من منظوره الدبلوماسي وخبرته في قضايا أفريقيا، يقارب الدبلوماسي الليبي هنا قضية مياه النيل، وتأثير ما يدور بشأنها في أفريقيا على مستقبل مصر، ويكشف لنا عن مسؤولية النظام الفاسد الذي حكم مصر في العقود الأربعة الأخيرة عن الأزمة التي إذا لم نعالجها بسرعة وبحكمة، فسوف تجر على مصر الخراب.

مصر هِبَةْ الحبشة

عبد السلام الرقيعي

إن أبا التاريخ، أو قل إن شئت جد التاريخ هيردوت، لم يكن غاية في الدقة عندما قال في حينه: «مصر هِبَة النيل». لأن قوله هذا يعوزه التحديد الدقيق، حيث كان حريا به أن يقول على الأقل: «مصر هِبَة النيل الأزرق»، وذلك لأن النيل الأزرق، هو الذى تحيا به مصر وشعبها، ولو لم تأت إلى مصر مياه النيل الأزرق هذا، لما استفادت مصر من مياه النيل الأبيض، اللهم إلا في الشرب أو زراعة النخيل، وفى أحسن الأحوال زراعة التين والزيتون! بل أكاد اجرؤ على القول أنه قد يكون اكثر دقة لو أن هيردوت قال: (مصر هبة الحبشة)! لابد أنك تتسأل لماذا؟ لا تتعجل، فما هي إلا هنيهة وتأتيك تفاصيل الإجابة: إن المصريين وحياتهم، كانت على طول التاريخ رهناً بفيضان هذا النيل الأزرق، الذى ينبع من بحيرة تانا، الواقعة في أعالي مرتفعات الحبشة الشاهقة، تلك البحيرة التي تتجمع فيها مياه الأمطار التي تتهاطل على تلك المرتفعات في عز الصيف، وكلما كانت تلك الامطار غزيرة، وأدت إلى تفايض مياه البحيرة سيولا وأودية، كلما جرفت تلك السيول أتربة وبسيس أحجار الجبال، وغثاء أحوى، ومكونات أخرى، يسمى كل ذلك (الغرين) أو (الطمي)، حتى يصار لون النهر أقرب إلي السواد، ويدل ذلك على خصوبة الموسم، وهنا مكمن السر؟

إن أرض مصر في حقيقة الحال أرض جدباء، متدنية الخصوبة بطبيعة تركيبتها، وإذا لم يأت إليها ذلك النيل الأزرق حاملا معه (الغرين) أو (الطمي) سمه ما شئت، لمَا تجددت خصوبة أرض مصر، ولصارت تئن تحت وطأة الجدب والقحط. وفى سنين الجدب العجاف التي لا يحمل فيها النيل (الطمي) أو (الغرين)، فإن لون مياهه تكون زرقاء بلون السماء، ومن هنا جاءت تسميته بالنيل الأزرق. تمييزا له عن فرع النيل الأبيض، الذى لا تحتوي مياهه على الطمي أو الغرين. وهكذا فالنيل الأزرق بالنسبة لمصر ليس مصدر مياه فحسب، بل هو الذى يحمل اليها أيضا التربة التي تزرع، ولم يتبق على ذلك النيل الأزرق إلا أن يجلب معه، البذور غير المحسنة جينيا، وكذلك المحراث والمنجل، سبحان الله الرزاق ذو القوة المتين. فَمِنْ بعد الله. أليس الحبشة مصدر رزق لمصر، يجعل من القول أن (مصر هبة الحبشة)، أكثر دقة.

