هذه تجربة قصصية شيقة للقاص المصري المرموق سعيد الكفراوي يعيد فيها تفجير الأسطورة الدينية من الداخل، ويثير مجموعة أساسية من الأسئلة حول تأويلاتها.

زلـيـخة

سعيد الكفراوي

هل سبق أن كنت هناك؟... هل؟! أم أنه محض خيال؟ .. انتباه.. بعد إذنكم طبعا هذا يوم جمعة.. هنا يوم جمعة ... الجمعة تعني القيامة.. شوارع مسكونة بشمس لها زمتة تقبض علي الروح.. لا أحد يستطيع مقاومة طلتها علي الوجود. شمس بيضاء، وهجير يرهق تلك المدينة من أول النهار حتي دخلة الليل. ورمل يسف من صحراء محاصرة. سيارات تفر مسابقة للريح، ولصوت عجلاتها صرخة عندما تعتلي الجسور. ولا أحد في الشارع. ربما شخص من بلد غريب يهرول تحت الشمس فارا من الحر، باحثا عن ملاذ من ظل جدار أو شجرة تطل من حديقة مغلقة. أسفلت ينصهر قاره، وغلام يقود جملا عند التخوم البعيدة لمدينة تغرق في طلائها الجديد. نخلات تثمر بلحا أصفر يتدلي من سباطات حولها حشرات طائرة تطارد حلاوة العسل، وصوت طنين لذباب أزرق، والظلان، الغلام والجمل، يصعدان الآن كثيب الرمل في طريقهما للاختفاء وأنا أنظرهما من شباك 'الفولكس' كلوحة رسام.

سيارة تدرج لائذة بالرصيف، هاربة من الاقتحام المرعب للسيارات المسرعة، وماتورها يشحر بصوت عال في حر هذا النهار.
حين رأيته لم أصدق عيني.
ـ يا خبر أبيض!
وتسارعت دقات قلبي .. فكرت: اتمام لمشهد يوم القيامة!! طفل صغير .. قطعة من لحم حي. يادوب. ابن عامين. يخب في مسيرة. يستند لحظة للجدار ثم يواصل الهرولة مثل لعبة. يقف لحظة وينظر للطريق السريع ثم يواصل خطوه. وأنا خلف مقود السيارة مذهولا مما أري، وكومة شعر الرضيع تتطوح بريح السموم تلك. قميص أحمر وحمالة بنطلون وشورت مبرقش بالغزلان والطيور، وقدمان يخطوان من غير حسبان، وتواصل سيرهما تحت شمس لا تعرف الرحمة.. لو أخطأ ونزل لنهر الشارع.. يا لطيف.. مأساة.. ينهرس مثل قطة ضالة، أو دجاجة جامحة. ركنت بجوار الرصيف، وخرجت من السيارة، وعدوت ناحية الطفل. وقفت أمامه فرفع رأسه تجاهي وابتسم. يحدجني بعينه العربية الضافية، وتضيء وجهه الشمس. لاحظت أنه راغبا في الانفلات ومواصلة طريقه. قلت له
ـ علي فين؟ وضحكت في وجهه، وامسكت به، ونظرت في عينه
:ـ 'علي فين يا ابني؟!.. وإيه حكايتك بالضبط؟!.. خارج منين ورايح علي فين؟
تأملت الفيلات علي الجانبين. شبه واحد. دورين والسور حتي الدور الثاني. البياض شاهق، والخضرة الصحراوية تطل من أعلي السور.. وأنا أتأمل المكان ولا أعرف ما الذي أفعله؟.. من أين خرج الطفل؟.. من أي البيوت يدرج الآن علي رصيف خال من البشر؟.. كيف يتركه أهله ويفرطون فيه في هذا الوقت من النهار؟ تذكرت ولدي بجدائل شعره السوداء، وهو الآن في وطني يتعلق في كف خالته ويسيران بالقرب من ضريح الطاهرة أم هاشم، وزحمة زوارها حول المسجد. نظرت في عين الولد فغمغم وضحك ورغب في الانفلات. قبضت علي ذراعه وهتفت له: ـ علي فين؟.. تعالي هنا.

حملته إلي صدري شاعرا بعظامه النحيلة وقد طوق عنقي بذراعه .. كل الأبواب مغلقة .. بوابات من حديد أسود مشغولة بالرسوم والرماح وكؤوس النبات والزهر، مغلقة علي أسرارها .. ولا أحد هناك .. وأنا أخطو علي الرصيف باحثا عن باب مفتوح خرج منه الطفل .. لا أحد هنا .. ولا أحد هناك .. هل أطرق الأبواب؟ أم أوقف العربات المسرعة؟.. كيف لي أنا الأجنبي أن أحمل طفلا من أهل البلد وأسير به هكذا في شارع خال؟! أعرف ما يترتب علي ذلك. أعرف السؤال والجواب. حالات الريبة والشكوك. وأعرف ما الذي يجري في العتمة بالنهار وبالليل.

