بيروت (1)
عيناكِ بيروت
تنضحان حبرًا ود مًا
فوق وجنتيكِ الملسوعتين
اعطني يدكِ الجريحه
تلك التي قبلت في عهد الصبا
تعالي اليّ
يا ربيبة حبي
كي امسح عينيك بمياه قاديشا الصافية
كلا
لن تكوني في عرس الشيطان مبخرة
ففي احشائك سرُّ
قهر الزمن
موعدنا مع البراعم
ايتها الحبيبة
الى اللقاء
(ايليا حريق .. بلومنغتن، ايلول 1976)
عرف الصديق الراحل إيليا حريق (1934-2007) — عربيا و عالميا— بعشرات الكتب والدراسات المهمة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع بينها: «الديمقراطية وتحدّيات الحداثة بين الشرق والغرب»، «سياسة الاقتصاد الاصلاحي في مصر»، «توزيع الأراضي في الريف المصري»، «التعبئة السياسية للفلاحين المصريين». و«السياسات والتغيّر في المجتمع التقليدي اللبناني»، وآخر بعنوان «من يحكم لبنان؟». وكان مؤلّفاً مشاركاً في كتب أخرى منها «الخصخصة والليبرالية في منطقة الشرق الأوسط»، و «السياسات المحلّيّة والتطوّر في الشرق الأوسط»، و«العرب والنظام الاقتصادي الدولي الجديد»، و«السياسة الريفية والتغيّر الاجتماعي في الشرق الأوسط» كما عرف بدوره الاداري في مناصب مختلفة كمركز الأبحاث الأميركي في القاهرة ودراسا ت الشرق الاوسط في جامعة انديانا بالاضافة الى دوره استاذا في جامعة انديانا وغيرها من الجامعات التي كرمته استاذا زائرا. غير انه لم يعرف بما له من أعمال أدبية منشورة وغير منشورة، وفي مقدمتها:
1. أعاصير النيل (رواية) بيروت: دار المشرق والمغرب 1983
2. أغاني بيروت (مجموعة شعرية) 1986 (الدار المذكورة) وقد نُشرا تحت اسمه المستعار "سيدي غريب" كما أن له ثلاث قصص قصيرة للأطفال نشرت عام 1987 و 1988 بإسم مستعار آخر "الدكتور فانوس" وهي: «بلبل وزغلول في برج الشمس» «وبلبل وزغلول في برج القمر» و”«مغامرات بلبل وزغلول في قاع البحر» وله كذلك حسب اطلاعي مجموعة من الخواطر الشعرية واليوميّات والقصص القصيرة والمحاضرات الأدبية غير المنشورة.
لابد من الاعتراف أول الأمر بأن اطلاعي على عدد غير قليل من الأعمال التي تتحدث عن اسهامات "ايليا" كعلم من اعلام الفكر العربي المعاصر لم يهدني حتى هذا التاريخ الى أي مصدر يتحدث عن اهتماماته الأدبية سوى ملاحظة قصيرة وردت في صحيفة الميثاق المغربية (الملحق الثقافي) 28 آب (اغسطس) 1994 جاء فيها ما يلي: «البروفسور إيليا حريق استاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة انديانا – بلومنغتون – الولايات المتحدة الاميركية منغمر في بحوثه التي تمتد بين علوم السياسية والاقتصاد والاعلام ولكنه يكتب الشعر تحت اسم سيدي غريب وسبق له ان اصدر في بيروت مجموعة شعرية وقد خصّ الملحق الثقافي للميثاق الوطني بمقطوعتين حديثتين كتب الأولى في الجيزة، أحد احياء القاهرة، اما الثانية فقد نظمها في بيروت.» ولا أشك في ان هناك اسبابًا عدة لعدم وقوفي على ما كتب عن اعمال إيليا الأدبية وفي مقدمتها لجوؤه الى اكثر من اسم مستعار، وإعراض إيليا نفسه عن الاشارة الى كتاباته الأدبية، سواء كان ذلك في احاديثه الشخصية أو في قائمة منشوراته. أضِف الى ذلك افتقار المكتبة العربية الى قواعد معلومات تلم بما ينشر في الصحف والمجلات أو الكتب من مراجعات أو تعليقات حول ما ينشر من مطبوعات.
