لم أستبشر خيرا عندما صدم عينيّ مشهد الجنود المدججين بكل ما يلزم لسحق المتظاهرين.. كنت قد تأخرت لحظات، ولمّا دخلت المسجد كان الخطيب قد صعد المنبر والمؤذن يؤذن للصلاة، لم أجد الشيخ عبد الرشيد ابن عمي، بل شخصا أخر طويل القامة ذا شارب كث وعينين واسعتين ولحية كبيرة ككتلة من السلك المهشم، وله فم واسع وسنان لامعه وصوت عال حاد النبرات، لا يشعر المستمع بأنه يتحدث من القلب. بدا كإنسان آلي. إذن فالأمن استبدل هذا الشخص بالشيخ عبد الرشيد اليوم بالذات. عندما بدأ خطبته: بقول الله تعالى " وأطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم " أدرك الحضور ونحن في ثورة أن هذا الرجل البديل جاء ليرد المتظاهرين عن أهدافهم مستخدما النصوص الدينية كدروع في غير موضعها أي أنه مثل الجنود الذين يحتشدون بالمئات خارج المسجد، وقال فيما قال: لابد للجميع أن يستمعوا لصوت الحكمة، وسندنا في هذا ما ورد بالذكر الحكيم " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة "، وهو صوت مطلوب في هذه المرحلة الملتبسة التي يختلط بها الحق بالباطل، الصواب بالخطأ.. علينا جميعا على الأقل وإلى أن تنجلي حقيقة الأمور أن نرفض من أعماقنا العنف ولا نشجع الانفلات، لأنهما سيؤديان لزيادة الاحتقان وأحذركم ونفسي من النار المشتعلة التي ستلتهم الكل وسوف تغرق السفينة التي تحملنا إلى بر الأمان.
تحمل المصلون كلام الخطيب العجيب والمستفز على مضض. لم يبدر من بعضهم إلا الهمهمة ونفثات الغضب المكتوم.. كانت كلماته تخبط مشاعرهم وتصفع أعصابهم الملتهبة وهو يحاول صب المياه الباردة على النار مقتنعا أنه لجهله المفرط يقدم خدمة جليلة للوطن.
أخيرا أعلن عن قيام الصلاة فتنهد الجميع تنهدات الخلاص وارتفعت عن صدورهم صخرة الغباء والتملق، وما أن انتهت الصلاة حتى هتف المصلون داخل المسجد حتى كادت الجدران أن تتهاوى والسقف أن يسقط من زلزلة الصوت الهادر: حرية.. حرية.. وتشكل بسرعة كيان ضخم متحد ومتماسك من البشر. مضى يتدفق حتى امتلأ بهم الميدان عن آخره وتمدد في الشوارع المفتوحة عليه.، وسرعان ما انضم إلى المسلمين مئات المسيحيين الذين كانوا قد تجمعوا أمام كنيسة شارع مراد
صدرت الأوامر لجنود الأمن المركزي بالتصدي للمظاهرة حتى لا تأخذ طريقها إلى ميدان التحرير.. دمدم الجنود المحمية رؤوسهم بالخوذات ذات الدروع الصغيرة التي تحمى الوجوه بالإضافة إلى الدروع المحمولة على السواعد وتكاد تحمى الجسد كله، وبأيدي الجنود عصيّ حديثة.. هجم الجنود على المتظاهرين.وضربوهم بعنف بالغ كأنهم يحاولون الانتقام من قتلة أخواتهم أو آبائهم. قاوم الشباب ودفعوا الجنود إلى الوراء.
