عام 1904، وبجانبها عدد من الصور: صورة ماعت - مقبرة نفرتاري - وادي الملوك بالأقصر - صورة نفرتاري في أبي سمبل الذي بناه رمسيس الثاني خصيصًا من أجل زوجته نفرتاري حيث يقول: "هنا في قلب الخلود، بنيت معبدًا لزوجتي ومحبوبتي نفرتاري التي تشرق الشمس من أجلها" حتى نقرأ بخط عربي سميك ومحفورة حروفه بجمال ولمعان يبدو أنه حديث الكتابة قائلاً كمن يحدِّث نفسه: "أنا الجمال مرادف نفرتاري، وأنا من نفرتاري، التي يعني اسمها في اللغة المصرية القديمة [جميلة الجميلات]، أما هي فكان يحلو لها أن تطلق على نفسها لقب [حبيبة الشمس]، وتصف نفسها بـ[الباحثة عن الحق التي لا ينطق صوتها إلاّ بالحق]، ونراها كثيرًا مع إله الحق والحكمة والمعرفة تحوت، ومع ربة العدل والاعتدال والتناغم والانسجام ماعت".

بُهِتُّ والدهشة تعصرني، وكدت يُغمَى عليّ وأنا أشعر بدوار كدوار البحر، وأغمضت عينَيَّ لبرهة من الوقت، وقد أصابت نظري زغللة وتشوُّش من تلاحق الصور والبوسترات لهذا الزخم الفرعوني المغمور بثقافة إنجليزية وعربية في تلاقي حضارات من الشرق والغرب.

... حتى تسربلت إليّ نبرة صوت مثقلة باللوم والعتاب، وقد التقط خيط أفكاري بجراءة وذكاء:

- مشكلتكم أنتم المصريين، أنكم تظنُّون ظنًّا خطأً منكم ومن التاريخ أننا نحن العرب للأسف ما زلنا نركب الجمال ونسير في الصحراء وتحكمنا البداوة ونلهث وراء المرأة المصرية أو أي امرأة بلوثة وتوحُّش حيواني، أننا أغبياء، بوهيميون بعد، لا نعرف العقل والمنطق معًا.

فالتفتُّ بانزعاج لأبادر بسؤال بديهي، فأجابني عنه بمجرد أن التقى نظرانا متواجهَين، وكانت النبرة رقيقة وهادئة هذه المرة وهو يقول وهو يبتسم:

- آسف، ما عرّفتكيش بنفسي قبل كده، وأول مرة نشوف بعض. أنا الأستاذ عبد العزيز زميلك في التدريس.

فاستغربت لهجته التي تَبدّلَت إلى العامية المصرية، فاستمرّ في الإجابة عن كل تساؤلاتي كجرَّاح محنَّك ينزع بمشرطه الآفات من عقلي بهدوء ودقة:

- باتكلم مصري كويس، أنا عشت في مصر واتعلمت فيها كمان أكتر من أربع سنوات، وبازورها تقريبًا كل سنة للسياحة والمعرفة والثقافة، وليه أصدقاء هناك نتراسل ونودّ بعضنا.

تلعثمت وسكتّ لا أعلم ماذا أقول تعليقًا يناسب كلامه وروحه الطاغي على هذا المكان الطاغي أيضًا كأنهما وحشان يتنافسان على القوة والطغيان، فبدا أمري يخلو من اللياقة فعلاً، وحولت نظري بالصدفة إلى رسم فرعوني لذبابة ذهبية بديعة الشكل مكتوب في أعلاها "قلادة البسالة - المتحف المصري في القاهرة"، فسار بخطوات ثابتة ووقف بجانبي يخبرني معلِّقًا بإعجاب شديد:

- قيل إن المصريين القدماء وجدوا في الذباب رمزًا ذكيًّا للعدوّ، فالعدوّ دائمًا عنيد، يصعب التخلُّص منه،مثل الذباب تمامًا.

ثم بادرني بنظرة دافئة وأليفة مبالَغ فيها محاولاً أن يمحو حِدَّتَه الأولى في الحديث معي وتفوَّه بلهجته:

- إيش رأيش أستاذة في فنجان قهوة مع نوع حلوش، لا أظنش ذقتيها من قبل. فيه كافيه قريب من المعهد قبل ما تبدئي التدريس.

فابتسمت أهز رأسي موافقة، وحين خروجنا كانت المبخرة العمانية الأصلية دقيقة الصنع، كتحفة فنية، تتوهج ببخور عماني رائحته طيبة ومباركة، تقبع في القاعة كملاك حارس لعبق هذا التاريخ المصري القديم والثقافات المتناثرة على الحوائط والرفوف والمكتب والطاولات. كل شيء في القاعة كمن تتدلى ألسنتهم بفحيح كفحيح حيَّات شرسة لا تقاوَم، وانحصرت حياتي كرقعة الشطرنج بين السمت الطاهر النوراني على وجه فاطمة عبد الناصر الذي أراه كل صباحَ مساءَ بإقبال شديد وحنان غزير أنهل من بئره كما أريد، وهي تزيل عنِّي بكل قدرة ممكنة حزني الدفين من غير أن أحتاج إلى إخبارها عن كل آلامي الماضية، فتقرأ لي الطالع من راحة يدي، كأنها تقرأ في صفحة مدعوكة من كتاب مفتوح ونحن نحتسي القهوة العمانية اللذيذة المرارة والتي أدمنتها معها هي والأستاذ عبد العزيز وتحكي لي حكايات وحواديت عديدة عن حياتها الماضية وحياة آخرين رحلوا عنها وهي محزونة حقًّا لفراقهم، وتتنبأ لي بأشياء تصدق أو لا تصدق حتى يأتيها النعاس وتأمرني أن أقطر لها بقطرة العين لتخمد التهاب عينيها المحمرتين، بينما الأستاذ عبد العزيز يخاطبني باعتباره دائمًا شخصًا متعلِّمًا ويريد أن يُشعِرَني أنه شخص مثقف ولا يجب أن أخشى جانبه، فبدأت أطمئنّ إليه.

ورغم تلك الإحاطة السعيدة، كنت أختلس ولو ساعة قبل استيقاظ فاطمة عبد الناصر صباح الخميس وأتسلل إلى قاعة التدريس وأجلس على طاولة عبد العزيز بين حديقة الكتب وأخُطُّ ما يملأ ذاكرتي من حكايات لا تنتهي في مذكراتي، يوميات العباقرة، ثم نذهب لزيارة عائلة الدكتور عبد الله البهائية لنقضي الخميس ونعود مساء الجمعة، ولا تتخلى فاطمة عبد الناصر عن تلك الزيارة الأسبوعية مهما حدث. كل سر من أسرار حياة فاطمة عبد الناصر تُفشِيه لي هو بمثابة قطعة من جلد اندثر في تجاعيد يديها المعروقتين، ولحمها المكرمش الذي مع توالي سنوات العمر يفقد لونه المزدهر النابض بدماء الشباب والحياة، حتى تظهر ملامح الجمود والعصيان على الوجه الذي أصبح غائرًا بتجاعيد أخدودية ليبهت لونه ثم تتساقط الأسنان والشعر ثم الدم والعقل والروح وأخيرًا تزهد الحياة وتنتظر باب الموت بتحضير كفن يليق بأدائها الحياتي، رغم طيبتها وحنانها المتدفق، لا دخل لها في هذا، إنها سُنَّة الحياة التي ندركها جميعًا ولا نتكاسل في دأب للدخول في مضمارها إلى النهاية.

سافرت فاطمة عبد الناصر بعد الهزيمة سنة 1970، وهي لا تذكر عن الحرب غير حادثة مضحكة ومروِّعة حيث قالت: كنت في عهد الشباب وتمَّت خطبتي، ثم سافرت مع زوجي إلى عمان، في ذاك الحين كنا في أيام الحرب، وأذكر جلستنا أنا وأمي وأبي وإخوتي الصغار، نستمع إلى راديو خشبي إلى البيانات الكاذبة في حرب 67 التي تقول وهي تعظِّم قوَّتنا العسكرية إننا أوقعنا 100 طائرة، إننا نهزم العدو... وفجأة انفجر الراديو، فوجلنا وفزعنا وارتبكنا وجرينا نختبئ وقد حسبنا أن قنبلة ستسقط علينا! ضحكنا ضحكًا ممرورًا وأمي تزعق وتعاتب أبي لأنه منعها أن تبيع الراديو بثلاثين جنيهًا حتى نسمع بيانات الحرب الكاذبة، وتسخر منه أمي قائلة: "أهو الراديو اللي انفجر في وشنا، لا انتصرنا ولا هيجيب 30 جنيه ولا مليم احمر". كنت أنا وزوجي نعمل في الشؤون الاجتماعية، اشتغلنا كثيرًا، وأعطينا كل جهدنا وإخلاصنا لذلك البلد الذي يفتح فمه لكل جديد، حصلنا على مال وميداليات ذهبية وفضية وأوسمة تشيد بإخلاصنا في رفعة شأن هذا البلد في بداياته قبل أن تحدث هذه الطفرة الحديثة، التي لا بد أننا نحن المصريين شاركنا ولو بجزء فيها، أنجبت أولادي الأربعة هنا، حتى كبروا وتزوجوا في مصر. في أول الأمر كنت لا أزور مصر إلاّ كل سنتين، حتى ماتت أمي ولم أعد أزورها إلاّ كل خمس سنوات، ثم مات زوجي فلم أعد إلى مصر منذ عشر سنوات، كان آخر شيء لي في مصر شقة الزوجية القديمة في كفر الشيخ، أعطيتها لابني الأخير ليتزوج فيها، ووضع الأثاث في غرفة كراكيب على السطح، فلم يعد له مكان، انفصل عنِّي الوطن، ولم أعد أريد من أبنائي غير أن يتذكروا بعد موتي أن يأخذوني لأُدفَن بجانب زوجي في مقابر اشتراها لنا في كفر الشيخ.

فتضحك وهي تخبرني عن أمنيتها الأخيرة الغريبة، أنها تحتفظ بملس فلاّحات أسود كريشة يخصّ أمها، تتمنى أن تتكفن به، ولكن هل سمعنا عن كفن أسود؟ وهل للموتى رأي في شيء حين يُدفَنون؟ كل ما تخشاه غضب الكفيل. بعد المعاش عرض عليها الكفيل إدارة المعهد لكنها مرنة في إدارته إلى حد مبالَغ فيه، لطمع الكثيرين في سخائها لسيرتها الطيبة، بتقليل المصروفات لبعض الدارسين وأحيانًا لا يدفعون الرسوم المطلوبة بحجة عدم استطاعتهم، وربما استغلالاً لطيبتها، بالإضافة إلى مجاملات الأستاذ عبد العزيز لبعض أصدقائه الذين يتعلمون كورسات كاملة ولا يدفعون إلاّ نصف أو ربع المبلغ المستحَقّ، فاستاء الكفيل من هذه المعاملات، فهذا مكان مؤجر له تكاليف ومستلزمات كهرباء وماء وشقة أخرى مؤجَّرة للسكن، يجب أن يسدد المعهد تكاليفه لا أن يكون زائدًا وعالة على نفقة الكفيل، فهذا عمل لا معهد للصدقات والمحبة. تحاول فاطمة عبد الناصر أن تستكمل مصاريف المعهد بأي شكل، حتى تُضطرّ في آخر الشهر إلى نقص راتبها الذي تتقاضاه، فهذا وطنها الآن الذي أفنت فيه شبابها وحياتها وليس لها من مكان آخر تذهب إليه، إحساس مرعب حقًّا أن يؤكل الإنسان حيًّا، فهذا ما تسرقه منا جميعًا الشيخوخة وانتظار الموت، عندما نصل إلى عدم القدرة على أن نهيمن على شيء، أو السماح لك بالاختيار، وقد أمست مجرد لحظات في حيواتنا، فقط لحظات دون أي تفسير أو منطق يقودها العبث ويغيب الندم والمستقبل والذاكرة، وتتحول إلى تراب تدوسه الأقدام بكل شراسة.

أسرة الدكتور عبد الله تعيش في مدينة تجارية مشهورة اسمها روي تعجّ بالهنود والباكستانيين والفلبينيين، والمحلات التجارية تتراصّ في كل مكان شوارع بأكملها، حتى المباني التي تحتفظ في الكثير منها باللون الأبيض مثل بيوت مسقط ولكنها عمارات بجانبها دكاكين صغيرة تبيع كل الأغراض، وكلما رفعت رأسي لا أرى إلاّ عمالاً هنودًا أو آسيويين جلود وجوههم متشابهة كأنهم تخلقوا من ماكينة واحدة بنفس الفورم مع اختلاف طفيف، وفروات رؤوسهم خشنة، مجذبة، وأسنانهم تالفة وأعينهم ذابلة، الصورة مُقبِضة والناس يعملون في دأب كالنمل، يطاردهم خوف غامض لا يمكن إدراك كنهه، لا يَعُون ما حولهم من فرط الإرهاق في العمل والتوتر، لا شك أن عبء كل هذا على مشاعرهم ضاغط وهم يغرقون أنفسهم في العمل حتى يفروا من هذا القبح، ويرطنون بلهجات تخصّ لغتهم التي بالطبع لا أفهمها لكني أراها مطبوعة بوضوح على تعبيرات وجوههم وإشارات أيدي بعضهم لبعض.

ريم ابنة الدكتور عبد الله الوحيدة مع أخوين يعملان أيضًا في عمان، كانت في منتصف العشرينيات متوسطة القامة، رشيقة القوام نحاسية البشرة، يميل وجهها إلى الطول في نقاء ورواء، عاشت وتربت في عمان منذ الطفولة، ولم تترك عمان إلاّ عند التحاقها بالجامعة المصرية في القاهرة، ثم عادت إليها بعد التخرُّج للزواج بطبيب مصري يعمل هنا في عمان وتقريبًا سيقضيان حياتهما المستقبلية هنا، وهي سعيدة ومسرورة جدًّا لهذا الحظِّ الذي أتاح لها البقاء، فهي تحب هذا البلد وتشعر بانتماء حقيقي إليه، رغم أنه الوطن المستعار، وعندما استغربت هذه الكتل البشرية المتجمعة في كل الأماكن تقريبًا ضحكَت وهي تخبرني أن هؤلاء هم العمالة الحقيقية لعمان، فالهندي هو الرفيق المفضل لدى العماني في كل شيء حتى الخادمة يفضلونها هندية، وإن كنت أسمع ظهور بعض الاعتراضات العمانية من السلطات العليا والسعي لترحيل العمالة الزائدة، لدفع العمانيين للعمل في الأعمال الشاقة حماية من البطالة التي بدأت تنتشر بين الشباب، فمهما استمر الأمر لسنين طويلة، فهم في نهاية الأمر غرباء وسيرحل على الأقل بعض منهم عند بدء تطبيق قانون التعميم الجديد، ولن يبقى إلاّ الكفاءة والوساطة.

الدكتور عبد الله، دكتور متفرغ الآن، لا يحاضر في الجامعة، لكنه لا يزال يشارك كمستشار في العديد من المؤتمرات والأعمال البحثية، وعضو في عدة لجان علمية، مؤلف لعدد من الكتب التي تدرس وأبحاث ودراسات تخصّ مجال العلم الذي تخصص فيه من تلك العلوم النظرية، لا أعرف ما هي بالتحديد، إلاّ أنه يبدو لي شخصًا غريب الأطوار، رغم تهذيبه وكرم ضيافته. شخصً صموت يلبس نظارة طبية خلف عينين صغيرتين دقيقتين تنمَّان عن دهاء وذكاء شديدَين، ومعالم وجهه تغوص في روب حريري منمَّق وجميل الشكل لونه أزرق غامق أسبغ على مُحَيَّاه قدرًا من الكبرياء واعتدادًا بالنفس وثقة فبدا لي مترفعًا إلى حد كبير، ولن أستطيع -مهما حاولت استدراجه إلى حوار يمتصّ فضول المعرفة والبحث الذي يحيّر عقلي، لا أراه جالسًا إلاّ في مكتبه يسبح في بحر من الكتب المتراصَّة في مكتبة عملاقة وتتناثر الكتب في كل مكان، حتى الحمَّام به عديد من المجلات والجرائد بكل اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية ورفّ كامل مرصوص عليه علب قطيفة خاصَّة بجوائز عديدة وأوسمة وشهادات وأعلاه صورة كبيرة مبروزة بإطار ذهبي لامع يسلم فيها الدكتور على السلطان ذات نفسه.

وأذهب عادة لتحيته في مكتبه الذي لا يغادره تقريبًا، لمحت كتبًا عديدة تخصّ الديانة البهائية وصورة كبيرة معلقة على الحائط تخصّ منزلاً كبيرًا أشبه بالقصر، لم أقدر على الاقتراب منها حرجًا وإن كنت استطعت أن أقرأ ما أسفل الصورة (بيت العدل الأعظم المركز الإداري البهائي العالمي على جبل الكرمل في حيفا). تحفُّظه وقلة كلامه منعاني من السؤال الملحّ: ما هذا؟ أنت بهائي لا مسلم مثلنا؟ حتى حصلت على الإجابة خلسة من الأستاذة فاطمة في أثناء الحديث العابر دون أن تدخل معي في أي تفاصيل تلك الديانة التي كنت حتى لا أعلم اسمها.