ان ما ذكرت من أعمال إيليا المنشورة وما ألمحت اليه من كتابات متفرقة أخرى غير منشورة يدفعانني الى القول بأن الجانب الأدبي من نتاج إيليا يستحق ان ينال اهتمام المعنيين باسهاماته ويتطلب في الوقت نفسه النظر في اعادة طبع ما نشر له، وطبع ما لم ينشر من أعماله الاخرى. ولا بد لي ان أضيف الى ذلك ما لمسته من توجه إيليا الأدبي منذ بدء علاقتنا الشخصية عام 1964 في جامعة انديانا. فقد عرفته متحمسًا في دعمه للندوات أو القراءات الشعرية التي كانت تعقد بين حين وآخر، كما عرفته متتبعًا لما كان ينشر من الأعمال الأدبية في الوطن العربي، وحريصًا على اتاحة الفرص لاستضافة أدباء عرب في جامعة انديانا، أو غيرها من الجامعات في الولايات المتحدة، واذكر منهم على سبيل المثال الشاعر فؤاد رفقه والمفكر الروائي المغربي عبد الكريم غلاب.
لقد أتيح لي شخصيًا ان اقرأ بعض خواطره الشعرية وان اعلق عليها قبل اقدامه على نشر مجموعته، «أغاني بيروت» عام 1986، كما أتيح لي ان أتلمس ما اتسم به من تذوق جمالي للشعر كلما عرضت عليه نماذج من الشعر العراقي الذي يعكس محنة العراق وان أفيد من بعض ملاحظاته حولها. من الجدير بالذكر ان اهتمامه الأدبي تجلّى في جوانب أخرى من حياته الاكاديمية كقيامه بدور رائد – حسب اطلاعي – في تدريس مادة «السياسة والرواية في العالم الثالث» في قسم العلوم السياسية/ جامعة انديانا، وإلقاء محاضرات عامة عن رواية الطيب صالح «موسم الهجرة الى الشمال» و«الصراع في روايات العالم الثالث» كما تجلى هذا الاهتمام في علاقاته الشخصية أو مراسلاته مع عدد غير قليل من الأدباء والكتّاب وفى حرصه على ان ننشر بعض الاعمال الادبية فى سلسلة الدراسات العربية التا بعة لمطبعة جامعة انديانا، وقد شاركته فى تاسيسها وفى الاشراف عليها بضع سنوات.1988-1998:
خواطر إيليا الشعرية
ليس من اليسير تحديد ما كتب من قصائد أو خواطر شعرية في مناسبات أو أماكن ومدن مختلفة، ولكنني أستطيع الاشارة الى ان ما كتبه منذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي حتى السنوات الأخيرة من حياته يزيد عن ستين (60) قصيدة أو خاطرة نشر منها "27" قصيدة في مجموعته «اغاني بيروت». إن أول ما يلاحظه قارئ المجموعة هذه أن القصائد كتبت في الثمانينيات باستثناء قصيدتين "بيروت 1" و "بيروت 2" تحملان تاريخ 1976 أي ان المجموعة تنتمي الى مرحلة عسيرة من تاريخ لبنان منذ بدء الحرب الاهلية عام 1975، ولهذا فليس من الغريب ان تعكس ما كان إيليا يعانيه من آلام ومشاعر واحساس بالخيبة ازاء الأحداث آنذاك، كما نلمسها في قصيدتيه بيروت (1) وبيروت (2) اللتين كتبهما في المغترب (بلومنغتن) في ايلول 1976:
«عيناك تنضحان حبرًا ودمًا/ فوق وجنتيك الملسوعتين/ اعطني يدك/ تلك التي قبلت في عهد الصبا/ لن تكوني في عرس الشيطان مبخرة/ ففي احشائك سرُّ/ قهر الزمن/ موعدنا مع البراعم/ ايتها الحبيبة/ الى اللقاء.»
بيروت (1)
غير ان هذا الموقف المتعاطف الحزين المشوب بالتفاؤل تجاه بيروت يقابله موقف آخر في قصيدته الثانية "بيروت (2)" يوحي بالتشاؤم ومرارة الخيبة بلغة قاسية:
«الصباح بريء منك ايتها الأفعى/ عودي الى جحرك المظلم/ واتركيني وشأني .. اخرجي من المعبد/ يا آبنة الظلمة/ ان اطفالي يصلّون/ في طريق العودة.»