زاد الضرب وبدأ التعامل مع المتظاهرين بقنابل الغاز المسيلة للدموع وكانت من أحدث ما أخرجته المصانع الأمريكية ضمن خطة تحديث آليات وزارة الداخلية، وقال لي صديق مطلع أنها جزء من المعونة الأمريكية لمصر والتي يقبل الرئيس من أجلها أى شروط أمريكية حتى لو ضد مصالح الشعب.أي تبديد القرار المصري في مقابل قنابل يضرب بها الشعب المصري.. كنت أجلس على الكرسي على الرصيف تحت عمارة الشهر العقاري عازما على الاشتراك في المظاهرة ولو في الصفوف الخلفية.. لم أشترك في مظاهرة منذ كنت طالبا في مدرسة الصنايع الثانوية حيث تخصصت في الزخرفة.. كان عمري 17 سنة وطلعت في مظاهرات 68 محتجا ومغتاظا من الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران بعد هزيمة 67، و لم أشارك في مظاهرات 71، 72 لأن الجيش طلبني للخدمة العسكرية، ولم أشارك في مظاهرات يناير 77، لأني كنت أصبت في الحرب.. كان نفسي جدا أخرج في 77 لكنى لم أعرف بها إلا متأخرا وكانت يومين فقط ولم تكن منظمة مثل تظاهرات هذه الأيام... أوشكت على البكاء، لكنى كبحت الدموع. كنت أتمنى في هذه اللحظة بالذات أن أكون بعافيتي. قادرا على تقدم الصفوف وقيادة المظاهرة، بل ساورتني أحاسيس جياشة تدفعني للنهوض. نصفى العلوي ينهض بينما السفلى قعيد. عادت غدد الدموع تتأهب لإفراز مخزونها. لكنى كبحتها بعد ما رأيت سحب الدخان الكثيف تهاجم الجميع. تعالت مع الهتافات أصوات السعال بسبب خلو الفضاء من الأوكسيجين وبسبب التأثير المدمر للغازات على الجهاز التنفسي من الأنف إلى الرئتين.. سقطت بعض البنات. زادت القنابل وغطى الدخان الجميع.. ألقى سكان العمارات من الشرفات زجاجات الخل.. التقطها الشباب وصبوا منها على المناديل والكوفيات وصبوا للبنات على أطراف الطرح وأغطية الرؤوس واستخدموها كمامات... رمى آخرون يسكنون الأدوار الأرضية البصل والثوم، وناول أصحاب المحلات الشباب زجاجات المياه الغازية التي وزعوها على المتظاهرين ليتجرع كل منهم جرعة، وبعضهم احتفن واكتفي بغسل وجهه وعينيه بالمياه الغازية. خرج د. صليب من الصيدلية المجاورة التي كنت أرتكن إلى جوارها ونادي عددا من الشباب كي يأخذوا منه ما يحمل من بخاخات الهواء وزجاجات قطرة العين.
رغم السعال والتهاب العيون كانت الجموع تهتف: مش ح نسلم.. مش ح نطاطي. احنا كرهنا الصوت الواطي.تكرر الهتاف عدة مرات، ولما زاد الضرب لمحت عجوزا يمسك بكم جندي منع نفسه من دفعه في لحظة استثنائية ويصرخ في وجهه رغم قرب المسافة فقد كان يحاول توصيل رسالة: يا عسكري يا غلبان قول والنبي بتقبض كام. ردد الآلاف وراء العجوز كلماته البسيطة.. كررها العجوز عدة مرّات، لكن الجنود لم تكن تسمع غير الأوامر، ولا ترى غير وجوه الضباط.. الضرب يتوالى بلا رحمة وعدد المصابين بالاختناق والإغماء والجروح يتزايدون،وبينما الشباب يسرع بنقل المصابين خارج ميدان المعركة داخل الصيدليات والعيادات وفي مداخل العمارات للإسعاف كنت أرى الدم المراق يرسم على ملابس المصابين وعلى مساحات صغيرة من الأرض ملامح الوطن الذي يمسح دموعه ويرفع رأسه ويتطهر بالدم ويكتب به أيضا أهدافه بخط واضح ومشرق وصارخ. عروقي تنبض بشدة داخل جسدي وعبر أذرعي المتحفزة.. ما أبشع العجز؟؟.. لكنى لن أبقى عاجزاًً إلي الأبد.. اليوم فرصتي لأشارك المتظاهرين طلعة الوطن.. طلعة واحدة من أجل الوطن.. قوّيني يا رب.