هكذا كان النيل منذ القدم محط اهتمام الإنسان المصري، لأنه هو مصدر حياته، يَروي منه مزروعاته التي يأكلها، ومنه يشرب ويغتسل، ليس هذا فحسب، بل يسقي منه حتي حيواناته التي يربيها أيضا. وجاء في كتب التاريخ أن الفراعنة أبدوا اهتماما خاصا بنهر النيل، كما تشير تلك الكتب إلى أن الفراعنه كانت لهم علاقات تربطهم بشكل أو آخر، مع الحبشة التي ينبع من أراضيها نهر النيل الأزرق. وفى عصور أقرب، يذكر المقريزي في الجزء الثاني من كتابه (الخطط، ص 496): أنه في ايام الدولة الفاطمية، في عهد ولاية المستعلى، جاء فيضان النيل منخفضا الى حد انزعج منه المصريون. وكان الحاكم يعلم أن مصدر المياه من أثيوبيا "الحبشة"، وهو يعلم أن أهلها يدينون بالولاء للكرسي المرقصي وبطريرك الأقباط في مصر. فأرسل مندوبا من عنده إلى البابا في مصر، وكان يدعى (ميخائيل الرابع 1084 1094م)، وطلب منه الذهاب إلى الحبشة ليقابل حاكمها ويتفاوض معه على الوسائل الممكن اتخاذها لكى تعود مياه النيل إلى طبيعتها، وأرسل معه هدية ثمينة للعاهل الحبشي. وفرح بطريرك مصر بهذه المَهَمَة الوطنية، وسافر على الفور. حيث قوبل فور سماع وصول رحلته بالترحاب والاحترام. وحينما عُرِفَ سر خبر الرحلة، أمر حاكم الحبشة رجاله بأن ينظفوا مياه النيل في مجاريه من كل الأعشاب النامية التي تعيق انسيابه. ويومها أدى ذلك إلى ارتفاع منسوب المياه ثلاثة أذرع في فترة وجيزة".

وعن عصر آخر يحدثنا الدكتور محمد جمال الدين الفندى، في كتابه عن نهر النيل قائلا: «إن الخديوي اسماعيل قاد حملة استكشافية عسكرية، وصلت إلى حيث يلتقى فرعا النيل الأبيض والأزرق، وهو المكان الذى تم إنشاء مدينة الخرطوم فيه عام 1820 تقريبا، ومن ثم واصلت الحملة رحلتها متتبعة مجري النيل الأزرق حتى وصلت إلى منطقة فازوغلي". اما في العصر الحديث، فإن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فقد كانت أفريقيا برمتها في عهده، تشكل الدائرة الثانية في السياسة الخارجية المصرية بعد الدائرة العربية، أما الحبشة فكانت تحظى باهتمام خاص لدى الرئيس عبدالناصر، رغم التناقض الحاد بين عبدالناصر الثائر والإمبراطور هيلا سلاسي. حيث عَمِلَ الرئيس عبد الناصر على احتواء "سلاسي"، وذلك من أجل تأمين منا بع نهر النيل الأزرق، (كيف لا وعبدالناصر هو الذى شيد السد العالي)، وأيضا من أجل العمل على تحرير ووحدة أفريقيا، ولذلك تم اختيار عاصمة الحبشة أديس أبابا مقرا لمنظمة الوحدة الأفريقية، وذلك لإقحام سيلاسى في وسط المعمعة.

وفي عهد الرئيس الراحل "انور السادات" أُلْحِقَ ضررا بالغا بالقضية العربية، من خلال زيارة الرئيس للقدس المحتلة، واعترافه بالكيان الصهيوني البغيض، وتوقيعه لمعاهدة السلام مع العدو الصهيوني، وقد استحال جبره حتى يومنا هذا، وهو الضرر الذى كان جزء منه، أن أعادت أغلب الدول الأفريقية علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني البغيض، تلك العلاقات التي كانت قد قطعت في أعقاب حرب اكتوبر 1973، والتي كانت ليبيا إذ ذاك قد بذلت من أجل قطعها جهودا مضنية، مستعملة كل السبل في شأن إقناع الدول الإفريقية، بقطع علاقاتها مع هذا الكيان العنصري، الذى اعتدى على دولة افريقية التي هي مصر. غير أنه بعد أن أقامت مصر نفسها، علاقات دبلوماسية مع الكبان الصهيوني، فإن أحدا لا يستطيع أن يلقي باللأمة على الدول الأفريقية، أو أن يطلب من الأفارقة، أن يكونوا مصريين أكثر من مصر نفسها. ولذلك تداعت الدول الأفريقية تترى، تعيد علاقاتها مع الكيان الصهيوني. ولم ينتبه الرئيس إلا عند ما كاد ت الفأس ان تصيب الرأس، وبدأت تتبين له عواقب ما أقدم عليه، وأنقطع عليه خط الرجعة. عندها قرر الرئيس السادات أن يقفز قفزة أخرى في الهواء، متماديا في غيه، أخِذَتاً به العزة بلإثم، حيث عرض على الولايات المتحدة استعداده لمحاربة الشيوعية في افريقيا، نيابة عن الولايات المتحدة، وخاصة في إثيوبيا، حيث أنه بدأ يشعر أن السوفييت، قد طفقوا في تحريض دول منابع النيل، وخاصة إثيوبيا ضد مصر، وشرعوا في حث هذه الدول، على إعادة النظر في اتفاقية 1929، والتأكيد علي حق دول المنبع في إقامة سدود على نهر النيل، كما زرع السوفييت في اذهان قادة دول المنبع، أن دولهم مغبونة، وأن مصر رغم أنها دولة من دول المصب، إلا أن حصتها من مياه النيل، أكثر بكثير من حصص دول المنبع، وذلك أمر لا يستقيم مع المنطق، وبالتالى لا بد من إعادة النظر، في الحصص التي يجب أن تتحصل عليها دول المنبع ودول المصب من مياه النيل.