بيروت (2)
ويبدو ان هذا النمط من المشاعر المتناقضة يتكرر في قصائد أخرى تجمع بين التصوير السلبي للواقع والايحاء بالأمل، انظر مثلاً قصيدة «بغداد»:
«بغداد نامت/ بعد ان حطت رحال الليل/ وناءت/ تحت عبء الحمل والسير الحثيث/ تعب دون جدوى/ نفد الخير/ قم ندفن بغداد/ ونقلع عنها قوارب انقى من الفجر صفاء/ ننسج الأفق المدلّى وحدنا/ من حبات ماء/ من حبات نور/ ترتعش في الوعد/ في الرحم/ نطفة/ ثم جنين».
(بغداد)
وانظر كذلك «الوطن الكابوس» و«معركة حطين»:
«جيل الكدر/ وداعًا/ موعدنا مع الطائر الرمادي/ بيروت/ يوم تنبلج من الصخر شقائق النعمان/ وتعيد من المنفى العصافير/ رسائل حبنا.»
(معركة حطين)
أي ان إيليا يستخدم هذه الثنائية غالبًا لا لتعرية الواقع الاجتماعي أو السياسي كما يدركه جيدًا فحسب، أو لتصوير ظواهر اللاعقلانية المتحكمة في الحياة الاجتماعية، بل ليعزز كذلك الثقة بالخلاص، والقدرة على خلق مستقبل أفضل.
«مَنْ يُعبد جسرًا للخلاص/ اي درب طريق الفداء/ المأساة هواية/ أبدًا دون نهاية: شيخ مدجج يطعن طفلاً/ ودم الطفل ينجب شيخًا».
ولكن بالرغم من ذلك كله نقرأ في القصيدة نفسها الخاتمة التالية:
«الذين يتألمون بصمت/ الذين يفكرون/ طوبى لهم/ هم بذرة الحقل/ عندما تجدب الأرض/ والفلاح يموت.»
(جرس الأنواء)
غير ان هذا لا يعني أن إيليا يلجأ الى هذه الثنائية بصورة آلية، أو دائمًا، اذ نراه احيانًا يقتصر في خواطره على رسم صورة قاتمة السواد لواقع متدهور لا امل فى الخروج منه:
«الضحية تزرع الجريمة/ في حقلها الثاني/ ونسلها يدوم/ لأن هذه التربة لا تعرف الغفرا/ نسلها يدوم/ .. من يغفر لنا/ من يغفر لنا/ من يغفر لنا».
(الحرام)
أو «أعد لنا الصنوبر يا رب/ بارك ظلال الحب في دموعنا/ واغفر لنا/ نحن البغاة/ أعد أرضنا الصامدة/ تحمل وزرنا/ ابن الف خطيئة.»
(صلاة)
وهناك موضوعات أخرى تتردد في خواطره الشعرية التي كتبها في مناسبات متفرقة خلال ما لا يقل عن ثلاثين سنة؛ وفي مقدمتها الشعور بالاغتراب أو اللاانتماء (ليل المحطة، إلى اميلي وفيليب نصرالله، معركة حطين) والحنين الدائم الى لبنان (ألحان الصنوبر، ملاعب الأطفال) وبعض الاشارات الى الواقع العربي (خارج لبنان) كما في خواطره (بغداد، نخل بغداد، أو السبية).
أعاصير النيل: تجربة إيليا الروائية
«هذه قصة حب وصراع على ضفاف النيل. خرجت على التقاليد، وخرج على النظام السياسي فوقعت المجابهة العنيفة. ما الذي احدثه الاضطهاد السياسي واحدثته التقاليد الاجتماعية في حياة رانيه وسعد وما انتهى اليه حبهما. حبّ عنيف وصراع مرير عنوان هذه الرواية»
(غلاف الرواية)
تُشير هذه الخلاصة الى عدة عناصر تتناولها تجربة إيليا الروائية.
أولاً: المكان مصر وعلى وجه التحديد الاسكندرية والقاهرة بالاضافة الى مشاهد في الصعيد.
ثانيًا: قصة الحب بين رانية المتزوجة وهي من عائلة ذات جاه ومحافظة من الاسكندرية وسعد الرسام الصعيدي الجذور ولكنه يعيش في القاهرة.
ثالثًا: موضوع الخروج على التقاليد الاجتماعية كما تمثله رانية، والاضطهاد السياسي الذي يتعرض له سعد (كغيره من معارضي النظام القائم في مصر).
