إعداد أثير محمد علي
قلما تعرض كلمة "نهضة" لأحد من كتابنا دون أن يردفها بكلمة مباركة، حتى صارت هذه العبارة "النهضة المباركة" كأنها Fromula لجميع أدباء مصر يرددونها في كل مناسبة. وحقاً أن نهضتنا مباركة ولكنها بالرغم من ذلك بطيئة وهي في هذا الابطاء تتعثر كثيراً في سيرها وترتطم بحجارة الرجعية، التي زحمت طريقها وجعلتها في حاجة ماسة إلى التمهيد والتعبيد، ولقد أفلحت الرجعية في التسرب إلى الصميم من مرافق هذه الأمة حتى ليخشى أن تظل نهضتنا وئيدة مبطئة ونظل نحن تبعاً لذلك في مؤخرة الأمم التي تساهم بنصيب في الثقافة العامة لهذا العام، بل نظل نحن تبعاً لذلك في مؤخرة الأمم التي تساهم بنصيب في الثقافة العامة لهذا العام، بل نظل عيالاً على الأمم المتحضرة وكلاً ثقيلاً على المدنية والعمران.
والرجعية في مصر عمياء لا ترى، وهي في محاربتها لرجالنا العاملين تستعمل أسلحة خطرة مسمومة وتستعملها في غير رفق ولا تبصر. وأن من أشنع هذه الأسلحة وأروعها القذف بالإلحاد والشيوعية والتهتك. فعلي عبد الرازق وطه حسين ملحدان لأنهما يغذيان النهضة بآراء عالية في روحية القوانين الإسلامية وتقريرات طريفة في الأدب الجاهلي مخالفين بذلك اجماع الأمة وفقهاء الدين والأدب. وسلامة موسى واسماعيل مظهر شيوعيان لأنهما يناديان بإصلاح الحالة العامة للعامل والفلاح المصري ويطالبان مساواة الرجل والمرأة، ثم هما ملحدان لأنهما يكتبان كثيراً عن التطور ويدعوان إلى نشر العلوم الحديثة في هذه الأمة. وهدى شعراوي ومنيرة ثابت وسيزا النبراوي نسوة متهتكات كافرات لأنهن ينادين بإصلاح الفتاة المصرية، ويبتغين لها حياة لا تعرف ديناً من الأديان يأباها عليها. وفاطمة رشدي وأمينة رزق وزينب صدقي يجب رجمهن، لأنهن يفسدن الأخلاق بظهورهن على خشبة المسرح، بدل أن يقرن في بيوتهن ويضربن على جيوبهن!! وطلبة دار العلوم يجب أن ينبذوا من الهيئة الاجتماعية، لأنهن استبدلوا العمامة بالطربوش والملابس الشرقية البالية بالبذلة الغربية الجميلة.
أجل، نهضتنا بطيئة من أجل ذلك، ومن أجل ذلك كانت ثورة هائلة بين الرجعيين وبين علي عبد الرازق، ثم بينهم وبين طه حسين لأنهما أرادا أن يسرّعا قليلاً بهذه النهضة حين نشرا كتابيهما في أصول الحكم والأدب الجاهلي. ولقد جرد الرجعيون الأستاذ علي عبد الرازق من لقبه، وظنوا أنهم بذلك قد نالوا من الرجل، وأتوا على تعاليمه، ولكن كان برغمهم أن ينتصر خصمهم اللدود وتنتصر تعاليمه، فلا الخلافة قامت لها قائمة ولا المحاكم المصرية تأخذ بالقوانين الدينية التي انزعجوا من أجلها وريعت قلبوهم فرقاً عليها... أما طه حسين فقد اصبحت تقريراته مبادئ أو قل قد صارت أسساً للأدب العربي تدرس في الجامعة ويلقنها الطلبة مطمئنين إليها. ثم ها هو الأستاذ يعرف له زملاؤه هذا الفضل فينتخبونه عميداً لكليتهم وهم بذلك يجعلون منه عميداً لهم مدى الحياة!! والحق أن المبادئ والآراء الحديثة لا تنتهي عند ثورة تشب من أجلها بل هي بعد هذه الثورة تنشط للحياة وتسير في طريقها الحق حتى تنضج وحتى تشبع في القلوب رغم ما يتناوحها من ضجيج وتهويش.
