رســـالة
صديقي العبار
تحية مفعمة بالمودة الخالصة
لن تكون رسالتي هذه مندرجة في ما يحتمه العابر، بل جسرا نحو زمن معتم طالما حييناه من دون الانتباه إلى كثارة مكره.. ولا ريب أن الاستغراب سيخامر دخيلتك مثيرا حاسة التحفز لديك، لكني واثق من قدرتك النادرة على الإصغاء، بما يكفل للآخر مغالبة استعصاء الكلام. ومع شدة الاقتناع لدي بهذا الأمر، فإن من واجبي نحوك أن أنبهك إلى كون ما سأبلغك به هو أكثر من مجرد مسارة بين طويتين يفصل بينهما المكان والضرورة، بل نوع من التماس الطمأنينة اتجاه النفس القلقة قبل أي شيء آخر.. النفس التي تخيَّلتُ في وقت من الأوقات أنها قادرة على إماطة اللثام عن حقيقة الدنيا، غير أنها لم تكن كذلك، وانتهت إلى تيه لا ينتهـي، فضاعت في زحمة الطريق، ولم تتبق منها سوى طروس باهتة.. إن الطمأنينة التي استشعرها، وأنا أكتب إليك، لا أنشدها في استرداد ما تهشم، لأن عجلة الحياة لا تعرف أبدا العودة إلى الخلف، ولكن تتخايل لي في فهم ما جرى وحدث، وإن كان يعد الفهم في هذه الحالة مجرد بحث عن نقطة ارتكاز تمكن من السماح للوقائع بالتجمع داخل حبيكة متسقة، رغم قبولها التصدع في كل حين وآن.. وأظن أن الوسيلة المسعفة في تحقيق هذا المسعى هو الكتابة، لذلك وجدتني انخـرط في عالمها، جازما بأنها الممكن المتبقي للمقاومة في عالم يزداد تنكرا لذاته.. ولعل هذا الاختيار هو ما سيدفعك إلى الاستغراب من دون شك، ولا سيما أنك تعلم أني انقطعت عن الكتابة مدة طويلة، وكلما كنت تطالبني بالسبب في ذلك، كنت أتعلل بأعذار ربما كانت واهية بالنسبة إليك، ولكنها كانت حاسمة بالنسبة إلي.
صديقي الأبدي.. المهم أنني قررت أن أخوض تجربة الكتابة مرة أخرى، وجعلت مدارها الأبهى الزمان المنصرم الذي دوخنا جميعا باحتمالاته المتوقع منها، وغير المتوقع.. واستسمحك إن استمددت المادة اللازمة لذلك من حياة الأحبة الذين شاطرتهم جزءا من حياتهم، وبخاصة الحياة التي عاشتها أسرتك نظرا لما احتله بيتكم ومازال في قلبي من مكانة. وإذا كان لك أي اعتراض على ذلك، فأنا مستعد لأن أضرب صفحا عن هذه المحاولة التي هي الآن بين يديك مسودة أولى رفقة الرسالة. فالحرص على استمرار حبل المودة الخالصة بيننا أهم من أي شيء آخر بالنسبة إلي. وقد لا أخفيك سرا إن قلت لك بأن والدك العم حسان كان بحكيه الممتع المنساب من بين أشد الأسباب التي جعلتني أقدم على اختياره تعلة لكتابة هذا النص السردي، فاتخذت من زياراتي له ببيتكم الدافيء شكلا أساسيا أبرر به بناء المادة التي توفرت لي. وستجد جزءا هاما من حياة بعض الأصدقاء الذين شاركونا الرحلة بكل منعطفاتها المرحة والمحزنة تتخلل هذه الزيارات، مضفية على مجرى الحكي إيقاعا خاصا، وذلك إيمانا مني بأن الحياة ليست هي ما عشناه فقط، ولكنها أيضا ما عاشه الآخرون، بطريقتهم الخاصة، وأسلوبهم الخاص، وظل بالنسبة إلينا مجرد حالات معزولة غير مترابطة، من دون أن نتمكن من الاهتداء إلى أن الحقيقة تكمن في الافتقار إلى ما يلحم الشظايا، ويجعلها تكوِّن الخميرة الأساسية للفهم.
إنني حرصت كثيرا على أن أحافظ على الأحداث كما هي، وغالبها معروف بالنسبة إليك، كما أن ما حدث منها في غيابك، كنت أخبرك به في حينه. أما التفاصيل الدقيقة التي تتعلق ببعض منها فهي نتاج محض لضرورة التخييل، وبعبارة أخرى، يمكن اعتبارها ترميما للغياب الذي يلف مخزون الذاكرة.
آه ! لقد نسيت شيئا مهما، وهو أن الأسماء الواردة في المسودة كلها حقيقيـة، إلا صاحبتك، فقد منحتها اسما متخيلا: نظيمة. وهو حسب علمي اسم لم يسبق لي سماعه البتة. أما لماذا اخترعته، وتعمدت ذلك؟ فليس لدي إجابة مقنعة. وقد تعتقد أن الأمر فيه نوع من الالتفاف، لكن صدقني ! إن ما قلته هو الحقيقة.
هناك قضية أخرى، لا بد أن أعرف وجهة نظرك بصددها، وتتعلق بمسألة العنوان. فلم يستقر اختياري عليه إلا بعد حيرة استغرقت مدة طويلة من التفكير. وقد كانت أمامي اختيارات ثلاثة هي: " الموت مرة أخرى "، و" النزول إلى الجحيم "، و " عصا البلياردو ". وضربت صفحا عن العنوان الأول، بالرغم من أهميته، لا لأنه لا يفي بالغرض، وإنما لأنه يشير إلى دلالة الرواية فقط، وقل الشيء نفسه بالنسبة إلى العنوان الثاني. لكن العنوان الثالث شكَّل، بالنسبة إلي سحرا لا يقاوم، لما يختزنه من قدرة على الربط بين الدلالة والشكل. ولمـَّا كنت تعلم جيدا موقفي الواضح من مسألة استمداد الأدبِ خاصيتَه من الشكل ستفهم جيدا تمسكي بهذا العنوان. فلعبة البلياردو تفترض تناوبا بين أكثر من لاعب؛ الشيء الذي يبرر تناوب السُّرَّاد في هذا النص على رواية حكاياتهم بالتناوب، ويبررأحيانا رواية سارد لحكايته من داخل حكاية سارد آخر. كما أن الأروع في لعبة البلياردو ينبثق من تلك الحركة التي تصدر عن العصا، وهي تضرب الكرة الأولى، فتنجم عنها حركات متتابعة للكريات الأخرى نتيجة الاصطدام الأول بالعصا، وكأن الأمر يتعلق بنشأة الكون الأولى، وهو الشيء نفسه الذي يحدث في النص؛ حيث يفضي انفجار حكاية ما، على لسان سارد معين، إلى انفجار حكاية أخرى على لسان سارد آخر. ولم يكن هذا الاختيار ليلغيَ الإشارة إلى دلالة الموت بوصفها ناظمة للسرد؛ فالكرة البيضاء في البلياردو تشير إليها، ما دام لونها يحيل على لون الموت الذي أتخيله أبيضَ كما لون الكفن. ولـمَّا كان النص لا يقبل إلا عنوانا واحدا تخليتُ عن عنوان رابع كان من المفروض أن يكون واردا بقوة إلى جانب العنوان الثالث، ألا وهو " السمفونية السوداء "؛ وذلك لأنني بنيت هذا النص على إيقاع السمفونية، على مستوى الترواح في الإيقاع بين الانخفاض والارتفاع؛ حيث ينعكس ذلك على تمرير المروي والموصوف أحيانا من خلال عواطف مشبوبة، وأحيانا أخرى من خلال موضوعية تكاد تكون باردة.
اسمح لي أن أخبرك بالمناسبة بأمر هام لا يتعلق بالنص الذي هو الآن بين يديك الشبيهتين بصناجتين، وإنما بحدث واقعي، وإن شئت بخبر حول شخص له مكانة خاصة في قلبك.. انقطعت أخباره عنك لمدة تفوق عشرين سنة. فخمن من هو إذن؟ بينما كنت أتطفل على عالم " توين سانتر"، وهو بالمناسبة برجان تجاريان ضخمان بنيا مؤخرا بالمعاريف، التقيتها بمحض الصدفة، أو بالأحرى هي من انتبهت إلى وجودي، وأنا أتقرى عينة من البشر من دون ملامح مميزة.. لأول وهلة لم أتعرفها.. الوجه مألوف لدي، ومع ذلك احتجت إلى يسير من الوقت لكي تكتمل صورة صاحبته عندي.. ولم تكن سوى نظيمة. وأتساءل الآن: ألم تبذل نفسها الجهد ذاته لكي تتعرفني، قبل أن تقرر المناداة علي باسمي؟ لا أعرف ما إذا كنتَ ستُصاب بالذهول في ما لو رأيتها، كما حدث معي أم لا؟ لقد كانت امرأةً أخرى غير نظيمة، تلك الفتاة فائقة الجمال والتي دوخت الكثير، وطوحت بمن يقترب من ملكوتها في سماوات الجنون والتيه.. كانت امرأةً منكسرة مهزومة يكاد الذبول يحيلها إلى مجرد شبح، فبالرغم من أناقتها الفائضة كان الرواء يخونها.. القوام الرشيق الممتليء حل محله جسد أمضه النحول.. والمحيا النابض بآيات الحسن البهي المشرق دوما بنور ملائكي، والمحفوف بهالة من الصفاء، اكتسحته التجاعيد، وعلاه الشحوب، وانحصر اتساع العينين اللوزيتين، واختفى منهما البريق.. لا أريد أن أفسد عليك الذكرى وإنما أريد أن أطلعك بذلك على أخبار من تحبهم وأحوالهم، كما لا يفوتني أن أنقل إليك تحياتها وتمنياتها لك بالتوفيق، فقد كانت مهتمة خلال الحديث القصير الذي دار بيننا باستطلاع أخبارك، وأعتقد أنها ما زالت تحفظ لك في داخلها بعضا من العشق القديم. فما الحب إلا للحبيب الأول.
بالنسبة إلى سعاد.. الأمر ميؤوس منه تماما.. مجرد جسد أما الروح فلا أحد يعلم أين تهيم.. أزورها باستمرار للتخفيف عنها، وتلبية حاجياتها الضرورية.. أما صلتها بالعالم فقد انقطعت إلى الأبد.. أحيانا تعتريها نوبات عصبية حادة تحيلها إلى كائن عدواني.. وأحيانا تتحول إلى كومة من الحياة فقط مركونة في زاوية ما لا تبالي بمن حولها.. كما أن حالتها هذه صارت تعديني، فما أن أعود من زيارتها حتى أجدني فريسة لأسئلة ممضة بعضها يأخذ بتلابيب البعض من دون القدرة على الإمساك بإجابة محددة. أكيد أنك تتطلع إلى أخبار نصفي الضائع أخي الأوحد في هذا العالم، والذي كان نتاج مكر الصدف.. لا شيء جديد في هذا الأمر.. ولم أشعر اتجاهه بالعاطفة نفسها التي كنت استشعرها أثناء غيابه.. لا يبدو لي أكثر من كونه إنسانا غريبا تفصلني عنه مسافات لا يمكن تذويبها.. لقد حاول أن يبرر ما هو عليه من حال بشتى الذرائع، وحاولت من جهتي أن أصطنع عدم الاهتمام، غير أن هوة ما تتسع بيننا، ولا أظن أنني قادر على سحبه إلى دنياي، ولا هو كذلك.. ولهذا لا أشغل الآن نفسي بالتفكير في الاقتراب منه أكثر مما يوجبه قدر أعمى نسج بني وبينه صلة الاشتراك في النسب نفسه.
حالتي الصحية لا تستدعي القلق.. تسوء أحيانا، وتتحسن أخرى.. نسبة السكر في الدم مستقرة، لكن الداء مع ذلك صار يتعبني كثيرا.. لم أعد أقوى على السهر ومصاحبة الليل في مباهجه السرية، وأعصابي لم تعد تقوى على التحمل، كما أن طاقتي على العمل وهنت وتقلصت.. غير أن ما يضنيني أكثر هو الحرمان من المتع التي أحبها، والإحساس الدائم بقلق الزوال، والرعب من الاحتمالات التي ستكون عليها النهاية..
دعك من حالتي الصحية.. فعلى الأقل أنا الآن على قيد الحياة، وحالتي لا تنذر بالسوء.. لي طلب عندك.. وضعي المالي مضطرب جدا، ولا داعي لأن أن أشرح لك الأسباب.. إذا كان ممكنا.. أرجو أن تبعث لي ببعض المال على سبيل السلفة، وسأرده حين يتيسر الحال..
ختاما أتمنى أن تقرأ المسودة بما عهدته فيك من عناية بالكتابة وشـؤونها.. وإن كانت لك بعض الملاحظات أو الاعتراضات، فسأكون ممتنا لك إذا تفضلت بالتعبير عنها كتابة، ومعذرة إن كنت ألزمتك بمشقة ربما كنت في غنى عنها..
صديقك المخلص
المعطي الرابحي
الزيارة الأولى
أكيد أنها ليست المرة الأولى التي أزور فيها بيت العم حسان، غير أنني وأنا أدلف الممر الضيق المفضي إلى زقاق الجيارنة أحسست وكأن المكان يفصح عن أسراره لأول مرة، ويبسط طويته ملغزا وواضحا كما لم يكن أبدا، مع العلم أنني أتيت إليه عصورا ناشدا عطر عتاقة ممهورة بخفايا ألفة غامضة.. لم يكن الوقت قد تجاوز العصر إلا قليلا، والضوء ينساب مائلا ليغطي الجزء الأعلى من الجدران القديمة مكسبا إياها نصاعة خزف صيني، أما الدور نصف الواطئة فقد كانت مغمورة تماما بظل زاده الطلاء الجيري شفافية، لا تحد من قوتها إلا كثافة الأبواب السميكة التي تشهد تخاريمها على عراقتها الممتدة في الزمن، من دون أن يعيبها قصرها، أو يذهب بسطوتها الآسرة..كانت أرضية الزقاق تشي بدورها، في صلابتها، بالعبق نفسه لمهارة ولت للأبد.. أحجار صماء مكعبة تسند بعضها متخذة هيئة دوائر تبدأ واسعة، ثم لا تلبث أن تضيق، لكي تتفرع مرة أخرى إلى دوائر أوسع تعقبها أخرى أقل حجما.. النوافذ تتوارى خـلف شبابيـك مـن الحديد.. البعض منها مشرع على نحو موارب يجعل داخل البيوت على صلة بما قد يطرأ على الزقاق أو يعبره.. الخطاطيف في حركتها المنسابة تمرق غير مبالية سيدةً على الفراغ بين أسلاك الكهرباء المرتخية نحو الأسفل مشكلةً منحنيات.. وأنا أمد الخطو متئدا صوب بيت العم حسان الرابض في الوسط جهة اليسار كانت تتناهى إلى سمعي أجهزة الراديو، منبعثة أصواتها من جهات عدة، فيختلط الغناء بنشرات الأخبار، وبزعيق الأطفال وهم يتبادلون التهم في ما بينهم في شأن خاص بهم لا أعلمه، وبدقات المهراس المجلجلة لامرأة عجوز افترشت لبدة خروف أمام بيتها غير عابئة بما يدور حولها، وعلى مبعدة منها قط يمطط جسده رافعا عجيزته نحو الأعلى، ودافعا أسفل صدره صوب الأرضية، ومادا قوائمه الأمامية ما وسعه الجهد.. وبالرغم من الألفة التي تكونت بيني وبين أهل الزقاق، فقد كنت أشعر وكأن نظرات الرجال المتحلقين حول لوح الضامة أمام البقال تتلصص علي، ولن يهدأ لهم بال حتى أتوارى خلف باب بيت العم حسان.
هززت اليد النحاسية ذات الرخاوة الأنثوية والملمس البارد بحنو مبالغ فيه، ثم تركتها تسقط بكل سمكها مرتجة فوق المستقر النحاسي المقعر لتستكين محدثة حشرجات خافتة.. أعدت المحاولة ثلاث مرات تفصلها بره من الصمت والترقب من دون أن أنظر إلى الخلف.. أطل العم حسان من النافذة العلوية ذات الألواح المطعمة بالزجاج العراقي بألوانه البهية.. أشار بيده أن أنتظر واختفى برهة قصيرة.. انفتح الباب، ودلفت إلى الفناء بعد أن تجاوزت العتبة ونزلت درجات ثلاث مبلطة بالغرانيت الأبيض الذي تتخلله بقع سوداء دقيقة.. ارتقيت الدرج الخشبي وراء العم حسان نحو الطابق العلوي.
أهلا يا ابني ! قال العم حسان.. كيف حالك؟
بخير.. وأنت يا عم !
كما ترى يا ولدي.. الصحة راحت، والبصر قل.. نحمده على كل حال.
والدواء.. تأخذه بانتظام !
تعبتُ.. يا الله.. ستر الختام.. هل نعيش عمرنا وعمر الآخرين؟!
اليأس لا يا عم ! ما زلنا في حاجة إليك.. في عز الشباب ما زلت.
أرجوك يا ولدي ! هون علي ! أنا لست لهذا الكلام.. لا تجعل إبليس يغريني
فأصدقك وأفعلها.
قالها العم حسان، وهو يتبسم. غير أني عقبت:
لم لا؟! أعرف واحدة في سنك.. أنا مستعد لمفاتحها في الأمر.
هل بعد الأم رقية تحلو الحياة؟! الله يرحمها !
الله يرحمها.. وقلت في دخيلة نفسي: امرأة لا تعوض.
طلب مني العم حسان ألا أبقى واقفا في الردهة، وأن أتفضل بالجلوس في الصالون، ثم انصرف قائلا بأنه سيعود بعد أن يهيئ الشاي.
البيت صار مجللا بالسكون، بعد أن كانت الأم رقية تفعمه بحيويتها التي لا تنضب، وتشيع في جنباته اللطف الناعم الممزوج برقة يصير معها الكون هبات وعطايا تفيض بالكرم، واحتفاء بالحياة لا ينتهي..لم تتحمل هلاك نبيل الولد الأصغر وهو في أعز سنوات التفتح.. ظلت تبكيه، لا تكف، بكل ما اختزنه القلب من مرارة وأسى، وكلما تناهت إلى سمعها نأمة مهما كانت خافتة تخايل لها عائدا من خرجاته ببسمته الفائضة حلما وتطلعا.. جفت العينان، لكنها لم تنقطع عن استدرار البقايا فيهما.. غارتا وانطفأ بريقهما، بعد أن كانتا تطوح بالرائي إليهما نحو وهاد الدفء والطمأنينة.. توالت الأيام في رتابتها والفؤاد المكلوم يرتوي من الذكرى، وكلما ألحت عليها الصور العديدة التي كانت تتخيلها لموته بين أقدام القساة انخرطت في مناجاة تستقطر ماء الصخر.. حاول العم حسان أن ينتشلها من انحدارها الفاجع، وحاول العبار ما لم يفلح فيه أبوه، لكنها كانت كما القشة التي يجرفها التيار نحو مهاوي التلاشي المعتمة، ثم حل الأوان، ومعه الفجيعة المدمرة، وماتت الميتة التي تليق بأم الشهيد محمولة على أكتاف الشوق إلى ابنها علها تؤنسه في وحشته، وتشاركه حكاية موته التي لم يروها أحد.. أتذكرها كما لم أتذكرها من قبل، وهي تعد لنا القهوة العاتقة كما تحب أن تسميها.. تمزج البن بخليط هي وحدها من يعلم تركيبته، لتضفي على الصبيب الأسود نكهة لا تتخطر.. كانت تصر على أن تصب القهوة بنفسها، ولا تنصرف إلى حالها وإلى شؤون البيت إلا بعد أن نشاطرها رغبتها التي لا تقاوم في المزاح، وبخاصة حين تلمح إلى العلاقة الخفية التي تجمع العبار بنظيمة، أوبصاحبة الرسائل كما تحب أن تسميها، فتقول متسائلة: هل يعمل أبوها في البريد يا ابني؟! من أين تتأتى لها كل تلك الطوابع البريدية؟! رسالة وراء رسالة.. ألا تتعب صاحبتك هذه من الكتابة؟! قل لها نيابة عن أمك: الراحة أمان للقلب وللغير، بيد أن العبار لا يغتاض منها، ويكتفي بمناوشتها قائلا: من أين لها بالراحة، وهي دائمة الشوق إليك؟! تضحك الأم رقية معقبة: قل لها عندنا من يكفينا شوقه.. وحتى لا يسرح بنا الخيال بعيدا تشير إلى ابنها العبار بما يفيد أنه المقصود، ثم تلتفت إلي متبسمة: وأنت ألا تتوصل برسائل أيضا؟! فكنت أرد مدركا تعقيبها مسبقا: يكفي أن يتوصل بها العبار وحده، حتى يجد من يشكو إليه أمره. لكنها تقول، وهي تضع يدها على خدها: الله ينجيك من الساكت إذا تكلم !