هذه هي أهم العناصر التي حاول إيليا ان يلمّ بها في عمله الروائي الطويل نسبيًا (335 صفحة)، والمتميّز ببنائه المعقد. لا بسبب تداخل الأزمنة والأمكنة في تطور احداث الرواية فحسب، بل لتعدد أساليب السرد (غالبًا في الفصحى) والحوار (غالبًا في اللهجة المصرية) واستخدام المونولوج الداخلي والارتجاع أيضًا. تبدأ الرواية بمشهد جنسي صريح بين رانية وسعد وقد توصلا الى ذروة الشعور بالرضى والهناء الجسدي (ص5)، وتنتهي شكليًا برسالة رانية الى زوجها تسأله ان يغفرها ويعاملها بالمحبة، وتلمح الى انها حامل تحمل ثمرة حبهما، والى أنه "تخطى الحدود بقدرته على المحبة".(334-335) ونفهم بين المشهد الاول والخاتمة تفاصيل كثيرة عن حياتها مع زوجها، وخلفيتها المحافظة، والدوافع التي جعلتها تحب "سعد" وتخلص في حبها له، وتفاصيل أخرى عن حياة سعد وخلفيته المحافظة في الصعيد، والتزامه بالماركسية التزامًا لا يتفق وتيار الأكثرية في حزبه الشيوعي مما يُعرضه الى الاضطهاد، والسجن ومختلف اساليب التعذيب الوحشي الذي تتميز به انظمة الحكم الديكتاتوري في الوطن العربي.
تثير الرواية مسائل متعددة لا مجال لتناولها في هذا التعريف (كطعبية السرد، واستخدام شخوص ثانوية مهمة والتلميح الى التقاليد الموروثة أو الوضع الاجتماعي الاقتصادي في الأرياف وغيرها) ولكنني سأقتصر على الملامح البارزة في تجربتي رانية وسعد. رانية تنتمي الى احدى الاسر المحافظة في الاسكندرية وقد تم زواجها بإبن عمها نوري وفقًا للتقاليد، دون ان يكون بينهما حب متبادل، وتمر على زواجهما بضع سنوات وهي لا تلمس أية محاولة جادة يبديها زوجها لتفهم عواطفها، واحترام طموحها في الدراسة والعمل، بل هي تكره على ترك دراستها في كلية الطب بدعوى انها نالت ما فيه الكفاية من الثقافة العالية، وان تفكيرها في ممارسة عمل خارج البيت لا يليق بها، ولا يتناسب وتقاليد العائلة. غير انها بعد فترة من معاناة التذمر والضيق والفراغ، تقرر ان تجد حلاً بالذهاب الى القاهرة لدراسة الفنون الجميلة، معلنة عن رفضها ان تكون مجرّد زوجة تابعة بدون دور آخر. «ليس من اسم لي إلا اني امرأة نوري. أنا شيء ملحق به .. بعض مشاغله هو .. انا واحدة منها. اما انا فليس لي مشغل سواه.»
«ما أقسى ان أكون زوجة مرفّهة بالحماية ومرتاحة بالاعفاء من العمل المرهق وما أشد إرهاق هذه الراحة التي تكسر مفاصلي وتقضّ مضجعي. ليس لي من عمل الا الانتظار ولا من اسم الا الانتساب. ليس من مرح في بيتي. لا. لن أكون جارية له حتى ولو رضيت نساء العالم أجمع بتلك القسمة لن أرضى انا بها. ما أحقر ان أكون زوجة.»