أسرة الدكتور عبد الله من سوهاج قرية الشورانية مركز مراغ سوهاج وبها أكثر من أسرة بهائية الديانة، في إحدى مرات زياراته لمصر هو وأسرته، اكتشف أن منزله نُهب وأُحرِقَ بكامله، وأن من فعل هذا أصحاب ملة أخرى من أهل قريته، لا يعرف بالضبط مسيحيون أم مسلمون، لم يبحث في الأمر وعاد إلى عمله في عُمان وقرَّر ألا يعود إلى مصر، وإن عاد فلن يعيش في قريته التي أنذرتهم بالطرد عند حريق بيته، فقد كانت البشارة في 2001 حيث قُبض على بعض من أفراد من الأسر البهائية في الشورانية من أجل شكاوى كيدية ضدهم، ووصل الأمر إلى ذروته عندما تم إحراق خمسة بيوت لأسر كاملة بإلقاء زجاجات مولوتوف مشتعلة قبل عيدهم عيد النيروز بأيام 21/3/2009، وهؤلاء الأهالي لا يستطيعون إلى الآن العودة مرة أخرى إلى ديارهم خوفًا من بطش الأهالي أصحاب الملل الأخرى وتكرار ما حدث. لا أعلم الكثير عن هذه الديانة، غير معلومات استقيتها من كمبيوتر ريم حيث إنها انتشرت في إيران ثم انتقلت واكتمل نموها في العراق، وموجودة في مصر وفي كل أنحاء العالم، وفي مصر يعانون الأمرَّين لاستخراج أوراقهم الرسمية، رغم صدور حكم قضائي بالاعتراف بهم وكتابة الديانة في البطاقة، فضلاً عن مطاردة الناس البسطاء لهم وعدم استيعابهم داخل المجتمع بشكل ودي وسلس في الأوساط الاجتماعية المصرية، والبهائية ولدت من الديانة الأم البائية أو من الباب والباب هو السيد علي محمد، هذا اللقب الذي أطلقه على نفسه كان له ما يبرره (فأنت لا يجوز لك أن تدخل البيت إلاّ من الباب، وبما أن الله هو مدينة العلم فلن تصل إليه إلاّ من خلال الباب أو من خلال السيد علي محمد أي أنه الواسطة إلى الله!).

وظللت أتابع على النت من كمبيوتر ريم وأنا أقرأ بحماسة حتى وصلت إلى الشريعة البهائية. أساس المذهب البائي الاعتقاد بوجود إله واحد أزلي ولكنهم يستمدُّون صفاءه من أساس العقيدة الباطنية التي ترى أن لكل شيء ظاهرًا وباطنًا، والاعتقاد بأن النبي أو الإمام في حياته مظهر من مظاهر الله على الأرض، أما الشرائع الطقسية لدى البهائيين فهي مزيج من عادات وتقاليد مختلفة عاصرتها البهائية أو انفردت بها ومنها شهر الصيام هو الشهر التاسع عشر الذي يلي أيام الضيافة (السنة البهائية مكونة من 19 شهرًا، كل شهر 19 يومًا، والمجموع 361، والأيام الباقية تسمى بأيام الهاء يقضونها في تفقد بعضهم بعضًا وفي مواساة الفقراء والضعفاء واليتامى وأبناء السبيل). شعرت بأقدام ريم رغم انهماكي في التطلع إلى شاشة الكمبيوتر كطفل غارق في ألعابه السحرية، فأطفأت الكمبيوتر فورًا، واقتربَت مني بلطف وودّ تقول:

- يلاّ يا فاطمة عشان اورّيكي روي، دي فيها حاجات حلوة قوي تجننك، لو معاكي مليون جنيه تصرفيهم وعايزة عليهم.

صمتُّ برهة لأبلع ريقي وتهدأ نفسي وأنا أشعر بجرم لاقتحامي عالمهم هكذا دونما استئذان منها، ثم سألتها بغتة وبصراحة وأنا أستعد لارتداء ملابسي فقلت لها بجرأة:

- ريم، إنتي هتتجوزي بهائي؟

ابتسمت بهدوء وحبور قائلة:

- طبعًا يا فاطمة.

واستأنفَت تقول:

- فيه إيه يا فاطمة؟ كلنا اخوات، ما تشغليش دماغك.

قلت:

- طبعًا يا ريم أنا مش قصدي.

وغاصت نفسي بعيدًا عنها تهمهم:

- أيوه كلنا اخوات، صحيح، لماذا لا نحتمل الآخرين؟ الدين لله، وكما يعتقدون، كل له أن يختار مِلَّته حسبما يريد، ويرى، أما الحياة فلنا نحن البشر وللآخرين، لهم أن يشاركونا الحياة فهي متسعة للجميع.

عرفت بفضولي أن الدكتور عبد الله يمتلك طبنجة إيطالية 12 طلقة، اشتراها من وقت طويل بثمانية عشر ألف جنيه، مرخَّصة، وكان عادة في بلده لا يقتنيها إلاّ في الأفراح، وهو يحضرها مرتديًا الجلابية الصعيدي والجبة والقفطان والصديري ليطلق تحية 12 طلقة في 5 جنيهات، يساوي 60 جنيهًا طلقا ناريًّا تحية لسيد الرجال في ليلة دخلته.

زوجة الدكتور عبد الله أيضًا صعيدية من سوهاج ولكن من قرية أخرى، وهي الوجه العكسي تمامًا لزوجها الكتوم المستغرق دوما بين كتبه وأبحاثه وأسفاره العلمية، ورغم أسفارها المتعددة مع زوجها وهجرتها عن الوطن منذ وقت طويل لا تزال تتحدث اللهجة الصعيدية بزهو واقتناع وهي تردد لكل من حولها قائلة:

- هو في زي الصعايدة؟ أجدع ناس.

زوجة ثرثارة وطيبة القلب، تأخذك من حكاية إلى حكاية كأنها مخزن حواديت لا يفرغ، وفي أثناء الحكي لا تتوانى عن تجهيز الطعام، وعادة لا تفارقها رغم تمرد زوجها والأبناء لأنها ليست في حاجة إلى ذلك، تحضر كميات هائلة من الخضراوات وتقوم بتخزينها بعد تشذيبها وتنظيفها في أكياس بلاستيكية مربوطة بحبال متساوية الحجم حتى لا تلجأ إلى الخضار المثلج وحتى العصائر وتضعهما في الديب فريزر الذي اشترته خصيصًا لتخزين ما تريده، ويضحك أبناؤها ويتفكهون مع أمهم قائلين:

- والنبي يا أمي في واحد صاحبي عنده مخزن بطاطس عايزك تساعديه علشان هيفتح مصنع شيبسي.

فترد بلهجتها التي ترنّ كخلخال فضي عتيق ترتديه في إحدى قدميها، أهدته لها أمها من يوم زواجها ولم تخلعه قط، حتى تعجّ الصالة ضحكًا عاليًا منا جميعًا ونحن جالسون لتقول:

- دهديه دهديه! دا احنا بنتبهدل على رأي صعايدة المنيا.

ثم تستطرد كأنها لم تقل شيئًا ونحن غارقون في الضحك:

- واد يا يوسف، جبت اللحمة البتلو اللي جُلتلك عليه من الهندي المسلم مش راخر الكافر...؟ جبت يا واد من أنهو واحد؟ انطك...

فللغرابة إن زوجة الدكتور عبد الله البهائي مسلمة، فالديانة البهائية تتيح الزواج من غير البهائية أو العكس بشرط إجراء عقد بهائي إلى جانب العقد غير البهائي، كانت سنها حين تزوجها لا تتجاوز السادسة عشرة، يكبرها بنحو خمسة عشر عامًا، طفلة بعد ومن أسرة متوسطة الحال، بينما الدكتور عبد الله شاب يعمل في جامعة المنيا، ومن أكبر عائلات الصعيد الجواني، رآها في إحدى زياراته لصديق له في نفس قريتها، فقرَّر أن يتزوجها، وهي سعدت وفرحت بتلك الزيجة عالية المقام، لم تفهم البهائية من عدمها، المهم أنها زيجة حلال وميسورة الحال، ولم تسأل يوما زوجها عن كونه بهائيًّا وما هذه الديانة، فقد أخذت الإعدادية فقط، كانت تمجِّده وتعتبره سيدها على الأرض وعليها أن تطيعه طاعة عمياء، فهو يحسن معاشرتها ويعطيها مفتاح مملكتها لتتصرف بها كما تشاء في تدبير أحوال المنزل وتربية الأبناء واقتناء الذهب الذي تعشقه ويتركز في اقتناء الغوايش الذهبية الثقيلة العيار بشرطها أن يكون عيار 24 لقيمته وعدم الخسارة فيه كثيرًا عندما تبدله بأشكال أخرى كل عام مع صديقة عمرها الأستاذة فاطمة عبد الناصر، لكن الدكتور عبد الله اعتبرها زوجة وأُمًّا وسيدة منزله، ولم يهتمَّ كثيرًا بتغيير ديانتها أو اقتناعها بمبادئ ديانته، بينما فعل هذا مع أبنائه الثلاثة منذ الصغر، وزوج ابنته بهائي أيضًا في المستقبل، ويتمنى أن يفعل هذا مع أبنائه الذكور، والزوجة لا تعترض، كل ما يهمها سعادة الزوج والأبناء ما دام زوجها يرى هذا، بينما تطلق على الهندي غير المسلم "كافر"، تلك الزوجة الثرثارة الطيبة القلب رغم ذلك كان بها من القوة والصرامة ما لا عهد للنساء به، وقد كان غضبها أحيانًا لا يستهان به وهي تحكي عن الحاسة السادسة التي امتلكتها مؤخرًا من حادثة مؤسفة تعرضت لها في عمان، هي أنها تشم رائحة العقارب، وتشعر بوجودهما بحسّ غامض يأتيها دون أن تراها، وذلك لأنه في إحدى المرات النادرة في حياتها، كانوا يعيشون في منزل غير هذا المنزل الحديث، وكان بيتًا قديمًا من طابق واحد في منطقة بعيدة عن المدن العامرة، وكانت نائمة وأحسَّت بقرصة العقرب الحادة وقد تدفقت في عروقها سخونة لاهبة ودوار أعمى أسقطها في الحال وفقدت الوعي، إلى أن أسعفها زوجها الذي كان -لحسن حظِّها- في البيت فنقلها سريعًا بالسيارة إلى أقرب مستشفى، وترك ولديه عند الجيران. لم تكن ريم قد جاءت بعد، وترك العقرب لم يقتلها، مشغولا بأمر زوجته الفاقدة الوعي، وفي أثناء وجوده في المستشفى اتصل بصديق طبيب صيدلي يعمل في مسقط فأخبره أن عليه أن يحضر مباشرة لأخذ قارورة كحول مركزة بدرجة 100% وأحضرها الدكتور عبد الله ثم عاد إلى بيته وهو متهيب كيف سيقتلها، واستجمع شجاعته وصب على العقرب وأشعل عود ثقاب، أشعلت النار أولاً ما حول الحيوان مكونة دائرة من اللهب الأزرق، وتوقفت العقرب في وضع مأساوي، كلاّباتها منصوبة إلى السقف، جسدها محاصَر، وقد لاحظ نابًا صغيرًا سامًّا على طرف غدتها، سكب دفعة أخرى كما أوصاه الطبيب أن يفعل فأحرقته على الفور. لم تستغرق العملية إلاّ دقائق معدودة، لكنه مكث يشاهد موتها الذي استغرق وقتًا، وقد دارت العقرب على نفسها وتشنج ذنبها وتقلصت وانكمشت على نفسها ثم همدت وطوت كلاّبها على بطنها في إشارة إلى الاستسلام للموت، وخمد اللهب المرتفع. عندما عادت إلى المنزل كانت مرتاعة، ومصممة أن تترك المنزل، فحاول تهدئتها وأراها مشهد موت العقرب وأحضر لها عدة قارورات كحول، ومبيدًا حشريًّا قويًّا تحسُّبا لأي حشرة، لكنها تشاءمت واكتأبت من هذا البيت، وصار الخوف والهلع يملؤها كلما حاولت النوم أو التجول في البيت خصوصًا في ساعات غياب زوجها في العمل والأولاد في المدرسة، إنها لم تكن لتخاف إلى حد الرعب هكذا، لو لم تستدعِ في ذاكرتها هذا الخوف المبرمَج من الحشرات لدى وعيها، وظلت ليالي طويلة لا تكفّ عن التقدير والتحليل وردّ الفعل والتفكير طويلاً في كيف ستواجهه مرة أخرى إذا حدث، فتبين أن عليها ابتداع نظام وقانون آخر للأمور، فهي وحدها التي اقتربت من هذا العالم الفطري، واشتدت بها رغبة عارمة أن تقذف بالخوف من الشباك وتحطم القيود التي تضغط على استيعابها فكرة الخوف الجائرة لتحل محلها موجة قوية من المقاومة تتراجع معها أفكارها السابقة عن الخوف، وهي تحسّ أن الزمن لا يمر وهي بمفردها في هذا المكان مع شبح الخوف الساكن فيصبح عنكبوتي الزحف داخل روحها وجسدها، حتى تماسّ شعورها مع وجود العقارب دون أن تراها بحسٍّ عالٍ وتشمّ رائحته بقوة.

حتى جاء يوم أثبت لها شعورها وإحساسها الذي تماسَّ مع الحاسَّة السادسة، وتأكدت أن لديها الحاسة السادسة. كانوا جميعًا جالسين كأسرة نموذجية يتناولون وجبة الغداء، فمالت هامسة في أذن زوجها وقد شحب وجهها:

- عبد الله، في الدولاب... دولاب العيال...

وكاد ينتهي من الطعام ويستعدّ لغفوة القيلولة فقال ساخطًا:

- هو في إيه يا سميرة؟ إنتي اتجننتي ولا إيه؟

ودون أن تتكلم، أخذته من يده إلى حجرة الأولاد، وأشارت قائلة برجاء واستعطاف:

- صدقني يا عبد الله، أنا شامّة ريحتهم وحاسَّة بيهم، دول كتير.

تأفف زوجها ولم يردّ عليها، حتى فتح خزانة الدولاب بعصبية وعدم تصديق، حتى شاهدهم، عقرب ومن فوقها أطفالها، فهُرع وقال صارخًا فيهم:

- اطلعوا بره، بره خالص، بره البيت، أنا هاتصرف.

وأحضر زجاجات الكحول جميعها وقام بالعمل نفسه.

يا إلهي! ماذا يريد مني هذا الفارس العربي ببشرته البنية الداكنة كالشوكولاتة، وعينيه البراقتين وشعره الأسود المجعَّد، ينظر إليّ بإمعان، يحثّني على التعلُّق به ليحتلّ مكانًا ويجول في خواطري وأفكاري، لا أشعر بارتياح نحو نظراته التي تعرِّيني من داخل داخل أعماقي وجسدي، يكاد يصل إلى تفاصيلي الخاصَّة جدًّا، فأهرب إلى الناحية الأخرى لأهرب من نظراته إليّ وأنكمش داخل جسدي لأتخلص من هذه الحالة المتوترة التي تحيطني بالكامل من عينيه اللتين تطفحان بذكاء نستطيع أن نطلق عليه "very brilliant view".

إلى أين أنت ذاهب بي؟ هل اخترتني كما اخترت شيئًا آخر بكبرياء كي تهرب من سطحية المجتمع العماني وحب المغامرة وأنت تسعى بطموح طاغٍ للحصول على منحة للسفر إلى بريطانيا، بالتحديد مدرسة اللغات الشرقية جامعة لندن قسم الدراسات اليهودية فرع عبري؟ ولماذا أنا؟ ولماذا الدراسات اليهودية؟ أسئلة ستدفعه أكثر إلى أن يسير في أثري وهو يقرؤها في عقلي بذكائه النادر، ينتظر فقط أن أسأل ونتحدث طويلاً طويلاً حتى أسقط. يا إلهي! إني خائفة ومترددة، لا يعلم أني ممتلئة بفيض من الأحزان ولا أحتاج إلى المزيد حتى يخترق كل حيرتي وعناء الحوار الداخلي قائلاً لي بصوت خفيض متعمدًا التحدث بالعامية المصرية:

- إيه رأيك يا أستاذة تحضري معايا حفل تدريبي لمعلمين عرب وأجانب بدعوة من مدرسة الفردوس الخاصَّة؟

هززت رأسي قائلة باستسلام:

- أوكي.

وافقت فاطمة عبد الناصر أن أذهب صباح الخميس مع الأستاذ عبد العزيز ببساطة وثقة وحب دفين بينهما تَوَلَّد ونما مع افتتاح المعهد منذ سنوات وبداية المعرفة التي استمرت. يجئ ويذهب الكثيرات للعمل لكن عبد العزيز شخص باقٍ، لا يتخلى عن التدريس فيه ثلاثة أيام في الأسبوع، رغم عمله في الصباح، واتفقت معه أن يوصلني بعد هذا التدريب إلى روي.

تلك المدرسة من أهمّ المدارس المميزة في سمايل، لاستخدامها وسائل تعليمية مبتكرة وبسيطة في نفس الوقت، كالرسم على الحوائط، واستخدام أدوات الطبيعة التي تخرج طاقات التلاميذ ومواهبهم، وحثّهم على تطويرها بشتى الطرق، فقد أذهلني ما رأيته عندما دخلت بهو المدرسة، كان معرضًا مجسَّمًا لمزرعة حيوانات كاملة مصنوعة من الخيش والقطن وعلب العصير الكرتونية الفارغة وألوان الرشّ لحبات ثوم ملوَّن، وقمح وعديد من البقول الطبيعية الملونة وزهريات من الورق، وأشياء لا حصر لها مبتكَرة بإبداع ورخيصة التكاليف، وهذا هو الهدف، تدعيم الابتكار الفني البسيط لطرح الموهبة بأقل التكاليف.