العبار أحب نظيمة، ولم يحب غيرها، حتى أن لا أحد يتذكره إلا واستحضـرها أيضا.. كانت كما لم تكن أية أنثى حلما لا زورديا مضرجا بالضوء والترانيم، ثم انطفأ من دون أن يكتمل، وعاش العبار على الذكرى تنهشه المرارة والحسرة. وظلت نظيمة، بالنسبة إليه، سديما من الرموز المتمنعة على العقل يلتقط التباسها الممهور بالمستحيل، ويلملم شبه اليقـين الـذي تشف به، ليتخذ من ذلك مبررا لتاريخه الآهل بضروب البروق الكاذبة، وليستسلم للنوم على عتبات الأسئلة الحارقة من دون أن يقوى على هجر أروقة الوهم.. وحتى إذا ما أعيته الذكرى يكتفي بتعزية النفس مختزلا وجوده في التأسي: إنها لغيري الآن.. وكثيرا ما فاتحه العم حسان في شأن الزواج، لكن من دون جدوى.
نظيمة، حين ظهرت في حياة العبار، لم تكن سوى طفلة تنضو عنها سنـوات الطراوة الساهية عن تمرات الجسد الغافية، وتستشعر إحساسا غامضا بالأنوثة يداهمها على حين غرة، وكأنها تصحو على كائن آخر داخلها.. قوام آت من أرخبيل الأيقونات، ومن خلجان آفلة بالسحر.. وجه مترقرق يزيده بهاءً بياضُ بشرة تشوبها حمرة الخفر عند الوجنتين الممتلئتين، وشعر فاحم قص بعناية، وينثني عند الصدغين منحدرا صوب العنق، ويهتز متموجا عند كل حركة.. وحين تنفرج الشفتان كرزيتا اللون ينخلع القلب من مكانه، وكأنه يهوي في قرارات سكون مليء بشموس حانية، أما صوتها فقد كان يترقرق رنينا رهيفا، فيلغي كل الأصوات، وكأنه رجع آت من ملكوت الخيال المضطرم بالأناشيد والتبتلات.. للوهلة الأولى التي رأى فيها العبار ذلك الكيان الدقيق يتلظى نزقا في ردهات الثانوية لم يتمالك نفسه، فصحا الوله من غفوته آخذا بكل الجوارح صوب منطقة التياع لاهبة، لتنمحي كل نساء العالم من أمام عينيه، ولتختزل نظيمة داخل روحه كل الأنوثة وخفايا الجمال، ويصير قُمَيْرًا منشدا إلى مدارها، يدور حول فيضان جاذبيتها كبقية الأقمار الأخرى.. يراقب خلسة تنقلاتها، ويتلصص على رغباتها، ويرتاد الأمكنة التي تتوقعُ حضورَها حريصا في ذلك على التقاط كل التفاصيل التي تخصها ليكوِّن منها صورة تستقر في مكامنه كالتحفة النادرة.. خلال السنوات الثلاث التي قضاها لصيقا بظلها في فضاءات التحصيل المترعة بالأشعار، والأمنيات، والحكايات الصغيرة كان يتابع حالات نضجها، وهي تستوي أمامه بالتدريج إلى أن صارت أنثى مكتملةً موهوبةً للحزن والفرح يتوهج في عيونها الشرود الملتبس بكل ما يخفيه خلفه من تباريح.. لم يكن العبار يترك فرصة تسنح له مهما كانت غير مواتية ألا ويبذل كل ما زودته به الغريزة من وسائل ليثير انتباهها إلى ما يكتمه داخله، ويحوله إلى مجرد إشارات، كأن يقدم مساعدته لها في بعض الأمور، أو يهديها كتابا، أو يطلعها على بعض الخواطر التي كان يخطها ظانا أنها نفحات شعرية، أو يبدي إعجابه بالألوان التي تختارها.. وهكذا بدأت نظيمة تنتبه إلى وجوده المتميز مقارنة ببقية زملاء الدراسة.. نبرة صوته الآهل بالشجى.. محياه المرشوش بسمرة خفيفة تكسبه مسحة شمسية، وسواد شعره المسترخي على مهل في التواءات ملتمعة، وحاجباه المعقودان وعيناه الناعستان الحالمتان اللتان تبعثان على خدر كما انبثاق الإصباح، والأنف الدقيق بما يحف به من أنفة، وإيغاله المستمر في حدائق الخيال المعلقة، والمزاج الحاد الذي تشوبه صرامة المحاربين القدامى.. والكتب التي لا تفارقه، يضمها إليه وكأنها فؤاده، وطريقته في الجدال؛ حيث تعبر الحجة مسارها مكتملة في هدوء صوفي.. الكلمات الحائمة التي تحافظ على نقاء الأشياء.. غمزاته الماكرة التي تلتف على مقالبه البريئة.. وأخيرا روحه الشاعـرة المتـرعة بالأحاسيس النبيلة.
كان العبار يتطلع إلى نظيمة مصغيا إلى نداء كيانها الرافل في نعومة اكتماله، وكانت هي تتطلع إليه ذائبة في هالة حضوره المتميز، لكن لا أحد منهما كان قادرا على تكسير الجدار الذي كان يستطيل بينهما ويتضخم.. يقربهما الشوق، وتبعدهما الرهبة.. كلما هوت الجسور الفاصلة بين توقعاتهما، احتد داخلهما الإحساس بالخوف الغامض على هيئة ارتعاش كاسح يبتديء بارتفاع الوجيب وسرعته، وينتهي باختناق الصوت وتقطع الكلمات. بيد أن هذا الجدار كان يضمحل غب العطل، التي يقبل معها زمن الغياب الماحق، فكانا يتركان للرسائل مهمة تحرير الكلمات من أسرها لتتضرج بالبوح الناضح بالرغبات الدفينة، فالتبس النأي بالحب.
كانت الأم رقية تعلم، كلما أقبل ساعي البريد، بحسها الذي كونته العادة، أن الرسالة التي تتسلمها تخص العبار، فتأخذها مغمورة بإحساس يتداخل فيه الابتهاج والقلق، وتحتفظ بها في مكان حصين لا يطاله الفضول إلى أن يأتي صاحب الشأن فتسلمها له، وهي تبتسـم ابتسامتها الماكرة التي تدل على أنها على دراية بما تتضمنه الرسالة.. الأم رقية صارت بدورها تعيش حالة الانتظار التي تستولي على ولدها خلال العطل، وتحيله إلى كائن يقتات على الترصد والترقب، وبخاصة حين تستطيل المدد قحطاء بين رسالة وأخرى. فقد أصبح ترقب دقات ساعي البريد هاجسا من هواجسها اليومية، لأنها كانت تعلم علم اليقين أن مزاج العبار لن يكون رائقا إلا إذا انتهت حالة الترقب بوصول رسالة ممن تعلقت نياط قلبه بها.. كانت لما تلتقط الرسالة يثيرها فضول خفي لمعرفة ما بداخلها من أسرار.. ولأنها لا تحسن القراءة كانت تكتفي فقط بتأمل رسم الكلمات النائمة فوق الظرف، وتجهد نفسها كي تتخيل من هيئة الخط المرصوص عالما بأكمله من التخاييل، تختلط فيها صور الحنو والعطف والخوف. وأحيانا كانت تسمح لأناملها، وهي تجس ملمس الرسالة، بمهمة دغدغة مشاعرها، لكن الخيال لا يلبث أن يزداد ضراوة، فيسرح بها بعيدا مخمنة صورة من أطاحت بقلب ابنها البكر عن صهوة الأنفة.. كيف هي؟ وجهها، لونـها، قوامها.. أرقيقة تفيض حنانا أم عصبية حادة المزاج والطبع؟ شعرها منسـاب أم جاف متكسر غير قابل للانتظام؟ عيناها واسعتان قرارهما كسماء عميقة اللون مضيئتان أم ضيقتان لا مباليتان من دون عمق؟ ويشتط الخيال بالأم رقية فتتصور صاحبة الرسائل زوجة للعبار ترعى شؤونه الكبيرة والصغيرة.. تهتم بلباسه، وضبط أوقاته، وتعتني بالأطفال الذين تحدد عددهم في ثلاثة: ولدان وبنت.. البنت ستشبهها لا محالة، تقول مع نفسها، أما الولدان فأحدهما نسخة من جده، والآخر شبيه بالعبار.. ثم لا تلبث أن تتخيل عكس ما تصورته، فتبدو الزوجة المنتظرة حرونا كما فرس برية، أنانية تحرص على زينتها فقط، وترعى الود لأهلها وزميلاتها، ولا تبالي بالعبار والمصاعب التي تعترضه في الحياة، وتثير الخصومات وراء الخصومات، ثم تتخيل ابنها مهمل اللباس، شهيته للطعام منعدمة، وأشياءه مبعثرة، لا يجد من يهيء له فنجان القهوة التي اعتاده عقب الأكل. وتتوه بها الصور العديدة التي تنسجها لصاحبة الرسائل، ولما يتعبها الخيال تستسلم لمهام البيت، وهي تعزي النفس قائلة بأن الأمر لن يعدو كونه مجرد نزوة من نزوات الشباب ستزول حتما مع النضج، أما المستقبل فعلمه عند الله.
عاد العم حسان، وجلس بتؤدة فوق السداري بعد أن وضع الصينية فوق المائدة، صب الشاي، وناولني فنجانا، مسح العرق عن جبينه بمنديل أخرجه من جيب القندورة الرمادية، ثم أخذ له رشفة من الشاي، مستلذا طعمه.. بدا حاجباه كثيفين تتدلى منهما شعيرات بيضاء معقوفة نحو الأسفل في اتجاه الأجفان الغائرة، والعينان صغيرتين بهما حمرة طفيفة عند الزوايا، والجبهة عريضةً متغضنةً من شدة التجاعيد، والأنف دقيقا وطويلا به نتوء طفيف في الأعلى.. اللحية مشذبةٌ ذات لون رمادي، وفوق الرأس الطربوش الوطني.. كان في جلسته شبيها بمحارب في لحظة استراحة ترين على محياه مسحة من الأسى، فيبدو شيخا وقورا مجربا عركته الحياة، وتركت بصماتها جلية على ملامحه الصارمة.. كنت ألوذ بالصمت تاركا له أمر اختيار الشروع في الكلام، لأنني أعلم جيدا طقوسه في الولوج إلى رحاب الدردشة.. لا ينخرط في الحديث إلا إذا كان مزاجه مهيئا لذلك، واستشعر في ضيفه استعدادا للإصغاء ومجاراته في استدراج الذاكرة.
كيف حال العمل؟ يا بني ! قال العم حسان.
لم يعد الحماس متوفرا يا عم ! الهمة فترت..
أنت يا ابني شاب، وفي كامل الفتوة، وتقول مثل هذا الكلام..
لقد عم اليأس الجميع.. التلاميذ لم تعد لهم الرغبة في التعلم.. الكل صار يفكر
في منجاته، ولا يجدها إلا في الجري وراء المال السهل..
مهما كان.. العمل نعمة وقلة الشغل تؤذي.. أسوأ لحظات العمر هي التي يجد
الإنسان نفسه فيها غير قادر على العمل، فيلازمه شعور بعدم الجدوى، وأَنَّ
الكل تخلى عنه، ولم يعد صالحا لأي شيء.. آه ! لو أتيحت لي مرة أخرى القدرة..!
لكن الإنسان من حقه أن ينعم بشيخوخته..
كيف يتيسر ذلك إذا كنت لا تأنس بغير ما تعودت عليه..
حاول أن تخرج !
يا ابني لم أعد أطيق الزحام والضجيج.. الناس تغير طبعهم.. لا يرتاحون إلا
إذا أخذوا بتلابيب يعضهم البعض..
مع ذلك.. حاول أن تخرج إلى الدنيا.. الحياة لم تنته يا عم!
كنت أتمنى لو عدت إلى قريتي.. المدينة أعطتني الكثير، لكنها أخـذت مني نفسي..
على الأقل، استطعت أن تعلم أبناءك..
أبنائي.. أين هم؟! لقد سرقتهم مني المدينة.. الصغير فتكت به، وصار مجرد قـبر.. كومة من التراب.. والآخر طردته ليكابد الغربة في بلاد النصارى..
المختار.. ألا يتصل بك؟!
بين الفينة والأخرى عبر الهاتف.. أليس من الأفضل له أن يعود إلى بلده؟!
أنت تعلم يا عم مدى تعلقه بوطنه، لكنه لم يكن له من حل آخر..
نعم.. نعم..
وعابد.. ألا يزورك؟!
نادرا.. الدنيا ألهت الجميع..
صمت العم حسان، ولم أرد أن أقلب عليه المواجع.. كان يقلب السبحـة بين يديه، وقد رفع بصره نحو صورة نبيل المعلقة وسط الجدار، مداريا لوعة تعتصر داخله، من دون أن يقدر على الإفصاح عنها، ثم استأنف الكلامَ فجأة كمن يتحدث إلى نفسه: كل ما بنيته من أجل أن يسند كبري انهد في لمحة بصر، وصرت شبيها بطائر أضاع سربه، فطل يراوح مكانه ضليلا.. الزمان كف عن أن يكون زمانا، لم يعد كما كان آفلا بعناقيد المسرات.. أمور عديدة تغيرت أو اختفت، والعائلة تفرقت بها السبل، كل انصرف إلى شؤونه الخاصة، وقلما ينوب الهاتف عنهم، رافعا عنهم مشقة الانتقال، وإذا ما عاتبتهم تعللوا بألف حجة.. الناس ابتلعتهم الزحمة، حتى الجيران تغيروا، أغلقوا عليهم الأبواب، وحل الارتياب بينهم محل المودة والمؤانسة.. حتى تجار أمس اختفوا، كانت الدكاكين باحاتها موهوبة للكلام وتبادل الأخبار والملح، أما اليوم فصارت منكفئة على نفسها، وزبائنها مجرد أشباح عابرة.. المختار كان بمثابة القشة التي أتمسك بها في خضم متلاطم، لكنه رحل إلى فرنسا بعد أن ضاقت به الدنيا، وتركني أواجه ألم الوحدة ولسعاتها.. لم أكن أتصور أن الدنيا هكذا تبدو مثل أرض معطاء آهلة بأسباب الحياة، ثم لا تلبث أن تتحول إلى صحراء مجدبة، وإلى يباب يخلف وراءه الحصرم.. ها أنت ترى يا ابني البيت الذي كان يعج بالحركة، ولا تكاد تجد لك فيه موضعا من جراء كثرة من كان يؤمه طلبا للألفة والمودة، صار اليوم فارغا، مكتظا بصور الأحبة الذين اختفوا تباعا، وكأنهم تواطؤوا على ذلك.. حين أستعيد الحياة كما عشتها هنا ينتابني إحساس بالفناء يخالطه الوهم وانطفاء اليقين، ورعونة حقيقة الحطام الذي صرته، أتيت إلى الدار البيضاء سنة 1934 من أعماق دكالة مهاجرا، وعمري لم يكن يتجاوز الثامنة عشرة، زادي حماس الفتوة وبضعة قروش.. نزحت إلى المدينة اضطرارا..لم يكن لي خيار آخر.. ماتت الوالدة، وتزوج أبي.. زوجته كانت متسلطة، والحياة معها تحت سقف واحد كان مستحيلا.. جئت إلى عالم لا أعرف فيه أحدا.. عالم مختلف تماما عن الحياة التي ألفت إيقاعها البسيط في زاوية سيدي أحمد بن رحال.. عالمٌ يحتاج العيشُ فيه إلى كثير من الدربة والصبر. وقد كانت الدار البيضاء وقتئذ ورشةً كبيرةً تستقطب الناس من كل الجهات على اختلاف لهجاتهم وأصولهم، ولا تضيق بأحد، وترغم الجميع على التعايش. ولا أحد كان يتخيل أن حفاوتها يمكن أن تنقلب فيما بعد إلى تيه، أو أنها ستنهبه في يوم ما روحه.. كانت، وأنا أطأها لأول مرة، مدينةً تتأسس مغايرة لما ألفناه، فقد كانت ترطن بكل اللهجات، وتتبدى نسيجا متداخلا من العادات والأزياء والأمكنة.. أسواقها تتسع ضاجة ببنداءات الباعة وغريب السلع.. أبنية متراصة، وشوارع أنيقة مبلطة بالأحجار الصماء، ومقاه تمد كراسيها على الأرصفة، تحت سقائف من القماش الثخين الملون.. والسيارات رغم قلتها كانت تشكل عصرئذ سحرا يتحرك فوق الأرض..كل شيء كان يوحي بتبدل آخذ في التعاظم، وكنا نعيشه مثل قدر بافتتان مشوب بالخوف.. النظارات على الأعين، والقبعات فوق الرؤوس.. الدراجات العالية وهي تسابق الريح، وساعات الجيب التي تفضح مكامنَها السلاسلُ المتدلية نحو خارج البدلات المسرحة بعناية فائقة.. البنطلون ذو الثنية إلى الخارج، والياقات الصغيرة تحفها أربطة العنق.. الشرطة بالزي الموحد الأنيق الذي يتوج فوق الرأس بالقبعات المستديرة والمرفوعة في اقتصاد تام نحو الأعلى.. الفيلات ذات الأسوار المشجرة، والميناء، والسفن الضخمة الجاثمة فوق الماء، والرافعات السامقة، وسكة القطار.. الغليون بين الشفاه ورائحة التبغ النفاذة، والنساء الوضيئات بيضاوات البشرة، والسيقان الرخامية الممتلئة، والفساتين المتألقة بألوانها، والحقائب المتدلية من سواعد بضة متأرجحة.. الجرائد، والكهرباء، وشرشرات الماء من الحنفيات النحاسية.. أشياء، وأشياء لم تكن عادية كما هو الحال اليوم، وتحتاج للتآلف معها إلى وقت ليس بالهين.. كان مجرد طلب فنجان قهوة يتطلب معرفة وجهدا.. لقد كانت الدار البيضاء بالنسبة إلي هي هذه الأشياء.. لما وصلت إليها أول مرة ملفوفا في الجلباب، وخطوت أول خطوة مبتعدا عن الحافلة التي أقلتني، أحسست بقلبي يرف، وعيناي تزوغان، وآمنت أن رحلة الضياع الأبدي قد بدأت من دون أن يكون قرار العودة ممكنا..كمن يشتري بروحه ثمنا زهيدا كنت.. اتجهت أول ما اتجهت إلى المدينة القديمة باحثا عن مكان آمن آوي إليه مؤقتا حتى أتدبر أمري، ولما أعياني التطواف وقلة ذات اليد قصدت مسجدا قيل لي بأنه قبلة الغرباء، قضيت به الليل من دون طعام لا يغمض لي جفن، أهوم في سماوات التيه والخوف.. بقيت لأيام معدودة أبحث عن العمل محتالا على النوم والقوت، إلى أن اشتغلت مساعدا في أعمال البناء لحساب مقاول فرنسي.. كنت أمد البنائين بقطع الآجر، وسطول العجين.. خشنت يداي وصارتا في صلابتهما المخرومة مثل الحجر، وغمق لون وجهي جراء لفح الهجير.. كنت أصعد بين هياكل الإسمنت وأنزل دون كلل.. لا أهدأ.. ألبي الأوامر، ولا أشكو.. يدركني التعب لكنني أداريه بالصبر. وحين يقبل الليل بصمته وهواجسه التجيء إلى ركن داخل الورش، وأفترش أكياس الإسمنت، واستسلم للنوم محتضنا كل الخيبات. وأحيانا كان يستحوذ علي الأرق، فتصير سكينة الليل معبرا إلى حنين يائس ممزوج برغبة في البكاء متعذرة، وتلوح في كثافة الظلام القرية بكل أمكنتها، فأتذكر فتيانها وهم يتحلقون حول كؤوس الشاي، يتسامرون أو يغنون على دقات الدفوف، وإيقاع الوتر، والسماء فوقهم مزهوة بقمرها، صافية وعميقة بنجومها المضيئة.