«حتى علاقات الحب السطحية العابرة أفضل مما أنا عليه مع نوري. فتلك على الأقل ناتجة عن رغبة مشتركة. لست بقرة حلوبا يملكها نوري الدين التونسي ويتمتع بخيرها عند الحاجة».(ص 68-69)
ويوافق زوجها مضطرًا على قرارها، وكان بإمكانه ان يفرض رأيه ويمنعها، لولا شعوره بأن الأمر لم يعد يحتمل القسر، وان هذا الحل المؤقت قد يؤدي الى مخرج أفضل، وتمت موافقته بشرط ان تقيم مع قريبته سنيه في القاهرة. وفي القاهرة تتعرف رانيه صدفة على سعد الفنان، فتعجب به وتبدأ معه حياة جديدة تجد فيها من اسباب التجاوب العاطفي روحيًا وجسديًا والثقة بالنفس والتحرر من التقاليد ما لم يتوافر لها في حياتها الزوجية، ولكن هذه الحياة الجديدة التي تستمر أكثر من عام تفرض عليها معاناة لون آخر من الصراع: الصارع الداخلي بين تفانيها في حب سعد والتزامها بأن تبقى وفية له من جهة، وبين احساسها الجاد بالمسؤولية تجاه زوجها الذي تقدره، كما تقول، وتأمل الحفاظ على علاقتها الزوجية معه من جهة أخرى. ويزداد هذا الصراع حدة بسبب عجزها عن ايجاد حل مرض لهذه العلاقة الثنائية. إن رانية تبدو احيانًا متفائلة الى حد السذاجة بامكان تلمس الحل في مصارحة زوجها حول علاقتها بسعد، دون ان تتوقع عواقب وخيمة، وهي تقدم فعلاً على هذه المصارحة في آخر المطاف، حين تحاول ان تؤكد لزوجها انها تحبه كما تحب "سعد" وترفض اتهامه لها بالخيانة الزوجية وتعتبر ذلك من مظاهر التخلّف والجهل كما يتجلى في الحوار التالي:
- دي خيانة زوجية. انتِ عايزه تفسريلي الخيانة الزوجية.
ولأول مرة غضب لأنها كانت تلوي عنقها وهي تنظر اليه، فهو يربط ذلك الوضع بالدلال مع انه بالنسبة لها عادة. خفضت نظرها الى الأرض باعياء، وشعرت فجأة بحاجة الى التقيؤ ولكنها عصت نفسها بشدة.
- كده؟! انا بقيت خاينة يا نوري؟!
- ده التعبير عن الحاجة اللي انت عملتيها، ما فيش اتنين في البلد بيختلفوا عليها.
- لا مش خاينة! انا ما بسمحش بالكلام ده. قالت في تأثر واضح ثم تابعت كلامها:
- ان كانت الأوساخ معششة في رؤوس الناس اللي في البلد، وما بيفكروش إلا بحاجات وسخة. ده مش معناه انه معاهم حق. ما اسمحش بالكلام ده ابدًا!
كان لا يزال يتنقل في القاعة من أولها الى آخرها وهو يمسح جبينه بمنديله.
- انا ما قلتش حاجة مش متعارف عليها.
- ما بيكفيش. انا ما يهمنيش المتعارف عليه. انت ما بتفكرش لنفسك وإلا سايب الغير يشيل عنك؟
- واحنا بقينا عايشين وحدنا وغيرنا في العالم ما فيش حد؟
- لا. مش وحدنا، في غيرنا. بس انت بتتصرف زي الأعمى، مش شايف إلا جماعة متفقين على الجهل والظلم. دول اللي انت بتهين زوجتك بإسمهم.
(ص 264-265)
إن هذه المصارحة غير المألوفة تمثل بدء مرحلة جديدة في حياة رانية الزوجية وتقوم بدور مهم لا في الكشف عن الظروف التي قادت رانية تدريجيًا الى إشراك رجل آخر (سعد) في حياتها العاطفية فحسب، بل في ابراز ما اكتسبته من الوعي والثقة بالنفس واستقلال الرأي كذلك مما يساعدها على احداث تحوّل ملموس في رؤية زوجها للتقاليد، وتفهّم متسامح لاضطرارها على اختيار النهج الذي سارت عليه. ولهذا فهو لا يلجأ الى الطلاق، أو عقاب آخر باسم الدفاع عن شرف العائلة، بل تقرر رانية ذاتها بان لا مفرّ من إنهاء علاقتها الزوجية بسبب الاشاعات التي ملأت الاسكندرية حول علاقتها بسعد، وان ترحل الى القاهرة للبدء بحياة جديدة.
سعد:
إن صراع رانية العاطفي المزدوج يحتل الجزء الأكبر من فضاء الرواية، اما الصراع السياسي الذي يخوضه سعد فهو على أهميته لا ينال التركيز الذي نلمسه في معاناة رانية. ولا يبدأ بوضوح إلا بعد ما يزيد عن (100 صفحة) حين يتاح لسعد ان يبدي رأيه في ثورة مصر وما يقال عن انجازاتها كما تراه في الحوار التالي:
- بس ليه الكلام ده يا جماعه. هي حكومة الثورة عملت كتير في البلد.
- كتير اوي. قال بيومي متهكمًا.
