شاعرنا الكبير مفدي زكريا لم تدفن قصائده المجلجلة وإبداعاته الملتهبة زمن الحرب أو في حالة الطوارئ، ولا تزال إنتاجاته المشورة والمغمورة تنشر في طبعات متعددة، فالشعر بسحره الأخاذ وقوته الجاذبية يتحدى عوامل الزمان والمكان. ومع ذلك يظل الشعر الجيد غير قابل للحكم الوراثي، فنجل أو حفيد الشاعر قد يكون سفيرا أو وزيرا، ولن يصبح بالضرورة شاعرا ملهما مثل أبيه أو جده.
جالت بذهني هذه الأفكار بعد أن طالعت ما كتب في المدة الأخيرة حول حاضر ومستقبل الشعر في عالم متغير متقـلب، وسرعان ما امتدت يدي إلى كتاب الأستاذ بلقاسم بن عبد الله الموسوم بمفدي زكريا شاعر مجد ثورة في طبعته الثانية، وأحرص الآن على مشاركة القراء النبلاء في مطالعة متأنية لحوارات إستثنائية.
هل قيل فعلا كل ما يقال عن حياته و عصاميته، عن خصوبة كتاباته، و تجربته الصحفية، عن نضاله وكفاحه، ومعاناته داخل سجون المستعمر الفرنسي، عن مواجهته لأصناف الظلم والإجحاف، عن معارضته للسلطة الحاكمة في الجزائر، ومناصرته لوحدة المغرب العربي، عن ظروف و دلالات عودة الإعتبار والتقدير.
هكذا يتساءل الكاتب الصحفي : بلقاسم بن عبد الله في تقديمه للطيعة الثانية من كتابه: مفدي زكريا. شاعر مجد ثورة الصادرة سنة 2003 عن مؤسسة مفدي زكريا. بعد نفاذ الطبعة الأولى الصادرة سنة 1990 عن المؤسسة الوطنية للكتاب.
هذا الكتاب ثمرة جهود جادة متواصلة عبر ثلاثين سنة، استهلها بلقاسم بن عبد الله بأول وأهم حوار استثنائي مطول مع الشاعر مفدي زكريا في شهر جويلية 1972 ليواصل المشوار بسلسلة من المقابلات و المقالات لإنصاف شاعر الوطنية والنضال والثورة ووحدة المغرب العربي.
و قد كانت تلك الكتابات المتتالية - كما يشير نجل الشاعر الدكتور سليمان الشيخ في تقديمه للكتاب - بمثابة بريق أمل في سماء حالكة، وذوي قوي وسط صمت رهيب، ساد منذ أمد طويل لتتحول تلك الكتابات إلى حدث صحفي بالغ الأهمية..
يمتد الكتاب عبر 240 صفحة من الحجم الكبير، و يجمع بين المادة الأدبية والتاريخية، والأسلوب الصحفي المنهجي، و يمكن تحديد محاوره الأساسية على النحو التالي: حوارات وذكريات - إجحاف و إنصاف - قصائد مخطوطة و مغمورة- وثائق و صور نادرة.
حوارات .. و ذكريات
ارتكز المؤلف على المقابلات المباشرة، فجاء أول و أهم حوار استثنائي مطول لصحيفة جزائرية أجراه مع الشاعر مفدي زكريا. ونشر كاملا بملحق الشعب الثقافي بتاريخ 5 أوت 1972 و قد اعتمد هذا الحوار لأهميته في عدة دراسات و بحوث جامعية. إلى جانب آخر حوار أجراه مع الشاعر أثناء انعقاد المؤتمر التاسع للفكر الإسلامي الذي انعقد بتلمسان في شهر جويلية 1975.. حيث حرم من إلقاء قصيدته العصماء أمام المشاركين، رغم إلحاحه بمذكرة خطية موجهة للوزير مولود قاسم نايت بلقاسم، و حين شعر بالمضايقة و الملاحقة فــر وقتئذ خفية إلى المغرب الأقصى، و قد نشرت هذه القصيدة الرائعة بخط الشاعر في الطبعتين الأولى و الثانية من هذا الكتاب.
و هناك مقابلة مطولة مع الباحث المناضل محمد قنانش حول ذكرياته مع الشاعر مفدي زكريا منذ 1937 إلى 1977، إلى جانب مقابلة مع المناضل الفنان عبد الرحمن عزيز الذي يتحدث عن اسهامات مفدي زكريا في تطوير الأغنية الوطنية.
و حرص المؤلف على تسجيل شهادات عدد من المهتمين، فكانت الكلمة الرصينة من الأديب الباحث الدكتور محمد ناصر، و المؤرخ الدكتور ابراهيم فخار، والأديب المصري الدكتور حسن فتح الباب. في حين يتذكر الأستاذ الفنان : الأمين بشيشي صديقه الشاعر خلال فترة عملهما المشترك بجريدة "المجاهد" الأسبوعية أثناء الثورة التحريرية. و تكتسي شهادة هؤلاء و غيرهم من أصدقاء الأدب و النضال أهمية بالغة بالنسبة للدارسين و المهتمين لإلقاء مزيد من الأضواء على شخصية وأعمال هذا الشاعر الفـذ.
