مقدمة:
لا أعتقد أن هناك من لا يعرف شكسبير. أو ربما لا يعرفه إلا القليلون. وليام جون شكسبير هو العلامة الأبرز والاسم الأشهر ليس في أدب بريطانيا فحسب؛ بل في آداب العالم أجمع، وليس في عصره وقرنه فحسب، بل في شتى العصور والقرون.
شخصية وليام شكسبير كانت حقاً مثيرة للجدل، وحياته الشخصية كانت ملئا بالعجائب والغرائب والتناقضات، لكن لا يختلف اثنان على أن الإرث الأدبي الزاخر الذي خلفه شكسبير، هو من أمتع وأبدع وأروع ما أنتجته الإنسانية جمعاء من آداب وفنون.
لسوء الحظ أن الرواية لم تكن معروفة في عصر شكسبير. باعتقادي أن شكسبير لو كان قد عاصر الرواية وعرفها، لكتب وأبدع فيها بشكل فريد لا يتصوره أحد. لكن بالرغم من ذلك وبالرغم من قصر حياة شكسبير، نجده قد أتحف العالم بمسرحياته البديعة، والتي بلغت 38 مسرحية، فضلاً عن كتابته لعشرات القصائد المعروفة آنذاك بالسونتات.
من لم يقرأ لشكسبير فقد فاته الشيء الكثير من الأدب، أما من قرأ لشكسبير فهو ذاك الذي يعرف، لماذا يقدس الانجليز شكسبير ويحبوه إلى هذا الحد.
شكسبير والجغرافيا:
ينصرف اهتمام الكثير من المتذوقين والنقاد إلى جمالية أعمال شكسبير وإبداعه الفريد، لكن قلما ينظر أحد منهم إلى الجمالية الجغرافية والبهاء المكاني لأعمال شكسبير ومسرحياته تحديداً. فشكسبير لم يحصر أو يقوقع مكانية مسرحياته الثمانية والثلاثين كي تدور في مكان ميلاده ستراتفورد أو في بلاده انجلترا فحسب، بل وزع مكانية تلك المسرحيات على أقطار أوروبية متنوعة وعديدة.
بذلك أراد شكسبير أن يبعد القارئ والمتذوق كل البعد عن الملل والضجر، فالدوران في فلك مكان واحد أو قطر واحد يسبب بلا شك الكثير من الملل للقارئ. لذا لزم التنويع والتنقل من مكان لآخر ومن قطر لآخر، كي تكون الأعمال المسرحية أقرب إلى الإثارة والتشويق، والتجديد كذلك.
كتب شكسبير مسرحياته البديعة في فترة ازدهرت فيها كثيراً الجغرافيا، وذلك تحديداً بفضل الكشوف الجغرافية التي بدأت نشاطها وثورتها المعرفية في عصره، أو ربما قبل عصره بقليل. تلك الكشوف الجغرافية كان لها الفضل في ظهور العالم الجديد المتمثل في الأمريكيتين واستراليا. لقد كانت الجغرافيا واكتشافاتها في تلك الحقبة من الزمن هي الحديث المتداول والشغل الشاغل لعامة الأوروبيين، وخصوصاً أصحاب الشواطئ والمرافئ الأطلسية والمتوسطية منهم. فربما يكون شكسبير قد تأثر شأنه شأن سائر الأوروبيين بهذه الفتوحات والاكتشافات الجغرافية، أو ربما يكون شكسبير قد خلق هذا التنوع والزخم الجغرافي في أعماله، ليس بدافع حبه للجغرافيا أو ترويجه لها، وإنما بدافع ميله للتاريخ وعلوم الثقافة والحضارة. تأييداً لذلك الرأي نجد شكسبير قد تناول في أعماله الحديث عن الروم والإغريق والأليريين والممالك الفرنسية والاسبانية القديمة. ولا يخفى على أحد أن شكسبير استمد كثيراً من أفكار مسرحياته وأسماء شخصياته من تلك الحضارات و الشعوب القديمة. لذلك فربما يكون تناول شكسبير لهذه الحضارات والشعوب هو السبب في التطرق لكل هذه المواقع الجغرافية والأماكن. أي أن الاهتمام بالتاريخ هو الذي أتى بالاهتمام بالجغرافيا، فكيف سيستلهم شكسبير أفكاره من حضارة الرومان بمعزل عن التطرق إلى جغرافيتهم وأماكنهم، وكيف سيفعل الشيء ذاته مع الإغريق بمعزل عن جغرافيتهم وأماكنهم، وهكذا.