- أمّال؟ هي اللي طردت الانكليز والملك وهي عملت الاصلاح الزراعي والغت الاقطاع وقضت على الحكم الملكي الفاسد وأممت المصالح الأجنبية وبتبني السد وعملت صناعة ثقيلة في البلد. ليه ما بتنصفوش؟
تدخل سعد.
- يوه صحيح. دي كلها امجاد للفراعنة الجدد. بس الانسان المصري المقهور ده ما عرفتهوش الثورة دي في يوم من الأيام اطلاقًا. هو الانسان العادي الغلبان بالنسبة ليها نكرة، ومتاع يشتري ويباع، يصنّع في مصانع الدول وتصبغه بالطلاء اللي هي عاوزاه. اديه شاي وعيش بتعريفه وخلاص. هو مالوش دخل. ده الانسان يا عبد السلام اللي ما لوش كرامه وما كنش له في يوم من الايام." (108)
ويتضح هذا الموقف المخالف لسياسة الثورة عندما نعلم في الصفحات التالية ان "سعد" ماركسي النزعة وينتمي الى خلية صغيرة منشقة عن الحزب الشيوعي الذي بدأ يميل الى التعاون مع الثورة بحجة انها «اصبحت اشتراكية المعتقد والممارسة» بعد ان كانت حركة عسكرية من صغار البرجوازيين. غير ان سعد يرى في اساليب الثورة الشعبية ودعواها الاصلاحية قناعًا يخفى وجه النظام الدكتاتوري، ولهذا فهو يدعو الى مقاومة النظام سلميًا ان امكن وبالعنف ان وجب (ص 117). ويفهم من السرد كذلك ان معرفة سعد بالماركسية اشتدت وضوحًا في باريس بفضل نمو ثقافته وصلاته الشخصية التي اتاحت له ان يلتزم بمفهوم ماركسي مستقل لا يتفق مع منطلقات الحزب الشيوعي. اذ نفهم مثلاً انه اظهر عداءًا سافرًا للشيوعيين في باريس لأنهم وقفوا مع الحكومة الاستعمارية في قضية الجزائر، أو بسبب اسرافهم في تمجيد الاتحاد السوفياتي، وانه كان يعتبر الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الاميركية دولتين تهدفان الى السيطرة على اكبر جزء من العالم، وانه كان يكره كل الحكومات التي تقهر رعاياها بأسماء مختلفة "المصلحة العامة" "التقدم" "العقائد" وكل ذلك في رايه نفاق يستر مصالح اصحاب المناصب.
ان اهم ما يخص موضوع الصراع السياسي الذي يمثله سعد هو ما يرد في الفصلين التاسع والعاشر من الرواية (173-200) حيث نجد وصفًا تفصيليًا لما تلجأ اليه الحكومة من اساليب القمع والارهاب لمعاقبة من يخالفها في الرأي أو المعتقد. واذا كان هذا الفصلان يركزان على هذه الأساليب كما اتبعت في تعذيب سعد (بما فيها الاعتداء على جثته وهو في حالة اغماء) فإن هناك اشارات عامة اخرى في الرواية تدين سياسة الحكومة في ارهاب المواطنين واعتقالهم. انظر مثلاً الحوار التالي:
- طيب انت عاوزنا نتصارح بكل حاجه. تفضل كون صريح وحارب لي الحكومة. تكلم عنها بصراحة. مش هي اللي منزّله الخوف في قلوب الناس من ايام فرعون حتى النهار ده؟ مش لما تفتح بؤك يرموك في السجن؟ والا انا غلطان؟
- ما تحاربها انت اللي صاحب مصالح والحكومة معطلاها عليك. انا مالي؟ موظف غلبان. رضيت بذل الوظيفة وهم عارفين وبيستفيدوا من ظهري. زاي ما انت عارف يا فهلوي.
- ليه هو حد بقه بيقدر يرفع صوته. ما تشوف السجون مليانة. انت رضيت بذل الوظيفة وانا رضيت بذل قسمتي من ولي النعم القاعد فوق في قصر عابدين، وكفانا الله شر السجن وعذاب السجن!
ثم تكلم بسيوني من جديد كمن يحدث نفسه:
- هو يا جماعة لما الناس تكون عايزة حاجة قوي ما فيهش سجن يحوطها. بس احنا جماعة طيبين راضيين بحالنا. خلاص ما فيهش فايدة. شعب غلبان.
