كانت توكل كرمان تلميذةً في الصف الثاني الثانوي عندما قادت زميلاتها في تظاهرة صغيرة باتجاه مكتب مديرة المدرسة احتجاجاً على تغيير إحدى مدُرّسات الفصل، وإرسالها إلى مدرسة أخرى. لم تنجح التظاهرة في تحقيق هدفها، لكنها أعطت البنت الصغيرة خبرة أوليّة في طريقة تسيير التظاهرات. اليوم، كبرت توكل كرمان وصار اليمنيون يلقّبوها بـ«المرأة الحديدية»، بينما يشبّهها آخرون ببلقيس ملكة سبأ.
«كي تحصل على حقك، ينبغي أولاً أن تطالب به»، تقول الناشطة والصحافية التي أسّست «منظمة صحافيات بلا حدود» عام 2004، لتكون أول منظمة يمنية تُعنى بحماية حرية التعبير في مختلف الوسائل السمعية والبصرية. لكنّ السلطات استنسخت منظمةً بالاسم نفسه، ما جعل توكل تؤسس لمنظمة أخرى أطلقت عليها اسم «صحافيات بلا قيود». وقد نجحت في تحقيق ذلك بعد نضال شاق: «عندما أدركت أنّهم يتلاعبون بي، وأنّ لا نية لديهم في منحي الترخيص اللازم، أخذت أشيائي الشخصية والكومبيوتر، وذهبت إلى الوزارة المختصة، وأخبرت المسؤولين هناك بأنّي أعلن اعتصامي لحين حصولي على الترخيص. هكذا منحوني إياه على الفور».
من الإنترنت، كانت بدايتها الصحافية حين نجحت في تحويل هذا الفضاء الافتراضي إلى أرض واقعية: «كوّنت شبكة علاقات واسعة وأصدقاء من معظم الدول العربية». مكّنها ذلك من إجراء حوارات صحافية مع شخصيّات بارزة في التيارات الإسلاميّة، مثل السوداني حسن الترابي، والإخواني المصري محمد مهدي عاكف، والزعيم التركي الراحل نجم الدين أربكان.
ساعدها هذا على تثبيت حضورها في حزب التجمع اليمني للإصلاح الحزب الديني الوحيد في اليمن بعدما نجحت في الانتساب إليه، ووصلت اليوم إلى عضوية «مجلس الشورى» فيه. لم يعمل هذا المنصب على كبح صوتها، بل ذهبت أبعد مما فعلت في السابق، حين قرّرت خلع النقاب مكتفيةً بالحجاب. وقد تعرضت لضغوط كبيرة هدفت إلى ثنيها عن خطوتها. تقول: «كنت واثقة في قراري وأني تركت ما ليس من الإسلام (النقاب)، مكتفيةً بما أمرنا الشرع به». لا يمكن تصوّر صعوبة هذا القرار، إلا حين نعرف أنّه سيجعلها تواجه رئيس مجلس شورى الحزب رجل الدين الأصولي الشهير عبد المجيد الزنداني. لكنّها صمدت، ولا تضع اعتباراً لخطوتها تلك، إذ إنها في نظرها ناجزة وخالصة، ويجب أن ينصبّ تفكيرها على الخطوة التالية.
ثقتها التي أهّلتها لتكون واحدة من سبع نساء أحدثن تغييراً في العالم وفق تقرير لمنظمة «مراسلون بلا حدود» عام 2009، تتسرب إلينا وهي تتحدث داخل خيمتها المنصوبة في «ساحة التغيير»، أمام جامعة صنعاء. هي تقيم هنا منذ اليوم الأول لاندلاع «ثورة الشباب اليمنية» التي تقترب هذه الأيام من جني ثمارها. تظهر توكل كرمان ثقتها تلك من خلال الإعراب عن عدم رضاها عن الرئيس علي عبد الله صالح: «لم يعد هذا الرئيس شرعياً، ولم يبق سوى أمر إعلان سقوطه رسمياً»، تؤكد لنا ابنة الوزير السابق وعضو مجلس الشورى اليمني حالياً.