لما كان ذلك، وكانت الولايات المتحدة لا تريد إذ ذاك تصعيد المواجهة مع السوفييت، نظرا لأن الحرب الباردة كانت في أوجها، وكان الامريكيون يعتقدون أن السوفييت، لن يتورعوا عن الدخول في حرب من أجل إثيوبيا وباب المندب، لهذا حذر الأمريكيون الرئيسَ السادات من مغبة الإقدام على آية مغامرة حمقاء، قد يفكر في القيام بها. اذ ذاك التجأ الرئيس السادات إلى وزير خارجيته د. بطرس بطرس غالى، حيث شرع الأخير في القيام برحلات مكوكية متواصلة، حيث كان يزور في سنة خمس وعشرين دولة افريقية، وفي السنة التالية يزور الخمس وعشرين دولة الأخرى. كما كان بطرس غالي يحضر شخصيا كل المؤتمرات الأفريقية، وحقيقة الحال أن الدبلوماسية المصرية، قد نجحت في تلك الأثناء، على الأقل في إبقاء الحال على ما هي عليه، وذلك أهون الإضرار.

غير أن الملفت للنظر حقا، هو المنحى الذي نحت اليه الدبلوماسية المصرية، منذ سنة 1990 م تقريبا، حيث أعطت ظهرها لعلاقاتها مع الدول الأفريقية، كما إنها لم تبد أي حماس حتى لعلاقتها، أو انضمامها للاتحاد المغاربي، وإن كان يمكن استثناء علاقاتها المميزة مع الجماهيرية العظمي، التي تحكمها معطيات ذات طابع خاص، لا تحتاج إلى شرح ولا تفصيل. كما ان مصر ماطلت أيضا، حتى في الانضمام الى اتحاد دول الساحل والصحراء. وفي المقابل أَوْلَتْ مصر اهتماما خاصا، لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الاوربي، بل إنها أبدت حماسا متناهيا لمشروع ساركوزي للاتحاد من أجل المتوسط، رغم ما عليه من تحفظات، فيما أبدت مصر حماسا أقل للإتحاد الإفريقى، الذى كان حرى بها أن توليه اهتماما أكبر، وفق السياق الطبيعي للأمور. أليس كذلك؟

كما أبدت الدبلوماسية المصرية عناية مميزة لعلاقاتها مع دول الخليج العربي، واليابان والصين وعدد آخر من دول آسيا، وأيضا مع عدد من دول أمريكا الجنوبية. بل حتى لعلاقاتها مع الكيان الصهيوني على الأقل في الجانب الاقتصادي! ولا تثريب على أن تعطى الدبلوماسية المصرية، اهتماما لعلاقاتها مع هذه الدول، وهى دول ذات ثقل في السياسة الدولية، يستثنى من ذلك الكيان الصهيوني بطبيعة الحال، لكن كان المتوخي من الدبلوماسية المصرية، إعطاء أولوية لعلاقاتها الافريقية، وألا تترك عمقها الجنوبي مُشْرعاً، أمام قوى عظمى كالولايات المتحدة، الاتحاد الأوربي، روسيا والصين، بل حتي أمام دول أقل حجما كإيران والكيان الصهيوني أيضا! لا سيما بعد أن عادت من جديد، منطقة شرق افريقيا بالتحديد، ميدان للصراع الدولي على مصادر الطاقة، ومنابع المياه، والممرات الاستراتيجية باب المندب، قناة السويس.

