الهدف من البحث
يستهدف هذا البحث الوقوف عند تعدد صور الفاعل المعرفي في رحلة التأليف المسرحي على اختلاف نزعات فعل الكتابة وتبايناتها الأسلوبية والتقنية؛ كشفا أو استشفافا تحليليا أو تفكيكيا لدور إبداع المؤلف المسرحي في إماطة اللثام عن جمالية معالجته لقوى النفس البشرية الثلاث: (الشهوة – العاطفة- العقل) ودور الفاعل الثقافي أو الحضاري في إحكام سيطرته عليها بما يوقظ الضمير الإنساني إن فشل في تغييره نحو توجيه الفعل الإنساني وجهة تنويرية مستقبلية لإحسان الحياة المشتركة للإنسان.
إشكالية البحث:
- تتبدى في ضعف معالجات النص المسرحي في ترشيد العاطفة لفعل الشهوة وغياب توجيه العقل للعاطفة في خطاب النص المسرحي.
- تفوق عنصر الفرجة والإمتاع في البنية الكولاجية والبنية المتشظية لمعمار النص المسرحي علي الإقناع بخطاب النص المسرحي.
ركائر البحث: يرتكز البحث على ركيزتين أساسيتين:
1- دور الفاعل الحضاري في تشكيل هوية خطاب النص المسرحي.
2- جمالية معالجة النص المسرحي لقوى النفس البشرية في اتجاه إحسان الحياة الإنسانية المشتركة.
تأملات فلسفية في فن كتابة المسرحية:
ما من علم إلاّ ويقوم علي البحث - بما في ذلك علم النص المسرحي- وما من بحث إلاّ ويقف خلفه عاشق لمجال عمله، متمرد علي كل مظاهر الثبات في محصلته المعرفية؛ وما من بحث إلاّ ويقوم علي فرضية ما؛ هي نتاج عدد من التساؤلات المندهشة؛ أمام غرابة ظاهرة ما؛ تعذّر الوقوف علي كنهها من حيث كيفية وجودها، ومن حيث سببية ظهورها علي تلك الكيفية التي وجدت عليها. وهنا يكون الباحث ملزما بدراسة كيفية وجودها؛ محمولة علي أسبابها؛ ملتزما بالموضوعية؛ مسترشدا بالمنهجية الملائمة؛ لبحث إشكالية تلك الظاهرة التي وقف أمامها متحيّرا؛ مستشهدا بشواهد عدول؛ يثبّت بها أركان كل استنتاج يتوصل إليه. وهنا تبدو لي مقولة الكاتب المسرحي (أوجست سترندبرج) مقولة حقيقية؛ حيث يقول: «إن قراءة النص المسرحي بمثابة قراءة لنوتة موسيقية؛ فهي مهارة صعبة؛ ولا أعرف الكثير ممن لديهم قدرة السيطرة عليها؛ مع أن العديد منهم يؤكد أنهم يتمكنون منها». وربما أكدت مقولة الإله براهما (Brahma) صعوبة قراءة النص المسرحي علي النحو الذي أشار إليه (سترندبرج) إذ ينسب إليه أنه قال: «لقد خلقت المسرح مطابقا لحركة العالم .. وللمعرفة المقدسة، وللعلم وللأسطورة ... ولسوف يكون للعلم وللترفيه لجماهير الناس».
• كيف نفهم هذا الرأي منفصلا عن ذاك؟! إن التناقضات التي وصّفتها مقولة (براهما) محتوىً لأصول كتابة النص المسرحي لاشك توقع قراء النص المسرحي في حيرة ليس بعدها حيرة، كتلك التي يقع فيها من يحملق في نوتة موسيقية دون أن يعرف كيف يقرأ جملة موسيقية منها. في المسرح «لا نتعامل مع معني واحد للكلمة؛ بل مع عدّة معان؛ كلها – علي الرغم من ذلك " متطابقة" -حسبما يرى الناقد والباحث الجمالي (رومان إنجاردن 1893-1970) ولكن هذا التطابق – فيما يضيف – له أشكال تختلف من حيث امتلاكها للمحتوى المادي , وبهذا التحديد؛ فالمعاني لا تكون مثالية وإنما التصورات وحدها هي التي تكون مثالية. وما يؤكد ذلك أن كلمة واحدة يمكن أن تستخدم في مواقف متعددة؛ مما يؤدى إلي حدوث تغييرات ملحوظة، رغما عن هوية المعنى.» ولا يخفي علي ذي فطنة متمرسة بالبحث؛ أن الكثير من التساؤلات المندهشة هي نتاج الملاحظات الدقيقة للمسكوت عنه في كتابات المفكرين من العلماء والمبدعين (باحثين ونقادا وأدباء)؛ وفي مظاهر اختلاف السلوك الثقافي في تبعيته لتوجهات سياسية أو دينية متحزبة وصور تبايناتها.
علي أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه (النقاط العمياء) في بحوث المحدثين والقدماء وهي تتمثل في بعض المقولات الفرائد، التي تقع في جملة أو عبارة؛ أو تعبير مر عليه صاحبه مرور الكرام في أثناء بحثه أو خطابه الفكري أو الإبداعي أو النقدي؛ ولم يوفه حقه من الإشباع أو البحث؛ علي أساس أنه لم يكن يشكل محورا أساسيا من محاور بحثه أو أركان خطابه الفكري أو الإبداعي. لذا يقف عندها أحد الباحثين النابهين متحيرا ومتسائلا: كيف لم ينتبه لها صاحبها؟! أو يكون مرجع حيرته في عدم تأكده من أن صاحبها قد رجع إليها في بحث منفرد في مرة أخرى. وهنا تعاوده الحيرة في مجاهدته البحثية الدؤوبة؛ ليقطع الشك باليقين فإذا تثبّت من أن ضالته المنشودة قد انقطعت صلتها بصاحبها بعد انتهائه من صياغتها في نسجيته الأولي لها في منتجه الأول؛ جاز له مدّ جسر حوار معها. فإذا سكنته وسكنها ووجد كل منهما في الآخر سكنا له؛ ظفرت المكتبة البحثية في مجال تخصص ذلك الباحث ببحث متفرّد. ومن الحق القول: إنني كثيرا ما تعثرت قراءاتي بمثل تلك النقاط البحثية العمياء وكثيرا ما سكنني بعضها وسكنتها فتآزرنا معا في إنتاج بحوث أعتقد أنها تشكل دعما بحثيا؛ يسهم في إحاطة فنون المسرح بسياج العلم؛ تصحيحا للكثير من معارفنا المسرحية. ومن تلك النقاط الفكرية العمياء التي هي بمثابة نواة لبحوث مسرحية ما يحضرني؛ مما قد تكون له فائدة عند من يشمّر عن ساعديه ويركز فكره علي إحداها ويجتهد في رفدنا ببحث يضيف إلي الدراسات المسرحية بحثا يدعم المسرح ويطوّر أداء مبدعيه كتابا ومخرجين وممثلين ومصممين ونقادا وباحثين. ولقد بادرت بنفسي فأقحمت طلاّب الدراسات العليا بقسم المسرح أو ورّطتهم في مناقشات حول عدد من تلك المقولات الفرائد، فضلا على وضعهم وجها لوجه أمام عدد من التساؤلات المحيرة؛ دفعا إلزاميا لهم لكتابة دراسات قصيرة يلتزمون بإنجازها كل مع قضية أو تساؤل ينشغل به عن فنون النص أو فنون العرض وقضاياهما؛ ليتولّي كل منهم عرض ما توصّل إليه في محاضرة تالية؛ تتاح فيها لزملائه مناقشته فيما توصل إليه وفي منهجه وفي شواهده البحثية وفي صحة لغته البحثية. ومن أمثلة تلك المقولات أو التساؤلات ما يأتي:
يقول (برتراند راسل): «إذا كان العلم قوامه المنهج ومادته الطبيعة الجامدة؛ فالأخلاق عمادها النظر العقلي، ومادتها الطبيعة البشرية؛ طبيعة الإنسان. ومن هنا كان علي العالم أن يكمل ما بدأه الآخرون»
ولأننا نعرف أن المسرح أدبا وعرضا ونقدا يدخل في مجال الدراسات الإنسانية ويتخذ من الطبيعة البشرية مادته لذلك تساءلت بينى ونفسي قبل أن أطرح سؤالي علي طلاّبي:
• كيف يمكن تطبيق ذلك في مجال الدراسة عند إجراء بحث مسرحي في النص أو في العرض؟!