إذاً ربما يكون هذا التنوع الجغرافي الواضح لمسرحيات شكسبير، قد جاء من جراء تناول مسرحياته واستهدافها لتاريخ أوروبا، وحضاراتها وشعوبها القديمة. أياً كان غرض شكسبير من وراء ذلك الميل الجغرافي، المهم في الأمر هو أن مسرحيات شكسبير طافت أوروبا بمكانيتها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. أي أن مسرح الأحداث الخاص بمسرحيات شكسبير كان يتنقل على الدوام من قطر أوروبي إلى آخر، ومن نطاق جغرافي إلى آخر. ولعل الأمر المثير ها هنا هو أن مسرحيات شكسبير الثمانية والثلاثين قد دارت أحداثها في 13 بلد أوروبي، فضلاً عن عشرات المناطق والمدن في داخل هذه البلدان. لكن هناك سؤال مهم للغاية وهو، هل كان شكسبير يعلم أن مكانية أعماله المسرحية تغطي 13 بلداً أوروبياً ؟
الإجابة هي: بالطبع لا.
لأن شكسبير كتب أعماله المسرحية قبل خمسة أو ستة قرون، وتلك الأعمال المسرحية تعود أفكارها وشخصياتها إلى ما هو أقدم من ذلك بقرون كثيرة، حيث لم تكن حينها توجد جغرافية أوروبا الحديثة والتي نعرفها اليوم، أي أن عديد الدول الأوروبية لم يكن بهذا القدر، والكتلة الجغرافية لأوروبا لم تكن متشظية ومفتتة إلى هذا الحد من الدول والدويلات التي نعرفها في عصرنا هذا.
لقد كتب شكسبير عن أوروبا وهي في عصور كانت فيها جغرافيتها السياسية تتسم بالكيانات الكبرى والإمبراطوريات، كالإمبراطورية الرومانية، والإغريقية، والعثمانية، وغيرها. لذا باعتقادي أن مسرحيات شكسبير وفقاً لجغرافية أوروبا القديمة كانت تغطي ربما ما لا يزيد عن سبعة أو ثمانية كيانات جغرافية، في مختلف عصور أوروبا القديمة.
تفاصيل الخارطة:
الاعتقاد الأرجح والظن الأصح هو أن شكسبير لم يقم يوماً بزيارة لجنوب أوروبا، وتحديداً بلدانها المطلة على البحر الأبيض المتوسط ، نعم يبدو بالفعل أن قدما شكسبير لم تطئا ذلك الجزء من العالم، لكن الأمر المثير للدهشة حقيقة هو أن تقريباً 21 من مسرحيات شكسبير الـ38 كانت ذات مكانية وبيئة متوسطية، أي أن أحداث هذه المسرحيات الإحدى والعشرين وقعت في أقطار ومناطق أوروبية مطلة على البحر الأبيض المتوسط. بالفعل لقد كان الساحل الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط بمثابة المسرح الكبير، الذي احتضن الكثير والكثير من مسرحيات شكسبير. من تركيا شرقاً حتى اسبانيا غرباً كان اتساع ذلك المسرح الكبير. وأشار شكسبير إلى الجيش النرويجي، وذلك في مستهل مسرحية (مكبث)، لكنه تجاهل اسكندنافيا، فلم يموضع أياً من مكانيات مسرحياته في مكان أكثر شمالاً من الدنمارك، والتي كانت مسرح الأحداث لمسرحية (هاملت). وبالرغم من التقارب الاثني والثقافي الشديد بين بريطانيا وألمانيا، إلا أن شكسبير لم يموضع أياً من مكانيات مسرحياته في ألمانيا أو حتى في جاراتها كبولندا، وبلجيكا، وهولندا التي قيل أن شكسبير زارها بالفعل ومكث فيها عدة أشهر. كذلك لم تكن روسيا القيصرية وإمبراطوريتها العملاقة مسرحاً ومكاناً لأي من مسرحيات شكسبير الثمانية الثلاثين.