ولقد دخل الكيان الصهيوني على الخط من جديد، فهو يأبى إلا أن يمد يديه القذرة في كل مكان، وطفق يشعل نار الفتن، ويؤجج العدوات بين الشعوب والقبائل، وشرع في نهب ثروة الماس، بل يكاد أن يحتكر استخراجه من اراضي دول افريقيا وكذلك تصديره الى دول العالم، ناهيك عن تجارة السلاح والمخدرات وغسيل الأموال. وفي هذا السياق، قام الصهيوني أفيجدور ليبرمان وزير خارجية الكيان الصهيوني، في شهر الفاتح "سبتمبر" بجولة في افريقيا شملت كينيا وأوغندا وإثيوبيا، وقد عرض الوزير الصهيوني خلال هذه الزيارة علي تلك الدول زارها، مساعدات اقتصادية وفنية، وقد تركزت هذه المساعدات على مجالات المياه والزراعة والطاقة. غير أنه تجدر الإشارة إلي أنه رغم هذا الدور الدولي، في الحراك الجاري في شرق افريقيا، ثمة دور آخر تلعبه أطراف داخلية، قد بد أت تجاهر مثلا برفض المعاهدات التي تنظم توزيع مياه النيل، وتكمن خطورة الأمر الداخلي في كونه أمر أحادي، حيث أن كل دولة تبحث عن مصالحها الذاتية، ثانية عطفها عن مصالح الدول المجاورة. وفي المقابل يبدو دور الدبلوماسية المصرية في هذه الساحة كان متواضعا إلى حد بعيد، أو كما يقول أيمن السيد عبدالوهاب في مقال بعنوان (نحو استراتيجية مصرية متكاملة في حوض النيل): "الحقيقة أن الأداء المصري تجاه ملف المياه ودول حوض النيل، خلال السنوات القليلة الماضية، يثير العديد من علامات الاستفهام حول ارتباط التحرك بمواجهة الأزمات والاستناد في غالبية الأوقات إلي سياسات رد الفعل أكثر من سياسات الفعل والهجوم". وهو أمر يزيد المشكلة تعقيدا، ويؤدي لا ريب غلى تصعيب الوصول إلي حل لمشكلة توزيع مياه النيل، بين دول المنبع ودول المصب.

التحليل
في البداية لابد من الإشارة إلي أن العلاقات بين دول حوض النيل، محكومة بعدة مبادئ واردة في الأتفاقية الموقعة عام 1929 م، بين مصر دولة المصب من جهة، وبريطانيا من جهة أخرى بإعتبارها الدولة المحتلة لدول لمنابع النيل، أوغندا وكينيا وتنجانيقا "تنزانيا" الحالية والسودان. وكذلك تلك المبادئ الواردة في الاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان عام 1959 م، يضاف إلي ذلك الاتفاق الموقع بين مصر واثيوبيا. ويمكن تلخيص هذه المبادئ في النقاط التالية:
أولا: معاهدة 1929 م تنص على المبادئ التالية:
1. حصة دول المصب من مياه النيل تساوى (74 مليار متر مكعب سنويا).
2. ان أي دولة من دول الحوض تود اقامت أى مشروع على النهر، عليها أن تخطر بقية دول الحوض بذلك. وذلك للتأكد من أن المشروع المراد إقامته، لا يؤثر على حصص باقي دول الحوض من مياه النيل وفى حقيقة الحال يبدو هذا المبدأ، وكأنه "فيتو" مصري، يُمْكن لمصر أن تستعمله ضد أي مشروع، تنوي أن تقيمه أى دولة من دول حوض نهر النيل، قد يكون من شأنه التأثير علي حصة مصر من مياه النيل.
3. القرارات التي تتخذها مجموعة دول الحوض، يجب أن تتم الموافقة عليها بالإجماع، وليس بالأغلبية.