ولقد نعى الأستاذ سلامة موسى إلى قرائه المصريين مجلة مصرية كانت تنشر الآراء الحديثة وتقوم بمجهود طيب تؤديه لنهضتنا. ونحن وإن كان الأسف يملأ قلوبنا لهذا النعي المؤلم، إلا أننا نستبشر بأن الآراء التي دأبت "العصور" في نشرها ستوتئ ثمرتها في العاجل القريب. فنذهب التطور والآراء الاشتراكية صارت من الموضوعات التي يخطب بها أساقفة الكنائس من فوق المنابر في الممالك الأوربية، وهي عما قريب سيخطب بها الناس من فوق المنابر في مساجدنا وكنائسنا، إذ هي لا تنافي أدياننا ولا تقاليدنا في شيئ.
والرجعيون الذين يقفون لقادة الفكر فينا بالمرصاد صائرون لا محالة إلى هزيمة تستأصل شأفتهم في مصر. لأننا نأبى هذا الركود الطويل الذي يضطروننا إليه. وهم صائرون حتماً إلى هذه الهزيمة لأنهم إما أجانب عنا لا يهمهم تقدم مصر أو تأخرها ما داموا في رغد من العيشة يأوون إلى قصور باذخة أقامها لهم الغاصب التعسف بما امتص منا من دماء، وإما وطنيون ويا للأسف من بقايا القرن البائد ينظرون بازدراء جاهل وسخرية سخيفة لكل جديد طريف.
ولقد اتخذ الفريقان من بعضهم لبعض ظهيراً. فالأجانب يوهمون أولئك أن قادتنا الملحدين خطر على دين هذه الأمة وتقاليدها، وأولئك يؤمنون بهذه الدعوى في أسرع من البرق. فطه حسين ملحد لأنه تقدم إلى مؤتمر المستشرقين برأي في ضمير الغائب، ولذلك تفسح جريدة المقطم الرعناء أعمدة طويلة في أعداد متتالية لقلم من أقلام الرجعية يوهم الناس أنه يدفع عن الدين واللغة خطراً يتهددهما وطامة تكاد تطيح بهما!!والرجعيون الأجانب هم إما صحفيون نصبوا أنفسهم لعداء هذا البلد وإما كتاب صعاليك من صنف هؤلاء المناحيس... أما الصحفيون فهم كالجنود المرتزقة لا تحارب إلا مع القائد الذي يدفع لها الأجر الأكبر، ثم هم لا يضيرهم شيئ أن يقفوا بعد ذلك في صفوف أعدائه يصوبون إليه السهام التي دافعوا بها عنه! فالمقطم مثلاً لا تستحي أن تعلن في مكان بارز منها أنها صحيفة حكومية دائماً وأنها مع الحكومة القائمة مهما كان لونها السياسي، وهي حين تعلن ذلك تتغفل ذلك الشعب الذي يمد يد المعونة للمقطم، لتصبح كل يوم أقوى على معاداته والكيد له في حين هو يستلب الحياة من مجلته العلمية الراقية "العصور" لتموت إلى غير رجعة ولا عودة!!
والأهرام هي الأخرى تقلب للوفد ظهر المحن كلما سقطت وزارته، ثم يقصد إليها جمهور متحمس الهبته خطبة للأستاذ العقاد الذي أثارت ثائرته تقلبات الأهرام، فيكشف عن عورته لرجال الصحيفة الرقطاء استخفافاً لهم وتحقيراً، وحين تهب جريدة السياسة للدفاع عن زميلتها تروح الأهرام التي لا تعرف كرامة إلا لجيبها، الذي يجب أن يظل ممتلئاً بقروش القراء من جهة ومنتفخاً بذهب حكومتنا التي تتملقها من جهة أخرى – تروح الأهرام – تتمسح بالقراء وتترضاهم وهي بهذا تبالغ في تغفلهم وتحميقهم. وللأهرام آية أخرى تستحق من أجلها الإعدام لأنها ترتكب ضد وطنها ومنبت أرومتها الخيانة العظمى، وذلك أنها ما فتئت توجه إلى استقلال سوريا البائسة سهامها المسمومة مع أنها في محنتها الحاضرة في أشد الحاجة إلى صحيفة تنافح عنها، وتدافع عوادي الأيام!! بل للأهرام آية ثالثة تنافق المسلمين بها في رمضان حين تخصص مكاناً من أظهر أعمدتها لنشر حديث متتابع عن الصوم والصلاة والزكاة حتى ليظن القارئ أن داود بركات وآل تقلا جميعاً قد ارتضوا الإسلام ديناً أو أنهم علاوة على زهدهم وورعهم من خريجي قسم التخصص بالأزهر الشريف!