إجحاف .. و إنصاف
يتابع الكاتب الصحفي بلقاسم بن عبد الله أصناف الإجحاف الذي لحق بشاعرنا مفدي ليثير عدة تساؤلات متتالية : لماذا اضطر الشاعر إلى الإقامة الإختيارية الإجبارية بكل من المغرب وتونس، و لمدة تزيد عن عشر سنوات، و هو الذي أحب وطنه الجزائر إلى درجة العبادة ؟ .. لماذا اكتفت الصحافة الجزائرية بنشر خبر وفاته في سطور محدودة معدودة، ولم تذكر شيئا عن دفن جثمانه بمقبرة بني يزقن مسقط رأسه ؟.. لماذا حرم الشاعر من إلقاء قصيدته المطولة بملتقى الفكر الإسلامي في جويلية 1975 بمدينة تلمسان، حيث فر خفية إلى المغرب الأقصى بعد أن شعر بالمضايقة والملاحقة؟.. ويعقد المؤلف مقارنة عجيبة بين الشاعر مفدي زكريا والفنان الفيس بريسلي- صفحة 90- ومدى اهتمام الصحافة الوطنية بوفاتهما خلال 24 ساعة. قبل أن يشير الكاتب إلى علاقة مفدي بالزعيم مصالي الحاج - صفحة 95- و ظروف اعتقالهما وسجنهما سنة 1937.
و يترصد الكاتب مختلف أعمال الشاعر ليستنتج بأن معظمها لا تزال مخطوطة مغمورة - صفحة 103- تنتظر الأيادي البيضاء الكريمة لتنتشلها من الإهمال والضياع .
و لا يفوت المؤلف أن ينوه بجهود نخبة من الكتاب و الصحفيين و المثقفين لرد الإعتبار لشاعر الوطنية و النضال و الثورة من خلال عدة خطوات أشار إليها من قبل بملحق النادي الأدبي بجريدة الجمهورية.
قصائد مغـمورة
يخصص الأستاذ بلقاسم بن عبد الله 25 صفحة لنشر قصائد بخط الشاعر تحت العناوين التالية : إقرأ كتابك - ملحمة بنت العشرين - أمجادنا تتكلم - معلقة المصير - فداء الجزائر روحي و مالي. إلى جانب مذكرة بخط الشاعر - صفحة 188 - موجهة إلى الوزير الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم يلح فيها على طلب السماح له بإلقاء قصيدته المطولة "أمجادنا تتكلم" أمام المشاركين في ملتقى الفكر الإسلامي بتلمسان 1975. و حين شعر بالمضايقة و الملاحقة، فـر وقتئذ خفية إلى المغرب الأقصى. وهناك إشارة لخلفيات هذه الواقعة بصفحتي 36 و 37 من هذا الكتاب. إلى جانب قصيدته "معلقة المصير" التي ألقاها الشاعر أثناء حفل متواضع أقامه مجموعة من الحجاج من أبناء بلدته في موسم الحج لعام 1973 بالبقاع المقدسة على شرف الشاعر مفدي بمناسبة تأديته فريضة الحج. و قد قدمت القصيدة بصوت الشاعر في حصة خاصة من البرنامج الإذاعي الأسبوعي "دنيا الأدب" بتاريخ 7 نوفمبر 1990 كما نشرت كاملة 123 بيتا بخط الشاعر ضمن صفحات هذا الكتاب.
وثائق نادرة
احتوى كتاب : مفدي زكريا. شاعر مجد ثورة على مجموعة من الوثائق الهامة والصور النادرة، من بينها:
- نبذة مختصرة عن حياته بخط يده - تعريفه للإلتزام في إجابته المكتوبة عن سؤال مطروح. - عقيدة التوحيد و هي وثيقة هامة وضعها مفدي في أكتوبر 1934- الصفحة الأولى من جريدة الشعب في عددها الأول . أوت 1937- خبر وفاة الشاعر بصحيفة وطنية. إلى جانب خبر وفاة ألفيس بريسلي-. كذلك صوره مع إخوانه في البعثة بتونس - سنة 1924 - صورته و هو يلقي « إلياذة الجزائر» بقصر الأمم (1972) - و صوره مع الرئيس التونسي: الحبيب بورقيبة و الملك المغربي محمد الخامس. وكوكب الشرق: أم كلثوم - ومع الباحث المناضل محمد قنانش و عدد من أصدقاء الأدب و النضال.
تلك باختصار قراءة سريعة لمحتويات كتاب الأستاذ بلقاسم بن عبد الله، وتظل جهوده الجادة في حاجة ماسة إلى مداومة واستمرارية من طرف المختصين والمتهمين لإثراء مكتبتنا الوطنية وتدعيم رصيدنا الأدبي والثقافي.