مع الدراسة التي نقدمها في هذا العدد عن المجموعةَ القصصية الرابعة للقاص الفلسطيني زياد خداش. نتيح للقارئ أن يقرأ معها ثلاث قصص من أحدث أعماله.

ثلاث قصص

زياد خداش

1. بقايا شتاء قديم

صامتين دخلا غرفة الفندق رقم 13ستيني وأربعينية، وقف هو أمام المرآة طويلاً، محني النظرة، مدلى القلب، يحدق في مناجم عينيه المهدمة، جلست هي على السرير، خلعت حذاءها، استلقت، نحيلة وقريبة. نحولها ممتلئ وودود، واقف أبدا على أهبة تهور، سمعته يسعل، نهضت، أحس بها تقترب، أغمض عينيه لثوانٍ غارقاً في عذوبه ذلك الصوت الخافت المرعب اللذيذ، صوت قدميها الحافيتين على الأرض، أعرف هذا الصوت جيداً، هذا الصوت صديقي، روحي تضج بلغزه، مفتاح لياليّ الغابرات المضيئات.. مثل طعنة ضرورية ورحيمة في الظهر من صديق مجهول، تأتيني صورة ليلة لن أنساها، كنت استلقي عارياً على السرير بانتظارها على ضوء شمعة، ليلتها سيطرت علي رغبة غريبة أن ألتهم ثدييها واقضم إصبع قدمها الصغير، في الحديقة الملاصقة للغرفة كانت قطة تموء بضجر وريح تمشط شعرها استدراجاً لمطر قد يأتي، بين المطبخ والحمام والصالون وغرفة المكتب كانت هي تتنقل حافية القدمين أرعبني صوت أقدامها الحافية على الأرض، لم أعد أريدها أن تأتي، أريدها فقط أن تمشي بين غرفة وأخرى ولا تكف عن المشي، شعرت بثيران شرسة تقفز من جسدي، تنطح المرآة والجدار والنافذة.. الصوت مراوغ قاس مدهش، فيه غفران خيانة ما وحكمة انفلات هادئ، ما هذا الصوت؟ أهو سائقة شاحنة مجنونة، محملة بجرار نبيذ معتق لم يسمح لها بالمرور خوفاً من ضجيج زامورها، تشرب السائقة المجنونة جرار النبيذ دفعة واحدة، انتقاماً من سكان المدينة المتعفنين. تنصب خيمتها على مقربة من الحاجز، تبث من هناك رعشاتها وأسرارها وانفجاراتها البعيدة. آه يا صوت قدميها الحافيتين ابتعد، ابتعد، ابتعد،. أحس بها تعانقه من الخلف، مرخية رأسها فوق كتفه، مغمضة العينيين، كفتا يديها فوق بطنه، سمعها تهمس : آه يا كنزي.. هما داخل المرآة الآن... الآن، مقبوض عليهما بتهمة الاقتراب المريب، رجل يقف على حافة جنون ما، تسنده امرأة بنهديها المخلصين وأنفاسها البنفسجية، تدحرجت الكلمات من فمه وحيدة وشريدة.

ـ بعد نصف ساعة سيأتي، سيطرق الباب ست طرقات واهنات، سيكون مرتبكاً، انت ستكونين بانتظاره على الباب بكامل اجنحتك وامواجك. امسكي بيديه، ابتسمي، قوديه إلى السرير، هناك اتركيه يحرثك، واتركيك تعبين من ينابيعه العذراء.
ـ هذا جنون يا عزيزي هذا جنون.
ازاح يدها عن بطنه برفق معتذر، زحف باتجاه الشرفة مستنداً على خطوها الحافي، أمسك يدها، المدينة تحتهما، الغيوم أمامهما، مدت يدها قطفت له ثلاث غيمات، علقتهم على شفته السفلى وعنقه ورأسه، أرجوحة وقلادة وقبعة، أحنى رأسه على كتفها، بملء صحرائه اشتم رائحة شعرها البري الأسود، غمس شفتيه بعنقها.
ـ سأغادر الآن.
تركها وحيدة على السرير بانتظار الست طرقات الواهنات، الرجل الستيني ذو الثلاث غيمات المعلقات على جسده يهبط درج الفندق باتجاه شارع مهجور لا يمشي فيه أحد. ست طرقات واهنات ويدخل شاب عشريني تفتح الأربعينية الباب تبتسم، تمسك يده الخائفة والضريرة تقوده إلى السرير، تقول له همساً.
ـ هو أستاذك وزوجي تحبه وأحبه، أليس كذلك، قال لي أنك أجمل وأذكى طلابه، وانك الوحيد الذي يمكن أن يشكل امتداده، ويقاسمه ذاكرته بأخطائها وظلالها، دعنا نبسط المسألة ونطرد الرعب. عندما تهرم غيمة ما تنكمش وتبتعد لكنها لا تموت، تبقى معلقة هناك على طرف العالم، تتأمل بانتشاء صديقاتها الغيمات الصغيرات وهن يمطرن هذا ما علمني إياه أستاذك.