تعودت منذ عشرين عاما أن أصلى الجمعة في مسجد الاستقامة بميدان الجيزة، لأني أقيم على بعد خطوات منه وبالتحديد في شارع الصناديلي، كما أن الخطيب الدائم للمسجد هو الشيخ عبد الرشيد ابن عمى، وكثيرون يحرصون على الحضور استمتاعا بخطبته البليغة والجريئة التي تمزج الماضي بالحاضر وتصحح الكثير من المفاهيم وتدعو إلى الدين المعتدل و المستنير وتعلو فوق السفاسف والمواقف المتصلبة.
سكنت الدور الأرضي بعد حرب 1973.. كنت قد تلقيت دفعة رشاش في ساقيّ من جندي إسرائيلي كان مختبئا تحت دبابة بعد أن دمرنا عدة دبابات وأسرنا معظم جنودها.. أصبت إصابة شديدة أعجزتني.سلمتني القوات المسلحة كرسيا متحركا أتنقل به وكان لابد أن أظل به من الصباح إلى المساء. استعنت بأولاد الحلال حتى استأجرت الشقة التي أقيم فيها وكان شرطي الوحيد أن تكون بالدور الأرضي حتى أستطيع أن أذهب إلى دكاني القريب فأنا لا أحتمل القيود ولا الحبسة. فتحت الدكان لممارسة هوايتي في الرسم والزخرفة وكتابة اللافتات بخطى الجميل و كذلك بيع اللوحات.. رسمت الكثير من أغلفة الكتب، كما كتبت مئات اللافتات للمحلات في القاهرة والفيوم وبني سويف وشبرا الخيمة.. يأتي أصحاب المحلات والشركات إلى بالذات كي يطلبوا إلى تنفيذ خطوطهم ورسومهم ومعي في المحل مساعدي الوحيد جوزيف ابن فهيم صاحب العمارة.
في يوم " جمعة الغضب " سبقني ولداي تامر وهيثم إلى المسجد. طلبت الصغيرة التي لم تتجاوز الخامسة عشرة أن تدفعني. حاولت منعها على أساس أنى لا أدير عجلات الكرسي بيديّ ولستُ بحاجة لخدماتها، قالت أنها ذاهبة للصلاة في المسجد
قلت لها: ابقي مع والدتك لتساعديها في تجهيز الغداء
قالت على الفور كأنها تنهى النقاش: أمي ستلحق بنا بعد دقائق
شملتني البهجة برد ابنتي ومضينا إلى المسجد.. نحن جميعا نصلى لله لنشكره على أفضاله وندعوه كي يزيح الغمة. أسفت لأن ولدى الأكبر الذي تزوج منذ سنوات ويعيش بعيدا عنى يدخن ولا يحرص على الصلاة.. لماذا يتهرب الكثير من الشباب من الصلاة وكأنها تدعو إلى الانحراف أو تدفع للكراهية.. الصلاة متعة وحوار مع الله وتصفية للنفس وتخفيف للآلام ودعوة متجددة للتمسك بالفضيلة وغسل الروح..أنا حزين لأن الكثيرين لا يدركون ذلك، بل ويقاومون إذا حاول من أكرمهم الله بالهدى أن يبينوا أثرها وجدواها على الناس والحياة.. الصلاة بالذات إذا تمت بإخلاص كانت صمام الأمان الذي يدفع المشكلات. على أية حال له في خلقه شئون.
فوجئت بمن يضع يده على كتفي بحنان: يا عم باز.. لماذا تخرج من بيتك يوم القيامة؟
هذا الصوت أعرفه. ليس معقولا أن يكون هو. صوت مميز وخشن وكأنه سكين يمر على زجاج مشروخ. هذا الصوت لا يكون لأحد إلا لجارى الغبي ذي الشخصية اللزجة. اسمه كامل.. الاسم لطوبة والفعل لأمشير. شخص لا أطيقه وأكرهه كره العمى. إنسان مزعج لغاية الغاية. لا عمل له طول اليوم إلا تجاوز الحدود وسب كل العابرين، ومن يستند إلى جدار بيته يلعن أهله. يغسل سيارته التي تشبه القنفذ وتسير كالسلحفاة وتخرج عادما يسود وجوه مليون إنسان، وتظل تعطس وتسعل طوال الطريق. يعرفها كل سكان مدينة الجيزة من نزلة السمان حتى أرض اللوا والبحر الأعظم والمنيب والمنيل والمماليك والروضة، ويعرفها السائحون الذين يتردد ون على الحي.. إذا غسلها في الشارع أغرقه بالماء واستمر يدلك صاجها الكالح عدة ساعات حتى تتوقف الحركة وتصل المياه أحيانا إلى مداخل البيوت، وإذا حدث أن اغتاظ منه أحد السكان ونبهه إلى سوء ما يفعل يقول على الفور ببروده النادر: أنا حر.. هذا شارع الحكومة وليس شارعك، وإذا زاد اللجاج يقول: مادام كلامي لا يعجبك أبلغ الشرطة.
