هذه قصة مرهفة تقترب من واحدة من المناطق المسكوت عنها في التناول السردي تكشف فيها القاصة والروائية الفلسطينية الموهوبة عن قدرة الفن على الاقتراب بشاعرية من مناطق الأفول المستعصية على التعبير.

ليل أحلى

حزامة حبايب

سكت أبو شوكت عن الكلام الشهي (غير المباح بالضرورة) مؤقتاً، وارتد إلى الوراء تاركاً فراغاً وسط دائرة الرؤوس شبه المغلقة. بالنسبة إلى رفاق المقهى الأزليين، كان الشوق إلى المعرفة قد تحول إلى رغبة مستفزة ومستنفرة، برد صهيرها بعض الشيء حين علق أبو شوكت حديثه مضطراً. سحب أبو فرج نفساً عصبياً وأخيراً من سيجارته، وهرس عقبها المتوهج تحت نعله. نقر أبو رياض على الطاولة بنزق، ثم نقر عليها بنزق أكبر. أبو حافظ هرش خصيته ، من تحت الطاولة، بيد، ومشط شاربه الخشن والنافر بأصابع يده الأخرى. أبو شادي مسح الدبق الرطب الذي رشحته مسامات رقبته. وإذ اقترب صبي المقهى بصينية "الطلبات" التي تقطر ماء من طاولة أبو شوكت ورفاقه تراجعتْ كل الرؤوس إلى الوراء مكرهة، منتظرة بصبر أن يولي الصبي الفضولي ظهره كي يعيدوا تشكيل دائرة الإصغاء، من جديد، برؤوسهم التي استوطنها الشيب والصلع وخيالات فاحشة مؤجلة. تعمد صبي المقهى أن يتباطأ في توزيع الطلبات. "القهوة المضبوطة مثل كل مرة وأحسن من كل مرة لأبو حافظ". "والقرفة.. أحلى قرفة بالجوز واللوز.. لأحلى حاج". "تفضل يا أبو رياض، يا سلام عليك". فما كان من أبو رياض الذي عيل صبره، وما عيل شوقه، إلاّ أن تناول بيده أكواب الشاي له ولأبو شادي وأبو شوكت، وطلب من الصبي الذي ابتسم بلؤم أن "ينقلع" من أمامهم.
... وكان أبو شوكت قد عقد العزم على أن ينقطع عن ارتياد مقهاه الأزلي حيث الطاولة الأزلية والرفاق الأزليون. فمنذ أن نهش السرطان أحشاء أبو رسمي، لم يعد من حديث يتناوب عليه الرفاق الستينيون والسبعينيون سوى رفيق العمر الذي خضع لثلاث عمليات جراحية استؤصلتْ خلالها أجزاء من أمعائه تباعاً، فبات يأكل طعاماً أقرب إلى طعام الرُّضَّـع، وفقد في تسعة شهور أكثر من أربعين كيلوغراماً، وهو الذي كانت كسّارات "ياجوز" مسرحاً لجبروته حتى قبل بضع سنوات خلت. وإذ توفي أبو رسمي أخيراً، أمست ليالي المقهى متوترة ومبتورة. يتذرع أبو فرج بالتهاب المفاصل الروماتزمي الذي أوشك أن يقعده ليكون أول الرائحين بمجرد بلوغ منحى الأحاديث الكئيبة ذروته، ليفل بعده أبو شادي متحججاً بارتفاع ضغط الدم لديه، فأبو رياض متذرعاً بالمياه الزرقاء التي ضربت عينيه، مذكّراً من تبقى من الرفاق أنه منذ زمن لم يعد يميز أرقام حجر النرد في طاولة الزهر، ثم ما يلبث أن ينسحب أبو حافظ لاعناً أولاده عديمي الشرف، مقسماً، كما أقسم ستمائة مرة من قبل، أن يبيع الأرض والبيت ويحرق ثمنهما أمام أعينهم نكاية بهم. وكان أبو حافظ ترمّـل قبل عامين، وحين أفصح عن رغبته بالزواج من قريبته الأربعينية تماضر ليأتنس برفقتها في وحدته أقام عليه أولاده القيامة ولم يقعدوها. "أجننت؟" "تتزوج في هذه السن؟" "ومن؟ تماضر التي تصغرك بعشرين عاماً؟" تساءلوا باستنكار. أبو حافظ أقرب رفاق المقهى إلى أبو شوكت. أسرّ له بأن أولاده لا يريدون تزويجه خشية أن يأتي من يقاسمهم الأرض والبيت.
