إذا كان عدد (الكلمة) الماضي قد احتفى بالقص العراقي، فإن هذا العدد برغم اهتمامه المتواصل به شغفا من (الكلمة) بكسر الحصار الذي فرض عليه، فإنه يقدم ثلاث أصوات فلسطينية في هذا المجال. أولهم هو رياض بيدس في قصته الشيقة تلك التي تكشف عن كابوس الاحتلال.

هدية

رياض بيدس

(1)

وجد نفسه يدخل المبني حيث يقع الدكان مضطربا، نظر حوله متفحصا المكان بحذر متوتر كأنه يلوم نفسه علي عودته، كان كل ما في المكان يضج بالضغط بالرفض، أراد ان يتأكد مما يراه فالقي نظرة سريعة تتوسل استئناسا ما إلا انه بدلا من ذلك رأي وجوها يعلوها امتعاض واضح كانت تتفحصه كدخيل ظهر فجأة فعكٌر كل الأجواء، ضايقته هذه الوجوه والنظرات التي تحملها إلىه، ما الذي تسعى إلىه، هل وجودي يضايقها إلى هذا الحد ويجعلها مستنفرة مستفزة علي أهبة الاستعداد لاطلاق كم كبير من العداء الشنيع، وأراد ان يهوٌن علي نفسه ربما كانت تتفحص ما ينعكس من عينيه هو من قلق وخوف واضطراب. ذلك المزيج الذي كان ينتشر فيه وحوله ويجعل المكان كله مشحونا، لا ليس هذا معقولا هذا المكان ينشحن حين يصل إليه واحد مثلي، هذا كل ما في الامر والا ما سبب كل هذا التوتر أصلا، وتملٌكه غيظ كبير ما الذي جاء بي إلى هذا المكان مرة اخري؟ من يعود إلى هكذا مكان بعد الخروج منه؟ لماذا ارتكبت هذا الخطأ الشنيع وعدت؟ يلعن أبو الهدايا وساعتها لا توجد هدية في العالم تستأهل هذه العودة، أكان علي، وتردد في رأسه صوت محاولا تشجيعهه، أكان علي ان أعود؟ إنه المكان الذي كنت فيه صباحا، والذي اشتريت منه هدية ونسيتها وجئت لآخذها، يكاد يضحك من نفسه آخذها وماذا لو طارت الهدية؟ وكيف تطير وقد بقيت في الدكان؟ وعاد الضيق يطبق عليه بإحكام مرة اخري، ما الذي يجعل كل ما في هذا المبني صعبا عليٌ إلى هذا الحد؟ ما الذي اختلف منذ الصباح حتي الآن؟ أكان هذا المكان في الصباح أحسن حالا مما عليه الآن؟ كلا .. كلا .. كل ما في الامر هو أني دخلت صباحا بسرعة وخرجت علي نحو أسرع لدرجة أني نسيت الهدية التي دفعت ثمنها عدا ونقدا. طرت خارجا صباحا كأن شيطانا تلبٌسني، والآن يحكم هذا المكان حصاره علي كأني وقعت في فخه. ما الذي اختلف الآن؟ وأجاب نفسه ما اختلف شيء اساسي. كل ما في الامر أن الوضوح صار صارخا الآن، الوجوه تقول كل شيء بوضوح، وضوح عدائي سافر جارح لئيم، أليس من الافضل ان تظل الغمغمة والغموض سائدين هنا؟ يستحيل، كل هذا الكم الهائل من النفور والرفض لا بد ان يظهرا، وتبرٌم هذه القدس الغربية التي توترٌني، تجعلني مشدودا كقوس نشاب، تجعل الامور حادة الألوان إلى درجة تعشي الابصار. ورغم نور القدس القوي الصافي الذي لا مثيل له في كل المنطقة، إلا أن الألوان الحادة هنا تختلط بقوة وتتعب عيون من لم يعتدها أو لم يألفها.
