يستقصي الكاتب التونسي المختارات والأعمال الكاملة للشاعر الفلسطيني المرموق حيث شغف الذات الشاعرة بالتغنّي في مُواجهة الكارثة. بتوظيف إيقاعيّ يعتمد تشكّلات الصوت وشاعريّة الإلقاء والسماع وبالتزاوُج غناءً شعريّاً يُرَدِّد حكاية البدء ويستعيد تاريخ السلالة ويتغنّى بالألم والأمل معاً.

تَلهّي الذات الشاعرة بالغناء في مواجهة الكارثة

مصطفى كيلاني

ليستْ هذه (المختارات الشعرية) في الماهيّة إلا قراءة، دُون التسليم بأنّها أيّ قراءة، إذ تُفصح بفِعليّة وجودها عن ذائقة شعريّة، كأنْ تنتصر لنصوص على أخرى بِحُكْم الانتخاب. وكَمَا تختلف القراءات في المُجْمل تتآلف في بعض المواطن حينما يتعلّق الاختيار بالقصائد المرجعيّة، تلك التي تُمثّل في مسار حركة الديوان الشعريّة إبدالاتٍ كبرى يُمكن التأريخُ بها للسابق واللاّحق من القصائد.
وإذاً أبنية الديوان أو الأعمال الكاملة للشاعر سّدًى وسيعٌ من خطوطٍ ودوائر ولحظات اندفاع وتراجُع وإضافة وتكرار، شأن حركة الوجود ذاته تتقاطع من خلاله قوى النبْذ والجذْب، التمدُّد والاستدارة، لحاجةِ الكيان إلى الحركة والالتفاف مَعًا حَوْل نَوَاة الذات، أو 'التكوُّر' على حدّ عبارة غاستون باشلار (1) كما يُحَدّ فعل الاختيار بضَرْبٍ من الحوار الضِمْنِيّ بين ضمير الأنا والأنت الملازم للأنا، بمفهوم الحوار لدى مارتن بورر (Martin Burer)(2)، إنْ تعلّق الأمر باختيار الشاعر لقصائد من مختلف تجربته الشعريّة أو الأنت المنفصل عن الأنا، بمنظور التلقِّي كي تتواصل بذلك ذاتان في سياق مشترك واحد: ذات كاتبة مبدعة وذات قارئة كاتبة، لما يستدعيه فعل القراءة من تفتيح للمكتوب الأصليّ على تخوم جديدة. فتتناظم هذه القصائد المختارة في سياق جَمْعها الحادث رغم الفَجَوات الناشئة عن فعل الانتخاب/الاقتطاع، كالعلامات الأكثر إشراقاً في 'مدينة' أشعار عزّالدين المناصرة، أو في غابه الليليّ الي استطاع بفِعل الكتابة تأنيس البعض من وحشته وتمعين (من المعنى) عبثه المستبِدّ بأشياء المكان والكيان وإنطاق صمته ونفخ الروح الشعريّة في جماده ورماده، ومغالبة الفراغ الهلاك المارثة بجديد الاستعارات مقابل الذابل المستهلك منها في المدى الأوسط بين الضوء والعتمة، بين الأيقونة والطيف، بين المعنى القابل للفهم واللاّ-معنى الحافز على التأويل:
'
لا تشرح أسرار المنديل (...)
يكفي أن تترك للقارئ فسحة صمت بيضاء
من أجل التأويل'.