في أحد الأصباح والقيظ بلغ مبلغه، والحلوق جافة، والأبدان تتصبب عرقا لزجا أقبل المقاول الفرنسي على حين غرة مرتديا لباس العمل، وعلى رأسه خودة صفراء، وحول عنقه منديل سماوي اللون، فاعتراني الخوف لأنني كنت أراه لأول مرة، كان يتفقد الورش ركنا ركنا مبديا ملاحظاته وهو يزفر من شدة الحر.. مرَّ بالقرب من الموقع الذي كنت أتواجد فيه منهمكا في ليِّ القضبان، فتوقف متابعا حركاتي.. شعرت بالأرض تمور تحتي، لكنني قاومت متلافيا نظراته الحادة.. يداه فوق الوركين والساعدان مكشوفان مكتنزان، والبطن منتفخة مدفوعة إلى الأمام مائلة نحو الأسفل، والوجه دائري يكاد يتفجر دما، والعرق يتسايل قطرات متلاحقة من منابت الشعر نحو الوجنتين المحمرتين، والأنف منتفخ ومدبب، أرنبتاه واسعتان تحتلان مقدمة الوجه.. ظل واقفا برهة من الزمن، نظراته تكاد لا تحيد عن جهتي، ورئيس العمال يقف إلى جانبه صامتا، ثم أشار إشارة فهمت منها أنه يطلب مني أن أتوقف عن العمل لأمر لا أعلمه، ففعلت وأسرعت إليه.
ـ ما اسمك؟ قال الفرنسي.
ـ حسان بن العربي العبار..
ـ طيب.. أريدك في عمل آخر بفضالة.
ـ كان بودي موسيو، لكنني لا أملك سكنا.. على الأقل هنا أنام في
الورش..
ـ ليست مشكلة.. هذا أمر يمكن تدبره.. غدا في الصباح سأمر عليك،
وآخذك معي..
ـ إذا سمحت موسيو، أنا لا أعرف عملا آخر.. حتى حرفة البناء لا أتقنها..
أنا هنا مجرد مساعد..
ـ لي مخزن هناك.. وأحتاج إلى حارس متيقظ، لا تطرف له عين..
ـ موافق..
ـ إذن استعد للأمر..
جاء موسيو توليو في الغد، وأخذني معه في سيارته. وقد كانت المرة الأولى التي أركب فيها سيارة..كنت مشدوها أتملى حافة القيادة ولوحها الخشبي المصقول، وما ثبت عليه من ملحقات، وبين الفينة والأخرى كنت أمد بصري نحو الطريق التي كانت تتلوى كحية رقطاء، حيث تتوالى بقع ضوء الشمس والظلال التي تنشرها أشجار الكالبتوس الكثيفة التي تحف بالطريق كأهداب.. مرت لحظات طويلة من الصمت قبل أن يسألني توليو عن عمري والمنطقة التي أنحدر منها، وقال بأنه يحب المغرب، ويستعذب طعم الطجين والكسكس، ثم قال بأنه لا يفهم أبدا لماذا يتشبث المغربي بالعيش داخل مجموعته التي تنتمي إلى قبيلة أو جهة محددة، ولا يخلص إلا لها؟! كنت أجيبه باقتضاب وحيطة، فكونه أول أجنبي يمد لي خيوط الألفة جعلني أضعـه في زاويـة الغموض القصوى. وربما لاحظ الحذر في استجابتي إلى أسئلته، أو خيل إلي ذلك، فحاول أن يشعرني بالاطمئنان..أخرج سيجارة وقدمها لي، فاعتذرت قائلا بأني لا أدخن. فقال بأن ذلك أحسن، لأن التدخين عادة سيئة يصعب الإقلاع عنها، ثم لاذ بالصمت برهة من الزمن قبل أن يبدأ في رواية حكاية رجل اشتغل معه اسمه الجيلالي: " اسمع mon garçon في العام المنصـرم كنـت أغالب الزمن لأنهي بناء بمدينة فضالة، حتى أسلمه في الوقت المتفق عليه، فكنت أشرف على الأشغال يوميا، وكان أن صادف العمل شهر رمضان، وبطبيعة الحال كنت أعرف مدى المشقة التي يتحملها الإنسان الصائم وهو يؤدي عملا متعبا كالبناء، لكنني أحسست أن الأمر تعدى الرفق بالنفس إلى التهاون. فالشغل شغل.. جمعت البنائين ومساعديهم، وقلت لهم: إنكم تعرفون أن الصيام يؤثر على مردودية عملكم، وأنا مطالب بتسليم البناء في أقرب وقت ممكن، لذلك من أراد أن يفطر أيام رمضان حتى يعمل جيدا، فليبق معي، ومن لم تطاوعه نفسه، أعطيه حسابه، وليذهب إلى حال سبيله، فأرض الله واسعة. طلبوا مني هنيهة للتفكير في الأمر، فاستجبت.. اختلوا إلى أنفسهم بعيدا عني، ليتبادلوا الرأي في ما بينهم، ولما عادوا، كانت إجابتهم واحدا بعد الآخر تجمع على قبول الاقتراح، إلا شابا في مثل سنك ذو قامة فارعة، ومنكبين عريضين، وملامح دقيقة، وعيناه متقدتان يشع منهما بريق خاطف.. تقدم مني بخطوات واثقة، وهو يثبت بصره في عيني، ثم قال باعتزاز: حسابي الآن..الرزق على الله. فقلت له: فكر جيدا ولا تكن متسرعا، سأضاعف الأجرة، لكنه لم يمهلني لحظة واحدة لأتمم الكلام، رفع يده يحركها من اليمين نحو اليسار وهو يردد حاسما الأمر: لا.. لا.. حتى لو كانت كنوز الأرض جمعاء أمامي.. الله يسهل.. انتهينا من الأمر موسيو توليو، طريقي مختلفة، ووحدي أعرف كيف أعبرها.. لست ضد أحد، ولا مع أحـد، ولكن أريد أن أكسب نفسي، وأن أكون معها وحدي.. نفسي هي الطريق.. أنا سليل المال الضائع، لأن النفس كانت سائبة، فكان المال سائبا، ولذلك سرق عمي مال أبي، وأشقى الآن لأنني نتاج مال سائب لم يحرسه صاحبه. هل تفهم موسيو توليو ما أقول.. لا أريد أن أشبه عمي ولا أبي.. أريد أن أشبه إرادتي أنا وحدي.. أفهمت موسيو توليو؟ أرجوك حسابي.. سأذهب حالا. فقلت للجيلالي: هدئ من روعك.. أنت الذي ستبقى، والآخرون هم من سيأخذ حسابه الآن، وينصرف لحاله. من يخون ربه يخون غيره..".
التفت موسيو توليو نحوي قائلا: هل فهمت قصدي مما رويته لك يا حسان؟! فعقب وهو يمسح العرق عن جبينه، من دون أن ينتظر الإجابة: حين رأيتك منكبا في عملك، رأيت فيك عزم الجيلالي لذلك اخترتك من دون الجميع للقيام بهذا العمل.. فراستي لا تخطيء أبدا.. كان يهمني أن تتعرف على الجيلالي، وأن تشكل معه ركيزة أعتمد عليها، ولكن الأشياء الرائعة لا تكتمل دوما. أخرج سيجارة ثانية وأشعلها، ثم عاد إلى حكاية الجيلالي مرة أخرى: " لقد رحل عن مدينة فضالة، ولم يعد.. لست أدري أين هو الآن.. النساء يفسدن الحياة دائما.. جاء الجيلالي في أحد الأصباح إلى الفيلا التي أقطنها، وطلب أن أستمع إليه، من دون إساءة الظن، ثم قال خفيض الصوت بأنه سيغادر العمل لأنه يحبني، فقلت له: إذا كنت بالفعل تحبني، فلا تتركني، لا يمكنني أن أستغني عنك.. أنت بمثابة ابني.. لم أنجب حقا، ولكنني أعرف البنوة، وأهتدي إليها في الأصناف النادرة مثلك. لكنه رفض البقاء.. ارتمى علي، وعانقني، وهو يقول مختنق الصوت: زوجتك أفسدت كل شيء.. أفسدت ما بيننا موسيو توليو.. لن تتركني وشأني، وأنا أحبك، ولا أريد أن أسبب لك الألم. ثم انصرف وهو يعدو نحو الخارج، دون أن يلتفت، ففقدته إلى الأبد.. عرفت زوجتي فرانسواز الجيلالي حين أتى إلى الفيلا ليصلح بعض الأشياء.. ما أن رأته حتى زاغت عيناها، وفقدت السيطرة على جوارحها.. أردت أن أرشده إلى الأماكن التي يجب أن يهتم بها، فأومأت لي بأن لا داعي لذلك، وبأنها ستتكفل بالأمر، متذرعة بأني في غنى عن إضاعة الوقت، فانصرفت مكرها، وأنا مغتاض من تصرفها الأرعن.. أكمل الجيلالي الإصلاحات بالدقة المعهودة فيه، غير أن فرانسواز قالت بأنها تريد إدخال تغييرات على الصالون المواجه للحديقة، فالواجهة الزجاجية ضيقة، وتحتاج إلى هدم الجدار قصد توسيعها مع بناء سقيفة يغطيها القرميد، وتحويل الأرضية المقابلة لها إلى مصطبة.ولذلك فهي مضطرة إلى الإبقاء على الجيلالي حتى يعد الواجهة كما تريدها، وبعد ذلك يتدخل الزجاج لتثبيت الهيكل الزجاجي. وفهمت أن المدام تفتعل الأمر من أجل الاحتفاظ بالجيلالي مدة أطول.. لم أمانع، لأنني أعلم أن فرانسواز إذا صممت على شيء فلابد من أن تفعله مهما كانت العواقب.. أقنعت الجيلالي بإنجاز ما طلبته، فلم يتردد، بيد أنني بدأت أشعر يوما بعد آخر بتعكر مزاجه.. وفي اليوم الرابع طلب مني أن أمده بمساعد ليعينه، وفهمت الرسالة للتو، فوفرت له ما أراد على وجه السرعة.. أنهى الجيلالي كل ما طلب منه والتحق بعمله، لكن المدام لم تكف عن مطاردته، فصارت تتردد على ورش البناء باستمرار.. تدخلت محاولا وضع حد لجنونها.. هددتها مرارا.. تخاصمنا وتعاركنا. وبما أنها كانت قريبة لأحد الضباط النافذين، كانت تصر على حماقاتها مستهترة بكل شيء.. اتصل بي أحد العمال ممن كانوا يكيدون للجيلالي قصد الإيقاع به، وأخبرني أن الجيلالي يتصرف مع فرانسواز، حين تتفقد الورش، بطريقة غير لائقة، وأن أكون حذرا، وألا أثق فيه، فهو شديد الكراهية للفرنسيين. فقلت له مؤنبا: مهمتك هنا هي العمل، لا صلة لك لا بالمدام ولا الجيلالي. فاعتذر وانصرف مطأطأ الرأس وهو يردد: كما تحب موسيو.. كما تحب. الجميع كانوا يعلمون معدن الجيلالي، لكن الفرصة كانت مواتية لهم كي ينهشوا لحمه، غير أن الحقيقة لم يكونوا على بينة من الأمر، كنت وحدي على علم به، وأكتوي بناره.. لم أحقد أبدا على الجيلالي لأنه هز كيان فرانسواز، وأفقدها رشدها، بل زدت اعتزازا به، لأنه صان الود، ولم يخن أبدا اليد التي امتدت إليه بحبل متين من الثقة. وكبر في عيني لما جاء طالبا مني إعفاءه من العمل.. لم أرد أن يذهب.. أصررت على بقائه لأن مثله لا يعوض، لكنه ذهب ولم يعد.. كان ومضة قصيرة في حياتي، ثم صار هباء.. مجرد هباء كالأشياء الجميلة، عمرها قصير، ما أن تحاول الإمساك بسر جاذبيتها بغية تأبيدها حتى تضمحل وتتلاشى، وتترك في الحلق غصة، وفي القلب نذوبا لا تلتئم ".
أمسك موسيو توليو عن الكلام.. التفت نحوه أستطلع صمته الممزع، لكنه وفر علي مشقة اندهاشي وحيرتي, وقال وعيناه تنمان عن بكاء دفين محبوس: ربما كانت رغبتي في استعادة الجيلالي، ولو وهما، وراء انجذابي نحوك، إنك تشبهه في كل شيء، لو كان له توأم لقلت أنت هو. فقلت: أتمنى أن أكون في مستوى الثقة التي وضعتها فيَّ، وأرجو ألا يخيب ظنك.. فتبسم ثم قال في ما يشبه الهمس: أتمنى...
فاجأتنا مدينة فضالة تفرد فتنتها.. كانت مجمعا صغيرا من الدور والفيلات، لا أثر للبنايات السامقة بها، بسيطة كحورية تربض عند شاطيء رملي يحفه دغل كثيف، ويمتد على جوانبه منبطحا نبات ظفر السبع على هيئة أصابع مثلثة خضراء، بينما كانت غابة الكالبتوس تستلقي في استلام وديع مجاورة الكثبان الرملية التي تفصلها فراغات يستوطنها نبات شوكي، اخضراره يميل نحو البياض.. وصلنا إلى المخزن.. كان بناء واطئا له باب حديدي عريض.. تفحصنا سوية السلع، وكان موسيو توليو يكرر أسماءها حتى تختزنها ذاكرتي، بعد ذلك أشار إلى غرفة عند المدخل، وقال بأنها المكان المخصص لإقامتي.. سلمني المفاتيح بعد أن أوضح لي الطريقة التي أسلم بها البضائع للعمال، ثم ودعني راجيا لي التوفيق، لأبقى وحيدا في مواجهة تجربة جديدة لا أدري ما سوف تتمخض عنه.. بت ليلتي الأولى في الغرفة المنزوية عند المدخل.. كانت تتكون من سرير ودولاب صغير أشبه بصندوق، فوقه مرآة صغيرة، وكوب معدني واسع أبيض، حافته بنية.. الجدران كانت صفراء باهتة، وفي أعلى الجدار المواجه للشارع كوة صغيرة غير مغطاة.. هجرني النوم، واستولت عليّ الهواجس، فكنت أتقلب فوق الفراش متوجسا مستفزا كل حواسي.. هدير البحر يصلني فيزيد الليل وحشة. لكن ما كان يلح على ذهني أكثر هو صورة ذلك الرجل الذي روى حكايته توليو.. أهو حقيقة أم خيال؟ فقلت في نفسي ربما اختلق الفرنسي الحكاية برمتها ليرسم لي المساحة التي يجب أن أتحرك داخلها، وقد يكون أراد أن يقول ضد ما رواه. ثم لا ألبث أن أمحو كل هذه الريب بمجرد ما أن استحضر الغصة التي كانت تتقطر من حلقه، وهو يتحدث عن الجيلالي، فتصير الحكاية جِدّا في جِدّ.. أيًُّ كائن هذا إذن؟! شاب يتفجر فتوة وجد نفسه عرضة للغواية التي لا تقاوم، فأعرض عنها. وقال لها بيني وبينك وهاد وبحار ومفازات.. أهي الرهبة حين تمسك برقبة من يقف على حافة المجهول فيفرّ مقهورا باحثا عن شط الأمان، أم هو الشموخ المصفى لداخل طهور لم يعكره دنس الحياة؟!
كان العم حسان يوغل في لفح صورة الحكاية التي رواها الفرنـسي محاولا أن يشركني في فهمها، بينما كان ابنه العبار و نظيمة يلحان، في الآن نفسه، على ذاكرتي أن أفرد لهما حيزا في طقس الاستماع إلى ماضي رجل ولده الشغف بالزمن الملتبس.. لما صارت نظيمة مباحة للحب المتسايل كتمانا، ومتأرجحة داخل متاهاته التي لا تنتهي، يدوخها الغياب ويحولها إلى كائن معلق من شغافه، فتحت للعبار بيتهم مشرعا، وأرغمت أهلها على تقبل ألفة غير مقيدة لحضور غير متوقع.. كان يتردد في الذهاب إليها، بيد أنه كان يذهب سالكا دروب القلق والانتشاء.. يدق الباب متوجسا، فتخف إليه نظيمة نزقة غير مبالية بالعيون التي تتابع حركتها في البيت مشفقة على قلبها الصغير من التهشم إلى شظايا.. كانت تعيش أصباح الآحاد على انتظار مجيئه، وحواسها كلها منصرفة إلى الباب الخارجي متوقعة دقاته الخجولة.. تلك الدقات التي تميزها عن غيرها ولا تخطئها.. يأتي العبار فتجلسه في الصالون، وتجلس في الجهة المقابلة له، تاركة أنوثتها تسترخي، ليفيض من عينيها اللوزيتين ما يشبه الحنو المشبع بالتطلع والرغبة المتوترة التي تضل طريقها، والعبار ينقل نظراته الخاطفة بين الوجه البيضوي الذي تترقرق فوق وجنتيه ومضاتُ الخفر وبين أرجاء المكان، لكن الروح كانت ترفرف خارج الوجود الملموس لجسديهما.. تعددت الزيارات وتعددت معها المعابر إلى الحلم من دون أن ينعما برشيش الخدر الدفين.. الكلمات وحدها كانت تمد جسور العشق بينهما، تاركة لجلجلة القلب أن تفصح عن نفسها.
ترك العبار البلاد ورحل إلى أوربا قصد استكمال دراسته.. ودَّع الجميعَ، لكنه خصَّ نظيمة وحدها بالوداع الذي يليق بها.. كانت المرة الأولى التي تركا فيها للدموع معبرا إلى الخارج.. شد العبار على يدها وقال لها: ستظلين على الدوام نقطة البدء والمنتهى. وقالت هي: أشعر بالخوف والضياع. ثم عقب عليها: ستكونين هناك العلة المحركة للوجود، صورة للرغبة، وشكلا مدهشا للإحساس بالعودة. ووعدها بالكتابة غير المنقطعة.. ولأول مرة، ومن دون أن يفكر، ضمها إليه، فتركت جسدها المضرج بفاكهة الشوق هبةً لارتجاج يديه وانسكابِ ساعديه خلف كتفيها، ودَعَتْ رأسها بخصلاته المتهدلة يتهاوى فوق أعلى صدره، والنشيج يغالب رقة صوتها، ثم افترقا.. لوحت له من بعيد وهي تنصرف بيد متعبة.. لوح لها بدوره، وتركا لوجهتي الطريق المتعاكستين مهمة إسدال ستر الغياب بكل احتمالاته.
مرت شهور على رحيل العبار لم أر فيها نظيمة. لكن أخبارها كانت تتناهى إليّ، وأنا في الرباط. وقد علمت أن صحتها ليست على ما يرام، وأنها تلعن العبار جهرا من دون أن أعرف كلَّ التفاصيل.. كتب العبار إليّ يسأل عن أحوال نظيمة، وقال بأن أخبارها انقطعت عنه، وأنه كتب إليها رسائل عديدة من دون أن يتلق الإجابة.. لم أرد أن أخبره بما علمت حتى لا أفسد عليه حياته هناك.. كنت أكتفي خلال الرد على رسائله متعللا بكوني لا أنزل إلى الدار البيضاء إلا لماما، وبأن انشغالي بالحياة الجامعية لم يترك لي وقتا لزيارة الأصدقاء.
التقيت سعاد صدفة خلال الصيف، وهي تتأهب لأخذ الحافلـة، أمسـكت بمعصمها.. لم تصدق الأمر.. احتضنتني بلهفة آبهة باستغراب المارة وفضولهم.. تبادلنا الكلام المعتاد حول الصحة والأحوال والغياب.. اقترحت عليها أن ننزل إلى الشاطيء فاستجابت طيعة.. لذنا بمقهى على الكورنيش هربا من شدة الحرارة.. طلبت سعاد المرطبات، وطلبت فنجان قهوة.. لامتني مرة أخرى على الغياب، فتعللت بالدراسة والتكيف مع عالم الجامعة. وقالت بأنها تقدمت إلى مدرسة المعلمات حتى تستقل بنفسها، وحين لاحظت عدم حماسي شرعت في استعادة الزمن الجميل حين كان يرخى العنان للرغبات كي تنقلنا إلى عوالم مغمورة بفيض من الفتنة؛ حيث اللذة وحدها تنسج الحقيقة، وتلون خيوطها، وتبعثر الحدود الفاصلة بين الواقع والطبقات السميكة الراقدة تحت سطوحه الخشنة.. كنت أشعر، وهي تَدَعُ الزمنَ القديم يتكلم حرا، بعطب داخلي حاد يحول دون تدفق الحيوية التي كنت استشعرها على الدوام في حضرة سعاد الصبية المتحررة والمتسامحة.. وبغتة وجدتني أسألها غير متعمد عن نظيمة.. امتعضت، لكنها حاولت أن تتغاضى، وأخبرتني بأن زميلتها أصيبت بانهيار عصبي، لم تخرج منه سالمة إلا بمشقة بالغة والسبب هو العبار. فقد بلغ نظيمة أنه غير جلده، وصار يتعاطى إلى الخمرة، وأنه يقيم علاقة مع امرأة فرنسية، ويعيش على حسابها، ولا يكاد يغادر شقتها..كانت سعاد تحكي بطريقة تجمع بين المبالغة والتلميح، وكأن لسان حالها يقول بأن سبب عدم اهتمامي بها هو المرأة الأخرى التي تخلقها كل امرأة من ذاتها حين تحب الرجل.. ناديت على النادل، وأديت الثمن، وودعت سعاد متمنيا لها حظا طيبا في مدرسة المعلمات.