• كيف عالجت الكلاسيكية – الوجودية – الرومنتيكية – الملحمية والعبثية والسريالية والوجودية وغيرها: قوى النفس البشرية الثلاث، المتمثّلة في(الشهوة – العاطفة – العقل) الشهوة في سعيها الغريزى، والعاطفة في تغذيتها للشهوة، والعقل في هدايته للعاطفة.
لقد تلاحظ لي عبر قراءاتي في النصوص المسرحية أن بعض الشخصيات الدرامية تغلّب مصالح أمتها علي مصالحها الأسرية أو الذاتية، وهذا مقصور علي عدد من الشخصيات التراجيدية. بينما تغلّب شخصيات درامية أخرى مصالحها القبلية أو الأسرية أو الاعتقادية (دينية – أيديولوجية) علي مصالح أمتها أو أوطانها. وهنا توقفت أطلب من طلاّبي التمثيل لذلك من نصوص مسرحية متنوعة الوجهة والأساليب، مركزا علي أمثلة من موقف لـ (أوديب – سليمان الحلبي – الزير سالم – السيد عمر مكرم في مسرحية "رجل القلعة " لمحمد أبو العلا السلاموني – الملك لير – أنتيجوني) وبخاصة موقف كل من (الملك لير) في تقطيعه لأوصال الدولة التي هو رأسها والأمين علي صيانة وحدتها وسلامتها و(السيد عمر مكرم) نقيب أشراف مصر وحرفييها في تنازله عن حكم مصر لجندي تركي أجنبي هو (محمد علي الكبير) هل كان ما فعله (لير) وما فعله (عمر مكرم) عملا نبيلا أم كان لونا من ألوان السذاجة أو عمى البصيرة السياسية؟! ومثل ذلك شائع في النصوص الكوميدية عبر سلوك شخصياتها وربما كان ذلك سببا في رفضي لنظرية أرسطو حول الفصل بين الأنواع.
لقد استوقفتني (نظرية الفصل بين الأنواع) تلك التي تشكل أهم أركان كتابة المسرحية في عرف (أرسطو) وفهم الباحثين والنقاد الواقعين تحت عجلات عربته؛ من حيث كونها مجرد تمييز فني لفرعي الدراما (التراجيديا – الكوميديا) في الوقت الذي أراها نوعا من الفصل بين طبقة الملوك والنخب الحاكمة من النبلاء وكبار الملاك والطبقات الدنيا المهمشة؛ إذ ارتقى بالتراجيديا مشترطا اقتصار شخصياتها علي الملوك وعلية القوم وتصويرهم نبلاء ميلادا ورحيلا عن دنياهم؛ في حين خص الفقراء والعامة فلاحين وعمال وخدم بالكوميديا في حالة فعل متدن؛ فمثل هذا الفصل لا يكون مجرد فصل بين شكلين؛ وإلاّ وقع القائل به في حوطة القائلين بالفصل بين الشكل والمضمون.
استوقفني كذلك تقديم أرسطو للفعل علي الفاعل (الشخصية) فوقفت أتأمل الحكمة من ذلك. لقد قدم العرب الفعل علي الفاعل في صياغاتهم اللغوية والاتصالية؛ وهذا منطقي مع الإيمان بأن أفعال البشر مقدرة في الغيب قبل أن يخلقوا. لم تكن اللغة عند الكثير من الشعوب تقدم الفعل علي الفاعل والمصريون القدماء كان الفاعل في لغتهم سابقا لفعله؛ فلما فرض (عبد الملك بن مروان) اللغة العربية علي المصريين شرطا جبريا للتعامل مع الدواوين الرسمية الخلافية؛ تسييرا لمصالحهم؛ قدموا الفعل علي الفاعل في تعبيراتهم اللغوية؛ وهو ما يكشف عن دور الفاعل الاقتصادي في إعادة تشكيل ثقافة الشعوب. ومن الطبيعي والأمر هكذا أن يقدم (أرسطو) الفعل علي بقية عناصر التراجيديا فيما أستنّه من شروط لكتابتها بوصفه أحد كبار الفلاسفة المثاليين المتنفذين - قديما وحديثا- ومن الطبيعي أيضا أن يجد من يعارض شرطه هذا- ليس في العصر الحديث فحسب - علي نحو ما فعل (لاجوس اجرى) في كتابه الشهير:(فن كتابة المسرحية) أو كما فعل الناقد (آرتشر) حيث وصفا تقديم أرسطو للفعل علي الشخصية فيما اشترط لكتابة المسرحية فقالا (وضع أرسطو العربة أمام الحصان) و من المنطقي - هنا - أن يعبر أرسطو عن فلسفة مغايرة للفلسفة المادية التي عبر عنها غيره من فلاسفة المادية على عصره قبل (لاجوس آجرى وآرتشر) في العصر الحديث. وقد دارت حوارية بين د. مصطفى العبادي وبيني ذات يوم حول تلك القضية فأبديت رأيي هذا فنبهني إلي أن أرسطو(يركز علي الفعل ويقدمه باعتبار الفعل هو المعبّر عن الشخصية والكاشف لها؛ فالإنسان ما يفعل.) وتلك وجهة نظر جديرة بالتقدير لأنها وجهة عالمة، لكنها مع ذلك لا تنفي وجهة نظري. هكذا تتحاور الآراء العلمية، إذ أن العلم يساند العلم في مواجهة الجهل كما أن العلم يصحح بعضه بعضا، فليس من العلم ما هو جامد أو ثابت طالما هناك عقل حائر، يحمله إنسان يعيش حالة خطر لا ينتهي. وليس هناك من يعيش لحظات الخطر الدائم أكثر من مبدع يعيش منفيا خارج وطنه سواء أكان ذلك بإرادته أم كانت نتيجة قهر سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. وهنا يبرز اسم الكاتب المسرحي العراقي قاسم مطرود، جنبا إلى جنب مع عدد من المبدعين والكتاب والمفكرين الذين اغتربوا عن أرض الرافدين وأرض بردى والعاصي. ومع هذه الحالة يعيش المبدع حالة تجريب مستمر، لأن الحيرة لا تتوافق مع الركون إلى خط واحد مستقر، والخطر يضطر المبدع المفكر إلى أن يغامر، مجربا الخوض في مجاهل أخيلة لم يطأها إدراكه من قبل، بل لم يتلامس معها خيال مبدع قبله؛ فوراء كل خيال مبدع رصيد ثقافي وحضاري يشف عن هويته.
الفاعل الحضاري وهوية خطاب النص المسرحي:
كان للفاعل الحضاري دوره البارز في تحديد هوية النص المسرحي باعتبار المسرح فعل التعبير الاتصالي الحاضر تأثيرا وتأثرا في عمليات التواصل الإنساني في مسيرة التقدم، ولقد تجلى الفاعل الحضاري متباينا تبعا لتباين ثقافة كل عصر. فمن المعلوم أن الإنسانية قد مرت بعدد من المراحل التي تحدد فيها مصير الإنسان؛ ومن ثم تتعدد مراحل تعبيره المسرحي في وسائل وفنون سعى فيها نحو تحقيق ذاته في خضم صراع هويات الأمم في عالم الإنسان؛ ومن تلك المراحل التي مر بها المسرح:
# مرحلة: توكيد امتلاك الآلهة لمصير الإنسان: (المسرح القديم: فرعوني- يوناني).
# مرحلة: توكيد امتلاك الإله الواحد لمصير الإنسان. (المسرح الديني).
# مرحلة: توكيد امتلاك خليفة الله (حاكماً – كاهناً – مالكاً) لمصير الإنسان: (مسرح عصر النهضة – مسرح الكلاسيكية الجديدة - ق:17).