مسز ميشيل ومستر روبرت من أهم الشخصيات التي كانت على رأس الحفل من إدارة المدارس الخاصَّة، بالإضافة إلى كثير من المعلمين المصريين والأجانب الإنجليز أو الهنود أو الزنوج، توحد وجوههم المخافة والدماثة والحساسية المفرطة والمرهفة، والذكاء الخارق، هؤلاء الذين عبروا البحار فرارًا، من ماذا؟ يثقل كل واحد منهم ما يثقله، لن يتكلموا مع أحد عن هذا مطلقًا، هم يعيشون اللحظة بتركيز وانصراف تامّ، لا يغيب عنهم أدقّ التفاصيل منها، ثم بدؤوا في حلقات تمثيلية في ملعب المدرسة، وكنا نحن الحضور والمدعوين جالسين على النجيل الأخضر في الهواء الطلق، وهم يؤدّون تمثيليات تعليمية صغيرة، وأشد ما لفت وجذب انتباهي تمثيلية القطار، وحكاية تاريخه التي يحكيها أحدهم، ثم قاموا بتجسيده فعلاً من خلال ممثلين أجانب بصف ملتوٍ يجسّد القطار وأحدهم يصفر ويطلق أصوات القطار حين يهبّ ويسير ويقف هكذا، فانبهرت بهم، حتى دفعني أحدهم سهوًا واخترقت صفهم لأصبح ممن يجسّدون القطار، فضحكت وهم يسيرون بالتواءات بعد أن رسموا خط سيره، وكلما علا الصوت ازدادت سرعته ونحن نسرع لأننا عربات القطار، والحاضرون من الطلاب وأولياء الأمور يكادون يصرخون من الفرحة والإثارة، ولم يكن دفعي للتمثيل غير مقصود، عند نهاية العروض عرّفني الأستاذ عبد العزيز إلى صديقه الذي دفعني للاشتراك هانيبال، إنجليزي الأصل، يعيش في لندن، ويدرس في إحدى مدارس مسقط للغات. وفجأة لا أعرف كيف تذكرت هانيبال في فيلم "صمت الحملان" فضحكت، فلاحظ وسألني بمرح عن سبب ضحكي فقلت له:

- أنت هانيبال فعلاً؟ أنطوني هوبكينز؟

فطارت الفكرة سريعًا في عقله، وأومأ بوجهه وضحك مقهقهًا، وهو يتمتم بـ"نعم" طويلة، ثم على غرة فتح فمه بتوحُّش ممثلاً بإشارات يده أنه سيأكلني، فتراجعت إلى الوراء وأنا أمثل الخوف والرعب وصرخت ثم ضحكت سريعًا وضحك الآخرون، وقد غمرني هذا النهار في حالة من الامتلاء في تلك الجولة، حتى شعرت أن الضحك هو عنوان حياتي، وأنا أرى نفسي لا بأعين مصرية أو عربية فقط، ولكن بعين تسع نظرتها العالم كله مع أصدقاء عبد العزيز الأجانب كأننا في ملتقى فرانكفورت.

بعد ذلك تعددت اللقاءات والحوارات بيني وبين الأستاذ عبد العزيز، وأحسست به يملأ حياتي دفئًا وحديثًا ممتدًّا لا يفرغ، انداح على أوتاره برغبة قوية أريد بها أن أدخل عقل وقلب هذا الفارس العربي الذي يشبه القمر في ابتسامته المضيئة لي، وكل ابتسامة تحصد معنًى حقيقيًّا من خلال الموقف ودرجة إجادته وتمريره لي مرورًا ليس بالقاسي بالمرة، حتى أصبح لا بد من الاعتراف بأنه ما عاد بوسعي ألا أرفض ألا أذهب معه في جولاته ومغامراته الأسبوعية وألا أستشيره في أمور الدراسة، بعد انتهاء العمل، فنتحدث حول كل شيء إلى منتصف الليل، لأجل جميع تلك الأسباب لم يعُد لي قرار من تأجيل أي شيء، فللحق إن دافعه كان مُلِحًّا، بل إنه أصبح متسلطًا ولا أستطيع الفكاك والهروب كما حدث لي في مسقط، وأنا أحاول جاهدة أن أحلَّ جميع الهزائم التي عشتها، والتي لم أكتشفها بعد حتى أدركت أن أسطولي لا يملك أي فرصة للنجاة.

أغرب تلك الجولات التي قمت بها معه كانت في الغبرة، دعاني لحضور سباق الأبقار، منتدى كبير يحضره العديد من العمانيين وزوجاتهم الأثرياء، ليشاهدوا نطاح الأبقار ويراهنوا عليها، فالبقرة الفائزة يرتفع سعرها من ألف ريال إلى ثلاثة آلاف ريال، أثارني هذا المشهد الحيواني الذي استبدل من جذوره أبقارًا بدلا من العبيد في زمن العصور الوسطى.

كان يحبني ولا يُظهِر لي مشاعره الحقيقية، كنت أتمنى وأنا أمامه ولو كلمة أو إشارة صغيرة تنطق بكلمة الحب، وكيف لي أن أحصل على هذا؟ إنه المستحيل بعينه، لأنه يريده مني أولاً، ولكني لنزعة شيطانية تجاهلت فعل هذا تمامًا، ونصف ابتسامة لا تفارق وجهي يومًا بعد يوم، وشيئًا فشيئًا راح يفقد الثقة في نفسه وأنا أراقبه بمتعة، عندما يسير أمامي بحركات عبثية في حالة ذهابه وإيابه التي تجعل أرض المعهد الخشبية تزمجر وتتطقطق في اعتراض جنوني، أعرف أن مطالبه نحوي بسيطة فهو يريد أن أسليه بدعابة أو بفكرة جديدة أو كلمة مشجعة لكن شعوري بالإخفاق والخوف كان يعتصرني، لا أنكر أن ثمة شعورًا قويًّا أخفيه في جوارحي بالحنين والعطش إليه، هل هو الحب، أم الاحتياج إلى ملء حياتي الفارغة؟ ألم أحب أحمد سابقًا كما أحبته فاطمة البلوشية إلى حد العشق واختارها، لم أعد أعرف ما الحب، إذ يتمّ تعلم كل شيء ونسيانه، ثم يُعاد تعلمه تبعًا للاحتياجات، فالإنسان هو أكثر المخلوقات مقدرة على التكيف والحب، خصوصًا عندما يتحسن وضعه، لذا لم أكن أجيبه حتى حين يحصل على إجابة ما مني، فإنه يبتلع كبرياءه ويتقبل عنادي باستسلام وبكلمات قليلة رقيقة، وأنا أكاد ألعن نفسي وأضربها بحذاء قديم؛ لماذا التردُّد؟ إنه يحبني، لماذا؟ لماذا لا أقول له ما يتوق إلى سماعه مني؟ لماذا التردد يا فاطمة الغبية؟ ثم بدأ يفصح عن طموحه الجامح إلى السفر إلى لندن للدراسة، بعد عمل اتصالات له هناك، وأنهم سيعطونه المنحة قريبًا، وقال ما يتمناه لاكتمال مشروع حياته بصوت حنون:

- لماذا لا تسافرين معي وتدرسين مرة أخرى وتعملين في مدارسهم...؟

فبادرته بالسؤال الملحّ منذ أن حضرت:

- وأنت ألم تجد في كل الدراسات غير التخصُّص في الدراسات اليهودية في مدرسة اللغات الشرقية في جامعة لندن يا أستاذ عبد العزيز؟

وبدأت المبارزة في الحديث بيننا وتحولنا إلى منافسَين لحسم تلك القضية:

- وهل نسيت يا أستاذة أنني حصلت على ليسانس لغات وترجمة قسم عبري من عندكم في مصر...؟

واستطرد:

- وهل تنكرين أن الاعتراف بمحرقة الهولوكوست هو جزء هامّ من صنع السلام؟

فقلت بحدة:

- وهل تعرف يا أستاذ عبد العزيز أيضًا إن وعد بلفور كان قبل المحرقة بنحو ستة عشر عاما في 1917 ثم الانتداب 1922؟ وهل تنكر أنت أيضًا أن إسرائيل قامت على أساس ديني...؟

فقال بهدوء:

- إني لا أكره الإسرائيليين، ولكني أكره الصهاينة، ولا تنسي أن هناك يهودًا شرقيين كنماذج أصيلة تتسرب من خلال الأسوار الإسرائيلية تؤكد أن الاتجاه الأساسي هو المقاومة، وهذا شيء طبيعي ومنتظر.

فقلت:

- إنها فذلكة يا أستاذي تحتال بها على الآخرين، لأسمعك إلى النهاية تقول مثلهم إن الصهيونية هي القومية اليهودية وهي الحركة الداعية إلى إقامة دولة مستقلة ذات سيادة للشعب اليهودي، هذه هي الحقيقة التي تتم بكل الطرق وأبشع الوسائل.

قام بخطوات متمهلة وجذب من المكتبة دوسيهًا أسود كبيرًا يحوي أرشيفًا لأوراق كثيرة وقصاصات من الجرائد وألقاه أمامي على الطاولة التي كنت أجلس بها قائلاً:

- اقرئي هذا يا أستاذة وستعرفين أيضًا أن الحركة الصهيونية اعتمدت اعتمادًا جوهريًّا على الدعوة الأدبية والثقافية عمومًا، فقد أبرز الصهيونيون إبرازًا لا حد له موقف هتلر من الكتاب والفنانين اليهود، على سبيل المثال ما فعله بمؤلَّفات كافكا حيث أحرقها ومنع قراءتها وتداولها، وكتابات توماس مان وستيفان زفاريج وغيرهم من الكتاب الفنانين، وكان لهذه المواقف التي اتخذها هتلر دورها المزدوج في إثارة السخط على موقفه من اليهود وإثارة العطف من ناحية أخرى وما تبع ذلك من إمكانيات استغلال هذا العطف في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية، هل تعلمين عن قصة الخروج (إكسودس) التي كتبها ليون أوريس، تحولت هذه القصة إلى فيلم مثلته جان ودورد وزوجها نيومان وطُبعت منه طبعات عديدة، وساعد الصهيونيون على انتشار ملايين النسخ منها بصورة هائلة في العالم كله، وهل أحكي لك عن مدى قوة اليهود في الاقتصاد الأمريكي والأوربي؟ وهل أحكي لك عن ترسانتهم...؟

فصرخت فيه قائلة:

- كَفَى! لا أريد أن أسمع المزيد عن أسطورة اليهود.

واستطرد كأنه لم ينتبه لصراخي:

- هذا ما يفعله الصهيونيون بقضيتهم، إنهم يستغلون كل ما يمكن استغلاله وكل ما يمكن أن يؤثر في الضمير العالمي للدعوة إلى قضيتهم، الصهاينة يا أستاذة في خلاصة الأمر الواقعي والفعلي يروِّجون لقضيتهم ترويجًا ماديًّا ومعنويًّا بشكل صحيح وقوي ومؤثر.

ويستطرد وهو يبدو محزونًا بحق:

- أما نحن العرب فلا نروِّج إلاّ لكل ما هو ضد أنفسنا وقضيتنا، وأولهم أنتم أيها المصريون.

فصرخت في وجهه حتى يسكت:

- أنت معجب باليهود...

فقال:

- أنا عبد العلم والمعرفة، وهذا لا يعني أنني معجب بهم. حتى تقاوم عدوك عليك أن تعرفه جيدًا، أنا معجب بك أنت وليس لهذا علاقة بدراساتي عن اليهود يا أستاذة... هل أنت صعيدية؟

فضحكت عفويًّا:

- ماذا تعني؟

وانقلب قائلاً بصوت خفيض وأمسك يدي بحنان كأني لم أقُل أو يقُل شيئًا:

- إيش رأيش تشوفي الموكب السلطاني؟ ما اظنش شوفتيه من قبل. إيش رأيش في دي الفرصة الذهبية؟

وقفت واجمة كأن الهرة أكلت لساني ورأسي يتلوى من الحيرة والدهشة، فكيف وأنت الشخص الذي يبدو أمامي مثقفًا ومتعلمًا، تقبل لنفسك هذا الوضع الصعب؟ كيف يا أستاذ عبد العزيز سقطت في هوة سحيقة من عدم الرضا والقبول وأنا أسجل ما دار بيننا كحلم كئيب أسعى محاولة فك طلاسمه المعقدة؟ ثم قلت بغضب:

- لأ ماحبش

حاولت جاهدة أن أتجاهل الحديث معه أو رؤيته كثيرًا مثل السابق، ولم أستطع وهو في كل مرة أتفوه فيها بأي عبارة حتى لو كانت مقتضبة يثبِّت نظره في عينَيّ لأطول وقت ممكن حتى لو طرفت عيناي واتجهتا إلى الناحية الأخرى، يظلّ محدقًا النظر إليّ بتعمُّد، وهي لعبة كنت أعرفها جيدًا قديمًا، وكنت أتفكه بها مع صديقاتي البنات وكُنّ في الغالب هن اللائي يحوّلن عنِّي نظراتهن لقوتي واستمرار أطول وقت ممكن، لكني معه أيأس وأخشى النظر طويلاً وأستسلم وأغضُّ بصري أو أحوله عنه مباشرة. كنت مشغولة الذهن أكثر مِمَّا ينبغي، وتعويضي بالكتابة للمذكرات لم يعد يصلح لحالتي المتوترة ووجهه المبتسم لي على الدوام، وعيناه الدفيئتان تحيطانني في كل إيماءة أو حركة أو إشارة أقوم بها وهو هادئ لا يبدو عليه أي شيء من القلق مثلي وهو كل يوم يثبت مدى تأثير رجولته على شغفي واحتياجي إليه مِمَّا جعل قلبي مقهورا ومُقفَلاً لا أردّ ابتساماته التي تغيظني ولا أعطيه جوابًا لما يريد أن يسمعه وأصبحنا كالقط والفأر نتعارك ونراوغ في صمت عنيد ومرير، حتى لحق بي في إحدى المرات وكان ذلق اللسان، دافئ الإحساس، يحدِّثني بمزيد من الثقة والمودة بينما نظراتي إليه كالتمثال المتحرك، قائلاً بشغف ولهفة:

- أستاذة، تعالي معي الأسبوع القادم نسوي مغامرة جبلية.

لم أردّ، وتأهبت للذهاب.

فذهب مسرعًا إلى باب القاعة واقفًا حتى لا أخرج وقال بلهجة مصرية:

- علشان خاطري يا أستاذة، انتي معقدة الأمور... علشان خاطري يا فاطمة... مش هاسيبك تخرجي إلاّ إذا وافقتي.

فوافقت حتى أخرج من الحالة كلها.

كنت لا أرى الأستاذ محمد المصري معلم الحاسب الآلي، رغم أنه يدرّس في القاعة التي تجاور قاعتي، ويقطن في حجرة من شقتنا، حتى عندما يقبل بعد إلحاح عرض فاطمة عبد الناصر أن يأكل معنا على الغداء، حتى ترحمه من ارتياد المطاعم ووجبات الـTakeaway التي أدمنها حتى يغادر مساء الأربعاء بعد العمل مباشرة إلى أسرته الصغيرة في الغبرة ليعود صباح السبت إلى العمل مباشرة، وكان شخصًا طيبًا ومهذبًا إلى أقصى حد حتى لا نشعر بوجوده بين العمل والنوم والذهاب إلى أسرته، وأنا أيضًا لم أعد أذهب إلى منزل أسرة الدكتور عبد الله إلاّ في مساء الخميس لأقضي معهم نهار الجمعة ثم نعود أنا وفاطمة عبد الناصر مساء الجمعة وأحيانًا أذهب معها صباح الخميس، ويأتي الأستاذ عبد العزيز صباح الجمعة ليأخذني وأعود مساءً إلى الشقة في انتظار الأستاذة فاطمة، والغريب أنها لم تعترض أو حتى يبدر منها ولو مزاح بسأم أو ضيق من مقابلاتي الأسبوعية معه أو مع أصدقائه، دائمًا تلوّح لي بالراية البيضاء وأن عليّ أن أعيش حياتي، وأن مثلي لا تخشي أي أم عليها لثقتها بي، فكلانا -كما ترى- يحمل نزاهة التفكير، واستبشاع الخطيئة وطهارة القلب التي تضفي على مُحَيَّانا نوعًا من القدسية التي لا تشكّ فيها إطلاقًا، وكنت أقدّر لها هذه الثقة العمياء ورغبتها في سعادتي.

عندما صعدت قمة الجبل، لم يكُن بمقدوري التقدم خطوة، كانت رئتاي المسكينتان اللتان كانتا من لحظات قادرتين على ابتلاع المحيط كله، تلهثان مثل منفاخ ممزَّق والهواء القارس يحكّ أنفي من الداخل وحلقي أصبح جافًّا، هذه المغامرات الجبلية ليست لواحدة مثلي، لم أقُم بها في حياتي من قبل، والرعب يسلبني روحي لولا إلحاح عبد العزيز بأنها مغامرة يجب ألا تفوتني، ارتميت على حجر لكي أسترد أنفاسي، ثم وجدتني أجلس فوق القمة رجلاي مثنيتان تحتهما تشكّل تنورتي ما يشبه الدائرة حولهما والعرق يجعل جبهتي تلمع ويحرك الهواء ما تبقى من شعري الذي حللته لينساب خلف ظهري، ورغم سعادتي الخفيَّة لاجتياز هذه المغامرة، كأول مرة في حياتي كلها ولا أظنها ستتكرر، فإنني بدوت امرأة مُنهَكة للغاية، ويداي وقدماي بهما وجع أتلوى منه من فرط الاحتكاك والتسلق، لكني كنت مبهورة بفعل هذه المغامرة.