ثانيا: إتفاقية مصر والسودان عام 1959 م، والتى جاء فيها ما يلي:
تقسم حصة دول المصب البالغة (74 مليار متر مكعب سنويا)، بين مصر والسودان علي النحو التالي:
1. حصة مصر (5 ر 55 مليار متر مكعب سنويا).
2. حصة السودان (5 ر 18 مليار متر مكعب سنويا).

ثالثا: الاتفاق بين مصر واثيوبيا، والذى جاء فيه ما يلي:
تعهد كل من البلدين بعدم تنفيذ مشروعات مائية تضر مصالح البلد الآخر، وواضح أيضا أن هذا المبدأ لصالح مصر، شأنه شأن "الفيتو" المشار إليه في بند أولا. لأنه من غير المتصور أن أى مشروع تقيمه مصر على مجري النيل سيكون له تأثير على الحبشة. كما تم الإتفاق على العمل، علي تقليل الفاقد من مياه النيل، وكذلك العمل على زيادة تدفق المياه.

هذه هي مجمل المبادئ التي تحكم العلاقات المائية بين دول حوض النيل، غير أن هذه المبادئ، لم تعد تلاقي قبولا من دول المنابع، بل أن دول المنبع، تعتبر نفسها مغبونة من دول المصب، لا سيما من مصر. فإثيوبيا مثلا، ترى إن مصر والسودان تحصلان، على نسبة 85% من مياه النيل، ولذلك فأنها قررت ااشروع في بناء سدود علي نهر النيل الأزرق، توطئة لبيع المياه إلي كل من مصر والسودان. أما أوغندا، كينيا وتنزانيا، فقد دأبت على طرح ما يعرف (بمبدأ نيريرى)، وهو المبدا الذى يطالب بإلغاء إتفاقية 1929م التاريخية، وعدم الإعتداد بما جاء فيها، بإعتبارها إتفاقية تنتقص من السيادة الوطنية لدول المنبع، حيث أنها اتفاقية موقعة بين مصر، وبريطانيا التي كانت مُسْتَعْمِرَة لمعظم دول النبع، كما أنها تٌمَكِنْ مصر من التحكم في حصص دول المنبع من مياه النيل وعلى ضوء ذلك أثارت كل من، أوغندا، كينيا وتنزانيا عام 2003 م، مطلب إلغاء إتفاقية 1929 م، ما أدى إلى إرباك الدبلوماسية المصرية، التي سارعت إلى تشكيل لجان فنية، ضمت في عضويتها خبراء، في السياسة، القانون الدولي وفى شؤون المياه. كما حاولت مصر تقديم محفزات مغرية لدول الحوض، للتعاون التجاري، الزراعي والاقتصادي، بالإضافة إلى التعاون العلمي. وكذلك وافقت مصر على إنشاء سد (تاكيزي فيفا) في إثيوبيا، وسد (مروى) في السودان.