يبتسم العشريني، لوحدها تسقط ثيابها وثيابه، يشتبكان في حرب ذاكرتين ضروس، تنطلق طيور عينية ويديه نحو شعرها وعنقها وشفتيها، تفرد هي اجنحتها على مصراعيها وترشقه بموجها الساخن، فيسرع هو إلى عشها هلعاً. يصحوان على صوت ارتطام غريب، يهرعان إلى الشرفة متعرقين ولاهثين، غيمة هرمة مرمية على الأرض جثة بلا حراك بجانبها بقايا شتاء قديم.

(الى وليد الشيخ طاعنا في الشعر والحب)

<ثمة حياة هنا لي، تركتها في زمن سابق، أسلمتها لغبار التاريخ ومضيت سعيدا إلى طفولة حزينة>، هل حلمت بهذه العبارة منذ أشهر؟ او قرأتـها في كتاب فلسفة او رواية لا أتذكر اسمها او مضمونها؟ طيلة هذه الأشهر وأنا أحوم حول هذا المكان، فندق قديم، يقع في طرف رام الله، محاط بحرش كبير، والحرش نفسه محاط بسياج عال، ثمة بوابة كبيرة، للفندق تقع أمام ساحة سيارات قرى غرب رام الله، حول هذا الفندق استأجرت غرفة صغيرة تحت الأرض تقريبا، لأكن دقيقا وأقول ان ذهني وجسمي هما اللذان استأجرا هذه الغرفة، ذهني يريد وقتا صافيا بعيدا حركة البشر ومعارك السائقين، ليكتب مدنه ويرسم شهقاته، أما جسمي فيريد ساعات حميمة من البكاء الضروري والاسترخاء بعيدا عن كراسي المقاهي الثرثارة، لا علاقة لعقلي وروحي وذاكرتي بهذه الغرفة. فالعقل يتطلب منطقا، وهذا ما تفتقده حفرتي المسماة مجازا غرفة، أما روحي فهي أوسع من تنحشر في مساحة صغيرة، لا يمكن لذاكرتي ان تقبل حفرتي كمحطة او منزل مؤقت، فلا شيء هناك يستحق التدوين سوى بضع دمعات ضئيلات، وأنفاس مهشمة متلاحقة أحيانا، وظل كائن غريب الملامح يتحرك بصعوبة، قبل أربعين عاما كنت شيخا هرما، ولدت من بطن أمي هكذا بوجه مجعد وجسم مكرمش مليء بالثآليل ومترهل، وجه بلا أسنان، ولكن بشارب ضخم مليء بالشيب، وبشعر هائل على الصدر المتعب العظمي، أهلي عانوا طويلا من حزن ورعب و إحراج، والجيران اعتادوا على التلصص على شيخوختي الطفلية الغريبة، الصحف المحلية والعالمية كتبت بعناوين ضخمة : في فلسطين ثمة طفل شيخ ولد، حالة غريبة لم تشهدها البشرية من قبل، جنود الاحتلال اقتحموا بيتنا ذات ليلة، خطفوني عنوة من حضن أمي الخائف، أمضيت في هداسا أشهرا وأنا اخضع لتحاليل وفحوصات دم وعظم وجينات وغيرها، احد أخوالي اقترح ضاحكا على أمي ان أعرض في بيت زجاجي أمام زوار يدفعون رسوما، بكت أمي، هرب أبي إلى الحديقة، يداري غضبا ممزوجا بخوف، كنت أدرك من انا، واحمل داخلي ذاكرة تتجه رويدا رويدا لذوبان وانكماش، شخص العلماء حالتي، بأنها طفرة في حركة