كان العم حسان مسترسلا في حكايته حول موسيو توليو، وما لاقاه من متاعب من جراء اشتغاله حارسا للمخزن، وكيف انخرطت مدام فرانسواز في عالم الجنون المدمر، الشيء الذي أرغم موسيو توليو على بيع أملاكه والعودة إلى فرنسا، وكيف اضطر هو إلى الرجوع إلى الدر البيضاء ليبدأ تجربة أخرى.. قاطعته متسائلا:
ـ يبدو أنك يا عم كنت تحب موسيو توليو بالرغم من أنه كان مستوطنا..!
ـ الفرنسيون لم يكونوا كلهم سيئين..
ـ ولكنهم كانوا يستحوذون على خيرات البلاد..
ـ صحيح.. غير أن فئة منهم كانت تعلم أن الاستعمار حالة مؤقتة، وكانوا
يحرصون على أن تكون علاقتهم بالمغاربة جيدة..
ـ إذن.. موسيو توليو واحد من هؤلاء.
ـ تصور!.. إنه كان يريد أن يصحبني معه إلى فرنسا، لكنني لم أكن قادرا على
فراق الوطن..
ـ المختار ذهب بدلا منك.. قلت مازحا.
ـ أخشى أن يعاني هناك من المشاكل.. ولدي وأعرفه.. السياسة هي عقله.. إنه
لا يتعظ أبدا.
ـ لكنك يا عم مارست السياسة أيضا.. فكيف تعيب على المختار أن يمارسها..
ـ لا أنكر ذلك..
ـ إذن.. أين المشكل؟!
ـ اسمع يا ابني! لقد كنت مقاوما، واصطليت بنار السياسة قبلكم.. لكن للتجربة
منطقها.. حين يُسْرَق النضالُ ويُنْسَب لغير أهله، ويُقْتَل ابنُك، لكي بقطـف
الانتفاعيون الثمار، تكتشف أنك كنت مخدوعا.. يكفيني أن أضعت واحـدا،
ولا أريد أن أفقد الثاني..
ـ لكن الحزب الذي ينتمي إليه المختار وجيله، ليس كبقية الأحزاب، لقد ظـل
وفيا إلى حد ما للقضايا التي بدافع عنها.. صحيح أن الأمور في الآونة الأخيرة
تبعث على القلق، لكن المناضلين المخلصين يعتبرون ذلك ظرفا طارئا..
ـ اسمع يا بني ! صحيح أنني لست متعلما مثلكم، لكن التجربة زودتني برصيد من
الفهم.. الدابة حين تجوع تأكل البردعة التي فوق ظهرها.. وهذا ما يحـدث..
الناس صارت تبحث عن الفرص وكل همها هو الخشية من أن تضيع منـها..
ـ أنا لست مختلفا معك.. تاريخ الحزب يتعرض اليوم للنهب، لأن الباب تـرك
مفتوحا أمام من سميتهم بالانتفاعيين، لكن الانزواء لا يعتبر حلا..
ـ أرجوك..يا ابني ! المختارُ عرف الحزبَ لأنني ربيته على ذلك.. وأنا عــلى
دراية تامة بكل محطاته.. الانتخابات أفسدت الكـثير من المناضلـين.. قـد
يعطونك تبريرات لسقطاتهم، ولكن لا أحد يشك في أنهم صاروا يشكلون قوة
ضغط تقف بالمرصاد لكل النوايا الحسنة..
ـ ربما ما حدث كان تجربة لابد من المرور منها..
ـ لست أدري.. إذا سمحت يا ابني.. أريد الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة
المغرب..
ـ لك ذلك يا عم.. لقد حان وقت انصرافي.. أزورك في فرصة أخرى..
ـ شكرا.. أصلحك الله يا ولدي !
أراد العم حسان أن يصحبني إلى الباب، فقلت: لا داعي إلى ذلك.. إنني أعرف الطريق.. غادرت المكان، وأنا أفكر في هذا الرجل وما يختزنه من محن ورزايا.. لم يجلس على مقاعد الدرس مثلنا، ولم يشحن ذهنه بالنظريات، والمذاهب، وعظات التاريخ، وتفاصيل الجغرافيا، ومع ذلك يستمتع بذهن متقد وقدرة على قول الأشياء كما هي بوضوح عار من دون لف ولا دوران.. رجل لم يعش زمانه متفرجا في حالة انتظار معلَّق، بل عاشه فاعلا ومتأثرا بالأحداث الكبرى لتاريخ بلاده، من دون أن يطلب ثمنا مقابل تضحياته.. يجالس الأمي والمثقف.. يسمع ويلتقط ويختزن.. يتتبع الوقائع وينخرط في صلب خرائطها المكتملة منها والناقصة، وحين تلتبس عليه الأشياء لا يكف عن السؤال حتى تستقيم الرؤية عنده.. كان مؤمنا حد الهوس بالغد المشرق إلى أن صار اليأس حالة عامة تفترس النفوس، وتتركها مجرد رماد تشفطه رياح النسيان القاتل، فآثر الانسحاب إلى عالمه الداخلي، وزاده مصرع نبيل إحساسا بالهزيمة أمام قوة جارفة لا شكل لها.. لم يعد يأبه بالحاضر الذي تحول بالنسبة إليه إلى لحظة مفعمة بسراب مستديم، واستعاض عن كل ذلك بالسكن في زمن موغل في القدم.. يحكي ويحكي، لا يكل، بنوع من الحسرة الممزوجة بالحنين، ويعيد الحكاية الواحدة ألف مرة، وكأن الزمن توقف عند نقطة بدء أولى لا ثانية لها.. له عذره وأسبابه، ولا أحد له الحق في أن يسلب غيرَه الاحتمالات التي يبني وفقها معايير استشفاف المعنى من الحياة والعالم.. العم حسان نعرفه جميعا.. كان رجل مقاومة ومباديء، يفتح لنا بابه واسعا، ونحن ما زلنا في أول الخطو نتهجى أبجدية الواقع، وقد كان يدرك بكل تأكيد أننا جيل مختلف ثائر ومتمرد على كل الأنصاب المجوفة، وبعضنا ينتمي إلى تيارات مخالفة لانتمائه السياسي، ومع ذلك لم يخاصم لغتنا، أو يعادي تدفق الذوي الهادر الذي كان يدمدم داخلنا.. لكن ما أثار دهشتنا هو موقفه المفاجيء من الحزب الذي كان يعتبره بيتا له.. فقد رأى ما أساءه.. الخلافات تسوى بالعنف والعنف المضاد.. تحصين المواقع بشتى الأساليب.. البحث عن الزعامات الوهمية.. الصراع حول الكراسي.. فقال أمام الملإ دون تردد، وهو الرجل الأمِّيُّ الآتي من أعماق البادية: إنها بداية الشتات، والشتات يعمي، يحلل دم الأخ قبل دم الأعداء.. أعفوني من مشهد يكون فيه طرفان، أحدهما خاسر والآخر كاسب يلوي ضلوعه على ضيم كظيم.. لا أريد أن أشهد معكم نهاية الحلم المفزعة.. أتمنى لكم التوفيق.
الزيارة الثانية
أقبلت عاشوراء، ولأنني أعلم أن العم حسان يبتهج بالمناسبات والأعياد، ويحولها إلى أزمان مضمخة بالانتشاء، وشجو الروح، قررت قضاء المساء معه لئلا يخلو إلى الصور المعلقة في الصالون، فلا يشعر بطعم ليلة ألف عبقها المضرج بالحنين إلى الصبا السحيق.. اشتريت كل ما يلزم وتوجهت قاصدا بيته.. طرقت الباب وارتجت اليد النحاسية متعبة، لكن النافذة العلوية لم تفتح، ولم يطل العم حسان كعادته بوجهه المتهلل، طرقت مرة أخرى بقوة، فسمعت صوتا أنثويا، ثم فتح الباب عن طفلة ذات وجه صبوح:
ـ من تريد؟ قالت وهي تتفرس ملامحي..
ـ العم حسان..
ـ ….
ـ الرجل الذي يسكن هنا..
ـ ….
أسرعت الطفلة نحو الداخل.. بقيت مشدوها، هل أخطأت الدار؟ سألت نفسي.. لا يمكن.. تراجعت إلى الخلف لأتفحص المكان.. البيت هو البيت.. ما الذي حدث إذن؟ فجأة سمعت صوت امرأة يأتي من الردهة: ابتسام.. من بالباب؟ الصوت مألوف لدي، لكني لم أتبين حقيقته، أو لم يتح لي من الوقت ما يسمح لي بذلك؛ إذ ما لبثت أن ظهرت المرأة.. كانت ملامحها لا تبين بفعل العتمة التي تخيم على الداخل. ولم يكد الضوء يغمرها حتى استولت علي الدهشة، وأحسست بالدوار يلف رأسي، أمَّا المرأة ففغرت فمها محملقة كما لو أنها صعقت، والطفـلة ممسكة بتلابيبها غير مدركة ما يحدث أمامها:
ـ سعاد.. غير ممكن..
ـ المعطي.. أوه.. تفضل!
ـإنني.. إنني.. أسأل عن العم حسان.. ألا يوجد بالبيت؟!
ـ تفضل أولا.. العم حسان مسافر..
ـ ولكن…
ـ يمكن أن نتحدث في الداخل…
دلفت إلى داخل الردهة، ووقفت حائرا، أنتظر من سعاد إشارة تنير لي السبيل إلى المكان الذي يدخل في نطاق تصرفها، فالدار التي خبرت أمكنتها، وألفـت التعامـل معها من دون استئذان أو مشقة، شعرت لأول مرة وكأنها تفرض علي طقوس الاستضافة.. لاحظت سعاد ارتباكي.. تبسمت وهي ترشدني إلى الطابق السفلي الذي لم يفتح بعدَ رحيل الأم رقية.. اقتحمت المكان وراء خطوات سعاد المتمهلة، والرهبة تستولي علي.. كل شيء تعرض إلى تغيير كامل. فقد كان التأثيث ينم عن ذوق عصري.. كنبات في الوسط، وأصص متدلية بها نباتات زهـرية اصطناعية، وفي الركن الأيمن المقابل للمدخل مزهرية خزفية موشـاة تعلوها أباجورة برتقالية اللون تحف باستدارتها السفلى أهداب لها لون الرمان.. على الجدار الأوسط بين نافذة الغرفة الوسطى وبابها علقت لوحة حريرية بها طائران يتعاركان في الجو، أحدهما في حالة انقضاض والآخر يحاول جاهدا الانفلات.. وفي وسط الدار مائدة هيكلها من خشب الكاجو وسطحها المجوَّف غطاه مسطح زجاجي مستطيل يكسبه اللون الطحلبي سمكا شفافا.. أشارت سعاد علي بالتفضل إلى الصالون، فقلت لها بأني أفضل البقاء في الوسط، ثم قعدت مسترخيا فوق الكنبة الجانبية، ووضعت الكيسين اللذين حملتهما معي فوق المائدة.. قعدت سعاد فوق الكنبة الوسطى مصالبة ساقيها المصقولتين وهي تسوي فستانها الحريري البنفسجي.. كانت تبدو نحيلة أكثر من اللازم، عيناها غارتا قليلا، وبدا ما تحت الجفنين غامقا قياسا إلى لون بشرتها القمحية، وبرزت الوجنتين مدببتين من دون أن يخل ذلك بتناسق قسماتها، وتجلى أسفل الصدغ الأيمن ندب صغير.. شفتاها ظلتا، كما ألفتهما، صغيرتين مكتنزتين، وشعرها الكستنائي مشدود بوشاح رمادي رهيف تتخلله وريقات توتية الشكل.. رمقتني سعاد وأنا أتقرى تفاصيل وجهها، فدارت الخجل بابتسامة رقيقة، وهي تتابع حركة يدي باحثة عن القداحة في جيب سترتي، وقلت لها ملتفا على الارتباك الذي يستحوذ عليّ مشيرا إلى الكيسين فوق المائدة:
ـ هذه بعض الحاجيات.. اقتنيتها من أجل العم حسان.. هل يمكــنك أن
تقبليها مني..
ـ عهدي بك غير مبال بمثل هذه الأمور.. أقصد طقوس المناسبات.. تغيرت
كثيرا..
ـ لا شيء يدوم على حاله.. الأمر لا يتعلق بمناسبة ولا هم يـحزنون.. إنما
الرغبة في معايشة الآخرين.. إذا أردت تعلمت أن الإنسان لا يحقق جوهره
إلا حين يكون قادرا على النفاذ إلى رغائب الآخرين..
ـ إلى هذا الحد يهمك العم حسان؟!
ـ وأكثر يا سيدتي ! فهو عندي بمثابة اليُمْن.. وكما تعلمين ليس لي أحد في
هذا العالم.. اعتبره أبا لي..
ـ أكاد أحسده.. على أية حال فهو رجل يستحق كل خير..
ـ غياب طويل أليس كذلك؟! قلت محاولا اقتحام المنطقة الملتبسة..
ـ عشرون سنة مرت، ثم نلتقي صدفة في هذا المكان، وكأنـنا كنـا عـلى
موعد..
ـ نعم.. نعم.. صدفة نلتقي في مكان عودني على الفراق أكثر مما عودني على
اللقاء..
ـ إنها لعبة الحياة التي ندخلها من دون أن تكون لنا دراية بقواعدها.. والحكَم
فيها الزمن..
ـ سعاد ! أريد أن أفهم.. وجودك هنا شيء يبعث على الحيرة..هل لك صلة
بالعم حسان؟ أنت و العبار تعرفان بعضكما؟! لكن لا أحد منكما أخبرني
بأنه قريب للآخر..
ـ وما دخل العبار ببيت اكتريته؟!
ـ معذرة.. التبس عليّ الأمر.. اعتقدت أنك هنا بفعل علاقة ما بأسـرته..
العبار نجل العم حسان..
ـ ألم أقل لك إن الحياة لعبة.. تقودنا رغما عنا إلى حيث لا ندري.. وتصنع
ما لا نملك قدرة على تكهنه..
ـ ما جعل الموقف أكثر التباسا بالنسبة إلي هو أن العم حسان لم يكن يفـكر
على الإطلاق في كراء أي جزء من داره، ولم يسبق له أن فاتـحني فـي
الموضوع..
ـ ربما كانت له أسبابه الخاصة! اتصلتُ بوكالة عقارية بحثا عن محل للكراء،
فقادني السمسار إلى هذا البيت.. اتفقت مع العم حسان على الشـروط
المطلوبة، وأمضينا العقد، ثم ارتحلت إلى هنا الأسبوع المنفرط..
أقبلت الطفلة صوبنا ونظراتها الحيية تستطلع وجودي.. قعدت على الكنبة جوار سعاد، وأسندت رأسها إلى فخدها، فطوقتها بما وسعها الحنو. ثم قالت بأنها الثمرة التي ظفرت بها من هذه الحياة المجذبة. وفكرت وأنا أتملى الوجه الحليبي الصغير، وقلت مخاطبا نفسي: كان من الممكن أن تكون ابنتي لو أن ذلك العطب لم يصب دواخلي.
حين أستعيد البدايات التي كانتها صلات الحب بيننا، أجدها مختلفة عـما عاشه الآخرون.. لم نسع إليه عبر التباريح منتظرين وعدا قد يتحقق أو لا يتحقق، وإنما أتى جارفا من غير مقدمات.. الصدفة وحدها بسطت باحته رحبة أمامنا من دون حواجز. وكانت لغة الجسد تسعنا، وتعفينا من عناء الكتمان. ولما انشطر الجسد إلى عقل وقلب، ووجد كل منا نفسه مضطرا إلى الاختيار بينهما، ابتدأت رحلة الضياع.. كنا شاركنا ثلة من الزملاء في رحلة إلى أصيلا نظمتها الثانوية، ولم أكن أعلم أن جزءا من حياتي سيتقرر خلال هذه الخرجة.. وجدتها تقاسمني نفس المقعد داخل الحافلة بنزقها الذي لا يحد.. طيلة الطريق كانت تتدفق حيوية، تاركة الكلام يتسايل على اللسان دون توقف.. كل شيء عندها كان مباحا قوله، لا فواصل تشطر الدردشة إلى مناطق محرمة وأخرى جائزة.. الموت والحرية والتمرد والأخلاق والجنس.. ثم أسرتها المفككة وزوجة الأب اللعوب.. وجدتني أنجذب إليها، ربما تعاطفا مع وضعها، أو لأنها بدت التوأمَ لروحي التي لا سند لها في الدنيا إلا إرادتي في إثبات جدارتي بالحياة الطبيعية كالآخرين رغم حرماني من الأب والأم وامتداد النسب.. قضينا النهار بأصيلا نتقرى تفاصيل فتنتها ومدخراتها من البهاء.. الكورنيش المحاذي للميناء العتيق الذي يمتد لسانه الحجري فوق الصـخور شاقا صفـحة البحر..مراكب الصيد العائدة من عرض المحيط محملة بهباته، فوقها الصيادون بقبعات القـش العريضة، وعلى الرمل جثم آخرون يصلحون الشباك.. السياح الأجانب وهم يعرضون جلودهم البيضاء للفح الشمس.. الانبساط اللانهائي للمياه الزرقاء تنعكـس عليها الأشعة، فتكسب التموجات الصلعاء عمقا فضيا ملتمعا.. امتداد الأفق حيث تقاسم النظرةُ السماءَ جلالها وهي تلامس الماء، فتكثف المشهد بعناصر الرحابة القصوى مشوبة بغموض حسي.. كلما توغلنا في دروب المدينة، كانت التفاصيل ترغمنا على إعادة ترتيب دهشتنا بما يتناسب مع مخزون الجدران في تعامداتها الحرة، ومع باحات العتاقة المنفلتة من وحشية التاريخ: القلعة البرتغالية الرابضة عند مدخل المدينة تذكر بزمن الغزو واستباحة المجد الآفل، وقصر الريسوني الذي يتوسط الضفة الغربية المشرفة على المحيط، كما حارس عجوز متعب أعيته الذاكرة، وهو يروي فصلا من فصول تفسخ البلاد وسطوة الزعامات وجنوح الفكرة حين تنمو على زناد من دون جذور عميقة، وبرج القريقية الذي يغالب جنون الموج مثل نوتي قديم أخذ على عاتقه مهمة تدوين تقلبات الرياح والأنواء.. كل شيء يذكر بالزوال ومكر الزمن، إلا المحيط فيذكر صخبه وعطاياه بالبقاء البهي للجغرافيا ضدا على النزوات الحمقى.. كانت سعاد تبدو داخل هذا المشهد شبيهة بمهرة جامحة، لا تكف عن الحركة.. تنط وتجري تاركة الريح تداعب تنورتها ليسعد فخداها الرخاميان بظهورات خاطفة، وكأنها كانت تسعى إلى أن تذوب في فتنة المشهد. وحين يدركها التعب تندس داخل المجموعة متقصدة جهتي لتقول: أحسد النوارس على أجنحتها، لأنها تقوى على رؤية هذا البهاء مكتملا من العلاء، ولا تتهجاه مجزوءا كعبارة طويلة، ليتني عشت انخطافها الكلي بالمكان، فأرد ساخرا: يمكنك فعل ذلك بالارتماء من البرج. لكنها لا تستسلم للدعابة فتعقب بنوع من الخبث الجميل: سيكون اقتراحك محقا إذا ارتمينا معا.. أنا وأنت.
أقبل المساء، وبدأت رحلة العودة إلى المستقر المعتاد.. ركبنا الحافلة، وكانت سعاد بجانبي صامتة، وقد فقدت حيويتها المتدفقة.. شبكت ساعديها على ظهر المقعد الموالي لها، وأسندت رأسها عليهما، ثم تركت صوتها المترع بالحزن يردد أغنية" كلموني ثاني عنك" للست أم كلثوم، فزاد غناؤها الليل شجنا سحيقا..كانت الحافلة تنهب الطريق وسط الظلمة الحالكة، وقد سكنت عربدة الأصوات إلا من هدير المحرك، وخلدت النفوس إلى دواخلها تنبش في الأعماق عن التعلات البعيدة، تستشفها تخيلات واستيهامات. وبين الفينة والأخرى كانت أضواء السيارات التي تتقاطع معنا الطريق تنعكس على الأجساد المتعبة فتزيدها غموضا مثل ارتسامات أطياف الماء حين يعبر فوقها القمر متخللا السحب.. فجأة تخلَّت سعاد عن وضعتها المسترخية لتميل برأسها فوق كتفي هامسة في أذني، وأنفاسها تغمرني دافئة: أحبك.. أحبك.. خذني إليك مني. احتبـست الكلمات في حلقي، وأحسست جفافا مرا يطبق على شفتيّ.. أمسكت سعاد بيدي، وجذبتها خلف كتفها.. طوَّقْتُها.. ضمَمْتُها إليَّ، فاستكانت مستسلمة لتحاب كاسح من دون مقدمات.
