هنا يقدم الناقد قراءة لديواني الشاعر المغربي علي العلوي «أول المنفى» و«شاهدة على يدي»، محاولاً مدّ القارئ المحتمل للديوانين ببعض المفاتيح الجماليّة وشواخص القول الشعري، التي قد تعينه على تحقيق قدر من المتعة والتأمل في القصائد.

الموت والمنفى في تجربة الشاعر المغربي علي العلوي

رشيد بلمقدم

تنتمي قصائد الشاعر علي العلوي إلى ما اصطلح على تسميته بالقصائد التفعيلية، وهو يلجأ في إبداعها إلى لغة بسيطة وشفافة تشد إليها القارئ وتجعله يقبل عليها بشغف يعز نظيره. وبذلك يكون الشاعر علي العلوي كما هو الشأن في جميع كتاباته الشعرية، قد ابتعد عن الغموض والإبهام المتعمدين، اللذين أصبح يتستر وراءهما بعض الشعراء من الجيل التسعيني الذي ينتمي إليه. وهم بذلك إنما يسعون إلى إخفاء ضعف موهبتهم الشعرية إن لم نقل غيابها بالمرة.

وعلى أي حال، فقد جعلتنا قراءتنا للمجموعة الأولى للشاعر علي العلوي "أول المنفى"(1) نخرج بخلاصة تتعلق بالبنية الدلالية للديوان، التي يمكن القول عنها إنها بنية الموت والمنفى مع طغيان حقل المنفى إلى حد ما.

هكذا نجد عنوان المجموعة الشعرية، الذي له مكانة خاصة في فعل القراءة، يتضمن لفظ "المنفى" كما أن الشاعر أتى على ذكر اللفظ نفسه، أو ما يدخل في علاقة ترادف معه، في عناوين بعض القصائد مثل: "موعد مع المنفى"، و"نبض المنفى"، وغيرها. هذا فضلاً عن أن الشاعر علي العلوي أهدى عمله الشعري إلى جميع المنفيين في المكان أو في الوجدان. ولعل هذا الإهداء يستدعي منا وقفة قصيرة، ذلك أن المنفى في المكان أمر مفهوم وواضح إلى حد بعيد، لكن ما الذي يقصده الشاعر من وراء استعمال عبارة "المنفيين في الوجدان"؟ للإجابة عن هذا السؤال تعالوا نقرأْ سوياً ما جاء في قصيدة "موت جديد":

فأنا منهكٌ منذُ

أول يوم رجعتُ إلى هاهنا

وأنا مثقلٌ بالندى

مثل أولئكِ المنفيين

بداخل أوطانهم

ومحاط بأصوات كل الجياعْ (أول المنفى، ص67)

يمكن القول إن المنفى في الوجدان هو ما يشعر به الإنسان داخل وطنه بفعل التهميش الممارس عليه بشتى أشكاله وألوانه من طرف الآخر. وفي ظل هذا الوضع فإنه من الطبيعي أن يفكر المرء في البحث عن مكان يشعر فيه بالأمان والطمأنينة، وبالرضا عن الذات، لكن هل يتأتى له ذلك حسب شاعرنا؟ إننا نشك في ذلك، ولعل ما يدعم هذا الشك هو قول الشاعر في قصيدة "موعد مع المنفى":

أختار ما أختار من منفى

فلا ألقى سوى المنفى

وأوراقٍ تذوبُ

وكل أشعاري تلاشت فوق أسوار الرجاءْ (أول المنفى، ص67)

إضافة إلى كل ذلك جاء ديوان "أول المنفى" حافلاً بالكلمات والتعابير الدالة على حقل الموت، بما في ذلك عناوين بعض القصائد، التي نذكر منها: "أول الموت" و"صمت الرحيل"، و"موت جديد" وغيرها. هذا فضلاً عن بعض المفردات مثل: الغياب/القبر/ الرحيل/ الوداع/ البعد/ الصمت... وفيما يلي مقاطع شعرية لها علاقة بما ذكرناه وردت في ديوان "أول المنفى"، فنقرأ في قصيدة "ظل الفراغ":

على قبرك المتدلي

كغصن الصنوبرْ

أموت أنا مرتينِ

وأحلم بالعيد ثانيتين

وأرسم وجهك بين اليدين (ص37).

ونقرأ في قصيدة "صمت الرحيل":

"لا أريد

أن أموت"

قلتها ثم رحلت

كالملاك

يا محمد (ص27).

ونقرأ أيضا في قصيدة "سفينة الصمت":

أين كنتم

حينما ماتت على جفني

ابتسامات الظهيرة؟

كل شيء صار صمتاً

كل شيء صار موتاً في المدينهْ (ص64).