كان إذا خطر على بالى تذكرت المثل الذي يقول: إذا افتكرت الديب حضر له القضيب، لذلك قررت منذ نحو عشر سنين ألاّ أحييه ولا أرد تحيته حتى لو في المسجد.. وكنت أمنى نفسي كل يوم بالصبر على الجار السو يا يرحل يا تيجي له داهية تاخده.
قال وهو يحاول أن يكون رقيقا فازداد سخافة:
اليوم يوم الحشر ولازم أعرف لماذا تقف منى هذا الموقف؟
لم أهتم.... واصل محاولته الثقيلة مثله:
إذا كنت أخطأت في حقك أرجو أن تقبل اعتذاري
أمسك برأسي محاولا تقبيلها، أبعدتها عنه فهجم عليها براعيه وأوسعها تقبيلا.. شعرت كأنه يبصق عليها.. تخلصت منه أخيرا وأنا أقول: هل هذا وقته؟..
اندفع يقول: وقته وعز وقته.. بصراحة شعرت أنى لا أستطيع الاستغناء عنك.. الحي كله لا يستطيع.. أنت بيننا البركة.. عفا الله عما سلف، ولو أنى لا أعرف ما الذي سلف.
قلت من بين أسناني: مادمت لا تعرف فلا تعتذر
قال: أرجو أن توضح لي خطأي
قلت بقرف: في وقت آخر..
حاول من جديد بإلحاحه اللزج فصرخت فيه بحدة لفتت الأنظار.
أخيرا سكت، وأخيرا تغلب المتظاهرون على الجنود واكتسحوهم وتحركوا.. عزمت على المضي خلفهم
سألني الجار التعس: هل تود أن أعيدك إلى البيت؟
- شكرا
أدرت العجلات في اتجاه المظاهرة. قطارها الآن يمضى بثقة.. عدت أتذكر جارى الذي تمنيت أن يكون قد ذهب وغار، حتي لا يصاحبني في رحلتي إلى ميدان التحرير.. لو سمحت له بمصاحبتي سأكون كمن يتبع البوم لن يجني إلا الخراب... هذا الجار الذي أجّر دكانا في بيته لسمكري سيارات. الدكان مساحته لا تتسع إلا للكرسي المتحرك الذي أجلس عليه. تمكن السمكري خلال أيام من جذب زبائن كثيرين فوقفت خمس سيارات مهشمة أمام الدكان وأمامنا وسدت الشارع وأخذ يطرقها بدون توقف ليصلح جسمها الصاج.. كان معظمها متخرجا من حوادث قاتلة... كان أغلب الدق موجها إلى نافوخي ونافذا فيه. وقد خرجت عدة مرات وزعقت وشتمت، ولا حياة لمن تنادى إذ لم يرد عليّ أحد.. أحس الآن أن الكرسي يجرى. بطرف عيني لمحت كفين تقبضان على المسندين الذين أضع عليهما ساعديّ.. كان هو الملعون. سألت نفسي: أين كان منذ عشر سنوات وقد جعل حياتنا جحيما... سمعت رجلا يتحدث إلى آخر:
- طلعت للدنيا وجدته يحكمنا، وتعلمت وتخرجت وتزوجت وهو يحكمنا.. الآن عندي أولاد ثلاثة وهو ما يزال يحكمنا.. بلغت الأربعين وهو مازال إلى اليوم يحكمنا
رد عليه صديقه: خلاص.. الشعب قرر أنه ما يحكمش
ضحك الاثنان وهما يقولان معا: ما يحكمش
هتفت المظاهرة الضخمة التي تضم عشرات الآلاف في نفس واحد يبلغ عنان السماء: ما يحكمش.. ما يحكمش
تسلل من جديد شعوري بالألم بسبب الإعاقة. أريد أن أقف في هذه الأيام فقط لأشارك في المظاهرات وأقودها ثم أموت.. لن تكتمل رسالتي علي الأرض إلا إذا كان لي دور في هذا العمل الوطني المقدس.