(ص 109-110)
إن "سعد" كما يصور في الرواية يمثل نموذجًا ايجابيًا أو مثاليًا للسياسي الملتزم الذي لا ينهار تحت التعذيب، أو يرتد عن معقتده، فهو بالرغم مما عاناه في السجن واحساسه المبهم نسبيًا بأن «شيئًا ما في حياته قد تغيّر وان قدرًا قد اصابه» (193) وما تبعه من ازمة نفسية حادة بعد خروجه من السجن، يظلّ مؤمنًا بما اختاره من معتقد، وبضرورة مقاومة النظام مشيرًا الى انه سيقود البلد الى "حالة أبشع" وإلى ان الذين يهتفون "للأفندي العسكري ده ولي النعم" سيدفعون ثمنًا غاليًا. وانّ لا حلّ إلا بالمقاومة والثورة (249) قائلاً وهو يخاطب رانية «إننا الآن بحاجة الى ثورة أكثر من أي ساعة أخرى. إنما تأكدي انها حتحصل!» (250). ان هذه الأمثلة من اقواله قد تدل على «انه مثالي يحلم» كما تقول رانية وهي تناقشه وتخالفه فيما يذهب اليه (252) ولكن يمكن اعتبارها دليلاً على ان اي اضطهاد سياسي لا يستطيع قهر روح المقاومة أو الأمل والايمان بالخلاص.
ملاحظات وأسئلة
نشر إيليا «اعاصير النيل» و«أغاني بيروت» كعملين من منشورات "دار المشرق والمغرب" التي أسسها بالتعاون مع أخيه في الثمانينيات من القرن الماضي، وقد أشار في بعض رسائله الى «أعاصير النيل» كرواية لـ "كاتب مصري جديد اسمه سيدي غريب"علما بأني لم أسمع شخصيا منه ما يشير الى قيامه بتأليفها، او الى أية تجربة له باستخدام العامية أو اللهجة المصرية في كتاباته ولا بد لي ان أبدي في هذا السياق عدة ملاحظات:
أولاً: لم استطع الوقوف حتى تاريخ كتابة هذا التعريف على اي نص او جزء من الرواية قبل ظهورها مطبوعة، علمًا بان نصوص قصائده او خواطره المطبوعة وغير المنشورة متوافرة لدي. ويلاحظ كذلك ان الرواية طبعت عام 1983، وهي تعكس بأحداثها السياسية عهد الرئيس جمال عبد الناصر في اوائل الستينيات (بين 1961 و 1963) من القرن الماضي. أقول ذلك بالرغم من ان الرواية لا تنصّ نصًا صريحًا على زمن الاحداث. ولا تشير الى الرئيس المصري بغير "الريّس" أو "الافندي العسكري ولي النعم" غير ان هناك تلميحات الى انفصال سوريا من الجمهورية العربية المتحدة (ايام الوحدة مع سوريا ص 98)، واصدار أو منع تداول كتاب انور عبد الملك الذي نشر بالفرنسية عام 1962 بعنوان «مصر مجمّع عسكري»، ( 160) وليس هناك اشارة الى طبعته العربية (1964)، وهناك اشارة الى قطع المساعدات الامريكية دون نص على تاريخه (1963) انظر 248 حيث يرد ما يلي:
رانية: قطعت امريكا مساعداتها لمصر
سعد: الحمدالله! .. طيب امريكا ما هي اللي جابت النظام ده وهي تاخذه!
بس لو حصل ده ممكن نتعلم اللي احنا مش عايزين نتعلمه .. واحنا عايزين امريكا تطعمنا ليه؟... بس الناس دول بوظوا البلد ودي الوقت عايزين يشحتوا من امريكا.
أي ان هناك فجوة زمنية بين تاريخ احداث الرواية وتاريخ نشرها مما يثير التساؤل عن سر اهتمام إيليا بالستينيات وتاريخ كتابة الرواية قبل نشرها.