انتبهت إلى سعاد تخاطب طفلتها راجية منها الانصراف إلى غرفتها لإنجاز فروضها، ريثما يصير الطعام جاهزا.. استجابت الصغيرة، ونظراتها تكتم شيئا لم تفصح عنه، ولما وصلت إلى غرفتها استدارت، وهي تتكيء على قائمة الباب، وجدعها الأسفل مائل نحو الداخل، ثم قالت بصوت يخالطه الشجى: اشتقت إلى بابا.. عقبت عليها سعاد قائلة بأن أباها مسافر، وعند عودته، يمكنهارؤيته.. اختفت الطفلة خفيضة الرأس دون أن تقول شيئا، ثم التفتت سعاد نحوي قائلة:
ـ كنت تسبح في عالم آخر.. ما عساك كنت تفكر فيه؟!
ـ كنت أستعيد شريط الرحلة إلى أصيلا..
ـ آه ! أصيلا.. الأرض الطيبة التي ولدت فيها مرة ثانية.. ضيعت وعدها
وضيعتني.. ففيم ينفع استرجاع ما خسرناه؟!
ـ العطب الذي أصاب الجميع هو الذي ضيعنا..
ـ إذن.. ما الذي جنيته الآن؟ هل غيرت الواقع؟ هل ربحت المعركة؟ لمن
أخلصت إذن؟ للحقيقة أم للوهم؟ ومن كان الخيالي فينا أنا أم أنت؟
كانت الاقتناعات جاهزة.. استبدلنا بها أرواحنا، وأقفلنا على أنفسنا داخل مدارات محصنة، وحكمنا على من ظل خارجها بالمروق..حتى المشاعر الرقيقة سجناها في قنينة محكمة الإغلاق ورمينا بها إلى قيعان النسيان، واكتفينا بالاقتيات عـلى وعـد الثـورات الكـاذبة ووصاياها.. حاولت سعاد أن تمسك العصا من الوسط، فوضَعَتْ السياسةَ في كفة، وقلْبَها في كفة أخرى، وقالت بأن عدم ميل إحدى الكفتين شرطها الأوحد، لئلا أتوه خارج مدارها. واعتبرتُ وقتذاك قولَها مجحفا في حق الرجل الثوري الذي كان يتربى داخلي، ويتجـاهل كل النـداءات الأخرى ما عدا نداء الغد العاصف المقبل جارفا يروي الأرض اليباب بالعدل، والنشيد الهادر الذي يزهر أقمارا تضاحك السنابل الموهوبة للجياع، والحماس الذي تهتز له المصانع مزهوة بعرق نبيل مصفى.. كانت سعاد تجاهد من أجل صون الألق الذي أكسب حياتها المعنى، فترى السياسة من خلال الحب، غير أني كنت أتهمها بالنزعة الطفولية، واعتبرها مغرقة في الخيال، لا تقبض على الملموس إلا من خلال الصور.. وخلافا لها كنت أرى الحب من زاوية السياسة. ولم يكن ما اعتقدته وقتذاك رؤيةً واقعيةً سوى حقيقة مجردة لذهنية مسورة بحدود مغلقة على ذاتها.. خيرتني النفسُ بين الانسياق وراء الحب وبين الإخلاص للفعل السياسي، فاخترت الطريق الثاني دون أن أجرب إمكان التوفيق بينهما.. تقدمت سعاد إلى مدرسة المعلمات ظانةً أنها وجدت حلا مقنعا لما اعتبرته معضلة تحول دون استمرار الصلة بيننا، لكنني عاملتها بفضاضة. وقلت لها حاسما الأمر، أن تمتهن التعليم فهي حرة، أما أن نتزوج مباشرة بعد تخرجها، ونفتح بيتا تتكفل هي بالإنفاق عليه ريثما أنهي دراستي فأمر مرفوض..لم تيئس، وأعادت اقتراحها مرات ومرات، غير أني كنت متصلبا. فاعتبرت رفضي إعفاء لها من كل صلة بي. وكلما حاوَلَتْ استردادي بطريقتها الخاصة كان العطب داخلي يزداد استفحالا. وبدأت المسافة بيننا تتسع، وصارت اللقاءات سريعة ومقتضبة يخيم عليها الاحتراس المتبادل من وحش يربض في الأعماق، ثم انفرط كل شـيء. وانطـفأ الاهتمام.. ولم أعاود التفكير في سعاد إلا بعد أن اندرجت في قائمة الأشياء الجميلة التي سلبها مني السهو، وبعد أن تحول الرجل الثوري الذي كنته إلى مجرد حطام من جراء الخيبات التي تتالت مسفهة كل الأحلام الغسقية، وتحول النبل إلى خسة تهرب التاريخ لفائدة الرعـاع الآتـين من الظلمات السحيقة، لكي يقطفوا تمرات حرث لم يكن لهم أبدا.
قالت سعاد، وقد خمنت الصدع الذي كان شرودي يشرف على حافته:
ـ لا داعي لنكء جرح ننوء به معا.. المهم أننا عشنا اختياراتنا بمحض إرادتنا..
ـ نعم.. نعم.. أحيانا نقتنع بأن ما حصل قد حصل ولا داعي إلى العودة إليه،
لكن لا نلبث أن ننكفيء على الماضي..
ـ صحيح.. لم يتبق لنا سوى الحكي..
ـ حتى الحكي لم يعد من أجل المتعة، بل صار وسيلة للمقاومة من أجل البقاء
فقط.. من أجل البحث عن تعلة نبرر بها الوجود..
ـ لا شك أنك تزوجت؟! ولك أبناء.. قالت سعاد محاولة تغيير الموضوع..
ـ أخطأت الحساب.. ظللت راهبا زاهدا..
ـ لم إذن؟!
ـ من يمكنها أن تقبل بطبعي الحاد، وتغامر بالحياة مع رجل مفلس.. ثم أنني
ألفت وضعي هكذا متخففا من الالتجامات.. أقصد الالتزامات..
ـ لم تتغير.. الحياة لم تفقد طبعك الميال إلى السخرية..
ـ لكنك أنت.. تغيرت كثيرا.. الهدوء الناضج حل محل النزق، ولغتك صارت
مضغوطة بالحدود..
تنهدت سعاد ملء أنفاسها، وهي تتخذ لها وضعة تنم عن الأسى.. سحبت ساقيها نحو فخذيها، وطوتهما تحت صدرها، وأرخت رأسها فوق ركبتيها، وركزت نظراتها الحسيرة على اللوحة المعلقة أمامها، فبدت مهزومة، منكسرة ككيان شامخ تدحرج من العلياء إلى أن استقر في القاع حطاما مهشما، ثم تركت ذاكرتها تنساب حرة، ومسحة من الحزن الشفيف تستبين من صوتها الآتي من تجاويف أزمنة من دون تقاويم: تغيرتُ.. هذا صحيح. لكن لكل شيء بداية، والبداية لا تصاغ إلا لأنها ممكن نهايات متعددة، وبمجرد أن نختار البداية، ولا نختار معها احتمال نهاياتها البعيدة والقريبة، نكون كمن يمشي في الظلام.. بعد التخرج من مدرسة المعلمات عينت بمدينة الجديدة بإحدى الابتدائيات.. خضت تجربة التدريس بكل زخمها ومعضلاتها، وأنا لا أمتلك من الحياة إلا الزاد القليل.. كان رصيدي لا يتعدى ما اختزنته من الكتب، وأيام التحصيل.. لم أكن أعرف أحدا بالجديدة، رغم انحدار نسبي منها، سوى ساحم رحمه الله الذي عين بنفس المدرسة التي اشتغل بها.. كان عليّ أن أدرب النفس على آلام الوحدة الناهشة، والتيهان في تأملات حارقة، والاحتشاد الغامض للحسرات التي لاحقتني على امتداد مسارات الفقدان. وكلما اشتد الحنين إلى لحظات الماضي المترع بالشوق كنت أغرق ذاتي في تطلبات اليومي، ومشاغل المهنة، لأن مراقي السمو صارت متمنعة.. كان التجوال وحده الممكن لإفراغ شحنات القلق والتوتر.. أهرب إلى الشوارع.. كل الشوارع أجوبها كالبلهاء.. أدرع أرصفتها، من دون وجهة، ولا قصد، إلى أن أتعب، وينال مني التيه، فأعود أدراجي مندحرة إلى مستقري بالمدينة القـديمة الآهلة بالعتمة وزفرات الخصاصة، لأتكوم على نفسي في زوايا البيت كما دب جريح. وكان ساحم الملاذ الظليل في حالات الضجر القصوى..كنت أقصده، بكل انهياراتي، طالبة منه مرافقتي لبضع لحظات لأي مكان يمنحني جرعة نسيان، ولو لبرهة من الزمن، فكان لا يبخل، ولا يمانع أبدا، طيعا كان يستجيب من دون تردد لإلحاحي الجريح.. لا يسأل عن السبب ولا الغاية.. ما كان يعلمه فقط هو أني في لحظة هيجان مدمرة، وأن أعماقي مزق متآكلة تلهبها قسوة الزمن، وتلاشي الروح.. يتصنع الجهل ليتجنب تحريك الآسن في العقل والنفس، ويهب فقط ما يقوى عليه من عطايا الفهم وسط عالم ذكوري مشبع برجولة فائضة تخطيء مواقعها.. عالم لا يسمح للأنثى أن تكون كما هي، متروكة للحياة منذورة لحركتها الخاصة من دون وصاية.. كانت نظرات الناس ملفوفين في ارتيابهم الأعمى تلاحقنا بأقصى ما يمكن من الفضول. ومع ذلك كنت أتحدى بالرغم من حالة الانكسار التي تصر على صحبتي، وما كان يزيد من مقاومتي أن ساحم كان رجل صداقة حقا، لا يزنها بمعيار الجنس، أو وفق حسابات أخرى.. عانيت لمدة ثلاث سنوات قبل أن أنتقل إلى الدار البيضاء لاشتغل بمدرسة الطبري.. لا شك أنك تعرفها جيدا.. إنها تقع وسط المعاريف بشارع جورا.. نزلت عند أسرتي ريثما أتدبر أمري. وكان من المفروض أن أعيد ترتيب حياتي، فانخرطت في إحدى القاعات الرياضية لتزجية أوقات الفراغ، ولأصلح من قوامي الذي فقد رشاقته، بفعل الإهمال، وانهزام الأنثى داخلي.لم أعان في الدار البيضاء من الملل والوحدة، ولكن الإحساس بالاقتلاع كان كاسحا يربض لي عند كل المعابر إلى الحياة.. الصديقات اللواتي عرفتهن خلال زمن الدراسة تفرقت بهن السبل، وابتلعتهن مهاوي اليومي، ولم يعد لديهن الوقت الكافي لصرفه في إنعاش صلات صارت متخثرة بفعل انشغالات أخرى. والأسرة التي يمكن أن أستبدل بدفئها مرارة التيه تفككت كما صخور الرمل الهشة.. الإخوة توزعتهم الجهات، وقلما يتذكرون أن لهم بيتا، وزوجة الأب منشغلة على الدوام بجسدها يتملكها رهاب السن، والأب أعيته الذاكرة واعتلال البدن، وصار عديم الاهتمام بما يجري حوله، لا يهدأ من الشتيمة، وصب اللعنات على أبنائه مهددا الجميع ببيع البيت.. رغبت مرارا في الاهتداء إليك، وتخيلت سبلا عديدة لتحقيق ذلك، لكن الإحساس بالكرامة كان يفسد عليّ كل شيء.. كنت أمني النفس على الدوام بعودتك يحثك الشوق، غير أني كنت أستفيق على الفراغ. وقد كان مجرد التفكير في كل هذا يفتح في حياتي مسارب آهلة بالحنين، يصبح معها الحلم هو سيد الأشياء، بيد أن اليأس لا يلبث أن يهيمن مطوحا بي وهاد الضياع، حيث تنبعث الرضات القديمة أشد وطأة..لم أكن أفكر في أي رجل آخر عل الإطلاق، لكن للزمن احتمالاته الخاصة التي تقذف بنا في خضم تبدلات لا نختارها بالضرورة.. نقاوم ونصمد ونصر على العناد، ولا نقبل التنازل عما نراه جديرين به من رغبات، وفي لحظة من السهو وجيزة نستسلم منهارين لأول هبة ريح كاذبة، فنحاول إقناع العقل والقلب بأن الممكن هو احتمال الفرصة المتاحة لنا فجأة داخل مسارات الحياة.. لم أدر كيف انبثق شبيك في حياتي؟!
ـ سألت سعاد: من يكون شبيك هذا؟
ـ طليقي..
ـ طيب تفضلي ! أكملي حديثك !
استأنفت كلامها بهدوء تتخلله لحظات من الصمت المتمعن، وكأنها تحاول ترتيب أفكارها، أو تنتقي ما هو واضح منها.. تلع أمامي بشارع إبراهيم الروداني، وأنا أترقب سيارة أجرة تقلني إلى البيت..كان في غاية الأناقة، ووجهه يفيض عافية مشوبة باطمئنان وعجـرفة، وجسده يميل إلى الامتلاء.. على عينيه نظارتان طبيتان، إطارهما فضي اللون، ومن معصمه تتدلى سلسلة ذهبية مائلة نحو أسفل كفه اليمنى.. فأثار فضولي بالرغم من عدم معرفتي السابقة به.. هل تعرف لماذا؟!
قلت: لا.. كيف لي أن أعرف ذلك؟!
قالت وهي تركز عينيها في وجهي: لأنه ملامح وجهه ذكرتني بك، فقد كانت مسحة من الشبة بينكما ترين عليه. حتى أن نظراتي ظلت تتابعه وهو يعبر الشارع نحو الرصيف حيث أنا واقفة.. انتبه إلى نظراتي التي لم تكن تعني شيئا سوى الفضول، فاقترب مني مبتسما، وقال أشياء تافهة كما هو الحال بالنسبة لأي رجل يريد أن يشرك امرأة غريبة في الحديث معه، غير أني بدلا من أن أتجاهله وجدتني أنساق في الكلام، وأنا مأخوذة بملامحه التي تكاد تستولي عليّ لأنها كانت تمنحني فرصة رؤيتك فيها، ثم سأل عن الجهة التي أقصدها، فقلت: كما ترى.. أنتظر وسيلة نقل، لم يتردد، فعرض عليّ خدمته، مصرا على أن يوصلني حيث أشاء.. اعتذرت محاولة التملص، لكنه ألح عليّ رافضا أن يدعني وشأني، فقبلت على مضض، وبخاصة حين حسم الأمر مشيرا إلى الجهة التي يسلكها.. ركبت إلى جانبه سيارتَه الفاخرة. وأثناء الطريق تبادلنا الحديث حول أشياء كثيرة، وبدا لطيفا كأي شخص يمتلك تقاليد راسخة في التعامل. وحين أشرفنا على نورماندي اقترح عليّ مشاهدة شريط يعرض بقاعة الدوليز، قال إنه رائع.. لم أرفض ولم أقبل، ولم يدع لي فرصة للتفكير، فوجدته يغير وجهته نحو اليمين في اتجاه عين الذئاب.. ذكرته بأن وجهتي الحي الحسني، غير أنه قال: نعم أعرف.. بعد الاستمتاع بالعرض، سأقودك إلى حيث تشائين..انصعت مترددة، كقطعة خشب مستسلمة للموج يتلاعب بها دون مقاومـة.. كنت متكومة على المقعد صامتة، وهو يثرثر دون توقف متحدثا عن نجاحه في الحياة بنوع من الاعتداد، وكنت أصغي محايدة، كل النعوت في رأسي كانت في درجة الصفر، و كذلك كل الصفات والعلامات وصيغ التفضيل.. خلال العرض لم أتمكن من متابعة الفيلم، فقد كنت مشغولة بالتفكير في الوضع الذي وجدت نفسي منحشرة فيه اضطرارا.. كل ما استطعت التقاطه هو أن الشريط عبارة عن قصة حياة كاتب حجزته امرأة سادية في منزلها المعزول وسط الأدغال، لتمتلك روحه وجسده قهرا، ومدى المقاومة التي أبداها بالرغم من الأعطاب التي ألحقتها بسيقانه..كان الليل قد نزل بكل خفاياه، وكنت مضطرة إلى أن أظل رهينته إلى أن يوصلني إلى البيت.. أثناء الطريق كان يسخر من الكاتب المحجوز، ومن قلة حيلته أمام سطوة المرأة الخرقاء.. لم أرد أن أعلق عليه لأنني كنت في وضع الكاتب أيضا وأنا محشورة في سيارة ال بِ إِمْ آخر أنموذج.. لم أرد أن أقول له بأن مقاومة الكاتب هي مقاومة الكتابة في عالم مجنون زاخر بالعصاب.. لاحظ صمتي المطبق، فغير الموضوع، ليقول بأنه غادر الوظيفة، ليشتغل في مجال العقار، وأنه كون رصيدا محترما في البنك، ويمتلك شقة فاخرة بزنقة جون جوريس، وأنه يفكر في استثمار أمواله في مشاريع أخرى رابحة.. وما ينقصه هو بنت الحلال التي توفر له أسباب الراحة، وتقوي ذراعه ولا تلويها.. افترقنا على مسافة من بيت العائلة. وقبل أن أودعه ترك لي بطاقة زيارته.. كانت من الورق الصقيل مكتوبة باللغة الفرنسية، بها الاسم والمهنة والعنوان ورقم الهاتف.. أخذتها وانصرفت، وأنا أشعر بمزيج من الأحاسيس يستحوذ عليّ..كان الامتعاض يخالطه الارتياح، والخوف يداخله التوقع، وأدركت أنني مقبلة على تحول لا أعرف حجم خسائره، ولا أين سيستقر بي.. تكررت اللقاءات وتكررت معها الهدايا، ودعوات العشاء في أمكنة منذورة للأصفياء.. وكان كل لقاء عاديا بالنسبة إليّ إذ لم أكن مستثارة، ولم أشعر بأي شيء استثنائي. لكني أصبحت أسعى إلى رؤيته كأي امرأة تحتاج إلى رجل بملأ عليها الفراغ في حياتها.. سألني مرارا عما إذا كنت أمتلك تجارب سابقة مع غيره من الرجال، فأجبت بالنفي، وكانت أول مرة أتخلى فيها عن جرأتي فاقدةً القدرةَ على الافتخار بحياتي واختياراتي غير آبهة برأي الآخرين، وفعلت ذلك لأنني أدركت أنه من النوع الذي لا يقبل أبدا بأن يكون مسبوقا إلى الأشياء، حتى لو كان الأمر يتعلق بحياة الآخرين، ولأنه من غير المستساغ أن أقول له إنني ارتبطت به لأنه يذكرني بك.
ـ قلت لسعاد على سبيل المزاح: ربما كنت أنا متنكرا..
ـ ومن يدري.. كل شيء ممكن حدوثه في هذا العالم غير العقلاني..
ـ أيشبهني حقا طليقك أم أسقطت عليه ملامحي لتبرري لنفسك التحرر من الماضي
من دون أن تصفي معه الحساب...؟
ـ لا.. يا عزيزي.. الماضي لا يمكن تصفية الحساب معه أبدا، ولا التحـرر منه..
لقد كان بشبيك بعض الشبه منك، مع اختلافات مميزة بطبيعة الحال.. أنت ربع
القامة، أما هو فيميل إلى الطول، العينان متقاربتان لهما الحدقتان نفسهما ولـون
حبات البن، أما الأنفان فمختلفان.. أنفك دقيق ومتناسق مع الشفتين، أما هـو
فأنفه مسترخ إلى أسفل به انبعاج خفيف، وأرنبتاه تضيقان شيئا مات، شـعرك
يميل إلى السلاسة، أما شعره فمتجعد ملتو، أما لكن هيئة الوجه فمتماثلة تقريبا
ـ يخلق الله من الشبه أربعين..