عاد الجنود بعزم جديد يهجمون من كل الاتجاهات. يضربون بالعصي والرصاص المطاطي.. كانت النية معقودة فيما يبدو على ألا نصل إلى التحرير.. المتظاهرون يدفعونهم بصعوبة.. القنابل الدخانية ظهرت من جديد.. المنطقة بعد كوبري الجلاء وفندق شيراتون تخلو من المساكن والمحلات. متحف مختار والحديقة إلى اليمين والأوبرا إلى اليسار.. وضع الكثيرون المناديل والكوفيات على أنوفهم.. لم يكن مع أحد بقية من زجاجات الخل أو قطرات العيون.. لكنهم بإصرار شديد يتقدمون وجارى بكل إخلاص يدفعني، ولأنه يهوى الثرثرة ولا يملك القدرة على الصمت فقد أخذ يغنى عندما يتوقف الهتاف. غنى " بلادي بلادي.. ويا نسمة الحرية..
عندئذ فوجئنا بهجوم شرس من الخلف قام به عدد كبير من الجنود.. تعرضنا نحن الملازمين للصفوف الخلفية للضرب المبرح.. خامرني خاطر يجمع بين الدعابة والخبث فقد تصورت أن صوت جارى ألحق الأذى بآذان الضباط فقرروا إسكاته.أوشكت عصا غليظة أن تنزل على وجهي تلقاها جارى بساعده ووجه لكمة إلى صدر الجندي الذي تألم وتداعى لكن زميله سند ظهره حتى اعتدل.. وضعت كفى فوق يد جارى ممتنا.. انحنى وقبّل رأسي.. زاد الهجوم علينا. العساكر الأغبياء والعميان لا يرون حالتي ولا يشفقون على عجزكتفي،عرضت للضرب مجددا تلقاها جارى عنى جميعا إلا واحدة سقطت على كتفي، وأحسست كم هي شديدة إلى درجة إحساسي بأنها نفذت إلى جنبي كله.. غبت عن الوعي لحظات.. استدارت مؤخرة صفوف المتظاهرين نحونا وتولت دفع الجنود عنا فقد كنا جميعا تقريبا من كبار السن والعجزة. اضطر بعض الشباب أن يختطفوا العصي من الجنود ويضربونهم بها وبعض الشباب قطع بعض أغصان الشجر ونزل بها على الجنود المدرعين، لمجرد بيان قوتهم وقدرتهم على الصد، ولم يقصدوا إيذاء الجنود الذين يستحقون الإيذاء وكثيرا ما قال لي البعض: أن هذا عملهم، كل ما هنالك أنهم يؤدوه بإخلاص نادر وزائد عن الحد...استطاعت المظاهرة بعد توقف لنحو نصف ساعة أن تواصل تقدمها حتى مدخل كوبري قصر النيل حيث يقف في انتظارها سعد زغلول مشيرا لها كي تتجه إلى ميدان التحرير.. تقدمت المظاهرة وهى تهتف: كرامة وحرية.. عدالة وتنمية
تذكرت أغاني حرب 73 التي طالما استمعنا إليها بعد عبورنا قناة السويس " باسم الله.. الله أكبر باسم الله، وآدان ع المدنة باسم الله باسم الله.. بإيدين ولادنا باسم الله.. " وأغنية " فدائي فدائي.. فدائي أهدى العروبة دمائي.. وأموت أعيش ما يهمنيش وكفاية أشوف علم العروبة باقي.. فدائي..فدائي "
انحنى علىّ جارى وقال: أنا سعيد أننا معا في هذا اليوم المهم
لم أرد.. انحنى وقبل رأسي وكتفي.. شعرت أن جارى بالغ في استرضائي، قلت له: يكفى.. يا كامل.. شكرا
قال بصوت رقيق فعلا: يا عم باز.. صدقني أنا سعيد.. أنا عمري ما شاركت في مظاهرة واليوم تمنيت أن أشارك مع مجموعة من المنطقة يعرف بعضنا بعضا ولا أذهب وحدي.. فرحت عندما وجدتك أمامي وأنا أقف حائرا..