ثانيًا: لقد حاول إيليا كناشر تسويق الرواية، وتقديمها لبعض اساتذة الأدب العربي الحديث في الجامعات الامريكية وغيرهم، برغبة استطلاع رأيهم في الرواية، ولكنّه - حسب معلوماتي الشخصية المحدودة – لم يتلق سوى رسالة قصيرة مركزة من الاستاذ غسان سلامة المعروف بمكانته الفكرية والسياسية، ذكر فيها بعض جوانب الرواية الايجابية والسلبية دون سابق معرفة له بأنها من اعمال ايليا. ومما ورد فيه قوله:
«الكتاب قصة شيّقة ويجمع الى نجاح بين التصوير الاجتماعي-السياسي وبين القصة الذاتية العاطفية – الجنسية وهذا الجمع هو أفضل ما في الكتاب.» (رسالة غسان سلامة 27/ 9/ 1983) اما الجوانب السلبية فذكر منها "الاخطاء المطبعية عديدة جدًا ومزعجة مما كان يتطلب جهدًا تحريريًا من قبل الناشر". كما ذكر ان "الاخطاء اللغوية عديدة جدًا" ملقيًا اللوم على الكاتب والناشر. واختتم رسالته بقوله "الحس الجغرافي (القاهرة/ الاسكندرية، الريف/ المدينة، الطريق الزراعي/ الطريق الصحراوي) ممتع وممتاز ولكن فيه بعض التكرار."
ثالثًا: ان ملاحظات الاستاذ سلامة قيمة لا سيما فيما يخص الاخطاء المبطعية واللغوية فهي - والحق يقال – كثيرة جدًا لا تزعج القارئ فحسب، بل قد تحول دون مواصلته قراءة الرواية، ولهذا قلت في المقدمة بان نتاج إيليا الادبي «يتطلب النظر في اعادة طبع ما نشر». واغلب الظن انّه بسبب الظروف آنذاك لم يتهيأ له تصحيح النص قبل اخراجه بصورته النهائية، او ان من قام بطباعة النص المخطوط يتحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. دع عنك ما يعرف عامة عن افتقار دور النشر العربية الى من يختص بـ "الجهد التحريري" الذي ذكره الاستاذ سلامة.
رابعًا: ان خواطر إيليا الشعرية المكتوبة بخطه تتسم بسلامتها اللغوية عامة، باستثناء هفوات متفرقة، وتدل على ميله الى استنساخ نص معيّن بيده عدة مرات قبل طباعته بصيغته النهائية، سواء كان منقّحًا ام غير منقّح. ويلاحظ احيانًا انه يجري تعديلاً ملموسًا في بعض الحالات بإضافة أو حذف عدد من السطور. انظر مثلاً النص الأصلي لـ "بيروت (1)" الذي يحمل تاريخ ايلول 1976 بالمقارنة مع النص المطبوع الذي يحمل تاريخين ومكانين: بلومنغتن 1976 القاهرة 1986. ومن الامثلة الاخرى "صلاة" في نصّها المطبوع، وهي مأخوذة من نص اصلي طويل نسبيًا كان يحمل عنوان "صلاة الانقاض" يعبّر عن حنينه بحرارة بالغة الى بلده او أرضه:
«أين منك صنوبر الضهور/ وشمسه الطاهرة/ في حضنه الدافئ/ القي ذراعي ووزي/ معطفي صنين/ وقبلتي اشراقة مداها البحر/ في حضن بيروت/ هل تعود/ أزاهير الليمون الى مروجنا/ والمعول والتليع/ الى جلول ضهورنا/ والنغمة المزهوة/ الى احراشنا/ بارك يا رب/ ينابيع الحب في دموعنا/ اعد ارضنا صامدة/ تحمل وزرنا/ ابن الف خطيئة».
بلومنغتن تشرين الاول 1981
وختامًا لعلني لا اعدو الصواب ان قلت – في ضوء هذا التعريف الموجز – بان كتابات إيليا الادبية تكشف عن قدرة واضحة على الابداع، وان لم يكتب لها التطور والازدهار نتيجة تفرغه الى عمله الاكاديمي المتميّز في مختلف الحقول السياسية، (الاجتماع، الاقتصاد، التاريخ) وليس لدي من شك في انه اختار الاستعانة بها كوسيلة غير اكاديمية تتيح له التعبير المركز عن تجاربه الذاتية ومعاناته ازاء محنة لبنان خاصة، ورؤيته لواقع لبناني- أو عربي- يراه متماديًا في تدهوره والتخلّف حضاريًا بالاضافة الى ما كان يجد فيها من متعة وعزاء وارتياح.
أكاديمي عراقي بجامعة انديانا
كلمة شكر وتقدير
اشكر السيدة الفاضلة إلسا حريق لما قدمته لي من مساعدة في اعداد هذا التعريف في احاديثها الشخصية معي وبالسماح لي بالاطلاع على عدد من ملفات صديقي الراحل ايليا.
بلومنجتن/ انديانا