ـ نعم.. لكن الأغرب أنك ضيعتني في الحالتين معا.. تخليت عني في أوج دفـق
المشاعر، وأفضى شبهك بي إلى الهلاك..
ـ لا تبالغي..
المهم.. أنني وجدته ذات نهار ينتظرني أمام المدرسة التي أشتغـل بها، فركبـت سـيارته ال " بِ إِ مْ"، ليطوّف بي شوارع المدينة قبل أن نتجه صوب الكورنيش.. أثناء تناول العشاء بفندق السلام اقترح علي الزواج، فقلت: سأفكر في الأمر، وسأبلغك قراري في الوقت الملائم.. طلبته في الغد عبر الهاتف، وأخبرته بأنني على استعداد.. وكان ما كان.. عزلاء مجردة من أحشائي كنت أقدم ذاتي قربانا أمام اقتحام متطاول، وكنت أستسلم من غير مقاومة.. تقبل قبولي بنوع من الحبور والاغتباط، وتم كل شيء بسرعة قياسية.. الخطبة والزفاف والحمل. وكانت البداية موفقة نسبيا، أبدى فيها قدرا من التفاهم لا بأس به، لكن ما لبث أن تغير مائة وثمانين درجة، ليكشف عن وجهه الحقيقي.. صار يتغيب عن البيت باستمرار، ويصطنع المشاكل، ويمارس عليّ الوصاية، ويقيد حريتي.. ووصل به الأمر إلى درجة معاملتي كخادمة مهينا كرامتي.. حتى ما تطلبه المرأة من زوجها لم يعد يهتم به أبدا.. يأتي متأخرا إلى البيت، وينام في أي مكان يروق له، ما عدا غرفة النوم. وحين أحتج عن هذا الوضع غير الطبيعي كان يشتمني بصفات لا يخطر لعاقل أن ينعت بها زوجته.
كانت الدموع تنهمر مخترقة وجنتي سعاد، وعيناها مسبلتان..لم أعد راغبا في أن تحكي المزيد، لأنني أدركت مدى الأذى الذي لحق كبرياءها، هي التي كانت بركانا يثور بمجرد ما أن يخدشها كلام عابر في مكان عابر... الكبرياء شأن باقي الكلمات قد تفتح القاموس بحثا عنها، وتتهجى ما يقع تحتها وترتاح لأنك قمت بمهمة تعرف مفعم بالحياد اتجاه لغة محفوظة بواسطة حراس أمناء على شرف المعنى، لئلا يتعرض للدنس.. لكن الكبرياء شيء آخر لا تقوله اللغة، ولا تختزنه، لأنها تعاش كإحساس مركب، وأسلوب في الحياة.. ما الكبرياء إذن؟ أهي مجرد ترفع أم إعلاء من شأن النفس اتجاه ضعة العالم، أم هي صون مستمر للذات مما هو منحط وسافل، أم هي الشعور بالخصاصة والاكتواء بنارها دون الإفصاح عن آثارها المريرة أمام الغير، أم هي رفض للشفقة، أم هي الصمود أمام إغراءات لا حصر لها تغوينا ببريقها، فيصمد من يصمد، وينهار من ينهار؟ أم هي كل هذا؟ أ م هي لا شيء على الإطلاق؟!
هل تحتاج سعاد لأن أقول لها بأن المجتمع برمته كان يلهث وراء الكبرياء، من غير كلل، أو يأس، لكنه وجد ذاته بغتة عرضة لشيء آخر كاسح، جارف، مدوخ، هو المال، فانساق وراء سحره يلاحق شبحه ليلا نهارا، ونسي روحه خلفه معرضة للتآكل والنهش، ولم يعد ينتبه للمعنى، ففقدت الكلمات سحرها وحدتها، وماتت اللغة، وتميعت الحياة، وعمَّ الانسلاخ كل الزوايا، وهل أقول لها: إن النفع بكل صوره صار مبرر الجميع، وصارت الأشياء الفيصل الفاصل بين المرء ومن يكونه؟
هل أحكي لها عن ساحم الذي تَعْلَمُ قصته من الألف إلى الياء بكل تفاصيلها المعلنة والمستترة، لما اكتشف ذاته مجرد أكذوبة محبوكة، لم يطق الاستمرار في العيش بحقيقتين، فودع العالم غير آسف.. كان رحمه الله حالما، يبدو كأنشودة يفوح صداها فتعدي الأبعد قبل الأقرب.. كان لا يفتر عن ملاحقة اللحظات الجميلة في الحياة، ليغترف منها ما يروي به ظمأه إلى التسامي.. يهتم بأن تكون لغته راقية مصفاة من شوائب الابتذال.. ميالا كان إلى الموسيقى يهذب بها روحه، ويستعيض بها عن اختلال ما حوله.. كما كان يُقْبِل على الدرس والتحصيل ينهم لا يحد.. عاشقَ كتبٍ كان، نقَّالَ خطوٍ بين المكتبات لا يمل.. شديد الحرص على معرفة الجديد يطلبه حيثما تيسر، لا تعوزه الحيلة حتى لو تطلب الأمر بيع ما يملك.. كانت له نظرة خاصة إلى الحياة تميزه عن غيره، شعاره سمو الذات قبل سمو الواقع. ويصفنا حين يرانا نُقْبل على الشعارات نرددها بالدهماء.. متعالٍ كان ذا كبرياء عمقه زاخر بالحب.. يَقْبَل صحبتَك، لكنه لا يفرض على أحد صحبته.. يصغي إلى الآخرين ولا يمتعض، لكنه كان عديم البوح والشكوى يضرب ستارا سميكا على داخله كبئر عميقة الغور قرارها يمنحك سطحا ترى فيه نفسك، لكنك لا تقوى على رؤية ما هو كامن تحته.
ذهب صحبة العبار إلى فرنسا ليستكمل دراسته، لكنه عاد لتوه بعد أول أسبوع، ولا أحد يعرف السبب. ثم التحق بمدرسة المعلمين مما أثار استغراب الجميع لأن نبوغه كان يؤهله لمتابعة دراسته في أية مؤسسة جامعية من دون عقبات، لكن من عاشره عن قرب لم يفاجأ بقراره، لأنه يفرط في الميل إلى الأشياء حتى تنقلب عنده إلى عبء.. كل ما كان يعرفه عن ذاته هو أنه يتيم.. مات والداه الواحد عقب الآخر وهو صبي لم تشتد ذاكرته بعد. ولذلك لا يتذكر أبدا ملمحا خاصا بهما يمد تقاسيمه في الآخرين.. حتى الصور الفتوغرافية التي بإمكانها أن تخبره بما كانا عليه من هيئة لم يجد لها أثرا.. تكفل به عمه الذي لم ينعم بالعقب، وأحاطه بحدب الأبوة المفتقدة.. كان طوع رغائبه لا يتأخر، يبذل ما وسعه الجهد ليجعله متمتعا بما يسعد به أقرانه، من دون تبرم أو شكوى. أما زوجته فقد كانت أما رؤوما له تشمله بحب لا يخبو، ولا تتوانى في الاستجابة إلى طلباته مهما كانت مشوبة بالمبالغة، لا ينام لها جفن حتى تطمئن عليه.. حتى حين عيِّن معلما بالجديدة لم تتقاعس.. كانت تسافر إليه حاملة معها ما ترى أنه في حاجة إليه، وتزوده بالمبلغ الذي كانت توفره من المصروف. وظل طيلة السنوات الخمس التي قضاها في المهنة قبل موته الفاجع يوزع أوقاته بين تلامذته الصغار اللذين أحبوه كما لم يحبوا أحدا، وبين هواياته المختلفة التي أضاف إليها هواية الصيد.. كان يتحين الفرص التي يجود بها الطقس المناسب ليخرج بعدته إلى البحر كي يجوس أعماقه المعكرة برأس القصبة وهي تهتز مؤذنة بعدم احتراس سمكة ضالة.. بعد هذا العمر الجميل سيهتز كيانه جراء رسالة ضالة من مجهول أطل فجأة كما صاعقة غير متوقعة، ليسلط الضوء على المنطقة الخفية في حياة والديه.. كانت الرسالة تقول، من دون شفقة، وكأنها تسوي حسابا مع ماض يخصها قبل أن يخص ساحم، بأن أباه توفي في السجن بعد أن قضى به ما يفوق العشرين سنة، عانى في أواخرها من داء السل، وأن السبب في دخوله السجن ارتكابه جريمة قتل في حق أمه التي اكتشف أنها تخونه مع رجل آخر.
لم يتمالك ساحم نفسه أمام ما أسرته إليه الرسالة، قرأها وأعاد قراءتها، وقال مع نفسه كيف يعرف الكل حقيقته وهو لا علم له إلا بصورة مزيفة حول نفسه ظل سجينا لها طيلة حياته.. اعترته نوبة جنون، فانقطع عن العمل، ولزم جحره يقلب وجوه الحقيقة لعلها تستقيم.. حقيقته هو لا حقيقة والديه.. أهو ابن شرعي أم نتاج نزوة طائشة لأم خرقاء؟ كيف يكون الإنسان ثمرة خيانة، وحياته مجرد أكذوبة، ويقبل أن يعيش تحت هاجس لوثة الهروب من ماض تخلى عن أن يكون ماضيا ليصير الآتي برمته؟ داهم ساحم بيت عمه وهاجم من فيه كالثور الهائج، حاول أن يخنق عمه بكلتي يديه، لكنه تراجع مذعورا، وهو يرتجف أمام توسلاته وولولة زوجته، ثم خرج مهرولا، والعم وراءه يرجوه أن يعود، وهو يبكي كامرأة ثكلى، من دون جدوى.. في الغد عثر على ساحم معلقا إلى شجرة وسط غابة سيدي عبد الرحمن، ووجدت في جيب بنطلونه ورقة يطلب فيها من عمه الصفح معتذرا لكل من أحبه في الحياة، مؤكدا أن انتحاره كان سبيلا لا مناص منه، لأنه يرفض أن يعيش أكذوبة في عالم أخرق من دون كبرياء. ولم يفته أن يحافظ على كرمه الذي لا يحد حتى في لحظات موته، فأوصى بآلة العود، وكتبه، وعدة الصيد لأحد تلامذته. هل أقول لسعاد أن ساحم فعل ذلك لأنه كان أكثر جرأة منا. وأنه لا توجد منطقة وسطى بين الوهم والحقيقة، بين الذل والكبرياء، بين الخسة والسمو، وأن الاختيارات ليست دائما موفقة، تفضي إلى بر الأمان، وأن الإخفاق كان مآل الجميع؟
كفكفت سعاد دموعها، ورفعت رأسها فانعكس الضوء على محياها تاركا ظلالا خفيفة تحت أجفانها، ثم قالت:
ـ اعتذر عن هذا الاهتياج..
ـ لا داعي للاعتذار.. كلنا نحس أحيانا بالبوح أمام الآخرين، قصد التحرر من
الثقل الذي ترزح تحته النفس.
ـ لم يدر بخلدي يوما ما أن أكون مسلوبة الإرادة على هذا النحو.. أتفهمني؟!
ـ أفهمك جيدا..
ـ حين يفقد الإنسان القدرة على القرار، يجد نفسه عرضة للابتذال، وألعوبة
بين أيدي الآخرين..
ـ لكن على الإنسان أن يجدد إرادته، ويتحدى، لأن المشكلة ليست في ما
نكونه وكيف، ولكن في ما نستطيع ألا نكونه.
ـ ربما قد يكون هذا صحيحا، حين تكون الخسارة طفيفة. أما حين يتحول
الإنسان إلى حطام فمن الصعب استعادة النفس، كما كانت صلبة، قبل
الانكسار..
ـ لا تبالغي ! الدنيا لم تنته..
ـ تصور! تزوجته منزوعة الإرادة ورضيت به شريكـا في الحـياة مـن دون
شروط.. وفرت له كل شيء، غير أنه سامني خسفا.. العذاب الأحمر عرفته
معه..كنت أصبر من أجل ابتسام، لكنه كان يمعن في تأليمي..
ـ شخص سافل إذن؟
ـ كنت أراهن على التأثير فيه..
ـ ألم يتدخل أحد لردعه، والداه مثلا..
ـ والداه..! كان لا يسمح لهما بزيارتنا.. ذات مرة جاء أبوه طالبا شـيئا من
المال من أجل مساعدته في تغطية تكاليف عملية جراحية أجـريت لأمـه،
فطرده من الشقة، وهو يصرخ بنوع من الهيستيريا قائلا بأنه لا يعـرفه.. لم
أفهم أبدا الموقف، لكنني تدخلت رحمة بالرجل وشيخوخته فثرت في وجهه،
غير أنه صفعني، فغادرت البيت.. ولم يكلف نفسه عناء السؤال عن ابنته..
ثم رجعت إلى البيت مكرهة لأن ابتسام كانت العلة التي تدفعني إلى التنازل..
ـ من أية طينة عجن هذا الرجل؟!
ـ آلمني كثيرا.. كان يأتي مع أصدقائه وهم سكارى إلى البيت في منتصف الليل
ليكملوا سهرتهم، ويطلب مني أن أخدمهم دائسا مشاعري، فأحرم من
حقي في النوم..
ـ إلى هذا الحد..؟!
ـ وأكثر.. هل يمكن أن تتخيل رجلا في الدنيا يصحب معه عشيقته إلى البيت،
وينام معها في الصالون غير مكترث بزوجته، ولا بابنته.. هذا حدث معي..
وحين ترث محتجة أخرجني صحبة ابتسام من الشقة في عز الليل، وأقفــل
الباب..
ـ كان من المفروض ألا تسمحي له بمثل هذه الإهانات..
ـ حاولت ذلك، لكن القدرة على التحدي كانت تخفت داخلي تدريجيا إلى أن
اضمحلت..
ـ صبر أيوب إذن؟!
ـ فكرت في الطلاق غير أني كنت أخشى أن ينتزع مني ابنتي. لـكن الزمـن
يتكفل أحيانا بالنيابة عنا في القيام بما نعجز عنه.. ذات يوم أخبرني ببرودة دم
أنه تزوج من امرأة أخرى، وأن لا مانع لي من البقاء، أما إذا أردت الانفصال
فهو مستعد.. لم أتردد.. قبلت الطلاق لأنه كان المخرج الطبيعي من هـذا
الجحيم..
ـ والآن كيف الحال؟ هل تكيفت مع وضعك الجديد؟
ـ أي وضع تقصد؟ وضع المرأة المطلقة؟
ـ لا.. أبدا.. أنا لا يمكنني أن أفكر بهذه الطريقة.. وإنما قصدت خوضك الحياة
بمفردك.. يعني التوفيق بين العمل وابتسام..
ـ أحاول أن ألتف على الوضع..
ـ المهم هو أن تستعيدي نفسك.. الأشياء الأخرى يمكن التغلب عليها..
ـ نفسي..؟! آه..! ضاعت من زمان.. ضاعت لما ضيعت نفسك وانتصـرت
للوهم.. هل يمكن للحطام أن يرمم الحطام..؟! لا أظن..
مرة أخرى أجدني مواجها بفهم ما جرى، وما يجري الآن.. كيف يمكن تصديق كل هذا الذي حدث، دون أن تتسرب إلى الروح بذور عدم اليقين.. أ كنا أحرارا بالفعل في اختياراتنا أم كانت هناك ضرورات حتمت علينا أن نسلك مسارات بعينها دون أخرى، أهي النظرة الأحادية للعالم التي أفضت بنا إلى الهزيمة الداخلية، واندحار الحياة في أعماقنا أم سلسلة الأخطاء التي كانت تتوالى في تعاطينا إلى الواقع، فلم نقدر حجم وقعها إلا بعد أن تضخمت، وصارت جدارا هائلا بيننا والخالص فينا من ابتهاج وحب وتطلعات، أم ليس هذا ولا ذاك، وإنما تحالف قوى الجهل والانتفاع، واكتساحها جل المواقع من دون استثناء.. جرينا وراء تغيير العالم لصالح النقاء، ونسينا الذوات وتحصينها ضد كل الأوبئة المفسدة للصفاء البشري.. تكلمنا لغة موصوفة بالعفة والجمال والذوق، ولم ننتبه إلى تلك التي كانت تتناسل في القاع، لغة الفائدة والصفقات والتملق والمجاملة والنفاق.. لذنا بحمى الجماهير نحتمي بمقـولات التاريخ والشعب والكادحين، ولم يكن كل ذلك سوى قاموس يخصنا نحن، ننعش به أفهامنا، من دون أن نخـتبر حقيقته في الكتل التي كنا ندافع عنها، لأننا كنا نُغَيِّر وهما بوهم، فتناسلت الظنون، وصارت قوت وجودنا اليومي، وظلت الجماهير متروكة لعزلتها تقتات على الخوف والخرافة والجهل، واحتساء عدم المبالاة غير مكترثة بما يجري حولها.. كنا نحول الخلافات العارضة في المواقف إلى معارك وهمية، فننصرف إلى تسوية العابر بدلا من النزول إلى قيعان المجتمع من أجل خضها، ورفع الغبار عما يعتمل داخلها من انفعال و انشداد إلى اليومي وعصاب الجهات والموروث ومعاداة الجديد.. كنا نوغل في التقاط النظريات، من غير أن نعنى بالاقتراب ممن نراهم معنيين بممارستها، ومن غير أن نُصغي لأصواتهم، فوجدنا أنفسنا مرهقين ويائسين نجتر الفجيعة، لأن الواقع ظل عنيدا، يتناسل في ألف صورة بشعة، ولأننا التفتنا إلى الجماهير التي عولنا عليها في تحقيق أحلامنا، فوجدناها مع الصف الآخر، في وضع متفرج غير معني على الإطلاق بنتيجة العراك الذي يخاض أمامه.. حتى أنفسنا نسيناها في زحمة النضال.. ركناها فوق الرف وتركناها عرضة للغبار والتلف، ولما أردنا استردادها، استرددنا الحطام تلو الحطام.. الحطام حقا هو الحصيلة يا سعاد، ولا يمكن بالفعل أن يُرَمِّمَ الحطامُ نفسَه.. لو كان بالإمكان تعريف الحطام، لما ترددت، ولقلت بصرامة الواثق من نفسه إنه ليس مجرد بقايا تتخلف عن الأشياء والكيانات، لأن صيرورة الوجود المنطقية تحتِّم التلاشي، وتَحَلُّلَ المتماسك إلى قطع، أو مزق، أو ذرات من الهباء، بل هو ذلك الإحساس الممض بعطالة الحس والوجود، وتخثر إيقاع الحياة، وتوقف وعدها الثر بالانتشاء.. الحطام حالة من عدم إمكان الفرد التأثير في ما حوله، وتعذر الأشياء على لغة المتعة ونشوة الاكتشاف.. الحطام حالة من يُفيق من نوم حالم، فيجد نفسه فجأة داخل نفق لا مخرج له، ويصير خلاصه الوحيد الانتظار مثل كلب أجرب مقعى من دون أن يحوز القدرة على توقع ما سيحدث..الحطام حالة معلقة بين الإخفاق والترقب اليائس، هو حالتنا يا سعاد في هذا العالم الذي يحيل البشر إلى كائنات من شمع، لاحس ولا استجابة.. حالتنا نحن الذين راهنا على السراب، فسرقنا من حيث لا ندري.. أنت كان شبيك سرابك القاتل، وأنا كان سرابي الثقة المرعبة في تاريخ من كلمات كانت حملا كاذبا له، وكُنْتُ حطبَه الذي استوى عليه طبيخه... وأخاف أن تكون الأسئلة الحارقة حول الذات، قد استغفلتنا مرة أخرى.. ولكن أية ذات نقصد؟ ومما تصاغ؟ أمن النوايا والاقتناعات أم من التجربة الحية؟ أنفرغها من حقائقها الخاصة بها أم نلتف عليها بالتبرير، وافتعال العلل لتحويل العجز إلى شماعة نُعلق عليها الزمن…؟ حاولتِ يا سعاد، في قمة انحداركِ الفاجع التخلُّصَ من تبجيلها عند أول اختبار، وتركت للتجربة وحدها القرار، فكانت النتيجة احتقار أجمل ما في الأنثى، فيضِها الذي لا يحد حنوا وعطاء، أما أنا فلم أحدد إجابة حاسمة، فبقيت حياتي مجرد بحث مضن عن اكتفاء لا يتحقق أبدا.. كنت أجاهد من أجل التمسك بحريتي، وأن أُبقي مسافة اتجاه البريق الذي يعمي الآخرين، فيتهافتون عليه كما لو أنهم كلاب سباق تجري خلف أرانب وهمية.. كنت أحاول ذلك، لكن العالم من حولي كان يقول لي بلغته الخاصة: أنك واهم تحاول ما لا يُحاوَل أصلا.. الحرية مجرد الفسحة التي يسمح بها القيد، وقيدك نفسك.. أَتَسْتَطِيعُ التنكّرَ للصورة التي كَوَّنْتَها حول ذاتك؟! جَرِّبْ! ولو للحظة من الزمن.. ستجدُ نفسك عرضة لخواء يحيلك إلى شظايا مبعثرة، لا تلتئم.. الصورة ليست الاسم والشكل والمزاج، ولكنها شيء آخر.. هي القيم التي تصاحبنا منذ الصغر ملتصقة بنا كما العلق، تتغذى على دمائنا، وتكبر معنا، إلى أن تصير هي الذات. والتخلص منها يعني الهباء، والتحول إلى فقاعة تُحيلها أضعفُ هبَّةٍ إلى عدم أصم. والحطام يصير كاسحا حين تتوقف القيم عن تأدية النبل، ويتحول حاملها إلى أبله يثير السخرية والشفقة، فتضمر الصورة وتغيم، ويبقى التيه وحده أفقا لكل مسعى.