قلت له: يا أخ كامل لماذا لا تريد أن تفهم أنى أستطيع السير وحدي؟.. انطلق مع الناس وشارك ولا تربط نفسك بي
عاد إلى جارى صوته عالي النبرات قائلا في إصرار: والله لو لم تبقني معك لأحملك أنت والكرسي فوق رأسي.. ما رأيك؟
يستطيع بسهولة أن ينفذ وعده أو وعيده فهو في حجم البغل الاسترالي..صحته ممتازة رغم بلوغه الخمسين تقريبا.. ظللت مندهشا من حالته.. الكيمياء تغيرت جدا
انشغلت عنه بالهتاف: كرامة وحرية.. عدالة وتنمية
خرج صوتي مثل صوت عنزة، فهتف كامل ورائي بصوت عبر النيل حتى وصل ميدان التحرير.. هتف الجميع وراءه وتكرر الهتاف.
فجأة هطلت علينا المياه الكبريتية التي ضختها سيارات الشرطة الضخمة.. كميات غزيرة وثقيلة من المياه. لم يحتمل الكثيرون شدة سقوطها على الرؤوس.. تفرقت الجموع وتضررت النسوة وصرخن. كانت هناك أسر كاملة. وقع الصغار على الأرض ووقعت بعض الأمهات وفككت أزرار البلوزات وتطايرت ذيول الجيبات وابتلت الفساتين والبنطلونات والجواكت والأحذية. طارت القبعات وكذلك الكوفيات والنظارات الطبية والشمسية وسقطت في النيل وبعضها سقط على الإسفلت وداسته الأقدام المضطربة. كنا في المؤخرة فلم تطالنا المياه وإن تراجعت الصفوف وقع علينا بعض الشباب
انفتح نهر المتظاهرين وانقسم إلى ضفتين. انطلق من في كل ضفة يجرون باتجاه الميدان ويهجمون في طريقهم على الشرطة المستعدة لاستقبالهم بالرصاص الحي. فوجئ الشباب بالرصاص يثقب صدورهم ولمحوا في آخر اللحظات أرواحهم وهى توشك على المغادرة.لما رأيت الممر تحمست وقلت لكامل سنعبر من هذا الممر بسرعة اندفع ينفذ ما طلبته وانطلق في الممر، لكنى رأيت يعيني عبر الممر المتسع بين ضفتي البشر والغارق بالمياه مدرعتين تندفعان باتجاه المتظاهرين وتدهسهم، ويهرب منها النساء والأطفال والعواجيز أمثالي إذا استطاعوا.حاول بعض الشباب أن يقفزوا فوق المدرعتين.. لكن المدرعة كانت مغلقة من كل الأجناب حتى السقف، والجنود بداخلها يتابعون ما يجرى عبر كوى صغيرة، يخرجون منها مواسير البنادق ويطلقون الرصاص الحي على من لا تدهسه المدرعة..خلف المدرعات كان الجنود يطاردون من يحاول الهرب.. مشهد بشع لم أسمع به ولا رأيته من قبل لا في الحقيقة ولا في الأفلام. كان كامل يدفعني بسرعة قبل أن تدهمنا المدرعة، لكنها انحرفت بسرعة نحونا. حاول كامل أن يراوغها ويبعدني عنها فانحرف يسارا بسرعة خاطفة، لكن المدرعة انحرفت بسرعة شديدة وغريبة لتقتحمني وترفعني عاليا وتلقيني بعيدا حتى أن الكرسي بفضل الله ورحمته تعلق في عمود النور فوق سور الكوبري في آخر لحظة قبل السقوط في النيل.. كنت قد غبت عن الوعي ولم أعرف بما جرى إلا بعد ذلك فقد سقط كامل هو الآخر وحاولت المدرعة أن تدهسه فلم تلحق إلا يده وكان باقي جسمه على الرصيف.. كان الشباب قد اختطفوا الهراوات من بعض الجنود وهاجموا المدرعة التي كانت تتأهب للصعود فوق الرصيف ودهس كامل فتراجعت المدرعة وأخذت تدور حول نفسها كي تحاول بمنتهى الإخلاص والتفاني قتلهم.