الجينيات، لم يعرف سببها بعد، أما الناس فقد اختلقوا إشاعات غريبة لحالتي، منهم من قال ان تاريخ عائلة أمي مليء بالندوب الخلقية والتشوهات الذهنية، وان احد أخوالي، ولد برأس جمل، وجسم على شكل جذع شجرة قبل مئات السنين، وان إحدى خالاتي ولدت وهي تحمل على خاصرتها قطعة لحمية كبيرة على شكل قطة، أما احد أجدادي من ناحية أمي فقد خرج من قبره بعد أسبوع من دفنه،اتجه إلى وديان قريبة، واختفى هناك. مضت حياتي الهرمة شيئا فشيئا إلى طفولة معكوسة، في شبابي كنت اعرف اني عشت هنا في هذا الفندق، عشت كنادل فقير يعيش في مخيم قريب، نادل يراقب بحسرة أحذية النزلاء الفاخرة، نادل مغامر ضبطته إدارة الفندق يسرق زوج حذاء نادر النوع من غرفة سائح خليجي، لم اعد نادلا فقد طردت منه منذ سنوات، عدت اليه في هيئة مقلم أشجار شهواني يتعامل مع الشجر وكأنها نساء يحتجن إلى أصابعه لتعتدل في أجنحة نهودهن موازين العقل والجنون، الصحو والمطر، لم استطع ان أفسر لمدير الفندق شكوى امرأة شجرة، ضدي، قالت المرأة الشجرة اني وبينما كنت أقلم بشفاهي زوائد لحمية في خاصرتها، صرخت بقوة لتكتشف اني كنت اقضم لحمها وأوزعه بعد ان اصبغه بالقهوة على شكل شامات سوداء حول تخوم ظهرها ورقبتها، غادرت هذا الفندق إلى الأبد بعد ان اكتشفت إدارة الفندق حيل صوري وخداع أقنعتي، لكني عدت اليه في مراهقتي عاشقا أقابل صديقتي قرب سوره، ولأني انحدر إلى سنواتي الاولى التي لم أعشها بعد، فقد حسمت أمري بخصوص اقتحام الفندق الذي أغلق أبوابه منذ ثلاثين عاما، حلمت مرة أخرى ان لا مجال أبدا لدخول الفندق والتعرف هناك على آثاري وبقاياي، الا بوجود امرأة، قلت لصديقة : لا تخافي، سنتنكر في هيئة صحفيين، نبحث عن آثار ماسونية هنا، ارتعبت الصديقة، لم توافق، فقررت ان أتخلى عنها نهائيا، أوضحت لصديقة أخرى : لا دور لك سوى ان تمشي معي و تبتسمي لصاحبة الفندق وهي امرأة عجوز تسكن وحدها في غرفة علوية، ترددت الصديقة، رفضت في النهاية، لا استطيع ان افهم عملية اقتحام الفندق الا بوجود سيدة، أنثى بذاكرة مليئة بالخيانات والرجال الرمليين و المخلفات المؤلمة من رسائل وقبلات فزعة، وفناجين قهوة لم يكتمل شربها بعد، ومناديل مقاهي ورقية وكتابات على جدران الفنادق البعيدة. ما زلت ابحث عن السيدة المقتحمة، سيدة تنظر إلى معنى الاقتحام على انه زيارة مفاجئة وجريئة لذاكرتها الأخرى، ذاكرة القديم الذي يضحك على التاريخ ويعيش في تاريخ خاص مخبأ في حياة كامنة تمشي وتتحرك، ذاكرة المكان الأنثى.