بعد هروب زين العابدين بن علي من تونس، خرجت أول مجموعة شبابية من جامعة صنعاء تهتف في شوارع المدينة «الشعب يريد إسقاط النظام». طبعاً، كانت توكل بينهم ترفع لافتتها وتهتف معهم، وكلّها ثقة بأنّ رحيل الرئيس اليمني ممكن أيضاً، بل على مرمى حجر. لكن قبل ذلك، كانت توكل قد قادت أكثر من 80 اعتصاماً بين 2009 و2010 للمطالبة بإيقاف المحكمة الاستثنائية المتخصصة بالصحافيين، وضد إيقاف الصحف. وسرعان ما صارت «أيقونة الثورة الشبابية» عندما نجحت في خلق «ساحة الحرية» في عام 2007. وهي ساحة مفتوحة تقام كل يوم ثلاثاء أمام مبنى رئاسة الوزراء في صنعاء، ومع الوقت، صار يلجأ إليها أصحاب القضايا والحقوق المسلوبة، لتتحول إلى ساحة تجْمَع بين حركات احتجاجية شتّى ضد السياسة الحكومية، وضد حروب صعدة المتتالية. ومن «ساحة الحرية»، جاءت فكرة «ساحة التغيير» حيث تدور اليوم معركة إسقاط علي عبد الله صالح.
لكن من أين أتت هذه الصحافية «المشاغبة» بكل هذه الثقة والقدرة على رفع صوتها في بيئة تعدّ صوت المرأة عورة! «من والدي» تقول توكل، وتضيف: «رأى في طريقة تفكيري منذ الطفولة ميلاً إلى الاستقلالية، فعمل على تنميتها. وكان يشركني في نقاش أي أمر يخصني». وتسهب في تعداد فضائل السياسي والقانوني عبد السلام خالد كرمان. تتوقّف فجأة، وتنتقل إلى الحديث عن محمد النهمي. إنّه شريكها في الحياة ووالد أبنائها الثلاثة: «هذا الرجل يقف إلى جواري في كل خطوة أقوم بها، وأنا مدينة له بالكثير في ما وصلت إليه». وتروي لنا الثائرة الشابة ما قام به زوجها عندما تعرّضت للخطف، بعد أيام قليلة على انطلاق الشرارة الأولى للثورة. كانا عائدين معاً إلى المنزل، في ساعة متأخرة من الليل. «اعترضت طريقنا سيارات عدة على متنها العشرات من رجال الأمن. اختطفوني ونقلوني إلى السجن المركزي، فيما أطلقوا سراحه». لكنّ زوجها سارع إلى الاتصال بوسائل إعلام محلية ودولية. وفي الصباح، كان الجميع يتناقل خبر اختطاف رجال الرئيس لفتاة يمنية في منتصف الليل بما يمثّله هذا من فضيحة كبيرة بحسب العرف. ما دفع السلطات إلى الإفراج عنها بعد 30 ساعة في الأسر.
«كانت رسالة السلطة لتوكل أن تتوقف عن مشاركتها في الاعتصام وإثارة الشباب المعتصمين على الرئيس» يخبرنا محمد. لكن ما كادت تمر هذه الواقعة، حتى اتصل الرئيس صالح شخصياً بشقيق توكل، وأخبره صراحة بأنّه غير مسؤول لو حدث أي مكروه لهذه «البنت» التي ينبغي أن تلزم منزل زوجها. لكن من يستطيع إيقاف الفتاة المؤمنة بقوة صوت المرأة إذا خرج قائلاً بحقه، واعتقادها بخطأ مقولة أنّ دور الرجل هو حماية المرأة كأنها «شاة»: «تزعجني هذه العبارة» تقول.
لم تكن توكل كرمان تمزح عندما كتبت للرئيس اليمني مقالاً في منتصف عام 2006 عنونته بـ«اخرج، إني لك من الناصحين». كان الرجل وقتها في ذروة مجده غارقاً في عسل فوزه بولاية رئاسية جديدة. وقبل خوضها، كان قد أقسم بأنّه لن يترشّح لها، لكنّه فعل ذلك مرغماً تحت ضغط الجماهير التي خرجت إلى الشوارع تطالبه بالعودة عن قراره!
توكل قالت له «ارحل» في أول استخدام لهذه المفردة في قاموس الحياة السياسية في اليمن. وصلت الرسالة إليه لكن مشوّشة من خلال رجال مكتبه الإعلامي، فلم يفهمها إلا بعدما فات الأوان. يغضبها الحديث عن صالح وتترقب بشوق يوم رحيله عن اليمن: «لم يترك هذا الرجل شيئاً سيئاً إلا فعله ببلادنا. لقد نجح بتفوّق في إظهارنا مجموعة همج ومتخلّفين، وإرهابيين لا نجيد غير وظيفة خطف السيّاح». وتضيف توكل: «سيكون على اليمنيين أن يعملوا كثيراً بعد رحيله، ليستعيدوا صورتهم الأصلية في نظر العالم».