غير أن ما تقدم لم يُجد فتيلا، عندما رفضت كل من مصر والسودان، إلغاء الاتفاقيات السابقة، كما رفضتا القبول بقاعدة الأغلبية في التصويت، مما تسبب في أزمة، عُرِفَتْ بأزمة كينشاسا. حيث رفضت دول المنبع التوقيع على الاتفاقية الإطارية، وكان ذلك في شهر الماء "مايو" 2009 م. وبعد انهيار مفاوضات كينشاسا، دعت مصر دولَ حوض النيل إلي جولة مفاوضات أخرى، عقدت بمدينة الإسكندرية في شهر يوليو 2009 م، وهى المفاوضات التي يرى المصريون، أنهم قد حققوا فيها نجاحا وإن كان مؤقتا، حيث تم تأ جيل توقيع الاتفاقية الإطارية لتنظيم عملية استخدام مياه النيل، وإعطاء مهلة ستة أشهر، لإجراء المزيد من التفاوض، غير أن هذ ا لا يعني بأي جال من الأحوال، أن مصر قد ضَمَنَتْ موافقة دول الحوض، على ما تود مصر أن تنص عليه الاتفاقية التي قد توقع بداية العام القادم، وأن تتضمن الاتفاقية على ما ترى مصر، أنها حقوقا تاريخية وقانونية لها، وفي مقدمة هذه الحقوق، حصتها من مياه النيل التي تبلغ حاليا (55.5 مليار متر مكعب)، والتي تطمح مصر ليس في المحافظة عليها فحسب، بل أنها تعمل على زيادتها نظرا لزيادة حاجتها للمياه من جهة، ولكونها الدولة الوحيدة من دول الحوض التي تعتمد بنسبة 100 % من حاجتها المائية على نهر النيل. ولذلك دأب الدبلوماسيون المصريون على تكرار القول، بأن حصة مصر من مياه النيل خط أحمر لا نقاش فيه. في الوقت الذى ترى فيه دول المنبع، أن مصر والسودان، تحصلان على أكثر مما تستحقا من مياه النيل، ولذ ا يجب إعادة النظر في توزيع الحصص بين دول الحوض، ومشكلة توزيع الحصص هذه، تعد هي النقطة الأهم في نقاط الاختلاق بين الفرقاء. في حين يرى فيه بعض خبراء السياسة في مصر، أن التمسك المصري بالحقوق التاريخية، الواردة في الاتفاقيات الدولية، وعدم تقبلها من دول المنابع، خاصة ما يتعلق بتوزيع الحصص، ليس هو جوهر الخلاف.

فالخلاف في تقدير هؤلاء الخبراء، ليس على حصص المياه، إنما حول رؤية للمصالح والتحالفات، ومحاولات لتجاوز واقع مفروض، تحدده الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات القائمة. وكأن هؤلاء الخبراء، يحاولون اختزال الخلاف بين دول الحوض، في جانب معنوي يتمثل في شعور دول المنبع بانتقاص سياداتها ليس أكثر، لا سيما وأن تلك الاتفاقيات قد وقعتها بريطانيا، عندما كانت تستعمر هذه الدول. غير أنه مع تقديرنا البالغ لرأى هؤلاء الخبراء، فإنه لا ينبغي أن نجعل ذلك هو السبب الرئيس للخلاف، وإن كنا نوافقهم على أن مشاعر النخبة السياسية الحالية، في دول المنبع، ليست كمشاعر النخبة السياسة في العهود السابقة، حيث أن النخبة السياسية الحالية أكثر وعيا وإدراكا، كما أنها مفعمة بمبادئ التحرر، والحرص على التخلص من مركبات النقص، التي كانت تعانى منها شعوب القارة السوداء جميعها، وليست دول منابع النيل فحسب. لذلك فإن الجانب المعنوى، يظل سببا من اسباب الخلاف، غير أنه ليس السبب الرئيس، حيث أن النخب السياسة في أغلب دول القارة، صارت اليوم تعى المصالح الاقتصادية لشعوبها، وهى تعض بنواجذها على تلك الحقوق والمصالح، وتعمل بكل جهودها على إسترداد ما فقد أو أُنتزع منها.

ولما كنا، ندرك حاجة مصر لحصتها الحالية من مياه النيل، بل حتى لزيادة هذه الحصة، فإننا نؤيد وجهة النظر، التي ترى أن تحقيق مصر لهذه الغاية، إنما يتأتى بما يلي:

1. احتواء الأزمة من الناحية السياسة، وعدم العمل على تصعيدها، وذلك بتكثيف التحرك الدبلوماسي، واستثمار فترة رئاسة الجماهيرية العظمى للاتحاد الافريقي، وعلاقات الرئيس السابق، العقيد معمر القذافي مع قادة دول المنابع، فهو لديه علاقات مؤثرة، لاسيما مع كل من الرئيس (موسيفيني) ورئيس وزراء إثيوبيا (زيناوى)، كما أنه تربطه علاقات طيبة مع باقي رؤساء دول المنابع، حيث كان يحظى لديهم باحترام وتقدير خاص. حاول أن يستخدمه في الوصول إلي ما يضمن مصالح مصر. وكذلك إلي الحؤول دون لجوء دول المنابع، إلى المحافل والمحاكم الدولية للحصول على حقوقها. ناهيك عن أن رئيس الاتحاد الافريقي، يستطيع بشكل أو آخر، توجيه جزء من أموال صندوق التنمية في افريقيا، لاستثمارها في تلك الدول، وهو أمر لا ريب، في أنه سيؤدى إلى الحد من غلواء تلك الدول، ومن تشددها في التمسك بمواقفها.