حقاً إنه لأمر غريب وعجيب أن نجد كل هذه الكيانات الجغرافية الهامة بعيدة ومغيبة عن مكانية مسرحيات شكسبير، وخصوصاً في ظل الحضور الطاغي لجنوب أوروبا و البلدان المتوسطية في مكانية تلك المسرحيات. على ما يبدو أن شكسبير لم يجعل هناك عدالة في التوزيع !!
تركيز شكسبير على المواقع والأماكن المتوسطية يظل أمراً غريباً يثير علامات التعجب والاستفهام. لكن ربما كما ذكرت من قبل، أي أن شكسبير طرح هذا الكم الهائل من الأماكن المتوسطية كإسقاطات للأحداث التاريخية التي كانت الأصل والمصدر، والمادة الخام التي صنع منها كتاباته، فلا يخفى على أحد أن دول أوروبا المتوسطية ذات تاريخ عتيق وعريق، وهي موطن الكثير من الحضارات القديمة والإمبراطوريات العتيدة، ألم يكن أفلاطون متوسطياً ؟!! ولم يعطي شكسبير كل الخارطة الأوروبية نفس القدر من الاهتمام، وكانت مكانية مسرحياته تتموضع وتتركز وتنحصر في أماكن بعينها دون غيرها، أو أكثر من غيرها، لكن هذا أمر طبيعي وهذا لا ينفي البهاء الجغرافي لأعمال شكسبير، ورسمه لخارطة أوروبا بمعظم تفاصيلها.
القارئ والمتذوق لجميع ما كتب شكسبير من مسرحيات، يجد شكسبير قد طاف بمسرحياته على دول أوروبا ومدنها، فرسم الخارطة الأوروبية وأوضح هويتها وأبرز معالمها. وربما يخلص البعض إلى نتيجة مفادها أن شكسبير قد تحول من كاتب مسرحي إلى فنان تشكيلي بارع وماهر.
الدول:
بالنسبة للدول المتوسطية والتي كما ذكرنا أن شكسبير قد اهتم بها أكثر من غيرها من الأماكن. نجد فرنسا كانت ميداناً لأحداث مسرحية (الأمور بخواتيمها) وفيها تنقل شكسبير ببراعة وأناقة بين مدن فرنسا المختلفة. وجريت أحداث مسرحية (الحب جهد ضائع) في اسبانيا، وتحديداً الشمال الأسباني الذي طالما عرف بتعدديته وتنوعه الاثني والحضاري. أما (كوريولانوس) و(أنطونيو وكليوبترا) و(جعجعة بلا طحن) و(تاجر البندقية) و(روميو وجولييت) و(تيتوس أندرونيكوس) و(السيدان الفيرونيان)، كانت جميعها مسرحيات إيطالية، وإيطالية بامتياز، فبالرغم من ضيق الخارطة الإيطالية إلا أنها لم تضيق ذرعاً بهذه المسرحيات الجميلة، فكانت لها بمثابة الموقع والمسرح والمكان. نعم لقد كانت إيطاليا الدولة الأكثر استيعاباً واستضافتاً لمكانيات مسرحيات شكسبير.
