هذه قراءة لرواية " قانون الوراثة" للكاتب المصري ياسر عبد اللطيف"، وهي روايته الأولي التي يدخل بها عالم الإبداع الروائي بتمكن واقتدار.

ليس دائما يعمل قانون الوراثة

شوقي يحيى

لاشك أن العنوان هو المفتاح الأولي الذي يتناوله القارئ ليدخل به عالم أي نص. فهو الذي يحدد اتجاه تخيله، ومسارات رؤيته. و" قانون الوراثة" هو العنوان الذي اختاره "ياسر عبد اللطيف" لروايته الأولي التي يدخل بها عالم الإبداع الروائي. والعنوان للوهلة الأولي يحيل إلي الحكم الشرعي للمواريث، غير أن عملا روائيا من المستبعد أن يكون هذا موضوعه، إذ أن قدر التخيل فيه لابد محدود، إن لم يكن معدوم. كما أن تناول عوامل الوراثة من الناحية الجينية، قد لا يكون فيه جديد من الناحية الإبداعية أو التخيلية. أما خرق تلك القواعد، فذلك ما يخلق أفقا تخييليا، وينشئ عوالم جديدة يكون فيها من الإبداع أكثر مما فيها من الحقائق والقواعد الثابتة. وهذا ما يمنح العمل فرصة بناء عمل متخيل يتفق وطبيعة البناء الروائي، وهو ما يخلق من العنوان بوصلة تحدد لنا اتجاهنا وتضعنا علي عتبات الولوج إلي مسارات النص. و قانون الوراثة كذلك، قانون يتناول تأثير الأجداد علي الأحفاد، وتناوله في عمل روائي، يعطي الإحساس ويفتح أفق الترقب لقراءة رواية أجيال، فكيف استطاع ياسر عبد اللطيف أن يتناول سيرة الأجداد والأحفاد في رواية لم تتجاوز صفحاتها التسعين إلا بصفحتين؟.
نتعرف في المقدمات علي السارد ـ وهو طفل لم يزل في استقبال والده الذي سافر إلي بلاد النفط تاركا إياه (أمانة) لدي عمه، والأم التي تلد في غياب زوجها تاركا ـ زوجها ـ إياها في رعاية (دنيا) ابنة الثمانية عشر ربيعا، ليتفتح أنف الصبي علي ـ ابن العاشرة ـ علي نهديها لتكون {كبديل له امتياز الإرضاء الجمالي} ـ عن الأم بالطبع. ويعود الأب محملا بحقائب الملابس و( بالأحلام المؤجلة )، ليكون الأبن قد بدأ أولي خطواط السير نحو المخدرات بتذوق أول (نفس في السيجارة) خاصة بعد أن كان المدرس هو الآخر قد سافر إلي السعودية بعد أن كان هو الحصن التالي أمام هذا الابن منبها ومحذرا {مسافر أبوك للسعودية ... أنت الأخ الأكبر ... مسئولية ... قدوة حسنة ... صدق الله العظيم...}. وحتي المَدرسة، تطلب المُدرسة رسم طبيعة صامتة، وكأنها تطلب منهم الصمت، وعندما يبدأ في أن يكون له دور رافض باختيار مقطع من أبيات نجيب سرور قائلة :
{.. أنا لست أحسب بين فرسان الزمان
إذا عُد فرسان الزمان
لكن قلبي كان دوما قلب فارس
كره المنافق والجبان
مقدار ما عشق الحقيقة
وكانت في خلفية الصورة طاحونة هواء عليها غراب الخرائب. ورأت المعلمة أن وجود الغراب بالصورة ينفي كونها طبيعة صامتة..} (1) . ولنتأمل هنا نظرة الطفل وتفكيره والعناصر المستخدمة في الصورة يرسمها (طاحونة الهواء، الغراب، الخرائب) وهو ما سيتضح في تحديد معالم الجيل فيما يلي. وتتضافر كل تلك العناصر لتجعل من الطفل الذي صار الآن شابا، أمام كل هذا، وعلي طريقة عبد المنعم مدبولي جامعا كل ذلك، وكأنه يرمي بهم خلف ظهره قائلا للجميع (شكرا)، وكأنه يقول لهم جميعا (طظ)، حاملا خيباته في الجميع، ليبدأ حياته بدونهم منغمسا في كل ما يبعده عنهم وينسيه إياهم:
{.. عاد حاملا قصته، كما عاد حاملا صورته فيما مضي خلفه ذيل طويل من خيبة الأمل، ومصاب باحتقان في آماله. معلمة الرسم، أعضاء مؤسسة الحرية، جامعة القاهرة.... شكرا... }(2).
اتخذ الكاتب طريقة وحيدة للسارد هو السارد الغائب الحامل للضمير (هو) ليظل السارد بمنأي عما يحدث، وكأنه مجرد شاهد وراو لما يدورمن الخارج. فيبدأ من البداية مؤكدا ذلك حيث يقول: {.. صباح مثل آلاف الصباحات منذ سنوات بعيدة قريبة، طفلا كان بعد يدخن بجوار سور المدرسة. } ف.. طفلا كان.. تعطي الانطباع بالانفصال وانقطاع الصلة بين السارد وبين ذلك الطفل الذي كان. ويظل السارد علي هذا النحو السلبي بطول الأحداث ـ إن جاز استخدام الأحداث ـ لا يستثني من ذلك إلا في حالة الحديث عن المخدر والمخدرت، حيث يلتحم السارد بالراوي ويتوحد بالفعل في هذه الحالة، فيختفي الفعل كان، الممثل للفعل الماضي، ويحل محله الفعل المضارع، ويأخذ الحديث صيغة المتكلم {.. جئت إلي هذا المكان، وكنت قد تناولت كمية كبيرة من الأقراص المهدئة...} (3) ، {.. وعندما خرجت حاملا الكيس البلاستيكي حاويا الزجاجات الست انتصبت الخمسة هياكل وبُعثت أجسادا بعد أن دبت فيها الروح..} (4) ، فلم يقف التلاحم علي شخص السارد فقط، وإنما توحدت الذوات لتصبح مجموعة الشباب، وليصبح جيلا بأكمله هو الذي لم يتواجد إلا في لحظة التوهان، لحظة التعاطي، بينما هي في غير ذلك فهي المغيبة، وهي السلبية المتوقفة عن الفعل، حيث ظل السارد متخذا الجانب الحيادي التقريرى الذي لم يستبطن أيا من الشخصيات المقدمة، حتي في ذلك الموقف الذي كان يستدعي تفاعله مع الحدث، في مشهد مظاهرات الطلبة عام واحد وتسعين وتسعمائة والف، يظل السارد مجرد راو لما يدور، دون أن يكون له أي دور، أو أي تفاعل معها.
وقد استطاع ياسر بهذا أن يقدم لنا شخصية روائية، لا بالمعني التقليدى للشخصية، ولكنها النموذج الذي أراد تقديمه لإنسان العصر الحالي، ولشبابه تحديدا،الشباب المغيب عن الفعل. غير أن هذا السارد لم يكن هو المساعد بالدرجة الكافية في خلق تناسق انسيابي بين وحدات العمل، حيث ساهم في التحديد القاطع بين "المقدمات" والتصاعد والنهايات. فإذا كان من المهام الأساسية للتمهيد أو الفصول الافتتاحية لأي عمل، هي استثارة روح الفضول لدى القارئ، وإيقاظ عنصر التشويق الذي يشده لمواصلة القراءة. فإنه في "المقدمات" قطع علي قارئه الطريق، حيث كانت المقدمات تحمل في طياتها نتائجها المنطقية، والتي لا تحمل في رحمها ما يوحي بالاحتمالات أو التوقعات. فأن يسافر الأب إلي السعودية، وتنخرط الأم في آلام الولادة التي لا تمنحها فرصة الانشغال بغيرها من آلام أو مهام، وأن يترك الأبن (أمانة) لدي العم، ويسافر المدرس الموكول إليه التحذير والتوجيه بعد الأب، فماذا يمكن أن نتوقع من نتائج تجاه هذا الأبن غير النتيجة المنطقية التي لا اختلاف عليها؟ فالسارد هنا تحدث بضمير الغائب الذي يعطى الإحساس بأن المسرود هو شئ عام، أي يخضع للمنطق العام. بينما إن تحدث بضمير المتكلم لأعطى إمكانية التملص من المنطق، حيث يصبح له في هذه الحالة منطقه الخاص، والذي ليس بالضرورة يخضع للمنطق العام.