# مرحلة: توكيد امتلاك الإنسان لمصيره: (المسرح الحديث _ قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية).
# مرحلة امتلاك الآلة لمصيره: (المسرح المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين).
# مرحلة امتلاك الأيديولوجيا لمصيره: (النصف الثاني من القرن العشرين).
# مرحلة امتلاك الوسائل المعلوماتية والمعرفية لمصيره: (عصر العولمة وعسكرتها).
ومعنى هذا أن مصير الإنسانية واقع على مر العصور تحت عربة الفاعل الحضاري وأثره في ثقافات الأمم على اختلاف مصدره: (دينياً – فلسفياً – قانونياً – بحثياً – أيديولوجياً – تكنولوجياً – معلوماتياً) فهو متباين الوجهة والأثر ما بين أمة وأخرى.
الفاعل الحضاري وأثره الثقافي:
عند الفراعنة: تمثل فيما يمليه الكاهن أو الفرعون نيابة عن آلهته (تلقينياً دينياً).
عند اليونان: تمثل في ما ينتهي إليه الحوار مع الآخر لتحقيق النفع العام (فلسفياً تفاعلياً).
عند الرومان: تمثل فيما يمليه القانون (قانون النخبة وقانون المواطنة) (إلزامياً).
في العصر الوسيط: تمثل فيما يمليه فهم الكهنة للدين (تلقينياً جبرياً).
في عصر النهضة: تمثل فيما يمليه الاستدلال الاستنباطي أو التجريبي (كشفي).
في العصر الحديث: تمثل فيما تمليه الأيديولوجيا والآلة (طوعياً التزامياً).
في عصرنا العولمة: تمثل فيماما تمليه الميديا واحتكار المعرفة وإنتاجها وعسكرتها (قهرياً).
فواعل الحضارة والمدنية والثقافة:
تتعدد المهام ما بين فواعل: الحضارة والمدنية والثقافة: فتتجلى مظاهرها وآثارها في الاختراعات العلمية والتكنولوجية وفي إبداعات الفنون؛ فلكل منها مهامها وميادينها ومنظوماتها وفق المنظور الفكري أو الفلسفي الذي انطلقت منه؛ لتلبي حاجات حياتية ومصيرية متباينة. وهي مهام يتوجب على الكاتب المسرحي إدراك ما بين تلك المهام من تباينات أو توافقات أو تقاطعات:
مهمة الحضارة: صنع الخلود.
مهمة المدنية: صنع الرخاء والعدالة وقبول الآخر.
مهمة الثقافة: فهم الحياة البشرية وطرائقها.
مهمة الاختراع: سبق الآخر في تهيئة حياة أكثر تقدماً.
مهمة الفن: البحث عما يجب أن يكون في اتجاه يقظة الضمير الإنساني.
مهمة فنان المسرح: خلق أنماط وشخصيات درامية تحمل معنى الشمول مع أنها من خلق فنان متفرد.
مهمة السياسة: التهيئة لقبول الآخر بالحوار وفن التعامل مع الواقع الاجتماعي.
مهمة الفلسفة: فهم الكون وفهم دور الإنسان فيه. تفسير الكون وتفسير دور الإنسان فيه.
مهمة العلم: تصحيح المعرفة وتصحيح نفسه.
مهمة التعلم: تعديل السلوك الإنساني في اتجاه إحسان الحياة المشتركة.
مهمة المعرفة: تراكم الخبرات المكتسبة.
مهمة علم الاجتماع: إدراك علاقات الأفراد والجماعات لفهم الآخر والتعامل معه.
مهمة علم النفس: فهم دوافع النفس البشرية.
مهمة المؤرخ: رؤية أثر الحقائق.
مهمة الفنان: رؤية الحقائق التي تخفي على العالم وما ينبغي أن يكون فيها.
مهمة الدراما: تصوير المحصلة المعرفية للحياة البشرية وإعادة إبداعها عبر شكلين أدبيين عالميين أهدتهما الحضارة اليونانية العظيمة للإنسانية:
التراجيديا: مهمتها توكيد امتلاك المرء للكرامة مع الشهادة له بالنبل حياً وميتاً حضاً عليه لتمثل به.
الكوميديا: مهمتها توكيد عدم امتلاك المرء للكرامة مع الشهادة على دناءته حضاً على نبذ ذلك.
وتبعاً لما تقدم يمكن الوقوف عند تعدد صور الفاعل المعرفي في رحلة التأليف المسرحي على اختلاف نزعات فعل الكتابة وتبايناتها الأسلوبية والتقنية؛ كشفا أو استشفافا تحليليا أو تفكيكيا لدور المبدع المسرحي في إماطة اللثام عن جمالية معالجته لقوى النفس البشرية الثلاث (الشهوة – العاطفة- العقل) والدور الثقافي أو الحضاري في إحكام سيطرته عليها بما يوقظ الضمير الإنساني إن فشل في تغييره نحو توجيه الفعل الإنساني وجهة تنويرية مستقبلية لإحسان الحياة المشتركة للإنسان. وهنا لابد من وقوف اضطراري لإلقاء نظرة تأملية خاطفة على أهم الركائز التي ترتكز عليها أهم مدارس كتابة النص المسرحي القائمة قبل الانطلاق بحثا عن أشكال إبداعية جديدة تتفاعل مع واقعنا العولمي المعيش في ظل المتغيرات المعرفية المتجاوزة للقوميات والهويات والمسيطرة بمنجزاتها المعرفية المتوالدة على مقادير عصرنا بأقنعتها العسكرتارية.
التأليف وإعادة التأليف:
يجرنا الحديث عن مفهوم التأليف إلى مفهوم آخر قد توالد عنه؛ فيما يعرف بالتأليف على التأليف أو إعادة التأليف مع مفهوم الدراماتورج ومفهوم الإعداد؛ وهي قضية مشتبكة وملتبسة لا مجال للخوض في ملابساتها هنا، لذا نكتفي بالتذكير بمفهوم التأليف؛ الذي هو التعبير عن المحتوى بأسلوب خاص بالمؤلف نفسه؛ بحيث يكشف عن تفرده عن غيره من المؤلفين السابقين له في تناول موضوع مبتكر في مجال تخصصه النوعي؛ قبل شروعه في التأليف عن ذلك الموضوع نفسه؛ شريطة أن يكون لمؤلفه مغزاه الحامل لبصمته والمعبر عن هويته الذاتية؛ باستخدامه لعناصر ومحتويات أسلوبية لا تصلح إلا حيث نسقها ونظمها وسبكها في مؤلفه ذاك بما يشف عن هوية ذاته ومجتمعه وهوية عصره؛ سواء انطلقت كتابته أو إبداعاته من حالة هيمنة خاصة به أو من شخصية أو من حدث أو من فكرة عبر استلهام تاريخي أو فلسفي أو تراثي محمول على أجنحة الصراع في أحد مستوياته الصاعدة على نهج إبسن (حيث يتعادل رد الفعل مع الفعل) أو ساكنة على نهج تشيخوف (حيث يبدو رد الفعل أقل من الفعل) أو واثبة على نهج جورج برنارد شو(حيث يكون رد الفعل أكبر من الفعل) أو مرهصة على طريقة الكتابة الحداثية وما بعدها.
وتتناغم مدارس كتابة النص المسرحي في توظيف أساليبها المتباينة ونقنياتها وفقا للبنية الابستمولوجية بحيث لا يفهم خطاب النص المسرحي فهما جزئيا خارج وضعيته أو بنيته داخل المنظومة الكلية للنص، ذلك أن إحكام قبضة الفاعل المعرفي على مسيرة خطاب النص؛ يفرض نسقاً أسلوبياً متلائماً مع مضامينه؛ فإذا توحدت ذات المؤلف مع خطابه المسرحي المتوحد مع نسقه الأسلوبي؛ كنا أمام نص مسرحي تقليدي؛ بصرف النظر عن تقيده بأرشيف الحقيبة الأرسطية أو بصدى ترددات توابعها.
