هذه قصيدة أخرى من تجارب الاقتراب من المحرم السياسي هذه المرة، وهي قصيدة لم يتمكن الشاعر من نشرها في أكثر من منبر، لفضحها لواحدة من أبشع تجارب الواقع العربي المعاصر.

العتم

عبدالوهاب عزاوي

"في زمن العتم تمتحن الدماء"
مهداة إلى كل الذين دافعوا عن جيلنا بدمائهم العزلاء في عتم المعتقلات أو خارج السجون على أرض الوطن أو في شتات المنافي وأخص بالذكر منهم والدي قاسم عزاوي والعم الصديق فاتح جاموس .

كسيحاً ..
كشمسٍ تدرب ظلاً على الاشتعال
إليكم أمد الأصابع مثل السحاب
تداعب أعناقكم في الظلام
وتمشي رويداً ..رويداً
لتفتح هذا الزقاقَ..

ولي شامتان تدلان عينيّ نحو البصيرةِ
مثل هواءٍ يرن
يثدّي السماء كما البرتقالةِ
ثمّ يحطّ كزوج حمام.
هناك على حافة الأرض
قرب السقوط
تمنيت أرضاً ..
لها شكل نهدٍ أليفٍ
أقبّلها ..
كي أموت وأحيا
كما أشتهي في المنام
ولكنْ..
هو الحزن ربّ المقام
سيرعش قلبي لأكملَ
رؤياي مثل اليراعة
وسط الغمام
و ما كان في كفيْ عشبٌ
لأشعل هذا الزمانَ
وجلديْ ..
قصيرٌ ليستر عورة
هذي السماء

"وما كنت من أنبياء السماء
لأعرف أني سأفرح عند الختامْ"

سأحلم مثل هواء يطير
بأعين موتى يسيرون
فوق حبال المشانق
كفي لها شكل كأسٍ
لشايٍ من الروح ينزلْ

سأحلم مثل قطا
في الفضاء
بكم..
كي ألوْح كعنقٍ يطول
بليل المياه :
على حافة الموت والجدريِّ
رأيت ظلالاً تدافع عن عشب روحيْ
وأنتم تسدون ثقب السماء بأرواحكمْ..
وتبتكرون من العتم في قبركمْ
قهوةً لضيوفٍ يمرون في البال
مثل الحمامِ
و هيلُ العيون يسيل خفيفاً
على القلب حين يلين
وينظم نبض المكان

هناك مررت وغنيت
حتى تشقق حلقي
من الحزن
ثم رفعت جفوني
وغطيت لحماً
تجمد فوق الحديد
وكانت زنازينكم
تتجاور مخنوقةً
مثل أفواه موتى

سأكبر برج حمامٍ
وأُسكنكم عش روحي
وأعلو كجذع نخيلٍ
يخبئ غيماً
له بحةٌ خافتةْ

"هو الوقت يجري
بدون اتجاهٍ
كقطٍ.. "

هناك ..
وراء الجدار..
نهارٌ يسيل على بطنه
مثل دودٍ ضريرٍ
وهم يزحفون تجاه الشوارع
من غيب رحمٍ
له شكل مدفأةٍ باردةْ
هناك رأيت هواجسكمْ
كالرموش تسير
إلى الأفقِ
تزرع حنطتها في الجثثْ
لينمو وجدٌ بماء الضلوع
ويهطلَ وحياً على الميتين
"عيونٌ تعض الفراغ فيصحو الحنين
ويمشي على الدرب مثل الخراف"

تمر السنون
وزند الهواء يداعب أرواحكم
فوق ليل صليبٍ
تعلم منكم عناد الوقوف
وفي غمر ريحٍ
دمٌ كالتمائمِ
يبزغ وسط الجدار
هناك رأيت عيوناً
تفتش عن ضحكةٍ
في الهواء
لها شكل نجمٍ
بأسنانه اللبنيةْ

ولحمُ المنام يعلم لحم المساميرِ
كيف يرقّ كنهدٍ
يلامسه الضوء
في أول الصبحِ

..في أول الصبحِ
تعلو الدماء
وتطفو كأحجيةٍ
سهلة الحل
فيما الرموش تشير
إلى جهةٍ للحنين
وسطلُ المياه سيوقظكم
من شرودٍ قصيرٍ
كوحيٍ..
ليكمل سجانكم ما عليه
سيحفر أضلاعكم بالسياط
ويغمد أسياخه في القلوب
ليطفئ ضوءاً
يهدد أمن البلاد

هناك رأيت السجائر
تعلو كسرب فراشٍ
من الجرح وسط غبارٍ
يردد أصواتكم
في أنين السرافيس
..فولِ الشوارع
"وهو يفرّ نطافاً إلى الأفقِ"
..شايِ المقاهي
"يسيل كسلٍّ بوجه المدينهْ "

تمر السنون ..
وأضلعكم تتحدب
مثل حِرابٍ
ستبقر بطن الجدار
وتقشر زعنفة الموت
عن كاحليه..

هناك وراء الجدار
بكاء يحشرج فوق الطلول
و إسمنتهم فوق ماء الوجوه
سيجمد كالطمي
أرتالهم تعشب الضوء في الروح

"لا أرض للحلم
أغرس ساقي بها
مطمئناً..
وليلُ التوحش
عملةُ خوفٍ جديدٍ"

وكنت صغيراً
غداةَ غرقتُ
مشيتُ..
ودودٌ على الأرض أطول
من ظلي المتكور
مثل الشتيمهْ
ووقع حذائي الطويل
يعسكر روحي
يسير إلى صفي المتقوقع
مثل القبور
ويسحب وجهي
بعيراً ضريراً
تجاه تلالٍ مجوفة الروح
ووحدي بماء الهيولى أسيح
وقعري أصمٌ
كأجراس تلك المدارس
تخنقني ..
تحت بطن السماء
المدلّى على كتفيّ
بكيت من القهر
ثم وقفت..
مددت لساني لأجرح
هذا الهواء اللعين
صرخت .. صرخت
كأني غرابٌ
وحنجرتي تتورم
تكبر
فيها حبالٌ تقطّع
لحم السماء الخفيضةْ
هناك وقفت وحيداً
وعيناي ترتعشان
هناك..
رأيت غباراً
يردد أصواتكم في الظلام
رأيت دماءً تصد الرماح
عن العين

هناك..
رأيت شقائق نعمانَ
تحت الأظافر
تكبر..
مثل شفاهٍ تقبّل
أول مرهْ
هناك..
تعلمت بدء الكلام
وجيلي يفتش عن غلصمٍ
تحت غمر الوحول
هناك..
فتحت رموشي
لأبصرَ أول مرهْ
ففي زمن العتم
تغدو الدماء نجوماً
لدى الشاردينْ .

دمشق