اتجاهاً إلى شرق المتوسط حيث العراقة والتاريخ، نجد اليونان قد كانت مسرحاً ومكاناً للكثير من مسرحيات شكسبير، كمسرحية (يوليوس قيصر) و(حلم ليلة صيف) و(تيمون الأثيني). أما تركيا فقد كانت البلد الذي دارت فوق أرضه أحداث مسرحيات عدة، مثل (كوميديا الأخطاء) و(ترويلوس وكريسيدا). أما جزيرة قبرص، تلك الطرف النائي المتطرف من خارطة أوروبا وجسمها الجغرافي، فكانت ميداناً للكثير من أحداث مسرحية (أوثلو). ومسرحية (العاصفة) هي الأخرى دارت الكثير من أحداثها على أرض جزيرة متوسطية، غير قبرص، ولطالما رجح المؤرخين الأدبيين أن تلك الجزيرة هي جزيرة مالطا، الواقعة في قلب البحر المتوسط.
اتجاهاً إلى شمال البحر المتوسط ، وتحديداً الشاطئ الشرقي للأدرياتيك، نجد أليريا القديمة أو ما تسمى اليوم كرواتيا، وقد كانت مسرحاً ومكاناً لمسرحية (الثانية عشرة ليلاً).
عندما نخرج من إقليم البحر الأبيض المتوسط ، ذلك المكان الذي استحوذ على القدر الأكبر من اهتمام شكسبير، ونتجه شمالاً حيث أوروبا الوسطى ويابستها الحبيسة، نجد أن بوهيميا القديمة والتي تعرف اليوم بجمهورية التشيك، قد كانت موطناً للكثير من أحداث مسرحية (حكاية الشتاء). أما النمسا فقد كانت المكان الذي وقعت فيه أحداث مسرحية (الصاع بالصاع).
ومسرحيات (كما تحبها) و(سيمبلين) و(الملك لير) و(زوجات وندسور المرحات)، فجميعها مسرحيات ذات طابع انجليزي، بحيث دارت أحداثها فوق تراب إنجلترا، موطن شكسبير، وفي هذه المسرحيات بالتحديد ظهر تفاعل شكسبير مع حضارة بلادة وثقافتها الخاصة. ليس ببعيد، كانت اسكتلندا هي المكان الذي استضاف أحداث مسرحية (مكبث).
اتجاهاً نحو الشمال، إلى شمال الخارطة الأوروبية، وتحديداً عند بحر الشمال، نجد الدنمارك وقد كانت المكان والموقع الذي اختاره شكسبير لمسرحيته الجميلة (هاملت).
المدن:
مكانية مسرحيات شكسبير تنقلت بين مدن أوروبا من مدينة إلى أخرى، شأن ذلك شأن التنقل بين الدول. هذه المدن الأوروبية كانت محطات ووقفات حل بها ركب الإبداع الشكسبيري، فكان لشكسبير ومسرحياته مع كل مدينة حكاية ورواية. فتناوبت المدن الأوروبية التالية على استضافة الكثير من أحداث مسرحيات شكسبير الرائعة.
- في فرنسا: العاصمة باريس، مدينة مارسيليا، مدينة روان، ومدينة روسيون.
- في إيطاليا: العاصمة روما، مدينة فلورنسا، مدينة كوريولي، مدينة أنسيو، مدينة ميسينا، مدينة سرقوسة، مدينة ميلانو، مدينة البندقية، مدينة فيرونا، ومدينة مونتوفا.
- في تركيا: مدينة ساردس، مدينة أفيسس القديمة (أزمير الآن)، ومدينة طروادة.
- في انجلترا: العاصمة لندن، مدينة يورك، مدينة دوفر، منطقة واروكشاير، ومنطقة وندسور.
- في الدنمارك: مدينة الينسور.
- في أسبانيا: منطقة نافارا.
- في اليونان: العاصمة أثينا، ومدينة فيلبي.
- في النمسا: العاصمة فيينا.
كاتب وناقد أدبي من فلسطين.