المقابلة
يعتمد ياسر عبد اللطيف المقابلة والثنائية لإبراز الشئ من عكسه ـ إن لم يكن ضده ـ ولتحديد معالم الأمس من اليوم، في محاولة لإبراز الصورة، ولرسم المشهد الحالي، والخلفية التي صنعت ذلك الشاب المُغيب، متخذا من وسط المينة (القاهرة) ـ كما في أغلب روايات القرن الجديد ـ نموذجا ومكانا، وعلي أساس أن منطقة وسط هي الممثلة للبلد - ولننظر هذه المقابلة المباشر الدلالة: {.. كنت قد حكيت حكاية ميللر لأقول أن المبني الذي كان ورديا صار الآن رماديا، لا بفعل الزمن، وإنما بفعل نقاش حاذق انتقي له لون الطلاء المناسب كي أقف الآن بعد عشرين عاما أتأمل طفولتي الأولي. أي طفل يقبع الآن داخله سيقف بعد عشرين عاما أخري ليتأمله ؟ وكيف سيكون لونه ؟ لعله من الأنسب للأيام القادمة أن يكون أسود، وأن تطلي شبابيكه وأبوابه ذات الأقواس المدببة بالأحمر لتتناسب مع مطاعم الوجبات الجاهزة الأمريكية المقابلة له علي الرصيف الآخر.} (5) فبينما كان لون المباني (ورديا) بالأمس، صار اليوم (رماديا) أي لا لون له، حيث اختفت الأصالة والشخصية، وأصبحت اليوم بلا لون ولا هوية، ولو سارت الأمور علي ما هي فإن اللون في الغد لابد سيكون أسود، وهي الرؤية التي يوحي بها المشهد الآن والتى تساهم مع ما سبق الإشارة إليه في تكوين رؤية الجيل الثالث، وما سيأتي إيضاحه فيما يلي.