وقف عبد العزيز وكان يرتدي بنطلونًا قصيرًا وتيشيرتًا بنصف كم، فاتحًا ذراعيه للهواء والسماء يضحك، ويخاطبني بعبث قائلاً:

- عَمَّ سنتحدث يا أستاذة اليوم ونحن فوق الجبل؟ إيه رأيك (ويضحك بشدة) يا أستاذة في المواطنة؟ هل تشعرين بها في وطنك كما أحسها في وطني؟

ويعلو ضحكه فأضحك وأجذبه من يده:

- اقعد يا عبد العزيز أحسن تقع... أنا خايفة قوي!

فيجذبني فجأة من يدي ويحثُّني على الوقوف وأنا أصرخ فيه أن يكفّ:

- لا تخافي، أنا مدرَّب على التسلق لست مثلك، هذه هوايتي.

كنت مترددة وأشعر بالهلع، فجذبني إلى حضنه العريض الدافئ، ومن فوق الجبل وقفت مغمورة بالصفاء والهناء وقد هَفّت علينا نسمات طيبة طرية، أنعشت روحي، ورفعت رأسي تارة أنظر إلى السماء وأتمنى أن أعلق بسحابها وأندسّ داخله وأختفي كالأشباح في مغامرة خطيرة أبحث فيها عن الملائكة والرب وأسيادنا من صنعوا لنا كل هذا العالم، وتارة رغبت في النظر إلى الأسفل البعيد، فخشيت الدوار، فطوّقني بساعده من الخلف وهمس في أذني القريبة من فمه، وعيناي مغمَضتان لا أقدر على النظر بعد وعقلي زاخر بالرؤى الفائقة:

- انظري يا فاطمة، لا تخافي، أنا معك.

ففتحت عينَيّ أنظر وظل يهمس لي قائلاً كشدو بلبل:

- فاطمة، أريد أن أعيش معك، أريد أن أتزوجك. فاطمة، أنت لويز الطاهرة، هل تعرفينها.

فشعرت بالخجل وأنا أعضّ على شفتي حتى صرخت ضاحكة:

- نعم أتذكرها في فيلم "الناصر صلاح الدين".

وأكملت القول:

- ويعلم الله أن ما بي خطيئة.

فأجابني بإطلالة من عينيه، واستدرت بجسدي لأرى وجهه وأحملق إلى عينيه وفي تقاطيع وجهه بنظرات الوجد، والاكتشاف والمغامرة، كل معني عن السعادة الخفية، فلامس بيديه غمازتين عميقتين على جانبَي ثغري وهو يستغرب وجودهما في وجهي الأملس الخالي من الخطوط فلا ينبئ عن وجودهما.

كل الأثرياء تقريبًا يسافرون في الأعياد والإجازات إلى إنجلترا أو المدن الآسيوية أو الهند، وبخاصَّة الهند، للعلاج واستعادة الشباب والحيوية بأقل تكلفة، كما يفعل الكفيل، عادةً تكون رحلته إلى الهند للمتعة والعلاج، فهو يعاني من مرض السكر الذي يجعله في حالة شراب وجوع مستمرّ ووخم وكسل مِمَّا يؤثر -وهذا الأهم- على انتصابه وأدائه الجنسي. وآخرون يفضلون السفر إلى مصر، وهذا لا يكون فقط للسياحة، إنما في أغلب الأحيان للدراسة والعيش بها فترة طويلة.

لم تكُن ابتسام أو وجدي موجودين، فكلاهما في مصر ولن يعود قبل بداية العام الدراسي أي بعد نحو شهر، لم أعرف إلى مَن ألجأ للحصول على أوراقي والتأهُّب للسفر، وصلتي بالكفيل دائمًا ما تكون ابتسام أو وجدي الوسيط، فيما أريده وهاتفه مغلق، يبدو أنه أيضًا خارج الوطن، فأنا لا أراه مصادفة كما كان يحدث من قبل. تضايقت واحتار أمري، وجال في ذهني أول اعتراض بادرت به عندما حضرت إلى هذا البلد، لماذا تأخذ جواز سفري؟ ثم بعد ذلك بطاقة الإقامة، ها أنا الآن كالمتشردة، ليس معي أي أوراق تثبت أني مصرية أو عمانية أو أي جنسية، فأحسست بالضياع والحنق على موقفي الصعب الآن ووضعي يسوء يومًا بعد يوم، وأنا لا أصل إلى جواب يشفي غليلي ويثبط حماستي وهمتي فأشعر باليأس، حتى جاءتني الرسالة القاطعة في أمري من عبد العزيز:

"إنت فينك يا جميل أدور منك، يومين يا زين إنت في الأرض عادك ولا بلغت القمر. تحياتي لشخصك الغالي، لا بد أن نسافر مصر قريبًا للزواج ثم السفر للمنحة. لم يعد أمامي وقت طويل".

ابتهج روحي عندما قرأتها، ثم فجأة وجمت وتلاشت ابتسامتي مثل وردة ذابلة عندما أدركت أنني كالغرقان ليس لديّ أي قشة لأتعلق بها.

وفي ليلة سوداء سواد قبر بلا قمر أو نجوم، تصاعد من فم عزرائيل رائحة الجرذان الميتة، وإثم تلك الحادثة الفاجعة، في ذاك الوقت كنت أقضي نهار الخميس والجمعة في منزل أسرة عبد العزيز في سمايل بين أهله وأقاربه للتعارف والود والتزاور، ومباركة الزيجة الجديدة التي ستتم في مصر، لعدم سماح القانون العماني بالزواج بغير عمانية، وتحدِّي عبد العزيز بالفرار إلى مصر ثم حلمه الكبير إلى لندن، بعد أن رتب أموره، وتكتم الأمر إلاّ عن أسرته وفاطمة عبد الناصر التي وعدت بإخفاء الأمر إلى حين إنهاء الإجراءات الرسمية، وكنت أعود في المساء للمبيت في الشقة كما طلبت منه فاطمة عبد الناصر وتصحبني خادمة هندية، أحضرها عبد العزيز من منزل أسرته لتبيت معي اليومين حتى حضور فاطمة عبد الناصر من روي وتغادر الخادمة مرة أخرى إلى منزله.

وتسلقت سلالم المعهد كنمرة متوهجة تشتعل فرحًا غامرًا وسعادة لا حدود لها، وبمجرد أن دخلت حجرتي استلقيت على سريري فاتحة ذراعَيّ وجسدي مخدَّرة ومستسلمة لأنهار السعادة القادمة، وروحي هائم في وجد الحب العظيم، بينما الخادمة تفتح الشباك لتجديد هواء الغرفة، وشهقت شهقة مفزعة، وهي تصرخ بالهندي فأفقت من حلم اليقظة الذي كنت أمرح فيه، وقد تطرق إلى أذنَيّ صوت صدام عنيف آتٍ من الرصيف القريب، فهُرعت إليها ورأيت الإجابة المروِّعة، عبد العزيز خارجًا من سيارته يترجل في عجل، ويخرج هاتفه النقال بتوتر شديد وهو يحاول أن يلتقط نمرة العربة الطائشة سريعًا وهي تمرّ مرورًا سريعًا كالبرق ليتجاوز الفعلة الشنيعة، فنزلت السلالم أهرول غير واعية أني حافية القدمين وخلفي الخادمة، حتى تسمرت في مكاني، ورأسي حافل بالغثيان، وامتلأت عيناي بمشهد جثة محمد المصري الذي استغربت حضوره مساء الجمعة دون سيارته وأعضاء جسده متناثرة في كل مكان، الرأس والصدر والقدم والخصيتان وكفا يديه، وعندما استقبل عقلي كل هذا حتى ثبتت نظراتي على عنقه المسودّ بالدم وفمه وعينيه مفتوحتين وثابتتين كأنهما في نداء مختنق أخير، فقدت الوعي تمامًا وتهاويت على الرصيف.

ظللت ليالي عديدة أقوم من نومي على قيء مرير، وأنا لا أصدق أن محمد المصري الهادئ الطباع، والوديع الْمُحَيَّا، وساكن الغرفة المجاورة أصبح شبحًا أبيض بتلك الميتة التي يذهل لها أي شخص يعرفه أو لا يعرفه، وقد أقفل المعهد ثلاثة أيام حدادًا عليه.

أصبحت أجلس بين الكتب على طاولة عبد العزيز في كل الأوقات مثل الحمل المذبوح بعد امتناع عبد العزيز عن الحضور والتدريس في المعهد اكتئابًا وتشاؤمًا، وأنا أحدث نفسي وأهلوس، وأكتب في مذكراتي بصوت عالٍ كأني أخاطب شخصًا غائبًا عنِّي، وتشطح بي الأفكار وأبلور أطروحة تحد من شأنه داخل نفسي المصدومة، فخاطبته قائلة وأنا أكتب:

"عزرائيل:

هل لي في حوار قصير معك، أسأل وأجيب أنا أيضًا؟ فأنت ملك الموت وأجل لك احترامًا شديدًا، فلك هيبة الموت التي لا يُستهان بها، ولكنني في نفس الوقت أمقتك وساخطة عليك بشدة، أليس لك تقدير في اختيار الموتى؟ أعتذر يا سيدي لا أقصد البتة إهانتك حتى لا تغضب عليّ فتقبض روحي، أو قد تنتقم مني ويفارقني آخرون لا أتحمل فراقهم عنِّي، ولكن قل لي ما الموت، هل هو ذلك الطائر الأسود الذي يرفرف فوق رؤوسنا، ثم ينقضّ على صدور أحبّتنا ينتزع منها الأنفاس؟! أم أنه ذلك الملاك رسول صاحب الأمانات ليستردّها؟! أم أنه ذاك الذي يحوك الملابس السوداء للنساء، فيجعلهن يمزقن صدور جلاليبهن، ويلطمن خدودهن، ينادين أحبّتهن، وفي المواسم يفتلن دقيقًا بسمن ولبن، ويتدافعن أفواجًا إلى حيث ترقد الأجساد البالية؟! أم أنه الذي ييتّم الصغار فيحرمون من هبات الراحلين وتربيت أياديهم على الظهور؟! أم أنه صاحب السرادق الذي يقام أمام المنازل فيه رجال واقفون بلفات تبغ وأقداح القهوة وتمتمات شكر الله سعيكم ومكبرات صوت ينسكب منها ما تيسر من الآيات؟! أم أنه الذي يجعلنا نغترف من جدول الدمع ما شاء لنا؟! لكن في النهاية ماذا يفيد إذا عرفت ما الموت! إذا كان هو كل هؤلاء جميعًا، إذا كان كقدر معصوب العينين يسير في طريق عامٍّ مزدحم بالمارة في ليلة عيد أو ثورة، يحتضن في كل لحظة رجلاً أو امرأة أو حتى أنا، فهل إذا عرفته أستطيع أن أتحاشى ضمته؟ فقد يأتي من الخلف وأنا لا أبصر خلفي... أحييك أيتها الشقية ليتك لا تعرفينه، ليتك تمسكين قلما أو يمسك بك قلمك لتكتبي ما كنت تحدثين به نفسك من قبل، ما الموت؟ ثم استرسلي لتكتبي مرة أخرى هل هو ذلك الطائر الأسود الذي...".

اهتزّ هاتفي برنّة رسالة قادمة من صديقتي المفضلة.

"أنا جاية من المنيا قريب للقسم، هاتصل بيكى علشان اشوفك مع أهلك، وحشتيني قوى يا واطية".

وضعت القلم وتهللت فرحة برسالتها، وقد انتزعتني من طوفان ذكريات الكتابة المقبضة عن موت محمد المصري الدامي.

 

الفصل التاسع
أسطورة بدر
الرجال أيضًا يبكون وربما يصرخون من هول ما شاهدوه في المشرحة، وقد جُمعت أعضاء لمحمد المصري في أربعة أكياس، وليس لهذا مدعاة للخجل فالبكاء مفيد لهم في تلك الحالة شديدة الفزع والوقع في أي نفس بشرية.

تَكفَّل الكفيل بالصرف على الجثة في المشرحة حتى لا تتحلل، وتسافر في النعش إلى مصر لأهله في محل إقامته في محلة بشر بالبحيرة، الكل بكى الكابتن محمد لاعتياده ارتداء البدلة الرياضية والكاسكتة على رأسه صباحًا ومساءً، وساند عبد العزيز زوجته، لترفع قضية في المحكمة الشرعية، لأخذ حقِّ زوجها بعد أن تَعرَّفوا الرجل، وتقاضت فدية مالية معتبرة، نحو 20 ألف ريال عماني. لم يتحدث أحد عن تفتيش فاطمة عبد الناصر المباغت، وترحيلها هكذا فجأة دون أي مقدمات غير اللعبة القذرة التي حاكها لها وجدي لتسافر لمجرَّد الزيارة إلى مصر، لأن المعهد سيقفل بأمر من الكفيل ويبحثون عن مكان آخر، حتى اكتشفت الحقيقة في المطار واكتشفتها أنا بعد انتقالي للعمل في الرستاق في معهد مثيل الأول تديره ابنة الكفيل وتدعى حميدة، وأقفل معهد المراتب بكل إجحاف وتوحش على كراكيب أبلة فاطمة التي تملأ غرفة كاملة من شقتنا التي عشنا بها، إلى حين حضور إدارة جديدة، ورفض عبد العزيز تجديد العقد معهم تمرُّدًا على سفر فاطمة عبد الناصر بهذا الأسلوب المنحطِّ وأيضًا لسبب أهمَّ وأكثرَ جدية هو التأهُّب للسفر.

رأيت وجدي مرة أخرى بعد غياب امتد لشهور. لم نتبادل إلاّ حوارًا قصيرًا عن الأحوال في مصر، واقتنائه السيارة الجديدة التي اشتراها بمجرد عودته من الإجازة. كنت متجهمة وأتجاهله لا أعطيه أي رد أو رفض، ومشهد الأعضاء المتناثرة ورحيل فاطمة عبد الناصر المفاجئ وعبد العزيز الذي ينتظرني يضغط على شعوري، وجعل أعصابي فيها منهارة بين الموت والرحيل والانتظار، حتى باح بغباء الكتمان بما يريد قوله من بداية ارتيادنا السيارة:

- عايزة تسافري ليه يا فاطمة؟

فقلت:

- أمر ما يخصّكش يا وجدي. قربنا نوصل.

اقتربنا من بوابة حديدية ضخمة تحوي منزلاً كبيرًا جدًّا محاطًا بالأشجار والنخيل، يبدو أنها مزرعة، كان المساء قد حلّ، آه من تلك المساءات التي كرهتها تحلّ علي من وقت إلى آخر وتبدل حياتي من أسفل إلى أعلى كأنني دمية تفعل بي ما تشاء، وقد حل كالمرات السابقة ليطبق على أنفاسي، والسماء غائمة، وضوء رمادي يلهب حماسي وسط المنظر الموحش ليتلاشى عالمي القديم، ويؤرخ لعالم جديد، مهجورة أنا فيه، وقد انتزعت مني فاطمة عبد الناصر وكل الأحباء السابقين، لماذا أظل أنا هنا، وهم يرحلون؟ لماذا يفعلون بي هذا؟ لماذا الجميع لا يلاحظون شيئًا ويتصرفون كأن شيئًا لم يحدث؟ هاتفني عبد العزيز أكثر من مرة بعد سفري إلى الرستاق وهو متعجل الأمور لأنه يريد السفر، فتلك مواعيد لا يسمح بتغييرها، لكن الأمور تعقدت وفقدت الاتصال بكل مَن في مسقط، هاتف ابتسام لا يردّ؛ يبدو أنها استبدلت به، وهاتف أبلة فوزية مغلق، وهذا اللعين وجدي الذي أراه بسبب مجيئه لزيارة أسرته، يلعب دوره المعتاد الذي اختاره لنفسه في كل أفلام الحياة بإجاباته المماطلة والمراوغة، والانتظار حتى يكلِّم الكفيل، وللأسف كان العام الدراسي قد بدأ والكل مشغول على آخره، وحضوري لمعهد الرستاق كان إنقاذًا للموقف، فقد افتتحه الكفيل مكافأة لابنته حميدة الحاصلة على بكالوريوس الحاسب الآلي جامعة السلطان قابوس، لتقوم هي بالتدريس، وأختها بدرية تديره ماليًّا وإداريًّا، وحتى إن أردت السفر فلا بد من بديل لي، ومتى وكيف سيتمّ هذا الأمر؟ يحتاج على الأقل إلى شهر، هذا مع التفكير في الأمر، وهم -للسخرية- لا يبالون بأمري البتة، هم في مسقط وأنا في الرستاق. أحسست بوحدة شديدة، ليس بمقدوري أن أرى أو أحدث أحدًا عن مخاوفي وهواجسي في هذا المكان المقبض، يا إلهي! إنه المنفى والتمزُّق والرقابة الدائمة كتعاستي السابقة واللاحقة وإحساس بالذنب لشخص عبد العزيز الذي يتحطم أمله على صخرة الانتظار الصلبة.