أما الكتابة المسرحية التي تتوزع معرفة مبدعها علوم الأحياء والنفس والاجتماع والفيزياء والأنثربولوجيا؛ فيتأثر نصها المسرحي بتفاعل تلك المعارف التي سكنته؛ وحالت دون توحد خطابه مع هوية محددة الدلالة؛ وإنما تتعدد دلالات خطابه في النص المسرحي الواحد؛ تبعا لتداخل الأنساق الأسلوبية وتقنياتها البنيوية الحداثية منها أو ما بعد الحداثية؛ وفيها يكشف النص عن عورته دون خجل من فجواته؛ فتتداخل في بنيته الأنساق والأمكنة والأزمنة؛ وتتشظى اللغة وتتوالد وتنقسم الشخصية الواحدة إلى ذوات متعددة مغتربة؛ انعزالية متناقضة؛ فيصح تواجدها في مكانين أو أكثر في زمن واحد أو في هيئات من أزمنة متعددة جمعت جمعا اعتباطيا في مكان واحد دون سبب أو منطق – غالباً - وهنا يسقط الثالث المرفوع ومبدأ التناقض الذي حدثنا عنه أرسطو. وقد مرت بنا الكثير من نماذج تلك النصوص على منصات المسارح؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: (ماكينة هاملت) و(عطيل) و (كاليجولا) و(محمود مختار/ حلم نحات) و(نساء قاسم أمين) و(نيكسون.. نيكسون) و(بنات بيكاسو الأربعة) ومسرحيته الثانية (الرغبة ممسوكة من الذيل) وكلها معالجات مسرحية حملت من جماليات الإبداع والتخييل الكثير المجدد للمشهدية المسرحية.
ومما سبق نلاحظ أن المشهدية المسرحية تكشف عن مسارين للنصوص المسرحية: مسار النص المقروء ومسار النص القارئ الذي تتداخل فيه أنساق معارف سابقة التحصيل مع أنساق متشظية لمعارف جديدة متوالدة باستمرار؛ قارئة لمسيرة مستقبلية أبدا لا تعرف الثبات أو الاستقرار؛ فضلاً على قراءتها للواقع الذي يتوالد ويتغير حطابه الفكري والثقافي والاقتصادي ما بين ليلة وضحاها؛ فهو إبداع متجاوز للقوميات، متسارع الإيقاعات، دون استهداف محطة للوصول؛ تحت قيادة الذات لمسيرة الصراع على خطوط متوازية ومتقابلة أو متقطعة مما يتجه خطاب الشخصية نحو التعبير المونولوجي أو شبه المونولوجى.
تقنية كتابة المونولوج والمناجاة:
مع أن بعض الباحثين يرى أن المونولوج والمناجاة كليهما تعبيرا واحدا إلاّ أنني أرى كل منهما مغاير للآخر عن معاناة ذات الشخصية؛ فمع أن كلا منهما محمول على لسان واحد لشخصية مسرحية منفردة ومنقطعة عن غيرها من الشخصيات في الحدث المسرحي الذي يشارك كل منهما في خطه الصراعي إلاّ أن الأول يفصح عن صوتين متعارضين داخل الشخصية نفسها؛ هما: صوت عقله وصوت مشاعره في نزاعهما حول قرار إرادي يجب أن تتخذه الشخصية لحسم موقف حائر بين عقلها ومشاعرها؛ ينتهي الصراع فيه – غالبا لصالح صوت مشاعرها – بينما لا تخرج المناجاة عن كونها نتيجة صراع بين عقل الشخصية الواحدة ومشاعرها؛ بمعنى أنها لا تخرج عن كونها إعلانا باستسلام صوت العقل لصوت المشاعر اليائسة أو العاجزة عن تحقيق أمر ما راغبة فيه: مثال: وقفة "الحسين" في مسرحية (الحسين ثائر والحسين شهيداً) أمام قبر جده (ص) بعد قتل "ابن عقيل" رسوله إلى أهل الكوفة قبل خروجه للعراق قبولا لمبايعته خليفة للمسلمين في مواجهة "يزيد ابن معاوية" في دمشق. ففي مناجاته لجده (ص) تعويضا نفسيا عن شعوره بحالة يأس ومحاولة الإستقواء بقداسة قبر الرسول من الضعف أو هزيمة الإرادة.
الحوار والحوارية والمناقشة والجدل:
معلوم عند أهل الاختصاص ما بين الحوار والحوارية والمناقشة والجدل من فروق جوهرية؛ فالحوار يجسد جوهر ما تريده الشخصية في توحده أو اشتباكه مع جوهر ما تشعر به في مواجهتها للآخر؛ أما الحوارية فتميل نحو روح المناقشة أو الجدل حول موضوع أو فكرة ما مختلف عليها فيما بين شخصيتين، فإذا انتهت الحوارية بينهما إلى وحدة رأي أو رأي وسط بين الرأيين نكون بإزاء مناقشة؛ حيث يتعادل الرأيان؛ أما الجدل فيتمثل في ثبات كل منهما عند الرأي أو الفكرة التي يعرضها دون أن يتوصلا إلى رأي وسط بين الرأيين أو الفكرتين. والجدل – غالبا ما يقع بين شخصين، في حين جواز امتداد المناقشة بين أكثر من ذلك.
فعل الحداثة المسرحانية في فنون النص:
هذا اللون من الكتابة المسرحية يتجاوز شكل الكتابة الذي يستهدف الارتداد الجماعي دفاعاً عن الهوية، تحت الإدعاء بإعادة بناء الذات بوصفها أصولية، في محاولة إزالة آثار ما بعد الحداثة. فالكتابة المسرحية الحداثية منها وما بعد الحداثية تعتمد على (تقنية التشظي، وتعمد إلى ترك الفجوات، بقصدية القطيعة الأيديولوجية لخلق فجوة مع الذات، مع الاعتماد على فعل الحكي بذاته لذاته، أمام ذاته، وتعمد تلاشي الجمهور/ المرآة والمرآة الذات، وتلاشي الذاكرة الفردية). فمن تلك الكتابة المسرحية صنف مسبوك على طريقة قصيدة النثر – فهو كطبق الملاذ البديل لطبق الهوية القومية ولطبق الهوية الأيديولوجية أو التدينية – ومنه صنف يمكن الذات الفردية من امتطاء التعبير المسرحي، ويحرض المتلقي الذي يتذوقه على أن يهب باحثاً عن هوية بديلة تصلح تمثيلا للعالم الخارجي؛ حيث لم يعد الانتماء القومي أو الديني موضوعاً يشغل الكتابة المسرحية فيما بعد الحداثية وإنما الذات هي الموضوع المطلوب الوقوف عنده وبحثه. هو إذا مسرح جديد لجيل جديد أدرك فيه اللاعبون على فضائه اللاشكلي قراءة الخرائط الإدراكية فأحلوها محل الواقع المعيش؛ سداً لفجوة علاقة الذات الجمعية والندوب التي أصابتها من جراء جلوسها الطويل حول مائدة الأيديولوجية. كما أدرك أولئك اللاعبون بساحة المسرح ألاّ تطابق عندهم بين الدال والمدلول. وأن انفصال وعيهم عن الواقع قد خلق فجوة أخرى عندهم. وهذه الفجوة (هي المسافة الفاصلة بين الدال والمدلول في العلامة اللغوية - عدم التطابق بينهما).
إن هذه الفجوة بين الدال والمدلول أو بين الفعل أو الشيء أو الأداة وما تدل عليه هي نفسها التي تأسس عليها مسرح العبث ومثاله في مسرحية (صمويل بيكيت) (قول فلاديمير لستراجون في نهاية الفصل الأول من مسرحية "في انتظار جودو": "هيا بنا نذهب" فيرد الآخر "هيا بنا نذهب" وإذا بهما يجلسان) الفعل هنا منفصل عن القول فهناك فجوة بين لغة القول ولغة الفعل. وفي مسرح الذات ما بعد الحداثية يكثر توظيف تقنية السرد الانعكاسي المتشح بما اتشحت به قصيدة النثر وما ترامى من عالم الانترنت وما انعكس من أشكال الرواية الجديدة، فكلها تشكل شظيات تفكيك النسق المسرحي في عصر العولمة. لذا أراه بمثابة طفل أنابيب مسرحي.