من يجرؤ على القول ان الفندق ليس امرأة كانت هنا تمتلئ بالنزلاء والزائرين المبتسمين وفجأة رحل الجميع بطريقة فظة ولم يعودوا، تاركين خلفهم روائحهم وملابسهم الداخلية، وأشياءهم الصغيرة وحركاتهم، مثل خطوات خافتة وحافية وسريعة متجهة إلى الحمام على بلاط الغرف، في الصباحان الشتوية، قبل الاندساس اللذيذ في الفراش مرة أخرى استكمالا لنوم أملس لم يكتمل، ضحكات نسائية طويلة معلقة على أطراف الشراشف الزرقاء القديمة، قبل او بعد إعصار جسدي متقطع او متصل، بقايا سلطة ولحوم مفرومة مبعثرة على أطراف طاولة، جوارب رجالية مرمية في الزاوية كل جارب على حدة،، ديوان شعر لنزار قباني، ورق ابيض مسطر عليه مكتوب عليه أرقام هواتف وحسابات غامضة لشركات؟؟
قميص نوم نسائي مرمي بإهمال مثير وأنيق على طرف كرسي.

أوه ما أكذبني كيف عرفت ان كل ذلك هو هناك بانتظار ذهولي وعيوني المفتوحة على سعتها،؟؟
أهي سرابات المخيلة الوحيدة المحشورة في عرائها الخصب والعميق، لم اقتحم الفندق بعد، ما زلت في عملية بحث عن السيدة، التي سميتها سيدة السادسة، انها تلك التي توقظني منذ سنوات كثيرة عند السادسة لتقول لي همسا : انهض أيها السمين فالشمس رائعة هذا الصباح،
بعد عدة سنوات سأصل إلى طفولتي التي لم أعشها بعد، سأحتاج إلى حليب أمي التي ستكون قد جاوزت التسعين عاما، الآن هي كائن خرف في ملجأ عجزة،الهي من سيشتري لي العاب الطفولة؟؟ أي حضن سأرتمي فيه حين يضربني ابن الجيران الشرس ؟؟ مات إخوتي كلهم وأخواتي بعد شيخوخات طاحنة، بقيت طفلا وحيدا غريبا، يعيش في بيت أيتام على صدقات المحسنين، لا يزورني سوى الصحفيين والعلماء ويحرسني شرطيان طاعنان في الاستياء و النعاس، سأمضي ما تبقى لي من شباب بالحوم حول هذه المرأة التي تشبه فندقا، يمر الناس عن الفندق ولا يرونه، لا احد يكترث له، فهو مسور بإحكام، والحديقة الوحشية التي تحيط به، لم تمسسها يد منذ عشرين عاما، الصبار ينمو بحرية، يزحف فوق السور، دون ان تعوقه حكمة فلاح، العشب الطري الأخضر يتجه اني أراد دون ان تقف أمام عمائه المبصر إرادات البشر السخيفة، شجر السرو والصنوبر يتطاول منحرفا حينا عن خط الجذع إلى حيث سطوح الفندق، وتتوزع أغصانه هنا وهنا بشكل عشوائي، يموت بعضها ويحيا الآخر دون تنسيق او تضامن، نوافذ الفندق مغلقة منذ ثلاثين عاما كما قال لي أبي الذي اعتاد تمضية وقت فراغه مع أصحابه هنا في الحديقة، الهي الا تتعب النوافذ من الإغلاق ؟؟ الا تشتاق إلى هواء يجتاح رطوبتها؟؟ أي سر ينام بهدوء خلف هذه النوافذ؟؟

أي حيوات كانت هنا،؟؟ أي هواجس ومخاوف وأفراح سريعة ونشوات وآلام معدة وروح نسيها نزلاء الفندق في الغرف الصغيرة ثم ماتوا في بلادهم البعيدة قبل ان يسترجعوها،
سيدة السادسة رفضت ان تكون سيدة اقتحام فهي تقول ان دورها هو اقتحام صباحاتي وغيبوباتي، حسبها ذلك كما قالت،، ما زلت أحوم حول النوافذ، منحدرا رويدا ورودا نحو براءتي وبياضي ولثغة فمي.