عشت في المنزل الكبير مع أسرة الكفيل، وقد اختارت لي حميدة غرفة صغيرة لعدم وجود مكان آخر لأسكن فيه حيث لا يصلح أن أستأجر مكانًا بمفردي، فتلك البلدة عبارة عن مدينة صغيرة إلى حد ما وذات طبيعة محافظة وهي تشبه القرى الريفية في مصر بها عائلات معروفة بالاسم، بها العديد من المزارع التي تخصّ أصحابها المعروفين، وبيوت الفقراء بيوت صغيرة ومتلاصقة بعضها بجوار بعض، كانت حميدة رغم صغر سنِّها، جامدة الطبع، وهادئة وقليلة الكلام، ومدرَّبة على العمل، تعمل بحماسة وانهماك شديدين وجديرة بإسناد أبيها لها وثقته التي بلا حدود في قدراتها العلمية والفنية في تشغيل المعهد الجديد، والتطلُّع إلى مدى واسع، بينما أختها بدرية حبوبة وبسيطة وثرثارة، حاصلة على الثانوية العامة، وترغب في استكمال دراستها بمصر، فهي تعشقها، وتزورها كثيرًا، ولها العديد من الصديقات المصريات من كثرة ما وفدت عليها، وتعرفت إليهن من خلال عملها في مدرسة الرستاق، ثم المعهد، لكن أباها يرفض ويخبرها -كما تخبرنا أي أم مصرية-: "تزوجي وافعلي ما تريدينه، لكنك ما دمتِ في بيتي لا يصح لك السفر دون رجل أو على الأقل يصحبك رجل من الأسرة"، فكانت لا تفكر ولا تفعل شيئًا في حياتها غير أن تقنع أخاها خالد الذي يكبرها بعدة أعوام بالسفر معها لاستكمال دراسته هو أيضًا، ويبدو أن محاولاتها مع مرور الأيام ذبلت وانهارت مع رياح النسيان، والتكيف مع وضعه الجديد، فقد تمرس في السواقة، وأصبح يعمل سائقًا على تنكر ضخم لجلب المياه لأهالي البلدة، حتى استطاع أن يحصل على تنكر ماء حال شركات يتقاضى عنه أربعة آلاف ريال عماني شهريًّا.

كنت متكئة على مقعدي إلى الوراء، أرتاح من عناء اليوم الدراسي الطويل الذي يبدأ من التاسعة صباحًا وينتهي نحو العاشرة مساء تتخلله فترة راحة نحو ساعتين من الساعة الثالثة إلى الخامسة، وتخلل إلى أذني طرقات خفيفة على باب القاعة المغلق عليّ، تجاهلت الأمر، لعل إحداهن تدعوني للمضي إلى المنزل أو تريد إبلاغي بأمر ما أو التحدث العادي اليومي الذي يقوم بيننا، حتى رفعت نظري بلا مبالاة، فوجدته أمامي بابتسامته الوديعة وروحه الذي يملأ المكان الجافّ بخفّة ورشاقة قائلاً:

- قاعة سمايل كانت أجمل يا أستاذة.

واستطرد يدقق النظر في دهشة:

- ولا إيه يا أستاذة؟ أليس هذا رأيك أيضًا؟

هذا الحضور المفاجئ، جعلني أهبط بتمهل إلى وهدة مغطاة بالعشب الأخضر وأنا أراه مرة أخرى وأخيرة، وأشتمّ رائحة نفاذة تملأ الغرفة بوجوده، تلك الرائحة التي كانت من فترة قريبة لمعرفتي به رائحة مألوفة منبعثة من روح أليف ومحبوب لي. تألمت بشدة لإحساس الفقد الذي أفقدني حتى التعبير عنه وكنت مرتبكة لسؤاله الذي لن أجيبه عنه كأن سكينًا حادًّا استُلّ إلى مكمن قلبي بقسوة وبغتة لا مفر منهما، ودعاني بإشارة من يده إلى الجلوس وأمسك يدَيّ فانكمشت يداي، وسحبتهما من يديه في لحظة حُشرت فيها ألوف الدقائق وهو يتفوه بصوت خفيض:

- ألن نتزوج يا أستاذة؟

وقفت كوتر مشدود على حافة الهاوية، كل حركة مني أو منه حتى وإن كانت خفية تتحول الآن إلى لغة إشارات لا يجوز الخطأ فيها وإلا فسينهار كل شيء بلمح البصر، ينظر إليّ بإمعان وحذر منتظرًا، ثم يمر بيده على كتفي ببطء، فأتقوس كالقطة إلى الخلف وأذهب بعيدًا عنه والصمت يطوقني، ناظرة من زجاج الألوميتال على العتمة التي ملأت البلدة يحوطها حفيف أوراق الأشجار المنتشرة في كل مكان، ونعيق الضفادع وأزيز الصراصير المزعج، والبيوت في وسطها كبؤر ناتئة، رثة معتمة تنبعث منها روائح خاصَّة أحاديث مكتومة، وضحكات وصراخ وحزن وفرح، تأرجح الوقت وأنا غارقة في التفكير في الرد المناسب، والانتهاء من الموقف تمامًا حتى استجمعت قواي قائلة:

- لم أستطع بعدُ الحصول على جواز سفري أو أي ورق خاصّ بي وأنت متعجل السفر والمنحة تناديك.

وقبل أن أنصت إلى أي تفسير أو تبرير لأي شيء منه أنهيت القول بحسم وبرود أعصاب:

- اسمح لي بالذهاب، فأنا مُرهَقة ومُتعَبة، ولم أتناول أي طعام منذ الصباح، وأنت عليك أن تنسى أمري وتسافر فورًا، فالدراسة والعمل أفضل بكثير من حبال الانتظار عديمة الجدوى أو لحب بلا أمل.

وقف مبهوتًا ساكنًا كالتمثال، لا يجرؤ على التفوُّه أو لمسي، وقد شعر أنه يجب ألا يلمسني مرة أخرى بتاتًا، وأنا أيضًا سكتُّ وشعرت بارتياح يعصرني مرارة وقد أفصح الحب عن وجهه الموحش كما يجب على الحب نفسه، وهو يحلِّق بأحلام دون أجنحة ليقبل بتفاهته وعبثيته بين لغة السماح والعفو والتنازل ليتحول الحب إلى لا شيء تقريبًا، وهو الذي في ظروف أخرى يكون كل شيء، ولكن عليّ أن أعترف بأني أغبى إنسان في العالم.

كنت أعتقد مثل الكثيرين أن حياتي لا ولن تتغير بشكل مطَّرد إلى الأمام، ذلك أن القصص في جوهرها سلسلة من الصدف، ومع ذلك، حتى لو كنت واحدة من هؤلاء، التأمل في حياتي وما مر بها من أحداث مدعاة للقول باعتبارها محض صدفة، لكني أرى أنها في الحقيقة قدر محتوم لا مفر منه، ربما هناك آخرون لا يؤمنون بالصدف، أظنه هراء، فمهما كان التخطيط للأمور، وتلبية المعطيات، فإن الصدف هي أكثر الأشياء انتشارًا وذيوعًا في العالم، بل هي الأكثر تخطيطًا، لقد توصلت إلى هذه الأحكام وأنا أمكث وأنام في غرفة بدر التي اختارتها لي حميدة إعزازا لي وتقديرًا وتوصية من أبيها باعتباري فردًا من أفراد الأسرة. بدر الأخ الوحيد لابتسام ويصغرها بعدة سنوات مات من سنتين تقريبًا، لكن أمه العمياء تراه، وأقسم الكثير من أقاربه إنهم شاهدوه في السوق والشوارع، وأخته حميدة تتأمله كثيرًا وهو يصعد النخل حتى يُحضِر لها ثمرات الفيفا التي تحب مذاقها، ويتحدثان معًا في مرات عديدة حكت لي عنها. يا إلهي! ما هذا؟! هل كل هذا يحدث صدفة أم أنه منطق مختلف وخاص بعالم هؤلاء البشر كمنطق الحب الغامض، والمثير للشكوى، الذي يتحاكى به كل شعراء العالَم؟ لا بد أن رينيه ديكارت كان صادقًا حين قال: "على الرغم من شكوى الشعراء من الحب، لن تكف البشرية عن الحب"، وأكمل مقولته: "كما لن تكفّ الصدف عن حدوثها، في حياة البشر ليل نهار. كم أتمنى الآن وأنا أعيش في غرفة بدر أن أتحول مثله كائنًا شفَّافًا، لا يراه إلاّ من يحبه، أو طائرًا يحلق فوق النخيل، أو أجوب تحت الأرض مثل الجن، أو أحيا في البحار والمحيطات مثل القواقع والأسماك.

مرت الأيام الأولى لي في الرستاق، مثل كل الأيام التي مرَّت عليّ في أماكن سابقة، كان كل شيء عاديًّا ومحاطًا بحلقة من الصمت القسري، بدا فيه كل من حولي غرباء، لا أحد يريد أن يشارك عالمه الداخلي مع وافدة مصرية غريبة مثلي، فهنا في عالم هذا المنزل الواسع المليء بأشخاص غريبي الأطوار، كل له طريقته في التفكير وممارسة حياته كما يراها، لا يربط شيء متين بينهم غير الدم والوثاق الأسري، وإن كان نادرًا ما يتلاقون لانهماك كل منهم في حياته الخاصَّة، حتى أدركت أنه هنا في هذا المنزل الكبير للغاية، يمكن للإنسان أن ينسى كل شيء، فالوقت المترهل به مثل الوقت المزحوم، الاثنان يغرقانك.

تقطن نساء الكفيل الاثنتان في حجرات أشبه بالسويت، الأولى تُدعَى نجمة، والثانية أم بدر وإن كانت أم بدر جناحها أكثر فخامة وثراء من الأولى، والمنزل يحوي العديد من الغرف الطينية المتجاورة في صف واحد يشرف على باحة الدار الترابية الممتدة، وفي الجهة الأخرى يوجد بيت صغير يتكون من طابقين في كل طابق حجرتان وصالة واسعة وحمَّامان ومطبخ، والغرف مفروشة على نسق عربي أصيل وفي مقابله عدد من الحمامات مثل الحمامات العمومية وأحواض كبيرة واسعة للاغتسال مثل أحواض المساجد، لا أعرف لماذا! ويحيط المنزلَ في مساحة شاسعة كثيرٌ من الأشجار كالمانجو والفيفا وأشجار الآثل والكافور ونخيل البلح الأصفر والأحمر ورطب لم ينضج بعد، ويتناثر في نواحٍ عدة، غرف الخزين والخدم، وأكواخ صغيرة خشبية على شكل مثلث، كبيوت لتربية الكلاب أو القطط لكنها خالية ومهجورة، وبالقرب من البوابة العملاقة تصطفّ سياراتهم، فكل من في العائلة لديه تقريبًا سيارة حتى بدرية، ما عدا نجمة وأم بدر العمياء.

الساعات الباقية لي بعد العمل أقضيها بمفردي في غرفة بدر التي تجاور غرفة حميدة وأم بدر، لا أتحدث مع أحد ولا أحد يبادر بالحديث معي، حتى طهقت ولم أجد أمامي غير نظيرة الخادمة الهندية، التي أصبحت في المستقبل أقضي معها أمسيات أيام إجازتي الخميس والجمعة حتى يوم رحيلي من هذا المنزل. فحميدة وبدرية من صباح الخميس أو مساء الأربعاء تديران السيارة مباشرة لزيارة إحدى الأخوات المتزوجات أو التنزه مع أقاربهم، والولدان أحدهما يعمل ويعيش في مسقط وقلَّما يحضر للزيارة، والآخر مشغول تمامًا بعمله على تنكر المياه حتى يسدّوا أقساطه ويصبح ملكه، وخمس أخوات متزوجات، في بدء الأمر اعتقدت تمامًا أن بدر هذا موجود وفي مكان ما وسيعود من حديث حميدة عنه كأنه حي يرزق، فهو الابن الوحيد لأم بدر على أربع بنات منهن حميدة والباقيات متزوجات ونجمة لديها ولدان وثلاث بنات متزوجات ما عدا بدرية.

وألحّ عليّ السؤال: بدر موجود أم ميت؟ وحرجي يمنعني من سؤال حميدة أو أمها، حتى أخبرتني بدرية خلسة وتخفِّيًا بالحقيقة بعد أن أبرمت معي وعدًا بألا أتحدث إطلاقًا أمامهما بحقيقة هذا الأمر حتى لا تغضبا.

أم بدر امرأة أربعينية لكنها تبدو لأي شخص غريب مثلي لا يعرفها كالعجوز الواهنة بريش طاوس تحت ناقوس زجاجي وهي تستقر في جلستها على مقعد في ركن الحجرة خلف سلطانية النيش، بارعة في تفسير الأحلام لكل من يرى منامًا غامضًا، وتكتشف الأنساب والقرابات من وجوه وحديث الناس، رغم أنها عمياء، وإن كان هذا العمى طارئًا، أصابها مباشرة عندما علمت بموت ابنها بدر. يقولون إنها تدَّعي العمى وترى أحيانًا وتسمع رنَّات الإبر من بُعد، وتلتقط الأشياء مثل طبق الرادار، يخشاها الجميع حتى ضرتها نجمة تتجنب لسانها السليط وحِدَّتها. أحسّت عند اقترابي أن جسدًا يدنو منها، فمدّت يديها الواهنتين، وعندما سمعَت صوتي تثاقلت يداها وقالت خلال شهيق طويل حادٍّ مثل تيار من الهواء يغازل قطعة من السلوفان المتجعد:

- سمعت أنك مصرية جميلة وطيبة الروح، وهذا شيء لم أعهده كثيرًا في المصريات اللائي رأتهن عيني قبل العمى وبعده، ولكن الجميع حتى ابنتي حميدة، التي هي مثلي لا تقبلهن، تحبك، وتُسكِنك غرفة بدر إلى حين عودته، لا شك أنك فعلاً تستحقِّين المدح والعشرة.

في تلك الأثناء، كنت أرتعد من رؤية ملامح وجهها الدائري العريض كرغيف المطرحة الشديد البياض والهيبة، وقد امتلأ بالتجاعيد الغائرة كأنها سكك ودروب في أرض رملية بجبهتها العريضة البارزة كدرج البوريه ذي الشكل المقوس، وتحت الجبهة عينان كفيفتان واسعتان بين كتل من السحاب يظهر فيهما لون الحزن المقيت والدفين. نظرت فيهما برهة، فتَمَلَّكَتني القُشَعْريرة، حتى تهمس لي ويهبط الجفنان فأشعر كأن لحافًا ناعمًا غطَّاني ولف جسدي دفئًا وأمانًا حتى أمرتني برفق أن أجثو برأسي على ركبتها ثم امتدت يدها الكبيرة بأصابع كأصابع الموز ومرت على جسدي كله متمتمة بالرُّقيا تمتمة جعلتني أتثاءب، وتشي بأن عين الحسود لا بد كامنة في أضلاعي، لكنها لن تتركها حتى تجتثها من جذورها، فابتسمت دون أن يزايلني إحساسي بالسعادة، لكن ثمة رضا اعتراني، وأصبحت مغرمة بالنوم على ركبتها أرصد اهتزازاتنا وهناتنا بجهاز عقليّ خاصّ لنا وهي تتابعني متسعة العينين ودهشتها تتعاظم لدى كل كلمة أتفوه بها حتى أحبتني، وجعلت خادمتها نظيرة هي أيضًا تلبِّي لي أي احتياجات وتقوم برعايتي على أكمل وجه.

أم بدر وحميدة الوحيدتان اللتان تؤمنان إيمانًا قاطعًا أن بدر حي وأن حادثة السيارة التي كان يقودها برعونة وطيش شباب، فقد كان عمره حين مات نحو سبعة عشر عامًا. ما هي إلاّ حيلة من الجن بأن نشاهد موته غير الحقيقي بينما هو لديهم وسيعود يوما ما بعد أن تفك سحره، رأيت أم بدر أكثر من مرة تحدثه وتخاطبه كأنه بيننا، أما حميدة فشاهدتها تجلس على الأرض قبالة شجرة الفيفا تتحدث إليه ثم بعد حوار طويل أخذت تبكي بحرقة وتوجُّع وقد انقطع الحديث مع من تخاطبه، فاقتربت منها أواسيها وأهدئ من روعها قائلة بغباء متعمد:

- مالك يا حميدة بتبكي ليه؟

- فردّت ببساطة وثقة كأنه اليقين نفسه قائلة بألم وحزن:

أبكي حال بدر يا فاطمة، الجن يضايقوه، ويسخّروه في أعمال شاقة وهو متضايق وحاسس بالوحدة، مسكين بدر، ما عاد يتحمل شغل الجن وياه وأبوي ما صار يهتم ويفكر فيه وما عاد بدر يحبه مثل الأول، ويشكي ويريد المساعدة مني، لكن كيف يصير الأمر؟! ما أقدر أخالف رأي أبوي وأروح نزوي وأفك سحره لحالي.

همد روحي وعزفت عن مواساتها، وصرت أنظر في عينيها نظرات غامضة لكنها مخيفة تحمل الكثير من الاسترابة والتشكك والحيرة وأنا أكاد أن أنطق فيها:

- بدر مات، مات يا حميدة، مات من سنتين، صدقيني، وعند ربنا مش عند الجن.

كم هو بائس وتعيس هذا الإنسان، الذي لا يستطيع أن يواجه حقيقة الموت إلاّ بالخرافات وخزعبلات الجن.