قال له الطبيب الشاب الذي كانت أكثر من نصف أضراسه محشوة بالرصاص. لكن أبو شوكت لا يشعر بأنه بخير. لم يصرح بهذا الأمر لرفاق المقهى الستينيين والسبعينيين حين سهر معهم في الأماسي الفائتة، فآخر ما كان يطمح إليه هو أن يحتل مكانة متقدمة في سباق "الانحطاط" الصحي. لم يصرح بهذا الأمر لأم شوكت التي هدّتها أمراض الكبر من سكّري وضغط وقلب حتى باتت لا تنهض من الفراش إلا لتعود إليه ثانية. لم يصرح بهذا الأمر أيضاً لأبنائه الذين لم تعد السكنى في الرصيفة تتناسب ووظائفهم في الشركات الجديدة ذات الأسماء الأجنبية التي تفرّخت في عمّان في السنوات الأخيرة، فانتقلوا مع زوجاتهم، محدثات النعمة، إلى الشق الغربي النظيف والمنظم من العاصمة، وأصبحت تمضي شهور دون أن يراهم أو يلاعب عيالهم ويهدهدهم في حجره (وهو الذي اعتاد أن يجعل جيب بنطاله مليئاً بالملبس تحسباً لاحتمال أنهم قد يدقون عليه الباب في أية لحظة، وإن كان احتمالاً بعيداً بعض الشيء!) وإذا حدث وأن التقوا جميعاً في بيت العائلة الآيل للنسيان، وسط فرحة أم شوكت الهستيرية بالفساد الجميل الذي يعيثه الصغار في كل مكان وتسامحها مع رزالة كنائنها اللاتي يدخّن جهاراً أمام أزواجهن "المنايك" (كما يصفهم أبو شوكت في سره)، فإن الكلام نادراً ما يتجاوز "كيف الصحة يا حاج؟" و"كيفك يا حاجة؟" أو "كيفك عمو؟" و"كيفك مرت عمو؟"!
هم بالنهوض من مصطبته ليدلف إلى البيت حين لمح أم بسام تتفقد قنّ الدجاج في حديقة بيتها التي يفصلها عن حاكورته سور مشترك. اشتعل وجهها تحت تقاطع إنارة الشارع البيضاء المصفرة مع حزمة قمرية مضيئة. إنها المرة الأولى التي يرى فيها أبو شوكت جارته الخمسينية أم بسام دون غطاء للرأس. بان شعرها الأشيب وقد جمعته في جديلة قصيرة. بقايا حناء برتقالية خضبت سالفها. وهي المرة الأولى التي يراها بقميص النوم. وأم بسام من الناس القلائل ممن يثبتون في الذهن في صورة أبدية، لا تتبدل؛ فهي أم بسام، أم بسام ـ "ماغيرها" ـ التي تفتعل حروباً يومية مع الجيران، وتتعارك مع سائقي السرفيس "الزعران"، وتقتتل مع أقربائها البعيدين، وتزور الناس بمناسبة ودون مناسبة، وتصادر كرات القدم المهترئة التي يشوطها صبية الحي إلى حديقة منزلها، حيث كثيراً ما تعمد إلى بقر بطن الكرة بسكين كبيرة غير مكترثة لصرخات الصبية وتوسلاتهم لها كي تتراجع عن خطوتها الشريرة. إنها أم بسام التي لا تُرى إلا بالجلباب الكحلي والإيشارب الأزرق. على أن قميص النوم القطني الأبيض، على حشمته، جعل أم بسام في هذه الليلة التي طلع فيها البدر مبتسما ً.. هانئاً .. مشرقاً غير تلك التي يعرفها أبو شوكت.