بيكاسو وفن التشكيل المسرحي والرسم بالكلمات
لاشك أن العين النقدية المتمرسة تستطيع أن «تعرف من الرسومات المبكرة لذلك الصبي الصغير في شوارع برشلونة .. ومن الأشكال الكثيرة للأم والطفل المرسومة في (الفترة الزرقاء) من عمله الفني أن (الطفل) الذي كان يجذب بيكاسو لم يكن طفل العائلة الكبيرة .. ولكن الطفل باعتباره إنتاجا للحياة الإنسانية .. طفل الناس كلهم .. الطفل البريء .. ولكن الممتلئ لدرجة الانفجار بجرائمهم الفضائل والرذائل التي يمتلكها الإنسان البالغ»[1]. وليس جديداً بالنسبة للعين الناقدة أيضاً أن تعرف لبيكاسو «رسومات كثيرة ترينا رغبة بيكاسو في أن يفهم بالضبط تلك النظرات الفضولية لطفل الشارع، وأيضا توجد رسومات أخرى تقنعنا بنفس الدرجة بالسعادة التي وجدها بيكاسو في لهو الفتيات الصغيرات وخليلاتهن»[2]، وقد ظهر أثر ذلك أيضا في مسرحيته الأولى (البنات الأربع الصغيرات) فضلا على أثر لوحته الخالدة (جورنيكا) وفيها يلفت نظر المتلقي بروعة تعبيره إلى فكرة اقتراب الموت من الأطفال في هذه الكارثة التي حلّت في ذلك الوقت، بسبب ما أوقعته الحرب الأهلية الإسبانية وجيوش فرانكو الفاشية بتلك القرية الاسبانية.
بيكاسو بين شعر الألوان وشعر الكلمات:
لما كان الشعر صورة تخييلية وإيقاع، ولما كانت كل الفنون تطمح إلى أن تكون موسيقية، فقد تزاوجت إيقاعات لغة الألون وإيقاعات لغة الكلامية في تخييلات بيكاسو في سباق رحلتها للارتقاء إلى مصاف الموسيقى. ولا شك أن ذلك لا يتحقق بدون تجارب ومقاربات ومعارضات ومداخلات معقدة، استطاعت مقدرة الفنان الفذة أن تجمعها وتحيلها إلى ذكرى، لا يتبقى منها إلا ما تحت رماد احتراقها في آتون وجدانه الذاتي/ الجمعي، وما يتبقى بلا أدنى شك هو اللآلئ والجوهر، الذي تجتهد مهارته وفطنته في إنتاجه خلال إبداع غير مسبوق؛ يلح عليه أن يكتبه رسماً أو موسيقى أو حواراً أو حكياً أو تخييلاً مرئياً أو مسموعاً أو مرئياً مسموعاً في آن. لذا كان طبيعياً أن تكون قدرة بيكاسو التصويرية رسما بالألوان أو بالكلمات؛ نتاجاً لمحصلته المعرفية الفكرية والوجدانية تلك؛ على المستويين: النظري والعملي؛ لذا نراه خلال حياته الطويلة قد استطاع أن يكوّن صداقات مع شعراء أكثر من صداقاته مع الرسامين؛ ولذلك لم يكن هناك ما يفاجئ أحد أن يجده مزاولاً لفن الشعر كتابة. ففي خريف عام 1935، عبر بيكاسو شعراً عن مشكلة عاطفية ألمّت به؛ عندما استحال التعبير عنها بالرسم[3] ولو لم تكن أولئك الكتّاب على يقين من مساهمته الشعرية في عالم الأدب؛ مساهمة ذات قيمة، وليست مجرد مسألة تجريبية؛ لما احتفت بها الأقلام النقدية.
الخاصية الأسلوبية في إبداع بيكاسو التشكيلي والأدبي:
إن العين النقدية المتتبعة لأسلوب بيكاسو في التصوير التشكيلي أو الأدبي تلاحظ خاصية أسلوبه في التركيز على مفهوم ارتباط فكرة الحب بفكرة الموت؛ ففي لوحاته مزاوجة (كاثوليكية إذا جاز لنا أن نقول ذلك) بين فكرتي الحب والموت. وهذا ما يتضح في مسرحيته الأولى (البنات الأربع الصغيرات) وفيها توكيد لخاصية الأسلوب المعبّر عن ذلك التزاوج؛ فنص المسرحية يحمل بصمته وخاصية أسلوبه لغة وخيالا وجرأة نجدها في منظومته التشكيلية، أو على المستوى الإبداعي نفسه، الذي نعرفه عنه في مجال الرسم.فـ "بيكاسو" المصور بالألوان هو نفسه بيكاسو المصّور بالكلمات؛ فكما يضرب عرض الحائط بقواعد الرسم يضرب عرض الحائط بقواعد اللغة الكلامية، وبما تتطلبه من علم تركيب الكلام. فضلاً على ذلك ثورية انحراف إبداعه الفني والأدبي عن جادة المدارس الفنية والأدبية التقليدية. ومن المعلوم لدى العارفين بمنطلقات الإبداع الحقيقي أنه ما من خلق جديد بدون ذلك الانحراف المدروس والمقصود عن جادة القواعد، لغة وأسلوباً كلامياً كان أم غير كلامي هو الذي يضخ رؤى جديدة مبتكرة وغير مسبوقة إلى عالم الإبداع؛ بما يجدد شباب الفعل الثقافي فنياً وأدبياً؛ دعما للحياة الفكرية، وحضا على إحسان حياتنا الإنسانية المشتركة.
على أن ارتباط فكرة الحب بفكرة الموت في إبداعاته - كخاصية مضمونية – كان بسبب تأثره العميق بما ترتبت عليه نتائج الحرب وآثارها المأساوية؛ لم يقتصر علي مسرحيته الأولى وحدها بل امتدت صورة البؤس، الذي خلفته الحرب بخاصة على اسبانيا وعلى فرنسا إلى مسرحيته الثانية (الرغبة ممسوكة من الذيل)[4] وهي مسرحية قناعية (Mask) وهي مسرحية قصيرة في ستة لوحات، وشخصياتها (خضروات وفواكه). في مسرحيته الأولى تشيع البرودة والقلق، بفعل لغة الحوار المتشظية، والأفكار المتقافزة دونما رباط يربطها، بحيث النسق البنائي المتجاور ما بين عبارة وعبارة تالية لها، فيما يشخص كل منها صورة تشكيلية رسمت بالقلم، ولم ترسم بالريشة، وبالكلمات بديلا عن الألوان، في نسق بنية من صور متجاورة، وهو نسق مقارب لنسق معرض للوحات والصور في معرض لفنان تشكيلي، فكل صورة في البنية الحوارية لكل بنت من البنات الأربعة غير مرتبطة بالصورة التي رسمها حوار شقيقتها، وغالبا لا ترتبط بما قبلها، أو بما بعدها؛ وهذا الانفصال أو التبعيد بين تصوير كلامي وتصوير كلامي يجاوره؛ فاقد لحميمية التواصل، ودفء العلاقة بين الشخصيات؛ حتى أشواقهن العنيفة ورغباتهن قد عبرن عنها في صورة تتسم بالذكاء الحاد؛ مما يكشف عن تيار الوعي الذي تقنع به بيكاسو خلف بناته الأربعة؛ في مقابل تهميش تيار الشعور؛ على الرغم من طفولية لغتهن وبراءتها، فإن القناع الدرامي يشف عن وجه بيكاسو، نفسه في رقي اللغة الكلامية/ التصويرية، حتى مع استعماله أمثالا طفولية لا معنى لها؛ فإنها في الحقيقة وسيلة شرح لنزواتهن وأحلامهن، بخاصة في أحادثيهن مع الورود، والطيور والحيوانات في أثناء ذوبانهن في هواء حديقة الخضروات المعطرة، وسخريتهن من الكبار، ورؤيتهن للألوان وبراءة صبغتها لكل ما يحيط بهن، ومع ذلك يتبادلن الحديث بحكمة تعادل حكمن الكورس اليوناني في تراجيديا مسرح اسخيليوس. يقول عبد المنعم سليم[5]: "إن بيكاسو ككاتب مسرحي يستخدم الفرشاة وليس القلم! فإذا كان الصراع الدرامي أساسه الكلمة فإن الصراع الدرامي في مسرحية بيكاسو هذه أساسه اللون.أي أن هذه المسرحية صراع درامي بالألوان. فالكلمات هنا لم توجد لتوصيل المعنى بقدر ما هي موجودة لتوصيل الصراع الدرامي بين ألوانها".