ثمة أسى يعتريني بعد الحكم على الأمور، حتى لو جاء هذا الحكم على غير ما أرغب، فالأمر لا يتعلق بتلك التعقيدات القدرية، إنهما تحبانه وترغبان في بقائه بجانبهما، وهذا ما يبقيه هنا، لذا يجب ألا أتساءل هل عاش أم مات أم رحل إلى الجن، ولكن كيف السبيل إلى التوفيق بين حقيقة الموت المرعبة ورغبة البقاء. والحب؟ أشد ما كان يغمرني بالعبث، تلك المزحة السوداوية التي أرسلها إليّ القدر، أن أقطن أنا غرفة بدر الذي يخفيه الجن كما تدعي حميدة وأم بدر، لا أعلم أهو إيماء أم الوهم، أم إيمان تسرب إليّ دون أن أشعر بأنه موجود فكيف أكذّب حاسّة السمع لديّ وأنا أنصت إلى صوت يأتي من خلف الحوائط، يشبه روحًا يتنفس، ويتركز في الحائط الذي هو خلف سريري، ويستمر أحيانًا ثلاثة أيام متوالية، ثم يختفي ويعود، أخبرت حميدة أن تأتي للنوم معي، لكنها رفضت وأخبرتني بابتهاج كأنها تحسدني أن هذا دليل حب بدر لي فيشاركني وحدتي وهذه ميزة لا تعطى لأي أحد، من يحبهم فقط، فصوته يؤنس فراغك، وجلستك بمفردك، لم أقتنع بهذا اللغو، وشعرت به كصوت تشاؤمي فهذه الغرفة كان يسكنها بدر الذي أصبح شبحًا من أشباح الجن، وأفعاله السحرية، فتذكرت مقولات أمي التي كانت تنصحني بها أن أرش ماءًا باردًا أمام عتبة الباب لتمنع دخولهم أو تحجب أي أذى آت لي، وألا أجعل أحدًا يطأ بقدميه على ملابسي المتسخة، ورغم عدم إيماني الشديد بكل هذا قمت برش عتبة باب الغرفة وكومت ملابسي في أسفل الدولاب وقررت ألا أتركها لنظيرة وأن أفعل هذا بنفسي. ملأني شعور فظيع أن أقضى أيامى هنا في غياهب هذه الغرفة المسحورة كما تقضى الجثة الهامدة أيامها في غياهب القبر.

نظيرة خادمة أم بدر المخلصة منذ سنوات عديدة لا تجلس إلاّ تحت قدميها وتكون قد أعدت القهوة وتحتسيانها معًا، يزيد على جمالها الهندي المميز الذي نعرفه من مئة وجه أنها امرأة طيبة وبشوش ونظرتها حانية، فقد أحبها كل من تعامل معها، وساعدها بإخلاص على اجتياز محنتها حتى أصبحت تشعر كأنها طفلة يدللها الجميع. بها حزن واضح لكنه حزن به رفعة ما، تبكي في هدوء بعد عاصفة هوجاء أودت بكل حياتها لتكون الضحية الصامتة، المتماسكة التي تنتبه إلى تفاصيل عملها بدربة ومهارة ونشاط خادمة مطيعة ونظيفة وماهرة دون أن يقلل هذا من حزنها وإن كانت في عهدها الماضي مارست كل أشكال الهستيريا، والمبالغة في إظهار مشاعر القسوة التي وقعت عليها، لكن أمرًا غريبًا يقرع رأسي بالسؤال، تذهب للخدمة في منزل آخر لمدة ثلاثة أيام وبقية الأسبوع تخدم في منزل أم بدر، لماذا؟!

هاتفتني فاطمة بنبرة مثقلة بالعتاب كعادتها لعدم سؤالي عنها، وكانت فرحة أشعر بصوتها يعلو ويهبط كأنها تصعد إلى السماء وتنزل في خفقات قلبها وارتعاشات البهجة المذهلة وهي تخبرني أنها ستتزوج الشهر القادم بأحمد، فقد وافق أبوها، ولا يهمها عدم موافقة أهله، وأهم شيء في الحياة هو أحمد.

وعليّ أن أقابلها في مسقط لأختار معها فستان الزفاف، وتستطرد في تفاصيل الحياة الجديدة لها أو ما يجب عليّ أن أفعله تجاه الصداقة والحب، ولشوق التقائنا مرة أخرى، أنهت المكالمة دون أن أعي بقية أقوالها عن تفاصيل ما تنوي فعله أو ما سنفعله معًا، وقد اهتزَّت أعصابي وترنح جسدي من وقع الخبر رغم أنها النهاية المنطقية، لكنني هويت في بئر مجهولة، وانمحت كل قدرتي على استيعاب أمر الزواج الذي أوشك، فاستندت إلى حائط غرفتي من خارجه وكنت على وشك دخولها للنوم أو ربما تحضر أنفاس بدر فلا تغمض عيناي للصباح من الخوف والقلق. لمحتني نظيرة فهرعت إلى تسندني وتمسك بساعدي لأجلس قائلة:

- ماذا بك يا أستاذة فاطمة؟ هل أصاب شيء أهلك في مصر؟

لم أردّ، وكان وجهي عابسًا، وقد التفّت كل الأشياء بداخلي، واختنقت نوبة غضبي، وصارت مشاعري فاترة بيضاء، ذلك البياض المفضي إلى العدم، فعاجلت بحسها المرهف، وتجربتها الدامية قائلة بود وهدوء:

- أستاذة لماذا لا تأتين معي إلى غرفتي نتحدث بعض الوقت؟ فاليوم وغدًا إجازة، وليس لديك عمل، وأنت وحيدة مثلي، لا تذهبين إلى أي مكان.

ظللت ساكنة بنظرات زائغة أتجرع بها كأس الأمور المحبطة إلى آخرها، فظنت ما كنت أخشاه فوضعت يدي على فمها سريعًا قبل أن تنطقه وقلت:

- أنت لست مجرد خادمة يا نظيرة، سآتي معك.

جاءت نظيرة وهي طفلة عمرها عشر سنوات مع أبويها ومنذ مجيئها وهي تعمل خادمة في منزل أسرة أم بدر أولا، ثم تزوجت أم بدر فأصرَّت أن تأخذها معها لإخلاصها وأمانتها والتفاني في العمل، وأم بدر لا تفارقها أينما سافرت أو راحت عمان أو خارج عمان، وكأي فتاة جامحة وجميلة وقعت في الغرام مع رجل عماني مرموق المركز ذي وضعية اجتماعية عالية، أحبته بافتتان وجنون وأخذها الحب والغرور أن تقترن به ونسيت أنها مجرد هندية فقيرة تعمل خادمة منذ الصغر، حتى أنجبت منه طفلاً غير شرعي، فانتزعه منها وأعطاه اسمه لزوجته وتخلى عنها تمامًا وهجرها، ظلت تجري في الشوارع، وتجلس على الأرصفة تنتحب وليدها الذي فقدته، ذهبت إلى أبيها تلجأ إليه فما كان منه غير الإهانة والسبّ، وكان قد طلَّق أمها وسافرت إلى الهند وتزوجت بآخر ونسيت ابنتها، وأبوها الظالم تزوج هو الآخر، وبعد أن طردها شر طردة وهي تعاني من صدمة عصبية قوية، ظلت تجوب الشوارع حافية، جائعة، عرضة لكل عابر سبيل والذئاب البشرية تنتهكها وتغتصب جسدها المشلول، حتى أصيبت بفقر دم، والوحيدة التي ظلت تبحث عنها ولا تيأس سيدتها أم بدر التي وجدتها في حالة مزرية وبائسة بعد أن جرّدها الخاطئون من حقيبة يدها وخاتم ثمين أهداه إليها حبيبها العماني، وآخر خمسة ريالات كانت في حوزتها، وأصبحت خرساء لا تنطق، فعطف عليها الجميع وأشفق على حالتها وعالجتها أم بدر من خرسها المفاجئ حتى تداوت مع الأيام، وعادت إلى التحدث مرة أخرى والجميع يعاملها بعطف وحنان فبدأت تستعيد ثقتها، وقررت أن ترى ابنها الذي فارقها لأكثر من عام، بل وستعيش معه حتى لو كانت خادمة له، واستجمعت قواها وحقدها الدفين لأبيه، وذهبت إليه تترجاه وتستعطفه، في منزل صغير من طابق واحد تعرفه جيدًا لأنه مكان عشقهما الذي عاشا فيه أيام الحب واللذة فرأت أنوار غرفة النوم مضاءة حيث تتدلى من السقف ثريا كبيرة تلمع أضواؤها على رخام نضد واطئ في الوسط عليه إناء خزفي كبير ومرسوم فتتراءى في ذاكرتها أنفاس الحب اللاهبة خلف تلك الستائر الثقيلة من المخمل الأحمر وتلك الحوائط المزدحمة بصور شتى لأخواله وأعمامه في الثياب العسكرية وعلى رؤوسهم الكاب وابتسامات لم يعد لها مصير، وشهادات دراسية وتقديرية بها صور لأشخاص مرموقين، تسلم عليه وتربت على كتفه تعزيزًا وفخرًا وإشادة بذكائه وعلمه، وشهادة لا تنساها أبدًا لأنها على الحائط المقابل للسرير وجهًا لوجه، مبروزة بإطار ذهبي جميل وأصلي. تلاقت عيناها بها كثيرًا وهما يتضاجعان، سألته فقال لها بزهو واستعلاء إنها شهادة تثبت نسبه إلى الأشراف.

"نقابة السادة الأشراف

ذرية سيدنا وإمامنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

شهادة نسب إلى الأشراف

تشهد نقابة السادة الأشراف...

بأن الشريف...

مولانا الإمام الحسين رضي الله عنه هو من ذرية...".

وأرضية الغرفة مفروشة ببساط أحمر كاسي، وعلى الجانبين أرائك حريرية وثيرة مكسوة ذات نمارق ومساند وحلي من أزرار خزفية بيضاء، ولأنها تعرف كيف تتسلل إلى المنزل دون أن يحسّ بها رأته جالسا كهارون الرشيد في غرفة النوم وحوله صبيان لا تتعدى الخامسة عشرة عارين تمامًا، يأكل العنب البارد من أصابعهم، ثم يدور حولهم بعد أن يصنع منهم دائرة مكتملة مغلقة وهو في وسطها يتفحص قضبانهم بهوس ولذة، ليحدد من سوف يختاره ليمارس معه شذوذه وسط وليمة جنسية فوضوية، لينتفي أي شعور بالامتلاك والباقون يعبث بعضهم في أجساد وأعضاء بعض كما يتراءى لهم ولا يبقى سوى الفوضى العارمة، وشذوذ اللذة، حتى قبيل الفجر بساعة يرتدي جلبابه الأبيض ويستحم ويصلي الفجر حاضرًا، فقد كانت علامة الصلاة واضحة على قمة رأسه الأصلع، ثم يتناول طعام الإفطار ويصلِّي الضحى أيضًا، ويهرع إلى النوم هانئًا بإرضاء شهواته وإرضاء ربه.

يا إلهي! هل يحدث هذا؟! التدين والفسق يختلطان هنا بطريقة تكاد تثير جنوني وتطيح بعقلي!

وظلت نظيرة تراوده مرة بالحب القديم، ومرة بالمعاشرة ومرة بالقسوة وهي تسوق نفسها انسياقًا معدومًا للتعامل مع هذه الجيفة المتحركة ولم تنجح فقبلت بعرضه الرخيص، أن تخدم في منزل زوجته نصف أيام الأسبوع والباقي في منزل أم بدر، فقط لترى ابنها دون أن يعرف أنها أمه. أف ثم أف لهذه الأمور التي تمر علينا ولا نقف أمامها، كأنها هوامش تأتي في الأحاديث العابرة والنميمة الملتاعة بالشفقة واليأس، بينما ندير الأمور الأخرى التافهة بهمة وحماسة داخل سبوبة العيش الآلية.

يا للسخرية وأنا أخلو إلى نفسي وأدخل مسرحي السري في أبعد غور في أعماقي وأسترجع حكاية نظيرة الهندية لأتذكر أنني في فترة سابقة كنت أحب مشاهدة الأفلام الهندية وقصصها المفبركة بين الأكشن والرقص والمأساة المبالغ فيها حتى إننا نتندر بها في الحديث للسخرية: "دا فيلم هندي بقى".

أجدني قد رأيته أمامي بلحم ودم، ومصير مأساوي يتحرك أمامي جيئة وذهابًا، حتى أصرخ من داخلي الدَهِش من المعرفة وحروق وتشوُّهات، أجل، الواقع هو سيد الخيال لأن مصدره الفعلي هو النفوس البشرية التي تختلق ظلمًا فادحًا في مجتمعه وفي أي مكان في العالم.

جلست نظيرة الهندية في ليالي الرستاق الطويلة المملة، تحدثني عن رحلة عمرها الطويلة هنا، منذ حضورها طفلة وعن حب الرجال العمانيين العبث مع النساء الصغيرات الجاهلات والخادمات مثلها، ومن أين يبدؤون، بينما على الصغيرات الجاهلات أن يلزمن الصمت، ولا يبدين أي مقاومة، ثم تحكي بوله عن ليلة الحب الأولى لها مع حبيبها الذي مارست عشقه في ليلة ما وفي مكان خالٍ وهي تجري وتعبث معه أن يتركها بدلال وامتناع الراغب حتى جذبها من إحدى ضفائرها التي تصل إلى ردفيها ولف بها رقبتها ويداه تعتصران جسدها الغض اللدن، ويلفحها بالقبلات الحارَّة وقد استسلمت لجسده القوي، لكن أعصابها كلها كانت تهتزُّ مع سواد الليل والحيرة، حتى أحست بسائل ساخن وخائر ينساب على فخذيها وكانت تتلمس فخذيها بشهوانية لحظات الاكتشاف العظمى وهي بعد لم تتخطَّ السادسة عشرة من عمرها، جعلها تبتسم ابتسامات طفيفة، ثم ترقرقت عيناها بالدموع ونزلت منها دمعتان كبيرتان تلخِّصان مأساة العشق القديم، وتساءل روحي بغرابة:

يا إلهي! ألا تزال تحبه؟ إن أنها محاولات الفضفضة والبوح التي تطهر القلوب والذاكرة لتشفي وجدها، الذي زال وتلاشى إلى الأبد! ربما هي فرصة تفتح أبوابها للحياة مرة أخرى والسير في الطريق ناظرين إلى الأرض والسماء كلتيهما حلاًّ تعويضيًّا لتمر الأيام، فحديث النساء يداوي كل شيء، فهو يغذي الأفواه بالخبز، ويغذي الروح بالراحة والدفء ونحن نتقاسم الأسرار. وأنا الأخرى صار عليّ أن أجاهد لأنسى سيف وفاطمة عبد الناصر، وجسد محمد المصري الممزق أشلاءً، وعبد العزيز الذي فازت به الدراسات اليهودية في لندن، وأخيرًا منتهى النهاية زواج فاطمة البلوشية وأحمد الشهر القادم، لكنه جهاد حباله مهترئة وعزيمته واهنة مع ليالي الوحدة الطويلة التي لا تنسيك شيئًا، والمعضلة والحقيقة المزيفة التي يعتقدها جميع الغرباء، الذين جاؤوا يبحثون عن الرزق والنسيان تكون الغربة بمثابة باب انفتح ودخل منه هواء الذكريات أشد وأعصف تلويحًا، كأنه كان محبوسًا من عقود ووجد انتعاشه وسط هذا الخلاء الفسيح.

توقف الحديث وجلسنا نستمتع بلحظات سلام الصمت، نتأمل الليل ونجومه وقمره المضيء وهو يشحذ من نفوسنا تاريخ الكره والبغض والعشق والنذالة من حكاياتنا، ليفطر أوجاع قلوبنا ويصفيها من خربشات الأشرار، وفجأة قررت نظيرة أن تكسر هذا الصمت، الذي أصبح استمراره بيننا موترًا ومؤلِمًا وغير قابل للاحتمال، قائلة بدهشة كمن تذكرت شيئًا جللاً:

- سمعتي يا أستاذة عن حادثة مسقط المثيرة؟

لم أردّ مكتفية بنظرة المريد لسماع باقي جملتها.

- شابة من أسرة بلوشية ثرية، تسمى فاطمة، كانت تتسابق مع حبيبها العماني على الطريق السريع صدمت سيارتها بعربة نقل كبيرة، وماتت داخل السيارة التي تهشمت تمامًا.

واستطردت في لامبالاة وشفقة:

يقولون إنهما كانا سيتزوجان قريبًا، ويقولون أيضًا إنه حملها وظل يحتضنها وهي ميتة ويبكي كالأطفال ويصرخ هاتفًا باسمها! يا له من مسكين!

 

الفصل العاشر
بيوت بيضاء
تحولت بعد موت فاطمة البلوشية إلى شخص بارد، صلب كالصخر، جافة كأنني إسفنجة ناشفة تعصرها فلا تنزل منها قطرة ماء واحدة، والصدمة وَقَفَتني في بحر من الندم والشعور بالذنب وأنا أستدعي ذكريات الماضي وأنا أرمقها بنظرات الحب والصداقة والغيرة تنهش في قلبي كأي امرأة أحبت من أحب صديقتها الغالية، لأتوارى بمشاعر سلبية خلف نظرات زاهدة قرفانة، لا يستثيرني أي حديث أو شخص إلاّ إدامة التحديق أو إمعان البصر في لا شيء، وروحي منفصل عن جسدي الذي يتحرك كروبوت آلي بين القاعة والحجرة وأحاديث عابرة، شعرت أنني كبرت في تلك الأعوام القليلة، سنوات وأصبحت امرأة شاخت في السن، وأنا أضغط روحي القديم لينزلق في نفق مظلم يحوطه الندم والحسرة، لتصير كل تلك القصص والحكايات علة تنخر في عظامي كالسوس وقد صرت أتنفس بلاهة الصمت وآكله في الرستاق واعتزلت جميع من حولي، وانهياراتي مكتومة الصوت وأنا الوحيدة التي أسمع صداها، فتجعل النوم والصحو مستحيلَين عليّ والساعات الداخلية بين قاعة التدريس وغرفة بدر تجري على نحو وحشي ومرعب ينزع إنسانيتي عنِّي، وقد بدت لي ذاتي فكرة شيطانية، تستثير تدمير كل من حولي لينفضوا عنِّي بعبث، رغم يقيني بأنه لا دخل لي في هذا، لكن أحسّ به شؤمًا يسكنني، يسري ويتغذى على هزيمة الآخرين، ورحيلهم عنِّي، ليُبقِي لي هواجس الاكتئاب والفقد الممتدّ كأنه خط سيري المقدر لي في الحياة وربي يقذفهم لي من السماء ككرات مطّاطية أنشغل باللعب واللهو بها وتتداخل التفاصيل، وتمتزج المشاعر حتى تلتغي تفاصيلي الخاصَّة ويظل لي توجُّس شيطاني بين مرور الوقت الداخلي لأحاسيسي المعلولة والوقت الخارجي لساعة الزمن التي تمر وتجري وتعدو كالذئب في طريق الحياة التي لا ولن تتوقف، لذا قررت الهروب والسفر بأي طريقة، فالمكان ليس له أي معنى دون من نعرفهم ونحبهم.