وقد بقي الشاعر علي العلوي وفيا لإبداء الهموم والأحزان التي تخالج نفسه، والتي هي مبعث قضيته، حيث نجده في مجموعته الثانية "شاهدة على يدي"(2) أكثر تعبيراً عن مشاعره في قصيدة "القرب البعيد" حيث يقول:

أنا غصن حزينٌ

تكسر ذات خريفٍ

لتحمله الريح بردا وصيفْ (شاهدة على يدي، ص54)

ويمكن الجزم أن الشاعر علي العلوي نطق مرة أخرى بالموت والمنفى في هذا الديوان، كما هو الشأن بالنسبة إلى ديوانه الأول "أول المنفى"، وقد تبين هذا من الإهداء الذي أهداه لكل الصامدين في المكان رغم مكر الزمان، وكما أشرنا إلى ذلك فقد غلبت على الديوان تيمة الموت والمنفى، ولعل ما يرمز إلى ذلك استعمال الشاعر لبعض المفردات والتعابير من قبيل: الفراق، دم يراق، كفني، سفر، العبور، الرحيل، موتي، قبري، رمسي، التابوت، لحدي، المنافي، المنفى، وغيرها.

وقد بينت كثير من قصائد ديوان "شاهدة على يدي" أن قضية الشاعر علي العلوي هي كونه يعيش غربة نوعية في وطنه، إذ جاء في قصيدة "مطر بلا قطرات":

سأعود إلى وطني المنتظرْ

سأميل مع الليلِ،

ناحية الشرق

أو جهة الشوق

حتى إذا مال نبضي

أجدد بعضي

وأنهي السفرْ (شاهدة على يدي، ص42-43).

وقد حدد الشاعر معالم وطنه الذي يحلم به وينتظره في قصيدة "رحيق الصمت" حيث يقول:

ليت لي وطناً

أستظل بماء جداولهِ

وأصلي على عشبهِ

ليت لي وطناً

أستنير بهِ

وأنير البحار بألوانه

ليت لي ذكرياتٍ

أداري بها سوءتي

وأقول لها ما سيأتي (شاهدة على يدي، ص66-67).

هذه الهموم والأحزان التي عبر عنها الشاعر في ديوانه الثاني تجعلنا نخرج بخلاصة مفادها أنه إذا لم يكن من كتابة الشعر بد فمن العار ألا يلمس القارئ قضاياه وهمومه في دواوين الشعراء. ومن خلال قراءتنا لديوان "شاهدة على يدي" نتذكر همومنا وما نعانيه بكل صدق، يقول الشاعر في قصيدة "عيون الألم":

وتعالوا

إلى وطن

شرد الضرع، والزرع، والأصدقاءْ (شاهدة على يدي، ص14).

هذا ولم يقتصر الشاعر على حمل هموم وطنه فقط، بل تعدى ذلك إلى وطن أوسع يتجسد في قوله في قصيدة "أديم السماء":

منذ أن عرفتك

لم أجد نأْيا ولا نايا

يقاسمني سكون الليل

أو يحكي لنا عن طفلة

فقدت عرائسها على أرض العراقْ (شاهدة على يدي، ص8).

وللخروج من الهموم والأحزان يوصي الشاعر علي العلوي بالصمود في المكان رغم مكر الزمان، كما نجده يشير في قصيدة "عيون الألم" إلى أن ثمن الوطن الذي ينشده ليس بالهين حيث يقول:

سأعد لكمْ

ما تبقى من التينِ

كي تعبروا طرقات اليقينِ

وتفترشوا قطراتِ الدماءْ (شاهدة على يدي، ص14).

في الأخير نؤكد أنه لم يكن هدفنا هو تقديم قراءة مستفيضة لديواني الشاعر المغربي علي العلوي "أول المنفى" و"شاهدة على يدي"، ذلك أن قراءة بهذا الشكل تستدعي الإحاطة بالشعر المقروء من جميع جوانبه بما في ذلك البنية التركيبية، والبنية الإيقاعية وغيرها، لكن مع ذلك نقول إن هدفنا كان هو مد القارئ المحتمل للديوانين المذكورين ببعض المفاتيح التي قد تعينه على تحقيق قدر من المتعة والتأمل في القصائد التي تتضمنتها المجموعتان الشعريتان المقروءتان، بالقدر نفسه الذي شعرنا به نحن عندما قمنا بذلك.

 

ناقد مغربي

 

الهوامش

(1) أول المنفى، مؤسسة النخلة للكتاب، وجدة، 2004.

(2) شاهدة على يدي: مؤسسة شمس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2008.