ومدينتي التي بلا فنادق، بلا نساء السادسة، بلا بقايا. من هذا الشيخ الهرم الذي يجلس على حجر أمام بوابة مغلقة لفندق قديم ؟ الناس يتساءلون باستمرار، هم لا يعرفون قصة هذا الكائن الذي حيرت تركيبته الزمنية والجينية علماء العالم، السمكة لم تنزل بعد عن إحدى شجرات حديقة الفندق المجنونة، سمكة، ليست ثمرة ليست طائرا، انها سمكة، نعم سمكة اني أراها بوضوح، اعرف ان أحدا لن يصدقني وهل صدقني احد حين قلت أمام الصحافة اني أعيش حياتي للمرة الثانية، نفس التجارب التي عشتها، نفس الأشخاص الذين قابلتهم، نفس الأماكن، ما بال السمكة لا تتحرك، في الماضي أثناء عملي كنادل كنت أراقبها تقفز من غصن إلى أخر، للمدن السادسة دائما إيقاع خاص في قلبي، رام الله مدينتي السادسة التي حلمت بها قبل ان أولد، كنت خلية وعي عمياء ونائمة في جاور زمن ما، كنت أحس اني سأقذف من هذا الجار ور نحو مدينة اسمها رام الله، وإنني سأبدأ حياتي عجوزا هرما ثم اهبط إلى مطار براءتي ثم أعود مرة أخرى عجوزا، لم أكن اعرف ما حكمة ذلك ؟ حتى اللحظة لم اعرف، لكن صديقتي التي تخليت عنها فيما بعد قالت انها تمتلك حاسة سادسة، والدليل على ذلك انها تنبأت لي بأني سأعيش حياتي مرتين، ضحكت عليها مع أصحابي ومضينا إلى حياتنا نثرثر ونأكل والأصحاب مصرون دائما على انهم يحلمون بي، وان حقيقتي مشكوك فيها، لطيفة صديقتي هذه، وهي بالمناسبة الصديقة السادسة، التي أخوض معها تجربة غريبة، تتلخص في افتعال حرب صغيرة بيننا،وفي تغيير أماكن لقائاتنا، بحيث نلتقي كل شهر في مدينة جديدة، آخر هذه المدن كانت أريحا، جلست معها في منتجع سياحي تديره هي هناك، طويلة بامتلاء خفيف وسمراء، التهمت معها كعكتين بالشوكولا، صنعتهما خصيصا لي احتفاء بمقدمي، كانت كلما انحنت لتلتقط شيئا من الأرض تضع يدها اليسرى وهي تبتسم على مجرى نبع أرنبيها الكبيرين، خوفا من عيوني وأحلامي التي كانت تأكل أوراقها ومكتبها ولوحاتها وقهوتها و مدينتها.

قلت لرجل مر عني : يا صاحبي انظر السمكة متجمدة، لا تتحرك، ضحك الرجل وقال لصديق له يقف في الجوار، مسكين هذا الشيخ الطفل، انه يتوهم رؤية اسماك على الشجر هذه المرة هاهاهاها، الغريب اني لا اغضب، فقد تعودت على سخرية الناس وحملقتهم في شكلي وكلامي وحالتي، سيدات السادسة اختفين، لم تعد هناك سادسة، لم يعد زمن، او تاريخ، فأنا اعرف اني اشتغلت نادلا مرتين، والغريب اني حاولت ان أصحح في تاريخ حياتي واعدل من أخطائي التي ارتكبتها فلم انجح أبدا،فمثلا قمت مرة أخرى بسرقة زوج الأحذية الفاخر، وطردت بسبب ذلك، مشيت في نفس الأماكن والشوارع، قابلت نفس النساء و الرجال، ندمت نفس الندم، اشتهيت نفس الاشتهاء، لكن شيئا واحدا اختلف ولا اعرف لماذا، هو اني رأيت نفس السمكة تصحو بقوة مفاجئة بعد موت طويل فوق احد أغصان شجرة السرو الضخمة، عينا السمكة واسعتان، مخيفتان، مليئتان بالعطش والثلج والتساؤل، قفزت السمكة عن الشجرة، الغصن يترنح بفعل قوة القفزة، اني أراها جيدا انها تطير، السمكة تطير في الفضاء، الناس تمشي بشكل عادي، السيارات تتحرك، انا ارقص أمام بواب الفندق الذي ما زالت نوافذه مغلقة.