كنا في نهاية أغسطس، والجدران في غرفة بدر تنضح صهدًا، ومربع الشمس من النافذة مسلَّط على الأرض لا يتحول، وقد أرسل الحَرُّ لنا لفحات من نيرانه، استغرقت أيامًا طويلة وممتدة تشوي البلد دون تراجع، والشمس فوقي شديدة الوهج تكاد تحرق بشرتي، وتزيد أعصابي المنهارة اشتعالاً وعصبية.

هاتفت ابتسام أرجوها بعد سلام فاتر عن أحوالها، أنني أريد أن أسافر على وجه السرعة، وأنني لم أعد أحتمل العمل والإقامة في الرستاق، فردَّت بنبرات هادئة وباردة أثارت أعصابي، أن هذا لا ينفع في الوقت الحالي فلا أحد غيري في المعهد للتدريس، وأنني صديقتها المفضلة، ولا يصحّ أن أتخلَّى عنها فعلت حدة نزقي وغضبي، وقلت أصرخ فيها:

- اسمعي، أنا مش عايزة حد يحبني، أنا زهقت وعايزة أسافر، فاهمة؟ ما تقوليش حاجة عن الصداقة والحب، خلاص أنا كرهت نفسي، مش قادرة، عايزة أسافر، فاهمة؟

وأغلقت في وجهها السماعة وألقيت التليفون في حقيبتي بنرفزة، وسرت بخطوات حازمة، عازمة النية بعناد على السفر، لا أبالي بنظراتهن الغريبة لي وأنا أصوّب إليهن نظرات متعالية عليهن وعلى كل الأحداث التي مرت بي كأنني أحاول أن أثبت لنفسي كم أنا قوية، وغير مكترثة بشيء أو بأحد، حتى أستلقي على سرير بدر والغثيان يملؤني، أحملق إلى السقف، وأهمس لأنفاس بدر أن تأتي لتؤنسني، وأخاطبه كروح تماسّ مع روحي الممزق كأعضاء محمد المصري، وأصبحت غائبة عن جسدي مثل بدر، ويعتريني اليأس أن يرد علي فأعاود الحملقة إلى السقف ليخترق ندائي السماء التي بها ربي لأرجوه قائلة:

- ارحمني يا رب، ارحمني يا قلبي، فأنت وعدتني في حبهم صبرًا، فحاذر أن تضيق وتضجر.

رغم وقاحتي معها جاءت ابتسام سريعًا في إجازة الخميس تجر معها معلِّمة جديدة تُدعَى جيهان حضرت من أيام قليلة وطلبت مني بهدوء مفتعل أن أجمع أغراضي، وأعود معها إلى مسقط، حتى تتهيأ فرصة للسفر تحددها إدارة العمل والكفيل، كنت أدرك أنها تتعامل معي كطفلة مجنونة عليها أن تهدهدها، وتصغي إليها وتستجيب لمطالبها حتى تحتويها وتبدأ في تنفيذ ما تريده هي.

ذهبت إلى مسقط وأنا أثير الشفقة لكل من في المنزل الكبير، حتى نظيرة التي كنت أظنها نبعًا من التعاسة أمامي، صارت مشاعري تجاهها بيضاء، كبيوت مسقط البيضاء، ذلك البياض المتعكر، المفضي إلى العدم والموت البطيء وقد انتهت صحبتي معها ومع غيرها.

في هذا العالم الذي يتألف من امتدادات لا نهائية وألوان وأحزان لا حصر لها من الحكايات وقد تلاشت الآن، لتتحلل انفعالاتي في بركة ماء راكدة، جسدي يضمر كأنه يأكل بعضه بعضًا، وروحي تَكَسَّر وتَهَشَّم كزجاج بلُّوري إلى جزئيات حادة تدمي جراحًا طويلة الأمد، يستحيل استجماعها مرة أخرى في روحي الجديد وعهدي مع الحياة القادمة.

عدت إلى غرفتي القديمة في نفس المنزل الكئيب، بوجوه كلها جديدة بعد سفر القديمات بلا عودة لأسباب لا يعلمها إلاّ الله. ولم يتبقَّ غير أبلة فوزية كما هي على نفس السرير الذي كنا نتقاسمه، وقد تبدل حالها وأصبح لها شعبية كبيرة بين الأهالي، وتولت إدارة مدرسة تحفيظ القرآن صباحًا ومساءً كمديرة لها. ولم تعد إلى التدريس في مدرسة مسقط، وبفضلها عملت معها كنائبة مديرة وتركت التدريس أنا الأخرى، قابلتني بضحكتها المعهودة، لكن قلبي كان مُقفَلاً، وابتسمت ابتسامة مقتضبة، واحتضنتها حضنًا هزيلاً وهي تنهال عليّ قبلاتٍ وقد تهدج صوتها بالذكريات القديمة التي كانت بيننا حتى قالت ضاحكة مازحة:

- مالك يا بت خسيتي كده ليه؟! ولا يهمك، هترجع أيام زمان وأحلى منها إن شاء الله... وحشتيني، وحشتيني قوي يا فقرية.

أقنعت نفسي أنني فعلت كل ما يمكن فعله في نفسي بعد موت فاطمة البلوشية، لكن الحزن لم يمضِ بعيدًا، والأيام تمر مرورًا عبثيًّا ولاهيًا كأن شيئًا لم يكُن، إلاّ أن الأمر كان يمر عليّ بشق الأنفس، أدرك أن إحساسنا بالحب والهزيمة والنشوة والفرح يختلف من شخص إلى آخر، أقلهم الأكثر ارتباطًا وتأثُّرًا مثلي ومثل آخرين في الحياة لا يستطيعون أن ينسوا ويتداركوا الأمور سريعًا، ما يطلق عليها رفاهية في المشاعر وحساسية مفرطة، لكنه من المؤكد أيضًا أن وجوه الحياة كل الحياة لا تتشابه فيها دقتا قلب وبصمتا صوت وعاشقان مثل فاطمة البلوشية وأحمد، اللذين أدهشاني إلى درجة من الروعة والحسد العالي، لكنهما في النهاية استخدما حبهما لي كحجة حاسمة لقطع الخيوط لي مع استمرار حياتي التي توقعتها لنفسي، حتى تحولت إلى جحيم وأعصابي حطام بعد كل تلك الرحلات الأثيرية، واللقاءات العديدة مع كائنات متباينة أوهنت بطولتي على البقاء والاستمرار، وأريد بإصرار أن أهرب من المكان، فالمكان بالنسبة إلى أي إنسان خالدٌ وقاسٍ، يتدرب الإنسان على الحب والكراهية، والفراق الذي يحيله إلى مكان خالي المعنى وكئيب، والذكريات تطن في عقلي كطنين نحلات، تسقيني العسل المر حتى أهمس لنفسي بمسّ جفوني: حتى الموت ليس سهل المنال لك أيتها المسكينة، نعم، ليس بعد، وأنا أمتلئ بفكرة المغادرة عن عالم لم أفلح في العثور على الاستقرار به وقد رحل عنِّي الجميع لكن ظلاله تشوش رؤيتي ويقيني بأي أمر داخل مشاعري المحجوبة عن أعين الناظرين إليّ.

في ذلك المساء بالذات، انقبض قلبي، وطفق يقلب النظر في ما حوله شاردًا مقهورًا، وتكاسلت عن الذهاب دوام المساء مع أبلة فوزية، ومكثت بمفردي، فكلهن في العمل أو التنزُّه أو شراء احتياجاتهم الشخصية. سمعت طرقًا على الباب الخارجي، فتجاهلته محتارة، مَن سيطرق الباب الآن؟! حتى ازداد فذهبت غير مبالية أرتدي جلباب النوم وعارية الرأس، فربما إحداهن نسيت المفتاح، لكني فوجئت به يرشق إليّ نظرات قديمة ما زلت أتذكرها كلما تلاقت أعيننا، ظل للحظات مرتبكًا، لا يعرف من أين يبدأ الحوار، وخرجت الكلمات من حلقه مبحوحة:

- جئت لأراك وأطمئن عليك، فلم أعد أراك بعد أن عملت في المدرسة الأخرى.

قلت بجفاء:

- أشكرك يا وجدي، وماذا أيضًا؟

تردد لحظات وتنهد بعمق حتى أردف يقول:

- هل تسمحين لي بالدخول؟ يبدو أنه لا يوجد أحد، أريد أن أتحدث معك في موضوع خاصّ وهامّ...

وجدت نفسي دهِشة من طلبه، والتزمت الصمت للحظات، لكن الكلمات خرجت قوية من أعماقي حازمة كما أردت:

- لا لن أسمح لد بالدخول، هل جُننت؟ أنا بمفردي هنا.

فاتخذ وجهه لونًا آخر غير لونه، وشعر بالحرج والمرارة تغصّ في حلقه وهو يتظاهر بالجدية واللطف حتى يفرض هيبة مقنعة تستر أفعاله الدنيئة التي أعرفها جيدًا حتى اختفى صوته قليلاً في حلقه ثم خرج بغتة مندفعًا كالتيار:

- حريق هائل شبّ في مدينتك، فجئت أخبرك لأنك لا تقرئين الجرائد، وإذا فتحت التلفاز ستتأكدين وتعرفين التفاصيل، وتلك رسالة من أماني...

ومد يده يعطيني جريدة يبدو أنها مصرية، ورسالة، وقد هربت الكلمات التي امتلأت بها داخله، وكان ينوي قولها لي، وفر هاربًا كفأر مذعور من أمامي فورًا.

طالعت الجريدة وقلبي يخفق كأن بركانًا شبَّ فيه من الخوف والارتباك كما شبَّ الحريق المروِّع في قصر ثقافة مدينتي في أثناء عروضها المسرحية والغنائية في مهرجان ضخم. بحثت عن تليفوني الخاصّ حتى وجدته تحت الوسادة صامتًا، لكنه مضاء يهتز بذبذباته، يصرخ من عدة محاولات للاتصال، وكانت -كما توقعت- أمي، التي كنت سأهاتفها أول واحدة للاطمئنان عليها، ثم فعلت هذا مع بقية إخوتي وأسرتي وصديقاتي المقربات، أنتهي من مكالمة إلى أخرى حتى نفد رصيدي، ونسيت النوم والراحة وخرجت أشتري أكثر من كارت، حتى لا أُضطرّ إلى الخروج ثانية، وأثرثر على راحتي. هاتفتهم جميعًا وضعت الهاتف الذي كان صامتا استعدادا للنوم، أعدته إلى وضع عادي على الكومودينو وبجانبه رسالة أماني، وسقطت على السرير أحاول الاسترخاء حتى تهدأ دقات قلبي التي كادت تنفجر وهي تنتفض بقوة وتنبض من شدة الخوف وأنا أتساءل بتوتر وإنهاك:

- ماذا بتلك الرسالة؟ ومَن الآخرون الذين ماتوا؟

أفقت مذعورة على رنين تليفون متلاحق، وكان جسدي بكامله يتفصد عرقًا غزيرًا كقطنة مبلَّلة، وأنا بين نعاس ثقيل مضمَّخ بصداع أليم حتى التقطت الموبايل بصعوبة لأنصت:

- ازيّك يا فاطمة؟ عاملة إيه؟ وحشتيني، أنا اطمّنت على أمك، واخواتك كويسين ما فيش حاجة.

عرفت الصوت، إنها صديقتي نهى التي أحضرتني إلى هنا، وقد حضرت هنا من قبلي ثم تزوجت بمدرس وسافرت معه إلى السعودية، وانقلبت بعد عودتها إلى داعية وارتدت النقاب، وتمارس نشاطًا دينيًّا اجتماعيًّا تحث فيه الفتيات على ارتداء النقاب وحفظ الأدعية صباحًا ومساءً وذكر الله في كل الأوقات، وهداية البنات والسيدات إلى طريق التوبة والعودة إلى الله.

كنت قد أفقت بعض الشيء فقلت لها:

- ربنا يخليكي يا نهى. وانتي عاملة إيه؟ جيتي من السعودية؟

تجاهلت سؤالي واستطردت تتحدث عن شيء آخر:

- شُفتي اللي حصل لولاد الكلب الكفرة؟ ربنا بيعاقبهم على فجرهم...

قلت غير منتبهة لقصدها الحقيقي وأنا أقاوم الصداع الذي يدميني:

- اليهود؟ قصدك اليهود؟

فرنَّت ضحكة عالية هزَّت التليفون من جلجلتها وهي تتخلل أذني:

- يخرب عقلك يا فاطمة... طول عمرك دمك خفيف، والنبي عندك حق ما هم زي اليهود، ربنا شواهم في النار وبقوا زي العفاريت بيسرحوا بالليل في القصر اللي بقى زي الخرابة. ما انتي عارفة اني ساكنة جنب القصر المنيّل ده.. قال فنانين قال...

كلامها أصابني بالخرس للحظات، ومررت براحة يدي على جبيني المبتل حتى استوعبت كلامها الذي أغضبني فقلت مندفعة كموجة بحر هادرة طائشة:

- يا شيخة حرام عليكي، فنانين إيه وزفت إيه، هما مش ناس زينا وعندهم أسر وعيال؟ هو الدين اللي بتدعي له علّمك إن موت الناس والشماتة فيهم يبقى حلال؟ اتقي ربنا وبلاش شماتة حرام عليكي، دول مسلمين زينا...

وقاطعتني تردّ بتبرُّم:

- بس فيهم مسيحيين...

ولم أجد حلاًّ للردِّ عليها غير إبداء الوقاحة، فالبذاءة في أحيان كثيرة تكون المعنى الأوضح والمعبّر عن الموقف تمامًا ولا يصلح أي تهذيب في كل لغات العالم، فقلت لها وقد عاد عقلي بإفاقة بالغة:

- يا بنت الوسخة، الله يرحم الجيبة المفتوحة لحد ركبتك والمكياج والوقفة على النواصي مع البنات أصحابك، وشرب السجاير الفرط مع ولاد الجيران صبيان الحتة اللي كنتي بتقابليهم في المنور تحت بير سلم بيت أبوكي... فاكرة يا وسخة ولا خلاص عشان سافرتي واتجوزتي شيخ وبقى عندك فلوس، بقيتي انتي كمان شيخة وبتربي الناس؟ اقفلي السكة يا نهى، لأ، غوري من وشي خالص، أنا مش عايزة اعرفك تاني... انتي بت واطية وحقيرة... لا إله إلاّ الله بتشمتي في أذى الناس.

تثاقلت الهموم كجبل تسد أنفاس صدري، وطاش عقلي من هذا الصداع المزمن فقلت مرة أخيرة. لا بد من الهرب... لا بد من الفكاك حتى أنجو بجلدي من هذا الزخم المأساوي، الذي يحوطني خارج الوطن وداخله، ولكن عليّ أولا أن آخذ دشًّا باردًا... نعم، الآن.

كانت رسالة أماني لي تحية نابعة من القلب، تطالعني بها عن أخبار سعيدة وانزلاقها من أصعب موقف في حياة أي بنت تريد أن تكون عذراء في ليلة الدخلة، حتى تفوز بلقب الشرف والعفة والزواج الشرعي، وقد دبرت أمورها مع إحدى صديقاتها، وتمت الليلة الموعودة بسلام، وحامل في شهرها الثالث، وتعيش حياة مستقرة وآمنة وقطعت كل حبال الماضي القديم، وبدلت رقم هاتفها وأنها لولا مساعدتي لها ما كانت لها تلك الحياة، وهي تدين لي بالشكر، وتطمح إلى صداقة وود كلما سمحت الظروف بالزيارة أو الاتصال، تاركة لي رقم التليفون والعنوان، وترجو الاتصال قريبًا. ترددت ماذا أفعل بتلك الرسالة، ربما لو كانت أرسلتها في وقت سابق كنت سأنفجر من السعادة والفرحة لأمرها، لكنني في الوقت الحاضر روحي بعيد تمامًا عن أي مثالية أو تعاطف أو مشاركة أحد فرحه أو حزنه، فأرجأته بعيدًا في حقيبة خاصَّة بها قفل مع دفتر يومياتي "مذكرات العباقرة"، حتى أرى ماذا سأفعل به.

وانتهى عام 2005 بكارثة موت فاطمة البلوشية، وحريق قصر ثقافة بنى سويف الهائل في مدينتي الصغيرة.

مرت الأيام دون أن أجد حلاًّ، وابتسام تحاول المراوغة والهروب مني حتى أستسلم للبقاء، والتخلِّي عن فكرة السفر. الحق أنني حاولت النسيان والبقاء، لكني لم أستطع، كنت أشعر بنفس ثقيلة، ولم تعد اجتماعات الأماسي مع أبلة فوزية وصديقاتها الجديدات العمانيات اللاتي أصبحن كثيرات تثير فيّ أيّ بهجة رغم حُنُوِّها وعطفها البالغ كأني طفلتها، لا ترفض لي طلبًا، وتحضر لي ما لذ وطاب وتدفعني للخروج والتمشِّي والحديث، وكنت أقابل كل هذا بالصمت، وتجهم وابتسامات كأن فكَّي فمي أصابهما عجز يمنعهما عن الانفراج الطبيعي والابتسامة الوافرة.