كنت غارقا في لجة التفكير، أحادث النفس ملتفا على عذاباتها، ولم أنتبه إلى اللحظة التي غادرت فيها ابتسام غرفتها لتلقي بجسدها الصغير على سعاد ملتصقة بها، مطوقة عنقها بساعديها الرقيقتين، وهي تهمس لها بشيء لا أستبينه، من دون أن تفارقني نظراتها ملتفتة نحوي نصف التفاتة، تستطلع وجودي من خلال زاويتي عينيها المداهمتين بإطلالة نومٍ ملِّحٍ تلوح طلائعه من خلال استرخاء الجفنين، وانحناءة الرأس نحو صدر والدتها.. قامت سعاد متثاقلة، واتجهت نحو المطبخ وهي تقول:
ـ ابتسام تشكو من الجوع..
ـ طيب ! سأنصرف..
ـ ماذا…؟! لن تنصرف..! ستكون الليلة ضيفا على مائدتنا..دقائق قليلة
وأعود إليك..
قفزت ابتسام من مكانها، تحاول اللحاق بأمها، لكن سعاد طلبت منها البقاء مـن أجل مؤانستي، ولما لمحت ترددها، قالت لها بأنني أتقن رواية الحكايات الجميلة، فاستدارت الطفلة نحوي متهللة الأسارير:
ـ هل هذا صحيح يا عم !
ـ قالت سعاد: أخرج ما في جعبتك، لن تدعك حتى تروي لها حكاية ما..
ـ ما عساي أحكيه..؟ لقد نسيت أغلب الحكايات..
ـ ألا تعرف حكاية الذئب والقنفذ.. يا عم..؟! قالت ابتسام متوسلة..
ـ قلت وأنا أخفي جهلي بهذه الحكاية: هناك حكاية أخرى أجمل..
ـ ما هي؟ أريد سماعها..قالت الطفلة.
ـ قالت سعاد: ارفع صوتك! أريد مشاطرتكم الحكاية.. ما زلت أنا أيضا
طفلة.. أستحق الاستماع.
ـ قلت مخاطبا سعاد: أهي الغيرة؟!
ـ قالت ابتسام تستعجلني: احك يا عم !
شرعت في رواية حكاية عن فتاة ذميمة، حاولت أن تصير حسناء، فغادرت قريتها بحثا عن سر الحسن في الغابة، وفي مسعاها التقت بحيوانات شتى، وكان كل حيوان صادفته يتأثر لها فيهديها إلى جزء من السر، لكن جزءا أخيرا كان بنقصها، ولكي تحصل عليه، كان لزاما عليها أن تبحث عن حورية البحر لتمكنها منه، فعبرت سبعة بحار، ولما التقت بالحورية مكنتها مما أرادت شريطة ألا تتزوج، فكرت الفتاة في الأمر كثيرا، ثم وافقت على الأمر. وفي طريق عودتها إلى القرية رأت وجهها في الماء فهالها ما صارت عليه من الحسن. ثم رويتُ ما لاقته من محن إلى أن وصلت إلى أهلها الذين لم يصدقوا الأمر، وظنوا أنها ساحرة تريد استغفالهم، أو جنية في صورة إنسان، لأن لا أحد رأى حسنا مثل ما رأوا، فاضطرت إلى أن تعيش بعيدة عنهم. ولما سمع بجمالها أمير المنطقة طلب إحضارها، قصد الزواج منها، فسيقت إليه، في أحسن اللباس والحلي، وحين رآها كاد أن يغمى عليه من هول ما رأى. فأعرب لها عن رغبته في الزواج منها. لم ترد أن تخبره بحقيقتها، واكتفت بالصمت، فاعتبر الأمير سكوتها علامة على الرضى. أما هي فعولت على أن تشرب كأس سم في ليلة زفافها حتى لا تتحول إلى هيئتها الأولى فتصير ذميمة. وفي ليلة الزفاف مات الأمير، فصارت سيدة الحسن أميرة على البلدة. وأقنعت الجميع بأنها ستظل عذراء من دون زواج وفاءً لروح الأمير المتوفى.
وما كدت أصل إلى نهاية الحكاية التي تتخلى فيها سيدة الحسن عن الإمارة، وعن تمسكها بحالة الحسن التي هي عليها، وتقبل الزواج من أحدب، حتى استسلمت ابتسام لسلطة النوم القاهرة فوق الكنبة متخذةً وضعة الجنين ومسحةٌ من الاطمئنان على محياها.. الساعدان بين الفخذين، والرأس مائل يكاد يلامس الركبتين،كنت أتأملها باحثا عن امتداد سعاد في تكوينها، غير أني لم أفلح في الأمر، ربما لأن الجسد في حالة نومه ليس كما هو في حالة اليقظة، وأنا لم اختبر وضعا تكون فيه سعاد مستسلمة للنوم، جسدا معطل الحواس. لكن كان لوضعة الطفلة أمامي سابحة في عالم الكرى ضغطٌ على ذاكرتي التي ظلت على الدوام لا تقوى على ملامسة زمن الطفولة التي قضيتها متنقلا بين أمكنة عدة، من دون أن يتوفر لي حـنان الأم والأب كبقـية الأطفال.. بين بيت الخالة، والخيرية، والحي الجامعي، وبيوت الناس الطيبين.. كنت أتردد بين حالتين أمام جسد ابتسام، حالة الاستغراق، وحالة تجنب النظر.. ربما كنت أفعل ذلك نتيجة لتضافر حالتي الحضور والغياب في تشكيل جزء هام من حياتي، ولما للصدفة من أثر ونفوذ في صنع الحياة والموت.. لولا الحريق الملعون الذي أتى على المجمع الصفيحي بالدرب الجديد عام 1958 لكنت ممتلئا كبقية الخلق بالجذور التي تحتاج إليها كل شجرة لكي تهزأ من العواصف، ثم لولا وجودي مع سليمان عند خالتي بالهجاجمة لكنت في عداد الموتى، وكم ساءلت نفسي لماذا لم يَبِتْ والداي معنا تلك الليلة المشؤومة عند الخالة؟ لو فعلا ما أذاب الحريق جتثيهما.. كنت ابن سبع سنوات، وطفل في مثل هذا العمر ما الذي بإمكانه أن يستعيده بالصفاء اللازم، غير أحداث مبعثرة غير منتظمة.. حتى سليمان سرقته مني يد مجهولة آثمة، وهولم يتجاوز بعدُ الرابعة من عمره.. ما زلت أتذكر ذلك اليوم الذي انتُزِع فيه رغما عن إرادته، وما زال صراخه الباكي يمزق طبلة أذني إلى الآن.. جاء رجل متوسط الحال إلى بيت الخالة صحبة زوجته، واختليا مع زوج خالتي الذي كان فظ القلب جشعا بغرفة الجلوس مدةً من الزمن، وكانت خالتي تضمنا إليها، وهي تبكي، ونحن غير مدركين ما يحدث، وفجأة توجه الرجل الغريب وزوجته نحونا حيث كنا مع الخالة في غرفة الطعام، فأشار الرجل الغريب إلى سليمان، ثم تقدم زوج خالتي نحوه، وانقض عليه ليسلِّمه للرجل الذي دس في يد قريبي حزمة من الأوراق المالية، وهو جد منتش.. وبعد ذلك انصرف نحو الباب، وسليمان بين ساعديه محمولا يترنح محاولا التخلص من قبضته، ملتفتا نحونا، وكأنه يرجو خالتي أن تخلصه، وكنت أتابع الموقف باكيا، وأنا أصرخ متوسلا أن يعيدوا لي أخي.. لا أعرف أهو ميت أم حي؟ ما تبقى منه سوى الاسم، وبضعة ملامح طفولية.. وظل يعيش معي على هيئة تعرف ناقص.. فكم مرة استوقفتني وجوه عابرة، وأغوتني لاختبر ذاكرتي، وأحاول أن أجلوه فيها.. سافر زوج خالتي إلى فرنسا ليشتغل هناك، وبعد مكوثه ما يقرب سنتين بالمهجر عاد ليصحب معه زوجته وأطفاله، وبقيت أنا وجدتي نصارع من أجل البقاء.. غريق تمسك بغريق، وعاجزان يحاول كل منهما أن يستمد قوته من الآخر..ماتت الجدة، واستعاد البيتَ صاحبُه، ووجدتني ضيفا على الخيرية لأعاشر أطفالا توزعهم القدر، وكان علي أن أشاطرهم الحياة، وأقتسم معهم حظ البقاء، ونزر الضوء والقوت، والأماني غير المحققة.. وكان عليّ أن أتعلم التكيف مع عالم تصنعه القوة، ولا يُرحم فيه الضعيف أو يُغفر له.. كان عليّ أن أتعلم حماية نفسي، وأن أتفنن في الحيل، وإخفاء الأسرار، والانخراط في تحالفات، وتغييرها كلما تبين أن القوة انتقلت إلى مكان آخر. ولست أدري كيف سلكت المسار بأمان..؟ أحيانا نحاول فهم منطق الحياة ونتوصل إلى علل محددة، وأحيانا تبقى بعض عناصرها عصية على التفسير، هل كان ظهور الأستاذ غفير في حياتي صدفة أم هبة جاد بها القدر لكي يحدث التحول الذي جعلني أنتقل من كائن محترس يتأهب لاستعمال سلاح القوة والخداع إلى كائن آخر مفعم بالتطلع والمودة، يستطيع أن يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية..؟ لم أدر كيف استطاع سي غفير أن يهتدي إلى وضعي الخاص، ولكن ما أدركه هو حدبه عليّ، وتعاطفه الأبوي معي.. بدأ الأمر بمنحي كتبا أقرأها، ثم بتزويدي بمقادير من المال بين الفينة والأخرى، إلى أن تطور الأمر إلى حوارات لا تنقطع، تبدأ بالسؤال لتنتهي بالتوجيه.. استأنست فيه الأب الذي لم أره، والأخ المفقود، وصار الأنموذج الذي كان عليّ أن أصيره إلى أن اهتديت إلى من يجب أن أكونه..لم أركن إلى الانتظار مترقبا عطـف الآخـرين وإحسانهم، بل كنت أعمد خلال العطل إلى العمل أينما وجدته.. أساعد الناس على حمل ما ثقل عليهم في الأسواق مقابل ثمن قليل، وأحيانا أعمل في الشواطيء، أنصب الخيام وأفككها، وأحمل إلى المصطافين طلباتهم، وأحيانا أخرى أذهب إلى سوق الخردة بدرب غلف حاملا قطعا من الثياب المهربة أبيعها.. فكنت بذلك أغالب الزمن، وأطوع الحياة، وفي الآن نفسه كانت تتضح لي الرؤية باقترابي من أولئك الذين يحفرون الصخر، ويمشون فوق النار من أجل ضمان لقمة قوت تائهة يظلون طيلة العمر يطاردونها غير مبالين ببريق المتع التي ينهل منها أولئك الذين وضعت بين أيديهم مفاتيح الكنوز.. وحدي كنت أخوض لجة الحياة، لا أقبل الهزيمة.. لم يكن لي أصدقاء كثيرون.. كان العبار وساحم رحمه الله أقربهم إلى نفسي.. الأول فتح لي باب بيتهم لتصير أسرته عائلتي، فوجدت في والدته رقية حنان الأم الذي حرمت منه، والثاني كان بمثابة التوأم لروحي، فقد كان أكثر فهما وصبرا، لأنه يشترك معي في نفس الاجتثاث.. وحين مات أحسست بضـياع النسخة التي كنت أتملى فيها عناد الانتماء واستعصائه..
أطلت سعاد من المطبخ، وهي تحمل الطعام في اتجاه المائدة، فانتبهت إلى شعرها الكستنائي وقد كشفته لتتركه ينساب على الكتفين مضفيا ظلالا خفيفة على عنقها الدقيـق.. نبهتها إلى ابتسام التي غيرت وضعتها، حيث بدت مستلقية على ظهرها.. ساقاها مطويتـان وساعـداها مضمومـتان إلى صدرها، وضوء الأباجورة ينعكس عليها أفقيا من الجانب الأيمن ليجعل نصف جسدها مضاء، والنصف الآخر مشوبا بظلال شفيفة.. حملت سعاد الطفلة إلى غرفة نومها.. رجوتها أن توقظها لتأخذ عشاءها، غير أنها قالت بأن ابتسام تصير غير راغبة في أي شيء إذا داهمها النوم، ثم واصلت إعداد المائدة.. كانت نظراتي تتعقبها مستترة وهي تنتقل بين المطبخ والمائدة معتدلة الخطو محاولا استعادة المراهِقة التي كانتها بكل مميزات الخصر الدقيق والوركين الواسعين في تناسق تام مع كتفيها المنبسطين شيئا ما، لكن المرأة التي صارتها كانت أكثر اكتمالا، وزاد النحول جسدها في مشيته الهادئة إيقاعا عذبا.. لا شك أنها شعرت بنظراتي المتلصصة، لكنها لم تبد أية إشارة توحي بما خمنت فيه، قد تكون تتصنع عدم التنبه حتى تقيـس درجـة اهتمامي، أو أنها تفعل ذلك لتختبر ما إذا كان جسدها ما زال يتوفر على تمراته التي تغري بالخطيئة الجميلة أم لا؟ لكن ما قد لا يخطر على بالها هو أني صرت أكثر انشدادا إلى النضج الذي يمنح ذاته عبر جوارح تقول لك بأنها أكثر قدرة على العطاء.. جوارح تحرك فيك الإحساس بالأنثى كإيقاع من الحركة التي تخلف وراءها خدرا أقرب إلى الروح منه إلى الحس.. حركت معصمي في اتجاه عينيّ.. لاحظت سعاد الأمر، فقالت بأن الساعة لم تتجاوز العاشرة بعد، ثم استدركت، كمن ينتبه إلى احتمال أقرب قد تجاهله، متسائلةً عما إذا كنت على موعد مع شخص ما.. ابتسمت مخابثا لأوحي لها بصواب ما فكرت فيه لعل الفيض القديم يعلن عن نفسه، لكنها كانت أكثر قدرة على سبر أغوار الآخرين الخفية، مع كتمان ردود أفعالها، فلم تدع أية علامة تتسرب إلى ملامحها حتى لا تجعلني أستطلع ما يمور ضاجا داخلها. غير أني حسمت الموقف بسرعة لم تكن تتوقعها، فقلت لها: وحتى إذا كنت على موعد، فهل من اللائق أن يختصر الإنسان تمتعه بحضور يُشعر بالدنو من السعادة. وبمجرد ما أن أدركت أنها أفلحت في استدراجي نحو منطقة الالتهاب، التفَّتْ على ما كان من المتوقع أن يصدر عنها من رد في مثل هذا الموقف، ولو على سبيل المجاملة، بدعوتي إلى تناول الطبق الذي أعدَّتْه طالبةً مني رأيي في طريقة طبخها، كنت ألتهم شريحة اللحم المشوية على نار خفيفة متمهلةحريصا على عدم الإسراع، وكأنني في وضع من يتحتم عليه أن يبدي قدرا من التحضر.. كنت مستغرقا في القضم ضاما شَفَتَيَّ، حتى لا أترك الفرصة لصوت شاد يطلع، فيثير اشمئزازها. ولست أدري لما كنت مضطرا إلى هذا التصرف، أمام امرأة على دراية تامة بكل عاداتي بما فيها طريقة الأكل التي تميزني..؟ أحسست أن شعورا أقرب إلى الضيق استولى عليَّ، وأن الابتهاج الذي كان يغمرني قبل قليل أخذ في الانمحاء، وربما كان هذا التبدل المفاجيء سببا مباشرا في الطريقة التي وجدتني أتبعها في تناول الطعام. لكن ما مبعث هذا الإحساس المنقبض؟ هل كان عدم ردها على العبارة التي ندت عني دون احتراس، أم الغموض الذي لفَّت به مشاعرها نحوي، أم مجرد عجز عن فهم الوضع برمته؟ لست متيقنا بما فيه الكفاية من الإجابة عن كل ذلك. وبدلا من رغبتي في الفهم، وجدتني أستعيد رواية " آمبر " لكاتلين ونصور، وبالضبط شخصيتها الرئيسية آمبر.. تلك الفتاة القروية التي وجدت نفسها معنية بالحب، وفي قمة انحدار الأمل فيه إلى درجة الفتور، حولته إلى تطلع كان أفقه البلاط الإنكليزي في القرن السابع عشر.. هل آمبر خليلة الملك شارل الثاني هي نفسها الفلاّحة القروية التي كانتها قبل أن تهيم بأحد الفرسان الملكيين، وهو يعبر قريتها الصغيرة؟ ألم يجعلها عالم البلاط، وهي تنعم بوهجه، منشطرة إلى كيانين، واحد بسيط وصاف، وآخر مشوب يُعديه سحر الأضواء؟ الأسئلة نفسها تنبعث الآن، غير أن الأمر لايتعلق بآمبر، بل بسعاد التي، وإن لم تكن قد عرفت الفضاء نفسه، فإنها أطلت على عالم آخر مختلف عما أَلِفَتْه، عالم المال وموائد الصفقات وأجواء المجاملات.. هل سعاد طليقة شبيك هي نفسها المراهقة التي عرفتها في زمن التفتح البهي؟ فبالرغم من اللعنات التي تصبها على العالم الذي خلفته وراءها، كان ذهني يدفعني إلى تلمس بقاياه، مقتنعا بأن صفيحة من الذهب حين تذاب في وعاء غير نقي لا بد أن تعلق بالصهير بعض الشوائب.
أنقدتني سعاد من الحالة التي كنت فريسة لها بأن استفسرت مرة أخرى، وهي تركز نظراتها الحالمة في عينيّ، عما إذا كنت استطعمت الأكل، فأجبت حذرا بأنني استمتعت بلذته. وكما يحدث بين شخصين يسرهما أن يحافظا على حبل المودة، ولو أنهما لا يعرفان كيف يمهدان إليها الطريق، قالت:
ـ أظن أنك مغتاظ مني..
ـ ولِمَ تقولين ذلك..؟!
ـ آه..! ها نحن نراوغ أنفسنا؟
ـ ….
ـ سأتكلف بالنيابة عنك في قول الحقيقة كما هي.. لقد أغاظك أنني لم أرد
مجاملة على تلك العبارة الجميلة في حقي، والتي على ما أذكر أوحـت لي
بأنك سعيد هنا.. في بيتي، حتى لا أقول معي..
ـ قلت بنوع من البرودة: لستِ مضطرة إلى الرد..!
ـ أترك كل شيء للزمن، فهو كفيل بالإجابة عما تفكر فيه، أو ما نفكـر
فيه بالأحرى..!
ـ الانتظار إذن..!
ـ لا نملك الآن سواه..
ـ الانتظار هو آفتنا.. يستولي علينا الزمن دائما بسطوته، فنعلق كل شـيء
على قدرته، فنتردد بين الأمل واليأس، بينما من المفروض أن نؤمن
بالممكن.. الممكن فعله واحتماله..
ـ سبحان الله..! متى توصلت إلى هذه الحكمة؟! أنسيت أنك تركتني في
نصف الطريق متذرعا بحجة الانتظار..
لم أعقب عليها، فقد كانت محقة في ما قالته، غير أنها استدركت قائلة:
ـ انظر خلفك..! هناك لوحة تقول كل ما لم أستطع أن أعبر عنه..