توجه عدد من الشباب نحوى وأنزلوني وفحصوا جسدي سريعا فوجدوا بعض الإصابات ووجهي ينزف دما من جبهتي التي ارتطمت في حديد العمود كما قالوا وتداخل الكرسي.. أما كامل فلم يستطع تحريك يده مطلقا وإن لم يحس بذلك تماما وقتها..كنت قد أيقنت أنى في الدار الآخرة وأننا بالفعل يوم الحشر.. حاول كامل بعد أن أفاق أن يطمئن عليّ وأن يلمس كل جزء بجسدي ويسألني عن إحساسي.. طمأنته بأن الضربة يبدو أنها أصابت الكرسي فقط.العجل معوج والحديد التوى. كان أحد الشباب قد مسح الدم من وجهي ولف منديلا حول رأسي
قلت لكامل:علينا أن نعود فكفى ما جرى
لزمنا الرصيف والتصقنا بالسور حتى ينتهي كامل من محاولة ضبط الكرسي.. بعد ساعة من الجهد الكبير المتواصل، وبسبب عدم وجود أية آلة أو حديدة فشل رغم عناده في إصلاح الكرسي.. حملني وجر الكرسي نحو عشرة أمتار إلى أن تقدم شاب فحمل الكرسي مائة متر عائدين باتجاه الأوبرا.. كان طريق العودة إلى الجيزة فارغا فالزحام كله في الطريق المتجه إلى التحرير.. استدعى كامل تاكسي. حملني وأدخلني فيه ورفع الشاب الكرسي فوضعه فوق السيارة. لما وصلنا شارع الصناديلى حاول أن يدفع فرفضت.وقلت للسائق إذا أخذت منه فلن أغادر السيارة.. اقتنع السائق وخاف في الوقت نفسه..حمل كامل الكرسي ووضعه أمام دكان السمكري ثم عاد وحملني إلى البيت.. انطلقت من زوجتي صرخة عفوية عالية ولطمت خديها. قلت لها: أسمعينا زغرودة من قلبك.. فرت الدموع من عينيها، أقسمت لها أنني أقول الصدق.. وضعني كامل على السرير.. وقال لها: فعلا يا حاجة لازم تزغردي، شكرته شكرا جزيلا
قال: صافي يالبن يا عم باز؟
قلت: صافى يا لبن
خرج وهو يقول: احنا ولاد النهاردة
كنت منشرح الصدر..مقبلا على الحياة.. شاركت في المظاهرة، وكل من شارك فيها حتى ببيع الأعلام والبليلة كان بطلا.. إذن أنا من الأبطال والأحرار.. لقد عشت لحظات لم أعشها من قبل أبدا.. ومادامت الثورة قامت ورأيت شبابها بعيني يفرض كلمته وأنه قادر على تحقيق المعجزات. فلا بأس إذن إذا الموت جاء.. ولن أنتظر يوم القيامة لأعفو عن كامل الذي طالما أزعجني.. ربنا يسامحه ويهديه.
سألت عن الأولاد..قالت الحاجة إنهم لم يعودوا بعد.. سألت عن الصغيرة أمل،قالت: لقد لحقت بهم
تنهدت وطلبت من أم العيال أن تتركني قليلا، فأنا أشعر بتعب شديد، وإن كنت منشرح الصدر سعيدا بما جرى لي وللناس في بلادي.