3. أحزان صغيرة: من ارشيف مخرج سينمائي غريب الاطوار

نسيان

شعرة طويلة منسية في ساق امرأة جميلة جدا، تجلس المرأة في مقهى بانتظار رجل جديد، الساقان اليانعتان ملتفتان فوق بعضهما البعض. بينما بقايا حبات مطر خفيف يسيل على الزجاج بجانب طاولة المرأة، هل هي دموع الزجاج أم دمه أم أسئلته؟

كنت أختبيء في شرفة منزل لصديق مسافر، أرى كل شيء أمامي وكاميرتي لم تكن بهذا الجذل والانفعال منذ حملتها على كتفي وتجولت بها في ضياعات واحزان واسرار الناس البسطاء العاديين، الشعرة اللعينة ملفتة للنظر لكن المرأة لا تراها ولا تحسها، فقد نسيتها في زحمة تفقد مناطقها الأخرى، والإنسان ينسى بطبيعته، يدخل الرجل مبتسما وقويا، يرفل في سحابات عطر لا يذهب، يجلس أمام المرأة الجميلة جدا، تهبط النظرات هناك فيما يشبه سياحة في بلاد لينة، المرأة لا تستهجن النظرات فهي مطلوبة ومنتظرة وتقليدية، تتوقف نظرات الرجل هناك حيث تنتصب الشعرة، كلص مكشوف وأهوج، يضطرب الرجل، يهرش رأسه، تبتسم المرأة الجميلة جدا، فقد ظنت أن اضطراب الرجل ناتج عن سحر ساقيها، ينهض الرجل معتذرا لقضاء حاجته، تزداد ابتسامة المرأة، فاضطراب الرجل الرائع وصل إلى درجة الهرب إلى الحمام، تنشغل المرأة المبتسمة والمبتهجة بقراءة صحيفة مرمية بالصدفة على الطاولة، الساقان تتأرجحان بخفة وبراءة كطفلين ضلا الطريق، ويلهوان الان على خط سكة قطار سريع قادم، يتأخر الرجل، ابتسامة المرأة تتوسع، تقترب من حدود ضحكة، وحده النادل الشاب المستغرب كان يعرف ان المرحاض... فارغ

فارغ تمامًا

من الرجال

دمامل

الكاميرا المتطفلة تختبئ الآن تحت درج عمارة، المخرج غريب الأطوار الذي يعاني من هوس ملاحقة أحزان النساء الصغيرة في الشوارع البعيدة والعمارات المكتظة يلصق عينيه النهمتين في مؤخرة الكاميرا، وينتظر: المرأة التي تبدو جميلة فقيرة على درج الطابق الأول، وقفت مرتبكة ناظرة بقلق فوق وتحت، كانت صاعدة لتحضر الدواء لأبيها المحتضر من عيادة مجانية تابعة لجمعية خيرية، بعد بعد أن اطمأنت من عدم وجود أحد، تنهدت هامسة: يا الله حكالي الدكتور يومين وبتروح هاي الدمامل، رفعت فستانها الأسود، كاشفة عن فخذ مليء بدمامل حمراء صغيرة.

راحت تهرش فخذها فاتحة فاها متألمة وضجرة. في لقطة ذكية و سريعة أدار المخرج الماكر الكاميرا باتجاه نافذة بيت مقابل العمارة، كان هناك رجل في الستين يحرك لعابه مستثارا من التماع فخذ احمر مشتعل لامرأة كانت يراها بعينيه المعذبتين تمارس العادة السرية، على درج الطابق الأول. كان يهمس لنفسه مرتجفا: يا الله كل هذه الحمرة! إلى أين تذهب؟؟. من الذي سيطفئ نارها بعد قليل؟؟