تشابه الأيام جعل الذكريات كتنويعة على رأس مُحبَط يريد الهروب إلى أقصى حدّ، لذا أصررت على مقابلة ابتسام بعد انتقالها إلى منزل آخر تعده وتجهزه لاستقبال زوج المستقبل، حيث سيتم زفافها في إجازة منتصف العام، فذهبت إليها في فترة الراحة بين الدوامَين الصباحي والمسائي في عز الظهيرة، طلبت من سائق الباص أن يذهب بي إليها، طرقت الباب ولم أسمع ردًّا، فوقفت بجانب الباب ساكنة والشمس ترسل أشعتها اللافحة، فتضايقت من وطأة الحرارة على رأسي، لكنني انتظرت لأكثر من ثلث ساعة، حتى توقف سائق تاكسي ونزلت منه ابتسام وهي تأمره أن يحضر الساعة السادسة مرة أخرى. بمجرد أن رأتني تهللت تقول بفرح:

- تصدقي انتي بنت حلال! كنت هاتصل بيكي النهارده، لكن انتي سبقتيني وجيتي.

تجاهلت ترحيبها وقلت بحسم:

- أنا عايزة أتكلم معاكي في موضوع يا ابتسام.

ربتت على كتفي بحنو:

- وماله يا حبيبتي؟ تعالي أنا عازماكي على هاريس اللي بتحبيه في مطعم عمر أمك ولا أهلك كلهم ما دخلوه.

ولأنني أعرف أنها تمازحني لتستقي مدى الود والتباسط الذي بيننا فقد قلت بشيء من الضيق:

- وإيه اللي جاب سيرة أمي دلوقتي يا ابتسام؟

- ولا يهمك يا قمر بلاش أمك خليها أهلك بس.

استقللنا تاكسيًا إلى مطعم مدخله فاخر وأنيق ويشبه البيوتات الخشبية الصغيرة كل حجرة خشبية مكيفة وبها حمام وترابيزة طعام يقابلها أريكة وثيرة وعريضة على النمط الأمريكي وطاولة نحاسية مستديرة عليها إبريق قهوة عربي بكؤوسه الفضية المزخرفة للراحة والاسترخاء لشرب النارجيلة.

ويبدو أنها تعتاد الحضور إلى هذا المطعم بالذات، فما إن رآها الهندي رحب بها بشدة وقادها إلى حجرتها التي دائمًا ما تختارها إذا كانت فارغة، ظلت تتحرك بانبساط حتى إنها رحّبَت بي مرة أخرى وهي تخلع العباءة وتفكّ دبوس طرحتها لينسدل شعرها على ذراعيها أسود جميلاً لامعًا ينساب كليل عميق، واستطردت تقول كمن تذكر شيئًا هامًّا وهي تحتضنني:

- ياه! وحشتيني قوي يا فاطمة... كل دا يا جبانة ولا حتى اتصال؟!

تناولنا طعاما شهيًّا وجلسنا على الأريكة، تشرب هي الشيشة التي أحضرها لها الهندي بعد الغداء، وأخذت تنفث الدخان بتلذُّذ وأنا مشدوهة أنظر إليها باستغراب حتى خرج الكلام عفويًّا:

- من إمتى يا اختي بتشربي شيشة؟

- دي شيشة تفاح، معظم العمانيات بيشربوها، وفيه كل أنواع الفاكهة... أجيب لك واحدة؟ والنبي مش أحسن من السجاير؟

تجاهلت رأيها عن الشيشة والأفضل، وأحست بحاجتي إلى الحديث، وبنبرة ذكية ولَمَّاحة قالت على الفور:

- إنتي عايزة تسافري ليه يا فاطمة؟ ليكي إيه في مصر؟ أنا كمان مش هارجع مصر، هاتجوز هاني وأجيبه هنا يشتغل معانا، ما انتي عارفة انه مدرس زيك. هتحبيه قوي يا فاطمة، زيك بالظبط طيب ومخلص وبيحب الشغل زيك، وفوق دا كله بيموت في التراب اللي بامشي عليه.. ما أنا قلت لك قبل كده انه كان بيحبني من أيام ثانوي، بس أنا اللي كنت مش واخدة بالي.

أطرقت رأسي ناظرة إلى أرضية الحجرة اللامعة من شدة النظافة، واستأنفت هي كطبيب تناول مشرطًا ليفتح جرحًا غائرًا وأخذ يعبث فيه قائلة بقوة وحماس المغتاظ:

- كل ده علشان صاحبتك ماتت وأحمد ما حبكيش وسيف مشي وعبد العزيز سافر؟ كنتي بتحبيها قوي؟ ليه؟ هي فيها إيه أحسن مني؟ واحنا من بلد واحدة، إيه فاطمة؟ فيها سكر وأنا كخة؟!

اشتعل رأسي، وكادت الدموع تطفر من عيني وأمسكت أعصابي حتى لا تخذلني وتسقط وهي لا تكف، ثم قالت:

- انتي مالكيش ذنب في موتها يا فاطمة... دا قدر، انتي مش مؤمنة ولا إيه؟

وأخيرًا انسابت دموعي غزيرة، فأمسكَت بيدي واحتضنتني وشعرها الأسود الجميل يلفح أنفاسي بشهيق البكاء الذي هز جسدي كله، وغصت في حُمَّى الألم وهي تطبطب بباطن راحتَي يديها على ظهري حتى أهدأ وتتفوه بحديث الأحلام وترمي لي بطوق النجاة وهي تقول:

- تعرفي؟ لما ييجي هاني هنعيش مع بعض، عارفة ازاي؟ هاني ليه أخ اسمه صلاح مراته ماتت وعنده عيلين، إيه رأيك؟ أرمل وعنده العيال اللي ربنا حرمك منهم، هتكوني عليهم أحنّ من أمهم اللي ماتت.. أنا عارفة كده.

وانتزعتني من حضنها كمن يخرج من الجنة بغتة، وأمسكت بذراعيها كتفي:

- أنا عندي ليكي مفاجأة.. الكفيل هيفتح مدرسة جديدة في بركة وأنا هاكون المديرة وانتي الناظرة وهاني هيشتغل معانا... أنا خلاص زهقت من مسقط، والمعلِّمات اللي هنا.. هنروح مكان جديد مع بعض يا فاطمة.

استندت بظهري إلى الأريكة، وقد تباعدت كل الأحلام عنها وعني وقد جفت دموعي وناولتني مناديل ورقية لأتمخط وأبتلع لعاب فمي بدموع ولَّت، وقلت بكل هدوء وحسرة وعيناي ذابلتان من غزارة الدموع، وجسدي خامد ورخو بفعل الطعام الكثير وحديث ابتسام حتى قلت:

- أنا هاقضي معاكي رمضان لأنه قريب، وهاسافر بعد العيد، صرَّفي أمورك وهاتي بديل ليا في أقرب وقت.

واستأنفت أقول كأني أخاطب نفسي:

- عارفة اني طيبة وغبية وحمارة في نفس الوقت، بس مش هاقدر يا ابتسام، أنا فعلاً تعبانة وعايزة ارتاح، وراحتي في السفر، أمي هي أولى بيا دلوقتي.

جاء شهر رمضان بطقوسه المعتادة في كل البلاد العربية، العمل القليل، طهى أشهى المأكولات، الكسل والتراخي والنوم كثيرًا حتى يؤذن المغرب وتنحل ذمة البطون. اتفقت المعلِّمات أن يأكلن جميعًا معًا وأن تكون أبلة فوزية المسؤولة عن الطهي مع اختيار معلِّمة كل يوم لمساعدتها، ويكون مكان الالتقاء هو الصالة، يفرشن العديد من الجرائد ويتجمعن في شبه دائرة لتناول الإفطار، فالطعام هو أقوى لغة في قاموس الحياة المصرية في الأفراح والمآتم يأكلون، لكنني أحسست بسطحية تلك المشاعر القومية ومللت نظرات الشفقة التي يحدجون بها إليّ من بؤس حالي، وروحي هائم بالضياع. وعزمت على خوض تجرِبة لأول مرة في حياتي هي الاعتكاف في الجامع بعد الذهاب إلى العمل الصباحي الذي اكتفيت به، ولم أذهب إلى المساء. بعد العمل أتجه إلى الجامع ومعي غيار داخلي وعباءة سوداء ولحاف أسود أيضًا وأظل بعد قراءة القرآن والتسابيح حتى يؤذن الإمام للصلاة بعد أن يقرأ ما لا يقلّ عن جزأين من القرآن مع الصلاة المستمرة لأكثر من اثنتَي عشرة ركعة حتى الساعة الثانية عشرة ثم يكون التهجد إلى موعد السحور فيتوقف الشيخ لتناول السحور وراحة للاستعداد لصلاة الفجر حاضرًا، ثم أنتظر شروق الشمس لصلاة الضحى وأتأهب للذهاب إلى العمل، وهكذا دواليك، وأحسّ نفسي مملوءة بخشوع غامر يتلبس كل الدنيا مع صوت الشيخ العذب الندي، وعندما أشعر بالتعب من القيام والقعود أتكئ على الجدار أو أنام باسترخاء وقد حل بجسدي خدر يشبه ذلك الذي يشعر به الإنسان بعد رحلة طويلة، وفوهة تساؤلاتي الوجودية تتأمل وتسأل عن ذلك الكائن البشري المتحرك واللاهث تحت كل سماء وفوق كل أرض حول معنى حياتنا ووجودنا. يا إلهي! ما هذا الإنسان؟! كيف خُلق؟ ولماذا؟ وما معنى حياته؟ وما غايتها؟ بالخير والشر؟ ما مصدر الآلام وما غايتها؟ ما الطريق الذي يقود إلى السعادة، يشتد بي أنين موجع مكتوم بدموع مدرارة صامتة وأخيرًا الموت؟ لماذا يا ربي؟ لماذا ماتت فاطمة البلوشية ولما لم أكن أنا؟ لقد كانت تنتظر فستان زفافها، بينما أنا لا ينتظرني أحد! ما السر المطلق المتعالي عن كل مشاعر البشر، حتى يتعذر وصفه ويحيط بوجودنا من كل جانب، الذي منه نستمد أصل وجودنا وإليه تصير ونصير إلى رب السماوات السبع والأرض والبحار والأنهار والمحيطات، وكل الكائنات الحية؟ كم أشتاق إلى تلك المسيرة ليخبرني ما الموت، وما مصير الإنسان بعد الموت! هل هناك حساب وجزاء؟ وكيف ذلك؟ كيف؟! رفعت رأسي محدقة النظر إلى بهو الجامع المزخرف زخرفات إسلامية بديعة بأنواره الباهرة والساطعة سطوعًا ناعمًا ودافئًا إلى مشاعري الآن بين شعور لانهائي، وأبدي يمشيان معًا وأنا أبحث عن ذلك الكائن البشري المتسائل عن زمن لا ينتهي ولا يمر أبدا ليصبح الكون غير محدد، له حاضر واسع المدى، لا يدرك لغة الموت الذي ترقد معه كل أسرار الحياة والتأمل في كل اللقاءات لي مع الآخرين حتى تحولت إلى رباط من الحب والرغبة والفراق والغضب لم يجنِ لي إلاّ التعاسة والشك في مكنون الراحة والرضا، لكن يبدو أن وضعي سيِّئ مع عالم الأحياء الآن.

انتهى رمضان وجاء العيد الصغير وعدت إلى العمل صباحًا ومساءً مع أبلة فوزية، وانتظرت أي رد أو أخبار عن سفري ولا يأتيني شيء وابتسام مشغولة تمامًا بالتجهيز لعرسها في نصف العام، ففعلت ما لا بد منه، وانقطعت عن الذهاب إلى العمل، مهما حاولن إقناعي، ومكثت في السكن حتى كان لي ما أريد، وإن حدث بعد فترة من الوقت.

فاجأنا الكفيل بدعوته إيانا جميعًا لقضاء العيد الكبير في مزرعته في الرستاق لرؤية الذبائح والتضحية وتناول الشواء اللذيذ، والأرز المحشو بالصنوبر واللوز والجوز، كما فاجأني إعدام صدام حسين في صباح ليلة العيد، بفتح جوّال أي أحد ليريك مشهد إعدامه الذي يتراسلونه على الهواتف وهم يشعرون بالشفقة والتعجب والصمت، فشعرت بسخافة الأحزان وحقارة الأفكار وأنا أنظر إلى المشهد القاتل حزينة لاهثة.

وبعد يومين من عودتنا إلى مسقط، تسلمت كل أوراقي وتذكرة السفر من أبلة فوزية، وقد خاصمتني ابتسام لعنادي وتجاهلي مشاعرها ولم تأتِ حتى لتوديعي، كنت الوحيدة التي تسافر في هذا الموعد الغريب، فلا هو نصف العام ولا نهاية العام.

وأنا أرتب حقائبي عمَّني سلام عميق، وأخيرًا أحسست أن كل المشاعر السلبية خرجت إلى السطح، مشاعر ظلت مختبئة لليالٍ طويلة داخل روحي دون وعي منِّي، فشعرت الآن أنها لم تعد لها ضرورة وقد غادرتني، كما غادرتني البيوت البيضاء وأنا أرى عينيها السوداوين، وشعرها الأسود ووجهها الطفولي الخمري بثغره الباسم وجمالها الوضاء، خمسة وعشرون عامًا فقط، قضيت معها نحو سنتين فقط وفارقتني إلى الأبد. آه يا فاطمة البلوشية! كم سأشتاق إليك! بل آه يا فاطمتين! كم سنوات وسنوات تستمرّ لتسقيني الألم العظيم على فراقكما، وقد اندمجت اليقظة في السحر، وأصبحت الحكاية مع حلول السفر هي الواقع الذي تحول إلى عبث عقيم يملأ المكان بذكريات حياة لم تعُد حياتي وقد انقطعت الحكاية، وسيحلّ غد جديد في وطن آخر، لأواصل أعجوبة التحليق إلى عوالم سحرية أخرى مختلفة تمامًا عما كان وصار وأمسى زائلاً، كل ما أتلهف عليه الآن هو شيء واحد، الرحيل لأعود إلى حضن منزل أمي القديم وأنام نومًا عميقًا دون صراع ولا تقلب في الفراش، مختنقة وجوعانة إلى معرفة الحقيقة، ولن أشكو من الفراغ الكئيب الذي كان يجثم على صدري وينتشر في رأسي الدقيق ويهزّ توازني، ويجمِّد مشاعري كالصنم، ولكن هل سيتحقق هذا في الوطن الأم، أم أنه بداية لضياع واغتراب آخر أكبر وأوسع مدًى...؟ لا أعرف...

التقطت رسالة أماني من مذكراتي، التي هجرتها من وقت طويل، فكدت أمزقها، لكنني آثرت الاحتفاظ بأوراق وكلمات الماضي، واكتفيت بتمزيق رسالة أماني وقلت لنفسي في أثناء تمزيقي الرسالة:

-أنا أيضًا جزء من ماضيها الأسود، وعليها أن تنساه، وتسير في حياتها دون منغِّصات.

دوَّنت برغبة ملحَّة في مذكراتي تاريخ عيد الأضحى الذي زامن إعدام صدام حسين 3/12/2006 الموافق السبت، حتى لا يتسلل إليه النسيان والصدأ في أثناء عبوري الطريق، لكني اكتشفت أن هذا يحتاج إلى قلم غير كل الأقلام، لذا عليّ عندما أريد أن أكتب أن آخذ قلمي المعدني إلى أكثر السَّنَّانين قوة وأذهب به إلى أكثر الحدَّادين نارية... حيث يقوم قلمي على آلته النارية الشرارية حتى يصبح أكثر بريقًا... أكثر تعبيرًا... عندما أريد أن أكتب إن ذلك يجهدني قليلاً.

لكني بعد هذا أستطيع أن أجلس لأكتب... هناك على قمم الجبال الصنمية العالية... حيث يصبح العالم بعيدًا... صغيرًا.

أضع الورقة أمامي مباشرة، وأستلّ قلمي كما لو أني أستلُّ خنجرًا أقربه من الورقة البيضاء جدًّا... فترتعش راغبة في ملامسته، تشتد رغبتي، فأرتجف، إذ يثير ذاك قلمي كثيرًا... يلمسها، يفضّ... بكارتها في الحال، أنظر إلى قلمي البراق، فأراه محتضنًا الورقة، والدماء تملأ المكان... يرتجف عقلي... وأغمض عيني بسرعة.

لذا دعونا نسمح لفاطمة البلوشية، وفاطمة عبد الناصر، أن تغادرا هذا المكان إلى الأبد، ونذهب إلى القصة الأولى التي بدأت الحكي عنها وكانت مُلهِمًا لشهوة القلم... هل تتذكرونها؟ إنها صديقتي السرية المفضلة التي عليّ أن أسرع بالذهاب إليها وقد هاتفتني بعد خروجها من السجن، فهي تشكو تروجان (طروادة) يهاجمها وهي جالسة على الكمبيوتر، وقد أحضرت لها المجلة لنرى كيف سأقتل التروجان وأشاهد أفلامي المفضلة مع صديقتي السرية المفضلة.

 

هوامش:

 (1) مانشتات مأخوذة من عدة صحف مصرية.

 (2) مانشتات مأخوذة من عدة صحف مصرية.

 (3) الكاتب رشيد الخالدي.

(4) الشاعر الكبير محمود درويش.

 (5) الدكتور أحمد الخميسي، أخبار الأدب.

 (6) صبرى حافظ، مقالات عن المتخيل الوطني، أخبار الأدب.

 (7) المالكه: الزفاف.

 (8) بركة: إحدى المدن في عمان.

 (9) إحدى المدن في عمان.