2. على مصر أن تكثف جهود الكنيسة القبطية، والتي تتبع لها الكنائس الحبشية، لا سيما وأننا عرفنا من خلال هذا المقال، أنه سبق وأن تم استثمار جهود هذه الكنيسة في هذا الشأن، أيام الدولة الفاطمية، وقد أبلت الكنيسة إذ ذاك بلاء حسنا. كما أنه من جهة أخرى، وبعد أن ثبت الآن أن القومية الأمهرية المسلمة، تشكل الأغلبية السكانية في الحبشة، فإنه لا مناص من حث الأزهر الشريف، على للقيام بدوره في هذا المقام.

3. توظيف دور المؤسسات العلمية من الجامعات والمعاهد الفنية، لا سيما المعاهد الزراعية، في القيام بمهام ميدانية لتطوير إمكانيات دول المنابع، فيما يتعلق بتحسين وتطوير أساليب الزراعة والري، وتطوير البنى التحتية، لكى يشعر المواطن في هذه الدول بدور مصر، وبالاستفادة المباشرة للمواطن هناك من المساعدات العينية المصرية. وكذلك ضرورة تقديم المنح الدراسية لطلاب تلك الدول للدراسة في شتى المجالات العلمية، على أن يكون ذلك برنامج استراتيجي طويل الأمد، وليس عملا مرحليا لتمرير الأزمة، لأن أحد فوائد البرنامج طويل الآمد، انه سيؤدى في نهاية المطاف إلى أن تتضمن النخبة السياسية لهذه الدول في المستقبل، أعدادا من أولئك الذين تلقوا تعليمهم في مصر، ما يعني بطبيعة الحال أنهم سيكونون إذ ذاك، من صناع القرار في بلدانهم، ولا نعتقد أن أحدا تفوت على فطنته أهمية ذلك.

4. إن مصر والسودان عندما تضمن النص في المعاهدة الإطارية، على حصتيهما من مياه النيل، وكذلك النص على عدم قيام أية دولة بأي مشروع على النهر، إلا بعد موافقتهما، فإن إصرارهما بعد ذلك على عدم الموافقة على إلغاء اتفاقية 1929 م الموقع بين مصر وبريطانيا، هو في حقيقة الحال هو مجرد شطط لا لزوم له. ويجب أن ل انغطى عين الشمس بالغربال، ونصر على التمسك باتفاقية موقعة مع دولة استعمارية، لاهم لها إلا مصالحها في ذلك الوقت، والثى لم يكن من بينها مياه النيل بطبيعة الحال، وأغلب الظن أن بريطانيا، كانت قد تغاضت عن حقوق تلك الدول المُسْتَعْمَرَة والمتخلفة، مجاملة لمصر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن دول المنبع، أصبح لديها الآن مشاريع تنموية وزراعية في حاجة إلي كميات متزايدة من المياه، كانت في الماضي في غنى عنها، أما الآن فهى تَحْتَاج اليها، كما تحتاج أيضا إلى كميات أخرى للشرب، نظرا للتزايد المضطرد لعدد سكان هذه الدول. ولذلك يجب ان تنتبه كل من مصر والسودان، إلى أن السند القانوني الذى تعتمدان عليه، وهو اتفاقية 1929 م، التي في أغلب الظن أن فقهاء القانون الدولي، سيعتبرونها فاقدة للشرعية ويصنفونها على أنها سند واهٍ، يفتقر إلى دعم القانون والعرف الدوليين، بما في ذلك القانون الدولي الذى ينظم الحقوق المائية للدول النهرية. ولذلك فإننا ترى أنه ليس ثمة داعى، لدفع دول المنبع إلي المزيد من التعنت، الذى قد يجبرها إلى رفع سقف مطالبها، بل ربما حتى إلى خرق نصوص المعاهدات التاريخية، وعدم الاعتداد بها، ما يُخْشَى أن يؤدى في نهاية المطاف، إلى تصعيد آخر، أحدا أيا كان لا يستطيع تخمين كنهه.