2. فلا تُحَدّ الكتابة الشعريّة لدى عزّالدين المناصرة بالرغبة يُستجاب لها في كُلِّ الأحوال بالفعل الكتابيّ ذاته، بل يتّسع مَدَاها بالموت المُبدِع يُعاند به الشاعر قهر الأزمنة نتيجةَ فاجعة الماضِي وكارثة الحاضر وقلق المصير، بمُجمل التاريخ الدمويّ في سيرة وطن (فلسطين) وذاتٍ فرديّة خبرت الهزائم والخيبات وتقاذفتها المدن والأهواء والأحلام والكوابيس... ولأنّ المأساة الفلسطينيّة أوسع وأعمق من أنْ تُختزل في مُضْمَر المعانِي الشعريّة وأبعدها توريةً وإلغازاً فقد ترّدَّد أسلوب/أساليب الكتابة في تجربة المناصرة الشعريّة بين واقعيّة الوجود الكارثيّ الفلسطينيّ و'المُبهم الشبحيّ'، على حدّ عبارة جبرا إبراهيم جبرا(3). لذلك تتجاذبه كغيره من شعراء فلسطين الحداثيّين، الحاجة إلى البوْح بالفجيعة ورغبة التخييل بمُمارسة شتّى فنون اللعب الجميل باللغة وفي اللغة. وتلك هي، في تقديرنا، أبرز مَلْمَحٍ لخصوصيّة التجربة الشعريّة الفلسطينيّة على امتداد عقود، لا يقل تراجيديّة عن الوضع الفلسطيني ذاته: الانتصار للقضيّة على الشعر في مقامٍ أوّل، ثمّ الانتِصار للشعر على أيّ معنى جاهز. إلاّ أنّ الجمْع بين القَصْدّيْن في سياق مشترك يعني التردُّد المؤلم المفجِع بين ذُؤابة واجب الانتماء وشَفرة الحقّ في أداء الرغبة الفرديّة الكاتبة في الاختلاف بحُريّة أوسع والتذاذ أمتع وأخصب، بمدلول الإفراد المُبدِع. لذا تبدو مَهمّة توليد القصيدة أشدّ إيلاماً وأصعب أداءً لدى الشاعر الفلسطيني من شعراء العربيّة الحَدَاثيّين الآخرين، وذلكَ لِفجاجة الواقع، كما أسلفْنا، وحجم المأساة الكارثة.

فكيف يُؤسس عزّالدين المناصرة لكتابة شعريّة تنتهج في ذات الحين سبيل الالتزام بالقضيّة والانتصار للقيمة الجماليّة الشعريّة؟

3. اللّغة، هُنا، هي ملاذٌ وأداةٌ وقصْد جماليّ: اللهجي والفصيح:

أ. هي الملاذ، كأن يحتمي بها الشاعر من جحيم الوضعيّة لِيُمارس بها ضروباً شتّى من اللعب الجميل، مثل تناسُل الجُمل وتوالُد الاشتقاقات داخل بنية الفصيح أو باستقدام اللهجيّ إلى الفصيح وإعادة بنائه بما يستجيب لنظام تصويت اللّغة الفصحى.

وإذَا التجريب اللّغويّ سبيل انتهجه الشاعر بديلاً للتجريب الذي يشمل كامل بناء القصيدة لدى شعراء 'قصيدة النثر' و'قصيدة التفعيلة' (الشعر الحُرّ) منذ سبعينات القرن الماضي في عديد من التجارب، لأنّ القصيدة الحداثيّة، كما يرتئيها المناصرة، وُجود لاحق لتُراث/تراثات سابقة لا يُمكن دَحْضها بمُفرَد المغامرة ومُطلق إرادة القطع. وبهذه المُؤالفة بين الفصيح واللهجيّ يتّسع مجال التدليل باللغة على تفاصيل الوقائع والحالات والمواقف الحادثة في وجود كُلٍّ من الفرد والمجموعة التي ينتمي إليها، بمدلول الوطن والأمّة، دُونَ القول بواحديّة المرجع، إذْ تتنادى في قصائد المناصرة روح تراث القصيدة العربيّة، ووهج الروح التراثية الكنعانيّة، وأنْباض الوقائع والخِبْرَات الحادثة.

كذلك اللّغة ملاذ يُحوّله الشاعر باللّعب الجادّ، على حدّ عبارة هانس جورج غادامير (4)، عند مُمارسة فعل الكتابة الشعريّة إلى ما يُشبه المُختبَر، حيث كيمياء الشعر لا تقتصر على مُركّب أو لَوْن أو صَوْت واحد، بل تَتَموْقَع لغة القصيدة داخل سياق اللحظة ووَهَج الحياة اليوميّة وعديد التفاصيل في مسار الوجود بالكتابة والكتابة بالوجود عند تخصيص اللّغة الشعريّة بالكلام وتفتيح أبْنية الكلام على كثيف حالات اللّغة بمُتراكم الأزمنة.

ب. واللّغة هي الأداة، إذْ لا يعتقد عزّالدين المناصرة لجُلّ الشعراء الحداثيّين العرب في كوْنها تمثّل القصد البدْئيّ والمرجعيّ لِفِعْل الكتابة، وإنّما يُراد بها توصيل حالٍ وإعلان موقف، والتغنّي أيضاً بما كان ويكون وما يثمكن أنْ يكون في قادم الأيّام.