ونظر مرة اخري أو ربما كان في حالة تحديق مستمر إلى زبائن المقهي الذي كان يقع إلى جانب الحانوت فشعر كأن بعض وجوه الزبائن تسأله إذا كان قادما إلى المقهي؟ لا .. لا، وأطلق ضحكة خفيفة شاحبة شبه مندحرة. لا بل إنها كلها اندحار. وتحرٌكت شفتاه بفحيح أشبه بهمس أو حشرجة. لا أنا لست قادما إلى المقهي، وكاد في لحظة ضعف ـ أوشك ان يصل حد الانهيار ـ أن يدافع عن نفسه صارخا المقهي، اعترض طريقي إلا أنه استدرك الأمر في اللحظة الاخيرة، ولم يفه بهذه الجملة. بل تابع حشرجته التي خرجت مخشوشنة مجروحة. أنا قادم لآخذ الهدية التي اشتريتها صباحا من الدكان المجاور، تعرفون أنه يحدث أن تكون هناك بعض المقاهي إلى جانب الدكاكين أو العكس. وأريد أن أعود بسرعة إلى المكان الذي جئت منه. هذا كل شيء ولا أعرف إذا كانت صاحبة الدكان ترغب أن تراني مرة أخرى. فكذلك يوجد زبائن في الدكاكين أيضا ربما كانوا لا يفضلٌون دخولي. علي كل كما ترون أريد أن أعود بسرعة من حيث أتيت. وشعر أن الوجوه سألته باستغراب ما، أو باستهتار. المكان الذي جئت منه أين يكون هذا المكان؟ هل يوجد مكان تجيء منه أنت؟ اذ تبدو كأنك خارج من لامكان بالمرة. كأنك قادم من مكان ليس له أي وجود. كأنك من العالم الخارجي. وكما لو تناهي إلى أسماعه ايضا كأنك انت لست موجودا. واطلقت زبونتان ضحكة صاخبة بعض الشيء اثر سماعهما ما قيل اخيرا، يشعر بفراغ داخلي عميق. لكن الجو ينكسر. الجو من ناحية اخري. ويتبادلون بعض النظرات المستريبة الساخرة ويدخن بعضهم بشراهة، كأن وجوده استفز كل ما فيهم من غضب. واحتار أي مكان، ما هذا السؤال؟ ما هذه الاحجيات؟ انه لا يحب الالغاز. هل كان يخطر بباله ان يسأل مثل هذا السؤال؟ هل يوجد أحد يأتي من من ممم (وكاد لسانه يعلق في فمه مرددا الكلمات اياها كاسطوانة مشروخة) هل يوجد احد يأتي من لامكان؟ هل تمزحون؟
إذن من أين أنا؟ من الحيط؟ (ويطلق ضحكة خاوية خائفة مهزوزة متداعية) اذا كنتم تقصدون من اي مكان جئت إلى، (ونظر إلى وجوههم كأنه يسألهم اذا كان عليه ان يجيب ام لا، فظلوا علي صمتهم الذي كان يزداد ثقلا عليه) لقد جئت من القدس الشرقية. المكان ليس قريبا من باب العامود. كلكم تعرفون باب العامود جئت من منطقة أبعد من هناك في القدس الشرقية. لا اعرف اسمها جيدا (ونظر إلى وجوههم خطفا، فرآها علي جمودها)؟ أيوه انا جئت من القدس الشرقية. إذ كنت أزور أصدقاء، ولكم ان تتخيٌلوا (تنطبع ابتسامة صفراء علي وجهه) ايش صار معي، صار معي شيء غريب جدا. ربما حدث مع أحدكم في مرة من المرات (وتراجع خائفا) ما الذي أقوله؟ كيف أجرؤ علي القول لهم أن ما حدث معي قد يحدث معهم؟ هذا اكيد قد يجرحهم ويثير ثائرتهم علي، وتقوم القيامة علي هنا. هل انا مجنون؟ (وبلع ريقه الناشف واستدرك) ما أقصده أن ما حدث معي إليوم لا يحدث معكم أنتم. إنه شيء غير لطيف. لذا لا يحدث معكم. وإذا حدث معكم، فإنه يحدث بشكل آخر أطرف وألطف وأهون. (والقي نظرة علي وجوههم خوفا من أن يكون قد اغضبهم. فادرك أنه استطاع أن يصلٌح الأمر بما قاله أخيرا).
ما أن وصلت شقة عائلة صديقي، ودخلت سعيدا فرحا، حتي اكتشفت هناك ـ ولكم ان تتخيٌلوا ذلك أن هناك بالضبط ـ اكتشفت أن الهدية التي اشتريتها لهم صباحا من الدكان المجاور للمقهي (وحرٌك يده مشيرا إلى الدكان المجاور بسرعة) أني نسيت الهدية. أنا قادم من مكان بعيد لزيارة هؤلاء الاصدقاء والهدية شيء رمزي لكنها ضرورية أحيانا. إذ لا يعقل ـ أني بعد سنين طويلة من الانقطاع عن زيارتهم ـ أن ادخل بيتهم من دون هدية. فاضي إليدين. هم لطفاء جدا .لكن هذا سيعتبر قلة ذوق مني. هل صارت الصورة واضحة؟ أم علي أن (والقي نظرة علي وجوههم، فظلت علي ما كانت عليه) أما اذا كنتم تقصدون المكان الاصلي الذي جئت منه فهذا أمر آخر. (وبدا مرتجفا بعض الشيء وهويحاول أن يسبر ما تقوله وجوههم الجامدة التي تسمع ولا تفصح) يعني هذا موضوع آخر. أنا لست من هنا، كما اخبرتكم. أنا زائر هنا بس. فأنا لست من القدس الغربية ولا من القدس الشرقية، إذا كنتم تقصدون المكان الاصلي حيث ولدت فانا لست من هنا. أعتقد أن هذا يظهر واضحا علي (اذ لا يخفي علي احد منكم أني لست من هنا).