إن المغزى الذي تنطوي عليه الجملة الأخيرة من قول عبد المنعم سليم، تؤكد – قصد أم لم يقصد- أن كل لوحة تشكيلية هي حدث درامي يقوم على صراع بين الألوان والتكوينات والحيز الفضائي والإضاءة والتظليل على أرضية اللوحة. الصورة بين التفعيل والتذييل والتظليل: ما بين النص الحواري والنص الموازي علاقة تفاعلية تتداخل فيها فعل التهيئة الصوتية للتعبير الأدائي مع التهيئة البصرية للتصوير لبيئة الحدث وزمانه. وهذا ماثل في كل أنساق البناء الدرامي في كل المدارس المسرحية. وفي هذه المسرحية، تظهر التهيئة البيئية للحدث في النص الموازي:
(حديقة الخضروات .. بئر في المنتصف)
أما لغة التفعيل الدرامي فتظهر في مقاطع من غناء الفتيات الأربع الصغيرات:
يغنين:
"لن نذهب إلى الغابات".
بينما يكشف تبريرهن لعدم الذهاب عن طريق لغة التذييل التي تليها:
"أشجار الغار كلها قطعت".
ولأن التقافز من حال إلى حال ومن فكرة إلى فكرة عبر أسلوب التداعيات سمة من سمات الطفولة لذا فسريعا ما يغيرن الموضوع بموضوع جديد لا علاقة له بالموضوع السابق:
"هذا العسل هناك.
سوف نذهب ونمتصه".
هكذا يتوالد الفعل من فعل سابق له؛ فسريعاً ما ينتقلن إلى موضوع آخر دون أن يقمن بعمل ما قررن فعله من قبل. وهكذا تتوالد الصور عبر التقافز من قرار بنية فعل لم يتم إلى تبنّي قرار جديد، في مساحة زمنية متصلة تستغرق زمن التصوير اللفظي!! تحمل الصورة السابقة حالة تفعيل مرهص: "سوف نذهب ونمتصه" مسبوقة بتذييل استباقي "هذا العسل هناك" انتهاء بحالة تفعيل؛ حيث تتحول حالة الإعلان عن نوايا الفعل إلى استعداد للبدء في الفعل:
"هيا نذهب إلى الرقص".
ولكنهن يظللّن حالة التفعيل الدرامي تلك؛ بوصفها بديلا عن الذهاب إلى الرقص إذ يشرعن في تقليد طريقة الرقص التي يرقص بها مجهولون افتراضيون في حلبة الرقص الافتراضية المنشودة:
"هكذا هم يرقصون".
ولأن اللقاء الرقص، يكون مصحوبا بالموسيقى وربما بالغناء أيضا، ولأن المرقص يجمع الأصدقاء والنظائر، فمن الطبيعي تبادل التحايا والقبل، لذا يصور البنات في غنائهن صورة افتراضية للقاء الراقص بأسلوب التظليل الدرامي:
"أن نرقص، أن نغنى، أن نقبل من نريد".
الترجمة المعنوية للصورة: لا تحرر ولا مجد ولا فخار في ظل انكسار البراءة. تشف الصورة عن مفهوم: (عندما يكون حب الحياة أقوى من الفناء؛ تكون الرغبة الاستمتاع بما تبقى من ملذاتها أهم العوامل المقاومة للدمار والخراب الذي ألحقناه بها) هكذا تجعل الصورة حب الحياة تذييلاً استباقياً لتبرير فعل الاستمتاع بالحياة ليصبح الدمار والخراب في خلفية الفعل الحاضر:(الاستمتاع بالحياة) تظليلاً لصورة الحاضر. فالصورة إذن صورة دادئية (طفولية افتراضية)؛ لما يجب أن يكون عليه تعبير الإنسانية عن نفسها إذا أرادت ألاّ تفقد البشرية خمسين مليون نفس أخرى بعد حربين عالميتين مروعتين، وهو ما يقطع بفساد غواية الاعتماد على العقل.
سيكولوجية الألوان: تلعب الألوان في حياة الطفل دورا حاسما في الكشف عن سيكلوجيته، فأي الألوان تلك التي وظفها بيكاسو في الصورة، تقديمة درامية لنصه المسرحي التشكيلي! (الغابات جذوع خضراء وأوراق خضراء – أشجار الغار المقطوعة خضرة مشوبة بالصفار نتيجة لجفافها بعد أن قطعت – العسل بني اللون) سعادة مشوبة بالغيرة والقتامة. وفي مقابلها رغبة في الرقص وفق تقليد سابق " هكذا هم يرقصون" والصورة هنا تستبدل الإيقاع الحزين بميزانه الإيقاعي المتباطئ بإيقاع مغاير؛ خروجاً من حالة حزن وكآبة إلى حالة فرح وسعادة؛ استمراراً للحياة.
التعبير الأدائي: لأن طبيعة الحدث الدرامي تتوّج بالأداء التمثيلي؛ سواء تقصد المؤلف ذلك أم اقتصر قصده من كتابة مسرحيته على مجرد القراءة، تبعا لما افترضه الناقد عبد المنعم سليم " يبدو أن بيكاسو كان في الأصل يريد أن يكتب مسرحية تكون سهلة القراءة أكثر منها ممثلة. " لذلك فإن الضرورة تقضي على الناقد المسرحي لنص كهذا؛ من نصوص مسرح الصورة ألاّ يكتفي بنقد الصورة المسرحية دراميا وفنيا، بل يتجاوز ذلك إلى نقدها نقدا فنيا تشكيليا؛ دون أن يغفل تحليل الصورة تحليلا أدائيا يشكل أساسا منهجيا لأداء الممثل.
دادئية الصورة في نسق الحوار المتشظي:
لا تعتمد كتابة المسرحية الدادية على الذاكرة البشرية في اللغة وفي الفعل، وفي العلاقات وفي القيم، فضلا على توظيف أدوات اتصال تلقائية، غير مسبوقة في خبرة المجتمعات البشرية. أما الصور؛ فالتشظي هو أساس في بنائها اللاشكلي. ولأن السيريالية هي وليدة الدادئية والتتويج الطبيعي لتطور حركة بعث الروح الإنسانية؛ في عوالم اللاوعي، بالتحليق بعيدا في سماوات ميتافيزيقية بحثا عن الحقيقة الغائبة عن علاقة الإنسان بذاته وبالآخر وعن علاقته بالكون، لذا فإن لصلة الرحم الفكري والفني بين الدادية السيريالية تكشف عن علامات تواصل بينهما يعرفها المبدعون والنقاد الحداثيون والتفكيكيون. وإذا وقفنا أمام الصورة التي يحملها نسق حوار البنت الأولي؛ نكتشف تجليات التزاوج بين الدادئية والسيريالية:
" الأولى: هيا نشق كل الورود بأظافرنا، ولنترك رائحتها تدمى على تجاعيد النيران
والألعاب، وأغانينا و(مرايلنا) الصفراء الزرقاء البنفسجية.. هيا نلعب لعبة
الإيذاء.. ونؤذي أنفسنا.. ثم نحتضن بعضا بعضا.. وتكون لنا ضوضاء
ساخنة.. بشعة.
الثانية: مامي.. مامي.. انظري إيفت تحطم وتدمر في الحقيقة وتشعل النار في الفراشات.. مامي.. مامي.