قدرت ما أنا فيه .. حاولت إيقاف سيارة، إلا أنني تراجعت ومضيت أسير في الشارع تحت قدمي صهد، وفوق رأسي شمس صاهلة، وخطوات الآدمي يروعها السكون. فكرت أنها مشكلة، وواصلت السير بجوار الأسوار .. فاجأتني بوابة مفتوحة مواربة .. ربع مفتوحة .. توقفت .. قلت:
ـ لابد أن الطفل خرج من هنا. تقدمت وولجت من البوابة، وهبطت عددا من درجات الرخام. حاذر! همست لنفسي وأنا أقاوم خوف أهل القري، وذلك الوجل المولود معي. رايح علي فين.. انتبه'
انتهت الدرجات، وارتعشت يدي .. بلعت ريقي، وخفت أن أقع في المحظور، علي أن أوازن بين إدراكي والخواتيم .. علي ذلك قبل أن أري الجنة. انتهت درجات الرخام، وانفتح الفضاء علي الجنة ... حديقة من كل صنف ولون، وشجر الرمان علي غير أوانه، ومساحة من عشب، ونافورة معمولة من زليج المغرب، تدفق الماء بصوت، وتفوح في الأركان رائحة النرجس والياسمين ... انتبه ... الخديعة في اللون، والرائحة تغيب العقل.. وأنت لا تقرأ كتابا مؤجلا.

كأنني رأيت علي حمام السباحة خيطا من دم .. هل كان دما؟ أم لونا يقسم البركة قسمين، ويمضي دافعا ذاته، لا يختلط بالماء، ولا يختلط به الماء.. والمكان خال إلا من صوت موسيقي لا أعرف من أين يشيع ... بكي الطفل علي ذراعي، ورجعت به ناحية البوابة لأخرج وقد روعني المشهد ... قبضت بيدي علي أكره البوابة لأفتحها لكنني سمعت تكة الإغلاق بجهاز اليكتروني، وسمعت ضحكة نسوية تجلجل بين الزهر والماء ... في الأمر لعبة ... انتبه ... والمشهد كأنه يمر من أمام نافذتين ... انحرفت يمينا، قطعت ممرا مشغولا بساتر من فواصل الخشب، وجدتني أشرف علي حديقة في الناحية الشرقية، وبركة من الماء تزين جدرانها جياد رامحة، تمتطيها حوريات عاريات، تعلوها طيور بيضاء تفرد أجنحتها وتحلق في البعيد. انسابت امرأة عارية، تلف وسطها ببشكير ملون، وترتدي حول عنقها عقدا من اللؤلؤ، وتنحدر علي صدرها جدائل من الشعر الأسود المبلول ... لمحت حبات من الكريستال حول قدمها ... كانت تتجه ناحيتي في عريها، وحين رجعت بظهري استوقفتني بذراعها فلاح أمام عيني أبطها منزوع الشعر في لون ورد الرخام. رأيت بشرتها تلمع تحت شمس الضحي ... أدركت أنها خارجة من حمام البخار، ورائحة جسدها تختلط برائحة النرجس والياسمين ... الولد علي صدري، وأنا لم أعد هنا.

دورة من زمن رمت بي بعيدا، إلي أماكن لم أكن أتصور وجودها أبدا.. سألت: ما الذي جاء بك إلي هنا؟.. كيف دخلت بإرادتك، وخطوت لا تعرف الخواتيم؟ ابتسمت في وجهي، وأشرقت أسنانها في الشمس .. حاذر .. امرأة مثل هذه تصدع القلب، وتصيب الروح لآخر العمر بداء الحنين .. غادر خيالك .. كيف ستعيش بعد أن تغادرها وتنأي عن مشارف مضاربها؟ انتبه .. بينك وبينها السيف وخط الدم وخاتمة الظلام .. كأنه حل م.. اعتبره .. أنت تحلم حتي لا تتورط. تبتسم وأنا أحمل علي صدري الطفل.. قلت حتي أهرب مما أنا فيه:
ـ وجدته يجري ... قاطعتني:
ـ يخرج وكنت عارفه إن أحدهم سيعيده.
هكذا الأمر إذن ... قلت ذلك وسلمتها الطفل ... صرفته ضاربة إياه علي مؤخرته ... قالت ضاحكة:
ـ يحب الشارع!

جذبتني من يدي وخطت ناحية البيت ... طاوعت اليد الممدودة وتبعتها.. في اللحظة انفجر صوت أرغن بلحن سماوي، ورأيت النار في الجسد العاري، والنشوة المبعثرة في أرض البستان، وبركة الماء تهل بالعطايا علي روحي، وأنفي يستنشق الرحيق ... قلت: زمن قديم من خراب ... قلت: ما حاجتك لكل الوجود الذي عشته؟.. وتسمرت عيني علي الضوء الذي يسبح فيه الجسد علي أرض تلك الفيلا.