5. إن تمسك مصر والسودان بعدم أحقية باقى دول نهر منابع النيل غير المنضمة حاليا للمعاهدة، في الانضمام للمعاهدة الإطارية لدول حوض النيل، هو تمسك لا سند لا من الواقع، ولا من القانون. كما أنه لا يستقيم مع المنطق، وهو فوق كونه إجحاف وعسف، تجاه تلك الدول، على مصر والسودان أن تتجاوزاه، فهو يعد أيضا موقفا عَصّي علي تلك الدول أن تنساه، وستحفظه في ذاكرتها موقفا سلبيا لمصر والسودان، لاسيما وإن تلك الدول سيصار إلى انضمامها إلي أية معاهدة تنظم العلاقة بين دول حوض نهر النيل، طال الأمد أم قصر.

وفى نهاية المطاف، فإننا نؤكد على أن الخيار الآخر، الذى يدعو إلى التصعيد والمواجهة، سواء بالعمل على تنمية الصراعات والتناقضات داخل تلك الدول، أو بالتهديد باستعمال أوراق ضغط اقتصادية أو سياسية أو ربما حتى عسكرية. نقول إن خيار كهذا سوف ينحى بالأمر منحى لا تحمد عقباه، وسيؤدى إلى اندلاع صراع، القارة في غنى عنه، صراع الكاسب ففيه خسران، وأن احدا لا يستفيد منه، إلا أعداء القارة، أو على الأقل أعداء مصر والسودان. ولا يفوتني هنا ان أُذكر بأن الكثيرين قد نبهوا مبكرا، منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلى أن الحروب في المنطقة مستقبلا، ستكون حروبا من أجل المياه. إنها رؤية استراتيجية بعيدة المدى، غير أننا نسأل الله تعالى ألا تتكون تلك الحروب، بين الدول الأفريقية، ولا بين الدول الأفريقية والدول العربية، كما أننا نتمنى على رئيس الاتحاد الأفريقي، والذى عهدناه دائما راعيا للسلام، في ربوع هذه القارة التي تحظى بقيادته الآن، أن يسارع بالتوفيق بين الفرقاء قبل أن يسبق السيف العذل. ونحن على ثقة تامة من أن حكمته، وما يكنه له الفرقاء من تقدير واحترام، معطيات كفيلة بتسهيل مهَمَة رئيس الاتحاد الأفريقي، في الوصول إلي حل عادل يرضى الأطراف جميعها، ويبعد عن القارة شبح الحرب المخيف، ويقطع تلك الأيدي القذرة الشريرة الآثمة، التي تسعى ليس إلى الفتنة بين الأشقاء فحسب، بل إلى تجويع وتعطيش الاشقاء في مصر والسودان. وذلك أمر لا نرضى نحن الليبيين به، لا لمصر ولا للسودان، سواء كان من صديق أو عدو، فما ينفع مصر والسودان ينفعنا، وما يضيرهما يضيرنا. فلا ينبغي لليبيين أن ينسوا أنه على طول تاريخهم، عندما يعصرهم الجفاف، أو يأكل أحشائهم الجوع، أو يطالهم القهر، كانت مصر دائما هي ملجاءهم الحنون. فإن كان المصريون مظلومين، فيتبغي أن نكون معهم لرد الظلم عنهم، وإن كانوا غير ذلك فعلينا أن نردهم عن ظلمهم.

وتتبدى أمامى الآن الأهمية القصوى للنهر الصناعي، وعلينا أن نوقع عاجلا مع الدول ذات العلاقة، معاهدة لمد مياه من بحيرة تشاد، إلى النهر الصناعي العظيم، قيل أن نستنفذ مدخراتنا، في شراء محطات تحلية مياه البحر، أو الموت عطشا وجوعا عندما تأتى الاعوام العجاف، وتغير المناخ التي تئن منه دول العالم، نذير بيّن يدعو إلى الإسراع في تنقيذ الأمر، والأمر إليكم فيما تأمرون. وحقا صدق صاحب القول العربى القديم، (عند الصبح يحمد القوم السَرَى).

 

وزير مفوض بالخارجية الليبية