يسأله صوت جاف حاد ضجر: إذن من وين انت؟ (يصحو علي الصوت غير مصدٌق أن هذا الصوت انبعث من الصمت الكثيف الذي كان مخيٌما علي المقهي) أنا، أنا! والتج عليه الامر، ونظر إلى الوجوه، ليتأكد من أنه خوطب من قبل شخص ما، وأنه حقا سمع صوتا وليس وهما. فهز احدهم رأسه اشارة إلى انه خوطب حقا، فاردف: أنا مش من هون، انا زائر مثلما قلت لكم من قبل. إذا كنتم تقصدون المكان الاصلي فأنا من الجليل. (واسرع يكمل الكلام لئلا يحدث اضطراب أو ما لا يتوقعه) أيوه من الجليل. أكيد كلكم تعرفون الجليل (وكاد يبتسم، لولا انه أدرك في اللحظة الاخيرة حرج الموقف ودقته، فكتمها في داخله علي امل ان تطلق مستقبلا اذا تغيٌر الجو) من منطقة صغيرة من مناطق الجليل. منطقة هادئة جدا (قاطعه أحدهم بصوت حاد) وهل لك مكان في الجليل؟ وبدا الذي تمنٌي في هذه اللحظات لو أنه تلاشي ذاب اختفي، ما الذي يريدونه منه؟ لقد جاء صباحا هنا. إنه يعود فقط من أجل ان يسترد هديته التي نسيها. هذه كل الحقيقة. ما الخطأ في الامر؟ لو انه عرف ان كل ما يحدث الآن كان في انتظاره لما عاد. ما كل هذه العيون والوجوه والاسئلة التي لا ترحم؟ انه لا يريد المكوث بينهم. هل يعرفون هذا؟ حال استرداده هديته سيمضي فورا من هذه البناية، سيختفي، سيزول من هذا المكان. لن يعود إليه. لن يدعس فيه مرة أخرى. ولن يري وجهه أي واحد منهم. يعدهم بذلك.
في طريق عودته إلى القدس الشرقية، وحين اقترب من القدس الحقيقية التي يحبها ويعرفها، أخذت الاماكن تتغيٌر بحدة. ها هو يقترب من منطقة شقة الأصدقاء فيري أن المنطقة تغيٌرت أيضا بسرعة مذهلة عما كانت عليه صباحا. أو أنه بالأحرى لم ينتبه إلى ذلك. إنها تغييرات كبيرة جدا، ولا تخفي علي النظر السريع. تغييرات بالغة غيٌرت كل جغرافيا المنطقة، وساءل نفسه هل كل هذا التغيير معقول؟ أحدث هذا كله خلال مدة زمنية قصيرة جدا؟ هل هو في القدس الشرقية؟ أم أنه وصل إلى منطقة اخري؟ مدينة اخري، بلدة اخري؟ ما الذي يجري هنا؟ لا إنه ما زال في القدس. إذن كيف تغيٌر هذا المكان كل هذا التغيير الجوهري؟ إنه يري شقة الاصدقاء، لكنه في المقابل يري جبلا، وعلي هذا الجبل ثمة مستوطنة كبيرة جدا كانت تمتد وتصل السفح وتأخذ في الاسفل شكلا دائريا كما لو انها كانت أنشوطة تريد ابتلاع كل ما في المكان، ولا تبقي حتي علي العمارة التي يستأجر الاصدقاء فيها شقة. يتأمل المستوطنة. إنها تكبر وتمتد وتزحف. وتذكر لقد رأي هذه المستوطنة من قبل، وخاطب نفسه لكن ليس هنا، أين؟ ثم كيف غابت كل هذه المستوطنة صباحا عن ناظريه؟
تذكر بعض وجوه المقهي الكالحة وسأل نفسه ما هذا إليوم؟ هل هو يوم النحس العالمي؟ هل هو نحس مؤقت؟ لا لا إنه نحس مقيم. لا يحول ولا يزول. وارتاح إلى أنه سيسأل صديقه وزوجته فهما أخبر وأكبر من هؤلاء الاولاد، ومن أهل المنطقة ايضا. فلربما طالت التغييرات أيضا أهالي المنطقة الاصليين. وحاول اشغال نفسه بأي شيء. فنظر إلى نفسه متفحصٌا لئلا يكون قد أضاع الهدية، ففرح حين رآها بين يديه ممسكا بها باحكام. وردد بصوت هامس يجب أن لا انساها مرة اخري. وتحرٌك ناحية شقة صديقه ببطء محاولا أن يهضم ما رأى. لكنه كان أشبه بالمهزوز. كأنه لا يصدق، كيف يستطيع أن يصدق كل هذا، هل يوجد أحد قادر علي ابتلاع كل هذه الكميات من الصدمات، والبقاء ثابتا في كامل وعيه؟ وظل علي سيره مستديرا بين حين وآخر ملتفتا صوب المستوطنة ليتأكد مما يراه إلى أن وصل مدخل العمارة، عندها تنفس الصعداء إذ أن العمارة والشقة ما زالتا في مكانهما علي حالهما. هذا شيء جيد ردد لنفسه بصوت عال. يجب أن لا يحدث مثل كل هذا التغيير. وكمن تشوش واختلطت عليه الأمور لدرجة مزعجة، وتكاثرت همومه جدا، اعتلي درجات المبني متعبا منهكا يريد أن يترك كل ظلاله المستنزفة وراءه. لكن من دون جدوي. اذ كانت تعاود التمرد عليه، استرخي قليلا وترك كل جسده يرتخي وأكمل سيره مفكرا. كانت هناك ثلاث أو اربع شقق، سار في الرواق فالفي المبني غريبا بعض الشيء، هل يدخله لأول مرة؟ وعمل علي نبذ هذه الفكرة من رأسه ولو بالقوة، هذا المكان كان فيه صباحا لكن الغروب يجعله مظلما بعض الشيء. ثم هناك غبش ينتشر في أرجاء المكان يجعل عينيه تزوغان ولا تمسكان باشياء المكان بوضوح. تساءل بضيق لماذا لا يضيئون اللمبات الخارجية؟ ما هذا هل يقتصدون؟ وسار متلمٌسا دربه بحذر، بحث عن الشقة، اللعنة هل نسيت رقمها، لا حاجة للارقام، الشقق في هذا المكان ليست أكثر، وحاول أن يعدها. إنها ليست كثيرة ولا تتعدي عدد اصابع اليد الواحدة. اذا كانت كذلك فلماذا هذه الغرف الكثيرة المفتوحة؟ من أين هذه الغرف الكثيرة؟ وما هذا الغبار المنتشر فيها؟ يشيح بوجهه عن الغرف، ينزعج من العتم الذي يسيطر علي المكان كأنه يغزوه بكل ما فيه من قوة، يقرر محدثا نفسه جازما: عليّ أن أدق أي باب من ابواب الشقق المغلقة، واسأل عن بيت الأصدقاء. أجل هذا ما يجب ان أفعله، وإلا سأظل أدور في هذا المكان الشبيه بالمتاهة.
ولا يتردد، يقترب من باب الشقة الأولي ويدق بحذر، يفتح الباب ويسأل هل هذا البيت هو بيت، فيسمع صوتا أليفا يقول له هل تمزح؟ يصحو آه إنها زوجة صديقه بحالها. إذن ما زالوا في مكانهم، وما زالت الامور معقولة بعض الشيء. تضحك وهي تستقبله بحرارة، وتسأله لماذا حاول أن يتظاهر أنه لا يعرف الشقة؟ هل كان يمزح؟ وتبلبل. هل يسرد علي مسامعها كل ما جري له؟ لا الأفضل لا. واستعاض عن ذلك بأن حدثها باختصار كيف عاد إلى القدس الغربية، واحضر الهدية، ويفطن إلى الهدية التي بين يديه، فيضحك وهو يقدمها لها. الهدية ... يردد غير مرة، كأنه يحمل كنزا. تشكره علي كرمه وإن كان ليس ضروريا، يخرج صديقه مبتسما، يسأله الصديق كما لو انه كان يستمع إلى كل ما جري، أما قلت لك اترك الهدية؟ ينفض رأسه كما لو كان يريد تنظيفه ويقول إن عودته إلى مكان الهدايا كان مرعبا، يضحكون، فجأة تتسلل المستوطنة إلى ذاكرته هل يسأل، يستدير الزوجان ويضعان الهدية جانبا. ثم يدعوانه للخروج معهما، يتقدمه صديقه وزوجته. أين يذهبون؟ يا دوب وصل، ربما كانا يتشاوران عن المطعم الذي سيذهبون إليه، ليس مهما لا خوف الآن.