الثالثة: قرروا بأنفسكم كيف تريدون أن تضيئوا شعلة ريشة الديك، من الشموع التي تتوسط (لفف الأطفال) المعلقة على فروع أشجار الكرز. احترسوا- ها أنا ذي أقول لكم – من أجنحة الطيور المنتوفة.. الطيور الميتة في الأقفاص والتي تغني وهي طائرة على أكمام حريرية لفستان، ثناياه سماء فستان سقط من الغيب.."[6]
الأولى: (تغني) لن نذهب إلى الغابات.
أشجار الغار كلها قد قطعت
العسل هناك "
الترجمة المعنوية للصورة: تشف الصور المتشظية في الحوارية السابقة عن مفاهيمية تعارض النوازع البشرية، فيما بين نوازع الشر والخوف من الوقوع فيه. فما بين عدوانية البنت الأولى وتخوفات البنت الثانية وطلبها النجدة بأم غائبة غيابا ماديا، متخيلة عبر ذهنها، لتحول دون محاولة أختها الثانية في تدمير الحديقة وإشعال النار في الفراشات، وموقف الأخت الثالثة المراوغ فيما بين الوقوف على الحياد وحرية الآخرين ومسؤوليتهم عن نتائج اختياراتهم تطل فكرة (الأنا والآخر) من وراء الشخصية القناع التي وضع بيكاسو على لسانها ذلك المفهوم الوجودي؛ في نسق مراوغ يحمل تجليات طفولة التصوير السيريالي.
مراوغة الصورة وسيكلوجية الألوان:
ما بين خليط الألوان الحمراء الدموية والصفراء الغيورة وبرودة اللون الأزرق، ورومنتيكية اللون البنفسجي تختلط الرغبة فيما بين فكرة انطلاق الأنا وتحررها من قيود العادة والقيم وما يترتب عليه ذلك الانفلات غير الملتزم من إضرار بالذات وإضرار بالآخر – الذي هو الطبيعة نفسها أو الوسط – لذا يسارع بيكاسو، متخفيا وراء قناع البنت الثانية، ليضع على لسانه صوت الآخر، لخلق صورة التعادل فيما بين حرية فعل "الأنا " في التزامها بعدم تجاوز حرية " الآخر"، وهنا نكون أما صورتين تعادل كل منهما الأخرى تكسبان التأييد للأحد مفاهيم الوجودية المادية وهو مفهوم (الحرية والالتزام).
تعقيب نقدي: إن النظرة النقدية المتأملة لتلك الصور المتجاورة في حوارية الرسم المراوغ بالكلمات؛ يكشف عن فاعليات تلقي هذا النمط المسرحي (مسرح الصورة) في نسق بنائيته الإطارية، بوصفه مجموعة من الصور في معرض درامي تشكيلي "منيملزمي" الأسلوب. بطريقة التلقي في أحد معارض فنان تشكيلي. ولأن المفاهيمية تشف عن فكرة مسبقة يتبناها الفنان المصور، ويوظف إبداعاته في تحقيقها في الصورة، بما يقطع بأن تلك الصورة؛ حاملة لمعناها، فإن القول بمفاهيمية المواقف المصورة في إبداع بيكاسو اللاشكلي في هذه الدراما المسرحية المصورة بالكلمات، تخرج عن مفهوم الصورة الحاملة لمعناها!!
وهنا قد يتبادر السؤال إلى أحد الأذهان النقدية الواعية، المتقدة (ففيما كان عنوان المقال؟) وللإجابة عن ذلك نقول: إن من التصاوير ما هو حامل لمعناه، أي مقروء، ومنها ما هو قارئ لمعناه، فهناك اللوحة المقروءة وهناك اللوحة القارئة، وتلقي اللوحة القارئة يعطي المتلقي قراءات متعددة بعدد حالات التلقي. وهذه المسرحية: (الدادا/ سريالية) قارئة لنفسها تتعدد فيها مفاهيمية كل صورة في نسق بنيتها التفكيكية على نحو ما أوضحنا. والمجال لا يسمح بمزيد من تحليل هذه النادرة المسرحية من نوادر الإبداع ودرره الدرامية التشكيلية.
خاتمة البحث
شغل البحث بتعدد صور الفاعل المعرفي في رحلة التأليف المسرحي على اختلاف نزعات فعل الكتابة وتبايناتها الأسلوبية والتقنية؛ كشفا أو استشفافا تحليليا أو تفكيكيا لدور إبداع المؤلف المسرحي في إماطة اللثام عن جمالية معالجته لقوى النفس البشرية الثلاث: (الشهوة – العاطفة- العقل) ودور الفاعل الثقافي أو الحضاري في إحكام سيطرته عليها بما يوقظ الضمير الإنساني إن فشل في تغييره نحو توجيه الفعل الإنساني وجهة تنويرية مستقبلية لإحسان الحياة المشتركة للإنسان. كما عني بالنظر في ضعف معالجات النص المسرحي في ترشيد العاطفة لفعل الشهوة وغياب توجيه العقل للعاطفة في خطاب النص المسرحي بخاصة مع تيار تفوق عنصر الفرجة والإمتاع في البنية الكولاجية والبنية المتشظية لمعمار النص المسرحي علي عنصر الإقناع بخطاب النص المسرحي؛ وذلك بارتكاره على ركيزتين أساسيتين تمثلتا في:
1. دور الفاعل الحضاري في تشكيل هوية خطاب النص المسرحي
2. جمالية معالجة النص المسرحي لقوى النفس البشرية في اتجاه إحسان الحياة الإنسانية المشتركة
وفي مناقشته لدور الفاعل الحضاري في تشكيل هوية خطاب النص المسرحي توصل إلى ما للفاعل الحضاري من دور بارز في تحديد هوية خطاب النص المسرحي باعتبار المسرح فعل التعبير الاتصالي الحاضر تأثيرا وتأثرا في عمليات التواصل الإنساني في مسيرة التقدم، وتباين تجليات الفاعل الحضاري تبعا لتباين ثقافة كل عصر. فمن المعلوم أن الإنسانية قد مرت بعدد من المراحل التي تحدد فيها مصير الإنسان؛ ومن ثم تتعدد مراحل تعبيره المسرحي في وسائل وفنون سعى فيها نحو تحقيق ذاته في خضم صراع هويات الأمم في عالم الإنسان؛ عبر المراحل التي مر بها المسرح؛ ليصل إلى أن مصير الإنسانية واقع على مر العصور تحت عربة الفاعل الحضاري وأثره في ثقافات الأمم على اختلاف مصدره (دينيا – فلسفيا – قانونيا – بحثيا – أيديولوجيا – تكنولوجيا – معلوماتيا) فهو متباين الوجهة والأثر ما بين أمة وأخرى؛ منتهيا إلى أن الفواعل الحضارة والمدنية والثقافية تتعدد مهامها وتتجلى مظاهرها وآثارها في الاختراعات العلمية والتكنولوجية وفي إبداعات الفنون؛ فلكل منها مهامها وميادينها ومنظوماتها وفق المنظور الفكري أو الفلسفي الذي انطلقت منه؛ لتلبي حاجات حياتية ومصيرية متباينة. وهي مهام يتوجب على الكاتب المسرحي إدراك ما بينها من تباينات و توافقات أو تقاطعات في الخطاب وفي الشكل.
غير أنها تصب جميعها في تفعيل مهمة فنان المسرح نحو خلق أنماط وشخصيات درامية؛ تحمل معنى الشمول مع أنها من خلق فنان متفرد؛ تعدد معه صور الفاعل المعرفي في رحلة التأليف المسرحي على اختلاف نزعات فعل الكتابة وتبايناتها الأسلوبية والتقنية؛ كشفا أو استشفافا تحليليا أو تفكيكيا لدور المبدع المسرحي في إماطة اللثام عن جمالية معالجته لقوى النفس البشرية الثلاث (الشهوة – العاطفة- العقل) والدور الثقافي أو الحضاري في إحكام سيطرته عليها بما يوقظ الضمير الإنساني إن فشل في تغييره نحو توجيه الفعل الإنساني وجهة تنويرية مستقبلية لإحسان الحياة المشتركة للإنسان.