أما الرجعيون في الكتاب الأجانب فخطبهم أهون وهو ولله الحمد يعرفون أقدارهم ويعلمون أن في مصر نهضة وفيها علماء أفذاذاً لا تنطلي عليهم شعوذتهم ولا دعواهم الكاذبة للعلم والأدب، ومن يدعي العلم أو الأدب منهم وشيخهم رشيد رضا معروف من الجميع بقلة الوفاء وخسة الإثابة للمغفور له الأستاذ محمد عبده!! وهل نسي أحد يوم أن راح ذلك المتلصص ينبش قبر الأستاذ ليتلفع بأكفانه وليختال في الناس عجباً!! كذلك كان ما صنع الدعي مصطفى صادق الرافعي بفخر نهضتنا ورمزها العامل الأستاذ طه حسين، إذ نصب من نفسه ذئباً عاوياً مدى شهور متتالية يقذف الأستاذ بأقذر أنواع السباب وأسفل ألوان الشتائم في صحيفة مصرية – ويا للأسف – متخذاً ذريعة إلى تلك الظروف السياسية والتناحر الحزبي، الذي كان ناشباً بين المواطنين الأعزاء سامحهم الله. فهل رأيت إلى هذا النزيل العاق الذي غمرته مصر وغمره مليكها بأجزل الخير كيف يجزينا في عظمائنا جزاء سنمار؟! لقد والله رأيته بعين رأسي منذ ستة أعوام في دار السياسة يتوسل في ضراعة وصغار إلى الدكتور طه ويلحف عليه في توسله أن يتناول بالنقد كتاباً له قليل الخطر تافه القدر، كان قد أصدره وكان في حاجة إلى الإعلان عنه، ولو بهذه الطريقة غير المشروعة، ولكن الأستاذ الجليل كان أكيس من أن يتغفله مثل هذا الفضولي فصارحه أن الكتاب لا يستأهل نقداً ولا تقريظاً. فهل تدري ماذا كان جواب هذا الأفاقي؟! لقد أجاب في تنطع وصفاقة "سبه إذاً إن لم يكن من هذه ولا تلك بدّ" فتضاحك الأستاذ الجليل وبدا له أن يجعل في هذا الحوار حديثاً للقراء ففعل!!
ولنعد إلى الرجعيين في إخواننا الذين ذكرنا أنهم من بقايا القرن البائد، فنذكر أنهم كادوا يصلحون لأن يكونوا نواة طيبة لدار آثار غريبة في نوعها. فهم طيبون جداً ساذجون جداً والعصبية التي تتقاذفهم من أجل مناقشة هينة في رأي من الآراء الحديثة تكفي مداعبة بريئة لتسكين ثورتها وإطفاء فورتها، وعلى كل حال فقد أدرك هؤلاء أنهم أقلية وأنه في الخير لهم عند احتدام هذه المناقشات أن يعملوا بالمثل المصري الظريف "إذن من طين وإذن من عجين"!! غير أننا ننزعج حين نرى الأفواج الحاشدة من زهرة شبابنا المساكين يموجون في ذلك الشارع الجديد الذي شق بين العتبة الخضراء وبين الجامعة الخالدة التي ستحتفل بعيدها "الراديومي!!" بعد بضع سنين!! أجل، ننزعج كثيراً حين نرى طلبة الأزهر الأطهار يخضعون لنون عتيق من الرجعية القاسية، تعصف بمصالحهم وتكتب عليهم الشقاء الوبيل، بعد أن كنا قد تفاءلنا قبل عامين وبزغ شعاع جميل خلاب في سماء آمالهم، وأمانيهم وذلك حين آذنهم أحد المصلحين العظماء بابتسامة الخلاص.
ولكن الرجعية لم تشأ السعادة لهؤلاء أيضاً وهي ماتزال بين يوم وآخر تمنيهم أعذب المنى، وما نزال نقرأ في الصحف أن لجنة لإصلاح حالهم تجتمع وتفنض وتجتمع، فعسى أن توفق اللجنة لما فيه الخير ولنمهلها إلى حين.