إنّ القصد من اللّغة هو في صميم أداء المعنى. لذلك نرى الذات الشاعرة لا تُطوّف في أقاصي المعتم من الدلالة ولا تُجوّف في طوايا المُبهم من الحالات، لأنّها سليلة قضيّة اكتوت بنيران أوجاعها منذ أن تفتّحت بصيرتها على مشاهد الدّم والخرائب والحرائق وعذابات شعب تقاسمه الداخل والخارج وعصفت به رياح الاحتلال والاستيطان والتشريد ومُختلف مشاريع الإبادة.

ت. واللّغة هي في ذاتها قصد جماليّ أيضاً، كأنْ تحدس الذات الشاعرة خطر الاقتصار على وظيفة الأداة فحسب خوفاً على الشعر من نفوذ القضيّة وسيادة المعنى الجاهز برغبة الانتصار لِجماليّة فنّ الشعر أيضاً. وبذَا يتّسع مجال القصيدة الفنّيّ بوسائل مختلفة من التدليل، كاعتماد المَحْكيّ والحوار والترقيم والإنشاد وإذكاء علاميّة الصوت في أداء الُمشافهة أحياناً بتَفْضِيةٍ كتابيّة تُنوّع طرائق استخدام بياض الصفحة.

تعدد نبرات الصوت الواحد:

4. إنّ قارئ هذه المختارات يُلاحظ، لا محالة، إطّراد الحركة الشعريّة بمجموع ثوابت وإبْدالات. إلاّ أنّ ما يبدو مُتغيّر أسلوبيّاً عند النظر في تعاقُب الدواوين وتتابُع القصائد ليس إلاّ تَعَدُّد نبرات ضمن الصوت الواحد، تقريباً،: شاعريّة القضيّة الفلسطينية تحديداً بمُتداخل الأزمنة ومُتراكم مشاهد الفاجعة وتشابُه اللحظات رغم اختلاف وقائعها وسياقاتها.

وإذَا الكتابة الشعريّة منذ البدْء شهادة تستعيد بالذاكرة أبعد الصُور في تاريخ البدايات عند استحْضار امرئ القيس القناع والرمز، وفي طفولة الاسم والوطن الذبيح 'صيّفوا في أريحا وشتّيت في غيمة من دم المذبحةْ...'.
وإذَا القصيدة تتلبّس بالكارثة عند وصْفها مِرَاراً وتكراراً، وآنَ ذِكْر الدّم (نسل المذابح) والمُطاردة:

'صحتُ خلفِي: خيولُ القبائل خلفِي، وخلفِي الصهيل'.

وَكَمَا يفرَ الاسم من المكان إلى المَكان داخل متاهة العالم الكبرى تشريقاً وتغريباً، إظْهاراً وإضماراً، تجليّاً وإبْطاناً يتّسع مجال القصيدة التناحيّ بمُتعدّد الأساليب دون الخروج عن دائرة وعي الموت، ذاك الحافز المرجعيّ الأوّل على الكتابة والإصرار على المُكابرة والمقاومة رغم التباس المعنى الكينونيّ وغياب الوجهة بِتَشابُه الأمْكِنة وارتباكها لِغياب المكان الرحم:
'
قَدَمٌ في الريح وفي التابوتْ
قدم أخرى في بيروتْ
قلبي في المنفى، يا (باجس)، يخضرّ قليلاً ويموتْ.
العودة عن نَبْع قُرانا إثم،
والغربة غول مشبوه، والمنفى ثرثرة وسكوتْ
قَدَمٌ في الريح، وأخرى في بيروتْ'

هو المنفى:
5. هو المنفى، إذنْ، لا تُنشئ مكانيّتُه إلاّ مزيداً من الغربة والاغتراب والترحال دون نسيان الخليل وبيت لحم وجفرا والعنب الدابوقيّ و'حجر الرخام' ومشاهد الطبيعة في زحمة الفصول القديمة والوجوه وعديد الذكريات من زمن طفولة الاسم. وإذَا قصائد البدْء في تجربة الكتابة الشعريّة لدى عزّالدين المناصرة هي قصائد الاستذكار والتفجّع نتيجة الفطام الكينونيّ الذي حدث والانبتات الّذي حتّمتْه ظروف الاحتلال الغاشم لأرض فلسطين.