مسيرة الأجيال
بينما استطاع الجد أن يجد لنفسه مكانا في المجتمع ويصعد إلي درجة أعلي مما هو عليها بجده وبقدراته، من بارمان إلي وظيفة إدارية بمقر الحزب، وينتقل بها من مستوى إجتماعي إلي مستوى آخر، لم يكن ذلك إلا بفضل اطلاعه علي ما يصدر من كتب وتكوين رأي فيها، وهنا كان كتاب "فجر الإسلام" لأحمد أمين الذي كان لم يمر علي صدوره كثير وقت، فالطريق أمامه مفتوحة والآمال أمامه رحبة. بينما الجيل التالي، الجيل الأوسط، أو ما سماه جيل الستينيات، وما يمكن تسميته أيضا بجيل النكسة، نظرا لتفتح وعيه علي آلام فجيعتها فقد {.. ولد في أعقاب الطفرة التي انتقل علي أثرها إلي مصاف الموظفين........ تخرج في كلية الهندسة، جامعة عين شمس، قسم ميكانيكا الإنتاج 1961، وتم تكليفه بالعمل في المصانع الحربية، مهندسا من جنود حلم التصنيع الثقيل للعهد الناصري الطوباوى, واضعي أساس غد لن تشرق شمسه إلا علي سواد مطبق. وبعد انحسار موجة الهزيمة الطاغية 67، ووفاة الأخ المعلم ترك خدمة الحكومة ليجرب حظه في الأعمال الحرة .. ومن إخفاق لأخر، هاجر في منتصف السبعينيات إلي السعودية مع من هاجروا، ليعود مع انتصاف عقد الثمانينيات. وهو الذى رأيناه عائدا في المطار، يدفع عربة الحقائب في أول صفحات هذا الكتاب.} (6) . والذي كان في استقباله الطفل (الأمانة)، والذي يمثل الجيل الثالث، أو جيل التسعينيات الذي يمثله ياسر عبد اللطيف. ـ ولا يفوتنا التحديد الزماني والمكاني في هذا المقتتطف (1961، جامعة عين شمس) لإضفاء الواقعية علي هذه الفترة الزمنية والتأكيد علي تأثيرها الفعلي في هذا الجيل الثاني، وانقطاع سير الجينات في الأجيال لتفعل فعلها، وكأنها توقف نموه.

وهكذا كان الجيل الأول هو جيل التفتح والجد والمستقبل الأفضل، وكان الجيل التالي هو الجيل الذي ضاع مستقبله في تيه ما بعد النكبة الكبري في 67، والذي راح يعوض ما فاته بالحقائب يكدسها من بلاد النفط، وترك الجيل الثالث بلا رعاية ولا توجيه ليجد نفسه في حضن المخدرات والمتوهات. وهكذا كانت الظروف المحيطة، وكانت نكبة الخامس من يونيو، أكبر من قوانين الوراثة، فعطلتها واستنبتت أجيالا لا تحمل من جينات أجدادها ما تستطيع به أن يكون لها دور فاعل، يستثني من ذلك ميراث الألم الذي يعانيه السارد في أسنانه - وكأنه يود القول أن ما ورثه هو الألم فقط : {وفي المساء، كنت ممدا علي الكرسي الرهيب بعيادة طبيبة الأسنان............... وبعد أن انتهت من عملها... سألتها : لماذا تتلف أسناني الواحد تلو الآخر وأنا شديد العناية بها. أجابت بلهجة قاطعة :.. هي عوامل الوراثة}(7) . فرأينا أجيالا مُغيبة وغائبة. وعندما تفيق من غيبتها، تبحث عن ذلك الماضي، عن الجدود والأعمام، تجده هلامي يتفلت من بين يديها، حيث نجد الرواي / الجيل الثالث، ما أن يتعرف علي أحمد شاكر في أحد المقاهي ويحاول اللحاق به ، يتفلت الأخير بين الشوارع كالمطارد الهارب، فلا يستطيع الرواي اللحاق به : {.. ورأيت ظهره يبتعد في الزحام، مسرعا في مشيته علي حافة الركض، يتلفت خلفه كمطارد حقيقي. كنت أجاهد لألحق به، بذلك الوجه ذي الملامح الغامضة التي أعادت إليَّ ذكري حكاية قديمة. بينما هو يفر أيضا من ملامح قديمة عرفها، ملامح أبي وأعمامي التي تسكن وجهي.} (8).

1- ص 13
2- ص 14
3- ص 28
4- ص 62
5- ص 29
6- ص 43
7- ص 45
8- ص 92