حصان

تمشي المرأة الجميلة في وسط المدينة المكتظة بالناس، فجأة أرى عربة حصان قادمة مسرعة من آخر الشارع، يهرب الناس من أمام العربة، المرأة كانت تفكر في ما شغل تفكيرها حين دهمتها العربة، وقعت المرأة الجميلة على الأرض، واندلقت أغراضها خارج حقيبتها، شغلت فورا كاميراتي وصوبتها نحو المراة الممددة على الارض بخجل كبير، لم تتألم المرأة رغم التواء كاحلها أو بالأحرى لم تنتبه للألم، هل أجلته إلى وقت آخر؟ كاميرتي كانت مركزة على كاحلها مرة وعلى عينيها المرتعبتين مرة أخرى كانت تنظر حولها خجلى ومضطربة بسبب تحلق الناس حولها، الناس ذهلوا حين نهضت المرأة بسرعة رغم التواء كاحلها، تابعتها بالكاميرا، يداها تتحركان بعصبية على الأرض وهما تبحثان عن أغراضها، كانت تبدو وكأنها تبحث عن غرض خطير أو مهم، اعتقدت أنها تبحث عن دولاراتها الكثيرة التي تناثرت هنا وهناك، أو أقراطها الذهبية وأوراقها، لكنها تركت كل شيء وخطفت عن الأرض فوط الكوتكس، وهربت مسرعة ناسية ألم كاحلها امام أعين المارة الذين هجموا فيما بعد على أوراقها النقدية، و منهم أنا.

درج

كان الرجل الخمسيني صاحب الابتسامة التي لا تتوقف، الطبال سابقا في فرق موسيقية توقفت بسبب الانتفاضة، قصير القامة والاعرج مع بدانة خفيفة يصعد درج العمارة التي يسكن في غرفه سطوحها، لم اكن اعرف ما الذي ينتظره هناك، زوجة وابناء ام سرير بارد متعفن ام اصدقاء ام اب عجوز، ام ماذا ؟ كنت الاحقه بكاميرتي منذ اشهر، كنت اعرف ان هذا الرجل لديه من الاحزان الخفية ما يكفي لاخفاء مدينة كاملة عن الوجود، في عتمة رام الله ما زال يصعد الطبال السابق الدرج وانا خلفه مع كاميرتي اصعد حافيا، كنت اعرف ان عدد طبقات العمارة هو عشرة، لكن الغريب اني ما زلت اصعد منذ نصف ساعة، ولم اصل بعد للسطح، بينما ظل الطبال القصير متمازجا مع لهائه ما زال يترنح على جدران الدرج، امامي، الهي، ما زلت اصعد الدرج والظل المكسور امامي، منذ ساعتين، لم اصل بعد. إلى اين تأخذني ايها الطبال السابق؟.

سواد

لم اكن اعرف اسم الشارع في البداية، لكني حين عرفت ان اسمه الرسمي حسب سجلات بلدية رام الله شارع الحرية، اجتاحني ما يشبه شعورا بالسكرة المفاجئة في مسجد او كنيسة، الشارع يقع بالقرب من مطعم دارنا، بجانبه بيوت قديمة جدا وعلى الطرف الاخر هناك السفارة الالمانية، مما يعطي انطباعا بتصالح المعاصرة مع الاصالة او بتواطئهما، لا تسير السيارات في هذا الشارع وحين يحدث وان تسير فهي نادرة , ومرتبكة ومخالفة للقانون، حتى المشاة لا يشاهدون هنا بكثرة، كم هو غريب هذا الشارع! حملت كاميرتي وكمنت بها في حقل مشجر اول الشارع، رحت انتظر فرائسي من نساء ورجال القت بهم الدنيا على قارعة التعاسة، امراة بملابس سوداء وحقيبية سوداء، تقترب، كأنها تنتظر احدا ما، امرأة تبدو مألوفة، هيئتها وطريقة مشيها، وتلفتها، كأني اعرف كل ذلك بل ولمسته، سيارة من الطرف الاخر من الشارع تقترب، المرأة تمشي باتجاه السيارة، كاميرتي تلاحق المرأة االتي غطت شعرها بمدنيل، تفتح المرأة الباب، في تلك اللحظة السريعة وبين فتح الباب وانغلاقه تخلع المرأة منديلها بعصبية حلوة وفرحة، الهي، انها------ امعقول؟؟ لا لا ليست هي، مستحيل، فزوجتي اقصر من هذه المرأة و----، اركض باتجاه الباب وقبل ان تتحرك السيارة كنت ارتمي علي زجاجها، تاركا كاميرتي تتحطم.