وفي مصر نوع من الأرستقراطية الجوفاء لا يمكن أن يعد إلا نوعاً من أشد أنواع الرجعية خطراً على نهضة هذه الأمة، وقد يسهل عليك أن تدرك أصل هذه الأرستقراطية وسببها، وأن تعلم أن الغرور الكاذب هو الذي يمهد لها. ذلك أن أزمة التعليم في بلد كبلدنا فيه أكثر من 90 في المائة أميون والعشرة في المائة أنصاف متعلمين تجعل من بعض أولئك النفر الذين أمكنهم أن يصيبوا قدراً لابأس به من الثقافة العالية رجالاً مزهوين بأنفسهم معجبين بما مكنهم الله فيه من رعفان، ثم مايزال هذا الزهو وذلك العجب بهم حتى ينقلب زهوهم خيلاء وعجبهم كبرياء، وحتى لا تنال النهضة على أيديهم إلا الزراية بها واحتقار كل جديد يفتح به غيرهم عليها. من أجل ذلك نشأت جماعة أو شئت فقل أقلية تحتكر لنفسها كل ما نالته البلد من أنهاض وتقدم في حياتها العمرانية وهذه الأقلية لا تمضي فرصة إلا وتعير الأغلبية بالجهل والفوضى وبكل صنوف التأخر والانحلال وذلك مع أن الأغلبية تضم نخبة كبيرة من الأطباء والعلماء والمحامين والأدباء والكتاب، بل ومن أساتذة الجامعة أيضاً.
وكم كانت دهشتنا عظيمة حين ناقشنا أحد أساتذة الجامعة في السبب الذي من أجله لا يخوض هو وزملاؤه وأساتذة المدارس العليا ميدان الصحافة، ليرفعوا بأقلامهم مستواها، إذ كانت هي الهيئة الرابعة التي تهيمن على شؤون الأمة وليحكم علينا بأننا أمة راقية لأن لنا صحافة راقية تغذيها أقلام راقية... أفتدري ماذا كان جواب الأستاذ؟ لقد كان جواباً مخجلاً لأنه حكم على الصحفيين بأنهم مهرجون فحسب، وعلى القراء بأنهم لا يقدرون ما يقع تحت أبصارهم من بحوث!! يبدو لك أول الأمر أن في هذا الذي يقول شيئاً من الحق/ ولكن ليس فيه الحق كله، لأنه ليس كل أدبائنا مهرجين وليس كل قراءنا عاجزين عن تقدير البحوث التي يقرأون، ولكن الحقيقة أن في أساتذتنا قوماً رجعيين أرستقراطيين، وقد كانت نهضتنا وما تزال في حاجة إلى جهود يبذلونها راضين.. وأن لم يكن في ميدان الصحافة متسع فليكن لهم متسع في عالم التأليف.. ولتعلموا أن الأرستقراطية في العصر الذي نعيش فيه هي أسخف ألوان الرجعية.
والرتب والنياشين تخلق حولها جواً رجعياً وإحساساً رجعياً كذلك؛ وهي في نفسها رجعية بألفاظها وتقاليدها، ثم هي رجعية لأنها من بقايا عهد الاحتلال التركي الشنيع الذي أذلّ الوطنية المصرية ووقف بنا ثلاثة قرون في جاهلية تفوق جاهلية العصر الروماني في مصر. وليت شعري ماذا يطمع المصريين في الاحتفاظ بها وهي تذكرهم بهذا العهد المشؤوم الذي أذلها فيه نفر من الجركس وأفاقي الأتراك أولئك الذين أهانوا آباءنا واسترقوهم وكانوا لا يخاطبونهم إلا بلغة "العدة والكرباج!!" ومن السخف الذي لا يليق بعالم جليل كأستاذنا أحمد زكي أن يتيه بهذا اللقب السمج "باشا" فيردف به اسمه في ذيل مقالاته التي لا يتبرع بها إلا لجريدة الأهرام!! ويشاركه في هذا السخف السياسي الضليع عثمان مرتضى.
فإذا كان لابد لنا من الرتب والألقاب فلتكن لنا ألقاب ورتب مصرية، ولنقتصد في منحها قليلاً، فلا يتملق بها الوزير أحداً من الناس ولا نمنحها لموظف لمناسبة إحالته إل المعاش.
هذه ألوان الرجعية في مصر التي تكاد الرجعية تغمر كل مرافقها، ونكتفي في ختام هذه الكلمة بالإشارة إلى الرجعية الحكومية التي تعصف بنا بين آونة وأخرى، والتي هي في الحق أخطر الرجعيات جميعاً فندعو الله أن يجعل لها حداً فقد أصبحت آفة الآفات.
(المجلة الجديدة، س.2، ع.2، ديسمبر 1930)