إلاّ أنّ تراكُم القصائد سُرْعان ما أفضى إلى إبْدال أكسب القصيدة مذاقاً خاصّا بالغنائيّة (Lyrisme) التي استحالت بها شاعريّة توصيف الفاجعة شبه المُباشِر إلى نشيدةٍ كوْنية يتعالق ضمْنها الحُلم الفرديّ والجمعيّ ورغبة الانعتاق بالأمل الثوريّ، وقد أضحى في اللاّحق وعبر تراكُم تجربة الكتابة رَمْزاً إنسانيّاًَ، كأنْ يُحدث النداء في قصيدة 'جفرا أمّي إنْ غابتْ أُمي' صدى يصل مداه إلى أبعد التخوم في عالم الإنسانيّة الرحب. فيتعالق الوجدان والطبيعة والمعنى الكِفاحيّ في منظومة دالّة مُشتركة:
'
للأشجار العاشقة أُغنّي
للأرصفة الصُلبة، للحُبّ أغنّي.
للسيّدة الحاملة الأسرار، رموزاً في سلّة تين
تركض عبر الجسر الممنوع علينا،تحمل أشواق المَنْفيّين
سَأغنّي...
ولجفرا سأغنّي...'

وكما تتولّد القصيدة في البدايات من زخم الوقائع المُفجِعة تُخْصِب تراكمات الكتابة في الأثناء قصيدة إنْشاديّة تسعى الذات الشاعرة من خلالها إلى مقاربة حجم المأساة الفلسطينية وأداء التفاصيل من مختلف الأزمنة والأمْكنة، إنْ تداخل الأشياء والأسماء والوجوه كي تصل بين طفولة فلسطين وعمّان والقاهرة وبيروت وصوفيا ووهران وتلمسان والواحات والنخيل والزيتون والبحر الميّت والجدّ الكنعاني والجدّة والعمّة والنادلة الشقراء والمُدن الغَرْبية ومقهى ريش وخان الخليلي بالقاهرة وقرطاج والمغرب الأقصى...6. وبين 'نصائح' القصيدة الأولى من هذه المختارات، و'وصيّة'، آخر قصيدة، تكتمل حركة الاستدارة، حتى لكأنّ النصوص الأخرى في الما-بين ملفوظ واحد ورد على شاكلة اعتراض بُغْيَةَ تثبيت معنى مرجعيّ مفادة أنّ مختلف قصائد المناصرة بنية إنشاديّة مُرْسَلة، وإنْ تغايرت العناوين وتفارقت اللحظات، لأن مُنشئها الخفيّ زمن جُوانيّ تلازم وذلك الجُرح القديم والحادث أيضا، النازف باستمرار. لذلك تنـزع الكتابة الشعريّة إلى الاسترسال بالرغبة في إنشاد الحالات وسرد الوقائع، والمُؤالفة بين بلاغة المُطابقة وأوْساع دلالة الإيحاء على الرمز الصفيق أو المُبهم الغامض لمدى الحرص على البوْح بفظاعة ما حَدَث ويحدث.
تنويع أساليب الإنشاد:

ولئن تحدّد الملفوظ الشعريّ عادَةً بواحديّة الموصوف وتعدُّد الصفات فقد حرص (عزّالدين المناصرة) في بناء قصيدته على تقليب الموصوف عبر سياقات مُختلفة، وتكثير الصفات بالمراوحة بين الإنشاد والسرد، بالتكرار الدلاليّ والتركيبيّ النحويّ واللفظيّ والصوتيّ مُمَثَّلاً في التفعيلة على وجه الخصوص، والتمدُّد عند تنويع وسائل المحكيّ، بإسناد الموصوف السرديّ إلى الغائب (الإخبار) أو الحوار والتنادي أو النداء (الإنشاد}.
وما السرد بمُختلف طرائقه إلاّ بعض من منظومة الإنشاد، إذ التواصُل بينهما هو من قبيل الصلة بين المُتضمِّن والمُتَضَمَّن، كأنْ ينبثق بناء القصيدة من لفظ واحد ينقسم ويتفرّع إلى أنساق تعبيريّة مختلفة من الداخل كـ'جفرا' في قصيدة 'حيزيّة عاشقة من رذاذ الواحات' و'طائر الوقواق' في 'لا أثق بطائر الوقواق' و"جدّي كنعان" في "مُذكّرات البحر الميّت"، هذا التركيب اللفظيّ المتكرّر الذي هو بمثابة اللاّزمة (Leitmotiv) في اطّراد حركة القصيدة الإنشاديّة.