أهم نتائج البحث
1- العلم يساند العلم في مواجهة الجهل كما أن العلم يصحح بعضه بعضا، فليس من العلم ما هو جامد أو ثابت طالما هناك عقل حائر، يحمله إنسان يعيش حالة خطر لا ينتهي. وليس هناك من يعيش لحظات الخطر الدائم أكثر من مبدع يعيش منفيا خارج وطنه سواء أكان ذلك بإرادته أم كانت نتيجة قهر سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي.
2- يعيش المبدع حالة تجريب مستمر، لأن الحيرة لا تتوافق مع الركون إلى خط واحد مستقر، والخطر يضطر المبدع المفكر إلى أن يغامر، مجربا الخوض في مجاهل أخيلة لم يطأها إدراكه من قبل، بل لم يتلامس معها خيال مبدع قبله؛ فوراء كل خيال مبدع رصيد ثقافي وحضاري يشف عن هويته.
3- مهمة الفنان: رؤية الحقائق التي تخفي على العالم وما ينبغي أن يكون فيها.
4- مهمة الدراما: تصوير المحصلة المعرفية للحياة البشرية وإعادة إبداعها عبر شكلين أدبيين عالميين أهدتهما الحضارة اليونانية العظيمة للإنسانية:
5- التراجيديا: مهمتها توكيد امتلاك المرء للكرامة مع الشهادة له بالنبل حيا وميتا.. حضا على التمثل به.
6- الكوميديا: مهمتها توكيد عدم امتلاك المرء للكرامة مع الشهادة على دناءته حضاعلى نبذ ذلك.
7- مهمة فنان المسرح: خلق أنماط وشخصيات درامية تحمل معنى الشمول مع أنها من خلق فنان متفرد. وهي – أرادة الكاتب أم هي إرادة لاوعيه مهمة سياسة أيضا؛ للتهيئة لقبول الآخر بالحوار وفن التعامل مع الواقع الاجتماعي؛ كما أنها مهمة فلسفية مسلحة بفهم الكون وفهم دور الإنسان فيه من منظور مثالي. وفق نظرية المحاكاة أو بتفسير الكون وتفسير دور الإنسان فيه من وجهة نظر دياليكتيكية جدلية مادية وفق نظرية التغريب أو الحكي.
8- تتناغم مدارس كتابة النص المسرحي في توظيف أساليبها المتباينة ونقنياتها وفقا للبنية الابستمولوجية بحيث لا يفهم خطاب النص المسرحي فهما جزئيا خارج وضعيته أو بنيته داخل المنظومة الكلية للنص، ذلك أن إحكام قبضة الفاعل المعرفي على مسيرة خطاب النص؛ يفرض نسقا أسلوبيا متلائما مع مضامينه؛ فإذا توحدت ذات المؤلف مع خطابه المسرحي المتوحد مع نسقه الأسلوبي؛ كنا أمام نص مسرحي تقليدي؛ بصرف النظر عن تقيده بأرشيف الحقيبة الأرسطوية أو بصدى ترددات توابعها.
9- سواء انطلقت كتابة النص المسرحي أو إبداعاته من حالة هيمنة خاصة بالكاتب نفسه أوانطلقت من شخصية أو من حدث أو من فكرة عبر استلهام تاريخي أو فلسفي أو تراثي محمول على أجنحة الصراع في أحد مستوياته الصاعدة على نهج إبسن (حيث يتعادل رد الفعل مع الفعل) أو ساكنة على نهج تشيخوف (حيث يبدو رد الفعل أقل من الفعل) أو واثبة على نهج جورج برنارد شو(حيث يكون رد الفعل أكبر من الفعل) أو مرهصة على طريقة الكتابة الحداثية وما بعدها (دادية – سيريالية – عبثية – واقعية سحرية)
10- تتأثر الكتابة المسرحية التي تتوزع معرفة مبدعها علوم الأحياء والنفس والاجتماع والفيزياء والأنثربولوجيا والرياضيات؛ تتأثر بتفاعل تلك المعارف التي سكنته؛ وحالت دون توحد خطابه مع هوية محددة الدلالة.
11- تتعدد دلالات خطاب النص المسرحي الواحد؛ تبعا لتداخل الأنساق الأسلوبية وتقنياتها البنيوية الحداثية منها أو ما بعد الحداثية.
12- يكشف النص الحداثي وما بعد الحداثي عن عورته دون خجل من فجواته فتتداخل في بنيته الأنساق والأمكنة والأزمنة؛ وتتشظى اللغة وتتعدد جنسياتها وشخوصها في النص الواحد.
13- تتوالد الشخصية الدرامية الواحدة وتنقسم إلى ذوات متعددة مغتربة وانعزالية متناقضة؛ فيصح تواجدها في مكانين أو أكثر في زمن واحد أو في هيئات من أزمنة متعددة جمعت جمعا اعتباطيا في مكان واحد دون سبب أو منطق غالياً.
14- يسقط النص المسرحي الحداثي وما بعد الحداثي مفهوم (الثالث المرفوع ومبدأ التناقض) الذي أجهد منطق أرسطو نفسه في محاولته تثبيته.
خلاصة البحث
مرت بنا الكثير من نماذج تلك نصوص تكشف عن (دور الفاعل الحضاري التاريخي أو التراثي أو الفلسفي أو الاقتصادي أو النفسي) على منصات المسارح؛ في إتجاه الكشف عن صور تفاعلات قوى النفس البشرية، (ودور العاطفة في كبح جموح الشهوة ودور العقل في كبح جموح العاطفة) وترسيخ مفهوم قبول الآخر في ظل مجتمع مدني.
ومن تلك النصوص والعروض - على سبيل المثال لا الحصر-
(ماكينة هاملت)، و(عطيل)، و (كاليجولا)، و(محمود مختار/ حلم نحات)، و(نساء قاسم أمين)، و(غيبوبة نجيب محفوظ) و(نيكسون.. نيكسون)، و(بنات بيكاسو الأربعة)، ومسرحيته الثانية (الرغبة ممسوكة من الذيل) ومنها إعادة إنتاج مسرحيات كلاسيكية وفق منهج التدنيس على نحو ما فعل ييجي جروتوفسكي وتلك مجرد أمثلة من صور فعل الكتابة المسرحية للنص أو للعرض المسرحي المعتمدة اعتمادا كليا – أحيانا - أو جزئيا على ثقافة الصورة وفنونها بما تحمل من إلغاز وغموض محمولا على جماليات الإبداع والتخييل السينوجرافي المجدد للمشهدية المسرحية، في اتجاه الكشف عن فاعلية قوى النفس البشرية: (الشهوة والعاطفة والعقل) عبر منعطفات تباديلها من مدخل الإمتاع وصولا إلى إقناع متلق لإبداع مسرحي قارئ لخطابه؛ لا مقروء من متلقيه؛ على نحو أسلوب كتابة بيكاسو لنصه المسرحي (البنات الأربعة الصغيرات) أو نصه (الرغبة ممسوكة من الذيل) عن طريق التشكيل بالكلمات، وعلى نحو عروض المحرج المسرحي السينوجرافي "كانتور" أو "شاينا" واللبناني "وليد عوني" المتأثر بهما وبالفنان العالمي بيجار "عوني".
الهوامش
[1] عبد المنعم سليم، مقدمة ترجمته لمسرحية بيكاسو الأولى، البنات الأربع الصغيرات (مجلة المسرح) عددا مايو/يونيو19909، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 49.
[2] نفسه، والصفحة نفسها.
[3] نشرت هذه الأشعار بمقالة مدهشة بقلم الشاعر السريالي: بريتون في مجلة (كراسة الفن) تبعتها كتابات أخرى بأقلام بعض السيرياليين
[4] بابلو بيكاسو ن الرغبة ممسوكة من الذيل، ترجمة عبد المنعم سليم (قراءة في المسرح الجنبي) المكتبة الثقافية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب
[5] عبد المنعم سليم، نفسه ص 50.
[6] بيكاسو، البنات الأربع الصغيرات، نفسه، ص 51.