7. إنّ قارئ هذه المختارات والأعمال الكاملة لعزّالدين المناصرة يلاحظ شغف الذات الشاعرة بالتغنّي في مُواجهة الكارثة. ولهذا الشغف خصوصية من يوغل في موسيقى الشعر بتوظيف إيقاعيّ يعتمد تشكّلات الصوت وشاعريّة الإلقاء والسماع إيماناً منه بأنْ لا وجود للإيقاع، تقريباً، خارج دائرة المسموع. فيتنادى، على هذا الأساس، الشعر والموسيقى بِحُكْم التجاوُر كي يُنشئ هذا التزاوُج غناءً شعريّاً يُرَدِّد حكاية البدء ويستعيد تاريخ السلالة ويتغنّى بالألم والأمل معاً:
'
يأ أُمِّي تأخذنِي عيناكِ إلى أيْن!!!
بالأخضر كفّناه
بالأحمر كفّناه
بالأسود كفّناه
بالمُثلّث والمستحيل
بأسانا الطويل...

كذا يتحدّد بناء القصيدة بالإيقاع الإنشاديّ، بالتكرار اللفظيّ والتركيبيّ النحويّ والصوتيّ مُمَثَّلاً في التفعيلة والقافية، وبالترجيع يمثّل وقفاً واستئنافاً لحركة القصيدة واستدارة صوتيّة ودلاليّة يُراد بها الاستمرار في تجسيد رغبة الاسترسال في استخدام بلاغة الإنشاء والإنشاد والبوح بالمُخبّأ الدفين من الحالات.
{عرس الدم} الفلسطيني:
هو عرس الدم الفلسطينيّ، إذنْ، يتشكّل في عالم عزّالدين المناصرة أغنية شعريّة مُرسلة وإنْ تغايرت اللحظات والأمكنة، كأنْ يُصاغ بالاسترجاع والتذكُّر والحُلم، بمُحصَّل الأزمنة الثلاثة، وبسطوة الماضي على الحاضر والقادم من الأيّام. إنّ الماضي هو ذاك الماثل بكثافة في بنية القصيدة الإنشاديّة لعزّالدين المناصرة، إذْ هو زمن التعدُّد بطقوس الفَرَح والترَح المُختلفة، وبمشاهد العشق القديم لطبيعة الخليل وبيت لحم والقدس وأريحا، وغيرها من قُرى فلسطين ومُدنها، وبمختلف صُور الدم والخراب، وهو الرمز المرجعيّ الّذي تندسّ تأثيراته في مجال اللحظة (الآن)، فتُكسبها في الأثناء لون الفاجعة وتدفعها في عديد الأحيان إلى التخوم القصيّة لرغبة الموت المُخصِب الفاعل، ليفتح بذلك سجن الوضعيّة على إمكانِ فجْر جديد.
وكما تستجيب الكتابة الشعريّة لنداءٍ هذا الماضي المُعَمَّد بالدم المزحوم بالفاجعة النابض حياةً بمُختلف صُوَر الفرح البدائيّ يتلبّس وعي الوجود لدى الذات الشاعرة برمْزيّة القربان، بالتضحية حِسّاً ومجازاً لفلسطين عند البدء وفي الأثناء والانتهاء الذي هو بمثابة الابتداء الآخر:
'
لا تتركّني أبَداً، أبَداً، أبَداً
في منفى الأوحال ومنفى الطينْ
لا تتركْني في هذي الصحراءْ
خُذْ جسدي لفلسطين
خُذْ جسدي لِفلسطينْ
خُذْ جسدي لِفلسطينْ'.

1. Gaston Bachelard, 'La peotioue de l'espace, prosses Universitaires de France, 1989.
2. Martin Burer, 'Je et tu', France: Aubier, 1969.
3.
جَبْرَا إبراهيم جَبْرا، 'الفن والحلم والفعل'، الأردنّ لبنان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط8، 1986.
4. Hans George Gadamer, 'Verte etmethode,ô', France: Seuil, 1976.
عزالدين المناصرة: يتوهج كنعان، دار ورد الأردنية، عمَّان.