استدرت لأتمعن الطائرين الذين يبدوان في حالة عراك، أو بالأحرى ما تخيلته في وضع انقضاض وانفلات، محاولا قدر الإمكان الإلمام بكل التفاصيل بما فيها من ألوان، وهيئة، وخلفية، وبينما أنا مستغرق في تأملي هذا، قالت سعاد موضحة بأنها اشترت اللوحة قبل الزواج من شبيك، وأن الطائرين هما ذكر وأنثاه، وبأن من اللائق ألا أتسرع بأي استنتاج الآن، وأن أؤجل الأمر إلى زمن آخر حتى تتضح لي الرؤية جيدا.. شعرت بأن سعاد تضعني أمام رهان متعمد، وأن عليّ أن أقبل التحدي بكل ما يعنيه من مجازفة.. عدت بنظري إليها فوجدتها قد انتصبت قائمة وقد بسطت يديها معا نحوي مرتخيتين شيئا ما نحو الأسفل كمن يريد أن ينقذك من قاع يبتلعك، أو كمن يساعدك على القيام مدركا عدم قدرتك على فعل ذلك بمفردك، فمددت يديّ نحوها.. أمسكت بهما مستنفرة كل قواها، وجذبتني نحو الأعلى، ولما صرت واقفا في مواجهتها لا تفصلنا إلا مسافة امتداد اليدين قالت بأنها سعيدة بلقائي، وتتمنى لو أكرر الزيارة في أقرب وقت ممكن، فقلت لها بأني سأفعل، وأنا أشد على يديها بقوة، فخفضت عينيها، وهي تعاود هز رأسها ببطء، وكأنها تقول لي بأنها متأكدة من وفائي بوعدي.. نظرت إلى ساعتي، فوجدتها تشير إلى الحادية عشرة، فقلت لها بأن الوقت تأخر، ولا بد لي من الانصراف.
العودة من الزيارة الثانية
خطر لي بعد مغادرة بيت العم حسان، أو بالأحرى بعد الانصراف مباشرة من عند سعاد، أن أقطع المسافة إلى شقتي مشيا على الأقدام، بالرغم مما يعنيه ذلك من مجازفة بسلامتي في هذا الوقت المتأخر من الليل. فقد كان عليّ للوصول إلى المعاريف أن أخترق الزقاق الذي يفصل قنصلية روسيا عن الزاوية، ثم آخذ زقاقا آخر على اليمين لكي أخترق زنقة سمية في اتجاه حي النخيل.. السكون يعم المكان، لا أثر لأية حركة، إلا من وقع خطواتي، ومع ذلك كانت تلح عليّ أفكار سوداء، فالزاوية لم تعد كما كانت لسنوات خلت محروسة بفضيلة أهلها، تهبك نفسها بكل ما تزخر به من طيبة ومودة، وليلها يغري أكثر من نهارها.. كل شيء انقلب إلى ضده فيها، وحين يقبل الظلام معلنا سلطته يسرع الناس إلى بيوتهم خوفا من مكروه غير متوقع. ولا أحد يعرف كيف آلت الأمور هنا إلى الأسوء، فقد وجد الجميع نفسه مرغما على العيش مكرها وسط مخاطر ما كانت لتخطر على البال، تحت سلطة كائنات ليلية تتسلل من جحورها لتبسط على المكان قانونها الخاص، من باعة للحشيش، والخمرة المهربة، والأقراص المهلوسة، إلى اللصوص الذين يتربصون بمن ساقته إليهم الصدفة.. كنت أتقدم محاذيا سور القنصلية الروسية المرتفع بأحجاره الكلسية الصفراء المتقادمة، ورائحة مسك الليل تنفذ إلى خياشمي قوية مؤثرة، فتزيد إحساسي بالتوجس حدة، حتى أن الرغبة في التفكير التي خاطرت من أجلها بالذهاب إلى شقتي راجلا انعدمت تماما. وما أن أطللت على الملتقى المفضي إلى حي النخيل حتى لمحت مجموعة من الشباب تركن إلى زاوية يخفت عندها النور، أدركت للتو من الهيئة التي هم عليها أنهم يحتسون كؤوس الخمرة.. أحسست بالقلق، وازدادت دقات قلبي، لكني حرصت على التظاهر بعدم الخـوف، فحاولت أن أعطي لخطواتي نوعا من الصلابة حتى أوحي لهم بالوثوق من نفسي. فالتراجع في مثل هذ الوضع غير ممكن، تماما كما هو الأمر أمام كلاب ضالة، لأن ذلك يقوي جرأتها. وبينما أنا أخطو متابعا وجهتي مصطنعا عدم الاهتمام امتدت يدي إلى جيب سترتي لتخرج سيجارة، ولم أنتبه إلى خطإ الحركة التي أتيت بها إلا بعد أن قدحت الولاعة، وأشعلت اللفافة.. لأنني أكون بحركتي هذه قد أوحيت لهم بما يجعلهم يبررون به الاقتراب مني، فقلت لنفسي: جنيت على نفسك يا المعطي، لا البراقش! وبالفعل ما حدسته وقع.. قام أحدهم، فتقدم مترنحا ناحيتي، وهو يرفع يده اليمنى ملوحا لي أن أقف.. فحصت الموقف على وجه السرعة، واتخذت قرارا بعدم الاستجابة إلى حركته متعمدا تجاهله محافظا على زاوية الرؤية التي تمكنني من مراقبته جيدا، وصدري يكاد ينخلع من مكانه من شدة الخفقان، ثم لاحظت أن زميلا له طويل القامة يتعقبه مهرولا، فتيقنت أن سوءا ما سيلحقني لا محالة، وتوالت في ذهني صور عدة مختلفة ومتزاحمة في آن واحد حول ما سيقع، مهيئا نفسي لكل احتمال.. حين أدرك صاحب القامة الطويلة زميله المترنح الذي لم تعد تفصله عني سوى خطوات معدودة أمسك به من القفا، وسحبه نحوه بقوة مرغما إياه على العودة، ولما لم يستجب إليه قبّل خده، كما لو أنه يتوسل إليه، فوقف مترنح الخطوات في مكانه، وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة، من دون أن يعود إلى مكانه، مما جعل الموقف يكتسي غموضا أكثر.. تقدم مني صاحب القامة الطويلة في هدوء تام، فوقفت أنتظر ما سيبدر منه، وحين صرنا متقابلين وجها لوجه قال بصوت لبق، ورائحة الخمرة تفوح منه:
ـ معذرة أستاذ!
ـ قلت مداريا الموقف: لم يقع أي شيء..
ـ زميلي لا يعرفك لذلك تجرأ، من دون أن يستشيرنا..
ـ لا بأس.. لم يأت سوءا..
ـ كان يريد فقط سيجارة..!
أخرجت سيجارة، وقدمتها إليه، محاولا السيطرة على ارتعاش يدي الممدودة إليه، لكنه لم يأخذ اللفافة، ومد يده ليضعها فوق كتفي رابتا:
ـ احتفظ بسيجارتك يا أستاذ!
ـ قلت محاولا التخلص من الموقف: إذا كان زميلك في حاجة إلى السيجارة،
لا بأس أن يأخذها..
ـ لا شك أنك لم تتعرف عليّ.. قال مغيرا الموضوع.
ـ لا.. ربما ضعف الإنارة لم يسمح لي برؤيتك جيدا..
ـ لا.. ليست الإنارة.. بل طول العهد.. أنا زميل لك قديم من نزلاء الخيرية
التي كنت بها..كنتُ وقتذاك صغيرا جدا ابنَ التاسعة. وأنت كنتَ مراهقا..
ربما في عامك السابع عشر..
ـ معذرة.. لم أعد أتذكر.. على أية حال تشرفنا..
ـ رأيتك مرارا هنا بالزاوية.. لكن لم أتجرأ على محادثتك..
ـ سعيد بمعرفتك.. لا شك أنك في جلسة أنس مع رفاقك..
ـ جلسة أنس؟! قالها بنوع من السخرية والأسى معا، ثم أردف: نحتـال
على العيش.. ننتظر زبناء معينيين يأتون إلى هنـا من أجـل شـراء
ممنوعات..
ـ حظ سعيد..
ـ انتبه إلى نفسك يا أستاذ ! الوضع سيء هنا.. إذا شئت.. يمكـن أن
أصحبك إلى أن تصل إلى مكان آمن..
ـ لا داعي إلى ذلك.. إلى اللقاء..
تابعت طريقي تاركا ورائي صاحب القامة الطويلة، في الاتجاه الذي رسمته لي، ووجدتني أخترق أزقة حي النخيل.. كانت الفيلات المتبقية وسط العمارات التي نبتت كالفطر غارقة في الصمت يزيدها الضوء الخافت بما ينشره من ظلال ساكنة غموضا لا تشي بعمقه إلا بعض النوافذ المضاءة هنا وهناك، أسوار تنتهي بقضبان من الحديد، يتهدل فوقها اللبلاب، وبين الفينة والأخرى كان يهزني نباح الكلاب، وقد استثارها خطوي، وهي قابعة خلف الأبواب العريضة التي تنبعث من سقائفها المقوسة إنارة محصورة في كثافتها نحو الأسفل. أما العمارات فقد كانت شبيهة بالعلب المتراصة.. واجهاتها الخارجية تنم عن ذوق يوحي بالحذلقة، أكثر مما يوحي بإحساس راق..لم يكن يبتر شريط تأملي إلا نحنحات كانت تصدر عن البوابين الذين يقبعون أمام الأبواب، وكأنهم ينبهونني إلى حضورهم.. كنت أحييهم كلما مررت بأحدهم، بعضهم كان يرد التحية من دون أن يكف عن مراقبتي إلى أن أختفي، وبعضهم لا يهتم على الإطلاق، أو يتصنع عدم الانتباه، والبعض الآخر يخوض في حديث مع زميل له حول أمور خاصة..كنت أحدس بداوتهم من خلال لهجتهم التي تتميز بانفجار الصوت وحدته.. وقبل أن ألوي الطريق نحو الجهة المفضية إلى شارع إبراهيم الروداني مارا بشارع مبلط الحجارة الصماء السوداء تحفه الأشجار من الجانبين لفتت انتباهي سيارة شحن من نوع مرسيديس 207 بيضاء اللون مركونة جوار الرصيف أمام عمارة حديثة علقت فوق جانبها الأيمن لوحة إعلان مكتوب عليها " مؤسسة شبيك لآلات التبريد والتكييف"، كان هناك عاملان يفرغان من جوف السيارة صناديق من الكرتون ملفوفة فتحاتها بشرائط اللصاق، ثم ينقلونها إلى مرآب تحت أرضي.. حين دنوت من الرجلين بدا عليهما الارتباك، وتوقفا عن الحركة مصوبين نظراتهما المستطلعة اتجاهي، ولم يستأنفا عملهما إلا بعد أن تجاوزتهما. وخمنت أن أمر السيارة مريب من دون شك.. إذا كان ما يقوم به العاملان شيئا عاديا فلماذا كانت علامات الحذر بادية على حركاتهما ونظراتهما؟ ولماذا تفريغ الصناديق في هذا الوقت من الليل؟ قد يكون الأمر فقط مجرد جنوح في التفكير أدى بي إلى تخيل ما هو غير وارد؟ وقد يكون ما بدا على أنه احتياط صادر عن العاملين مجرد استغراب من رجل يمر وحيدا في وقت متأخر من الليل، أو مجرد فضول لمعرفة ما أفعله في منطقة ليست معتبرة في عداد الأماكن التي يرتادها الناس ليلا؟ ثم لماذا لا تكون الصناديق مجرد بضاعة مستوردة أخرجت من الميناء في وقت متأخر؟ وما شأني بكل هذا؟ فإذا كان الأمر مريبا فله أهله الذين يجب أن يسهروا عليه، وما لي والبردعة حملها البغل أم الحمار؟ وما لي ودور المخبر الذي تقمصته؟ دعك من كل هذا يا المعطي! وارم الخطو وراء الخطو..! ففراشك ينتظرك، حيث هو، دافئا وله كل الرحابة التي تسعك.. لك اللوحة التي بسطتها سعاد مرآة أمامك لترى فيها لغزها أو لغزك، فهي أولى بالتفكير والتأمل.. وهناك في شقتك من ينتظر عودتك ولم تخبر سعاد بحكايته.. حياتك نفسها تدعوك، بعد ظهور سعاد، إلى أن تعيد ترتيبها من جديد، فالسوق الذي لا يهمك ربحه ما الذي يرغمك على ولوج أبوابه..؟ لا.. سألج حتى المزاد الخاسر، وليس فقط السوق غير الرابحة.. لا.. ثم لا.. شبيك كان حاضرا أيضا.. والله فالخبر الذي ثمنه سبع فرنكات سيصير يساوي الدنيا برمتها.. ألم أر لوحة تحمل اسمه؟ لا شك أن له علاقة بالسيارة والبضاعة؟ وإذا كان هذا مرجحا فما علاقة رجل يشتغل بالعقار بآلات التبريد والتكيييف؟ بصناديق من الكرتون؟ أيكون..؟! أكيد.. وألف أكيـد.. أتـريد أن تقـول آ المعطي بأنه يتاجر في المادة إياها..؟ ولم لا!.. المخدرات يا مولاي!..طيب لنفكر جيدا، في القرائن، مرآب أرضي بحي النخيل، والزاوية مركز هام لترويج الممنوعات.. معنى ذلك تطبيق نظرية القرب من الأسواق؟ آه ! الأمر صار مكتملا.. وبعد...؟! حتـى إذا افترضـنا آ المعطي بأنك على صواب فما ستجنيه من ذلك؟ شبيك لن يكون وحده متورطا في الأمر، بل لابد أن يكون له شركاء ومظلات للحماية والتغطية، فهل تستطيع أن تلعب في منطقة مدججة بأقدام من العيار الثقيل، وأنت لم تفلح حتى في مجابهة صاحب الشقة الذي طالبك بالإفراغ واستصدر حكما لصالحه، وما هي إلا أسابيع معدودة وتجد نفسك من دون مأوى؟ ما ينفع القنفذ الذي صرته أمام الخطر سوى الانكماش على نفسه؟ قد ولى زمن التهور، وصار رمادا تذروه الرياح، وأقبل زمن الحكمة ولغة الإشارة والرموز.. ألم تستنجد سعاد بالحكمة نفسها واللغة ذاتها حين فضلت أن تبلغك وجهة نظرها بالرموز بدلا من الإفصاح عن الأشياء كما هي عفوية عارية..؟! طائران يجمدهما اللون في حركة ملتبسة يصيران معبرا للأسرار الصامتة كي تتحول إلى نصف حقيقة، إذا أمسكت بطرف منها انفلت طرفها الآخر. فأي طرف تريد سعاد الإمساك به؟ هل حقيقة اشترت اللوحة قبل زواجها أم هل بعد ذلك؟ سعاد لا تكذب أبدا، ولكن قد تختلط عليها الأمور، أو قد تظن تحت هاجس الضحية التي سكنها أنها اقتنت اللوحة في زمن كنت فيه المحور الذي يدور حوله المعنى.. ولذلك فما يعنيه لي الطائران لا يتحدد أبدا بالزمن الذي دخلا فيه وجودها، واستوطنا روحها، بل بأية لحظة عاشتها.. ألا يمكن أن يكون الطائر الذكر رمزا لشبيك والطائر الأنثى رمزا لها، وحركة الانفلات المنحرفة إلى الأسفل مع خفض الجناحين نحو الصدر أمام حركة الانقضاض حيث منقار الذكر مصوب إلى خوافي الأنثى وجناحاه مرتفعان إلى الأعلى ألا تعني محاولة سعاد التخلص من الجحيم الذي كانت تعيش فيه، والرغبة في تجنب الألم الذي تشير إليه مخالب الذكر البارزة؟! ولكن سعاد جعلتني أنا المعني بوضع الطائرين، وليس طليقها؟! هل يعتبر الطائر الذكر رمزا يخصني؟ ومتى كنت رجلا له مخالب يشهرها أمام أنثى مثل سعاد لا تمتلك سوى الرقة سلاحا؟! لا أظن أنها أرادت أن تقول ذلك، بقدر ما أرادت الإشارة إلى ما تعتبره تنكرا مني للحب؟ وحتى في هذه الحالة فحركة الانقضاض غير مناسبة. ففي هذه الحالة يجب أن تصور الحركة على هيئة تحليق منفرد في اتجاه بعيد، ويرسم الطائر الذكر ضئيلا بالقياس للأنثى التي يجب أن ترسم في الخلفية الأمامية متمتعة بحجم أكثر كبرا، وهي تعاني من حالة عجز تجعلها قابعة في مكانها غير قادرة على اللحاق به، وتكتفي بمتابعته ببصرها.. لا.. هناك خلل ما في النظر إلى الأمر.. لقد نسيت أن سعاد قد وضعت اللوحة إزاء رغبتي في الاهتداء إلى مشاعرها اتجاهي، ولذلك لا يقول وضع الطائرين حقيقته إلا منظورا إليه انطلاقا من هذه الرغبة.. إذن ليس الذكر هو الأساس، بل حركة الانقضاض هي ما يتوجب فهمها، وترجمتها إلى استحواذ الماضي على الأنثى ومطاردتها لها، تحاول الانفلات منه، لكنها تظل مهددة بسطوته، وليس هذا الماضي سوى تجربة الحب التي خضناها سوية.. هل أرادت إذن أن تقول لي بأنها ما زالت أسيرة التجربة نفسها، وأن الأنثى الطائر لا بد لها أن تستسلم، وأن المسألة هي مسألة وقت فقط.. نظرت إلى الساعة، وأنا ألج مدخل العمارة، كانت العقارب تشير إلى منتصف الليل.. صعدت الدرج ببطء حتى لا تحدث قدماي إزعاجا للجيران.. وما أن اقتربت من قفل الشقة، محاولا التقاط المفتاح من جيبي حتى فتح الباب بحذر، وأطلت منه برأسها المنفوش مبقية نصف جسدها وراءه، وعلامات الجزع بادية عليها، فسحت الطريق أمامي، وأغلقت الباب ورائي، ثم تبعتني تجر قدميها متثاقلة، وهي تسأل مثل أم تأخر ابنها عن العودة إلى البيت:
ـ أين كنت آ سي المعطي؟ قلقت عليك كثيرا.. حتى أن النـوم لم
يطاوعني.. تخيلت أمورا كثيرة سيئة.. لم تتعود على البقـاء خارج
البيت إلى هذا الوقت المتأخر.. الحمد لله على عودتك بالسلامة!
ـ لم يحدث أي شيء.. كنت عند بعض الأصدقاء..
ـ المهم.. أنك بخير.. سأعد لك المائدة.. فلا شك أنك جائع..
ـ لا داعي إلى ذلك..
ـ ما بك؟!
ـ لا شيء.. ليس المرة الأولى التي لا أتناول فيها العشاء..
ـ كما تريد..
ـ هل نامت عائشة؟
ـ نعم.. انتظرتك قلقة إلى أن غلبها النوم..
ـ من الأحسن.. حتى يمكنها أن تفيق باكرا لتذهب إلى مدرستها..
ـ هل أعد لك فنجان قهوة؟!
ـ إذا طاب لك..
أسرَعَتْ نحو المطبخ، وهي تتثاءب واضعة يدها حول فمها، بخطى مسرعة كعادتها، وبقيت مسترخيا فوق الكنبة أفكر في طيبة صفية، وسلامة طويتها، وقناعتها بما يوفره لها الزمن هي وأختها، غير مكترثة بما يمكن أن يحمله الغد معه من مفاجآت، يكفيها أن تكون تحت سقف تلوذ به، وكسرة خبز تقهر بها الجوع، ولا تطمع في ما هو أبعد من ذلك. وكم كان يعذبني مجرد التفكير في مصيرها هي وأختها في حالة إذا ما أصابني مكروه لا قدر الله، فقد صارتا جزءا مني، بل صرنا نكوّن عائلة صغيرة من دون أية رابطة قرابة..
عادت صفية من المطبخ، ووضعت فنجان القهوة على المائدة مصحوبا بكأس ماء، وقالت لي: تصبح على خير! ثم همت بالانصراف إلى غرفة نومها. ولم تكد تبتعد بضعة خطوات حتى وجدتني أطلب منها العودة، فرجعت للتو، وجلست فوق الكنبة مستعدة للإصغاء، وقد بدت أجفانها تغالب النوم، فأشفقت عليها قائلا:
ـ أنت متعبة.. يمكنك الانصراف؟
ـ لا تهتم!.. هل هناك من شيء؟!
ـ لا.. كنت أريد فقط أن أتحدث إليك قليلا.. فلنؤجل ذلك إلى الغد..
ـ لا غد ولا هم يحزنون يا خويا.. إذا لم تبح لي بما يشغلك، فمن يسمعك؟
ـ طيب.. هناك بعض الأمور التي تحدث في الحياة تفرض علينا أن نتعامل معها
حسب مصلحة الجميع، لذلك ارتأيت أن أشركك في أسرار تخصـني، وقد
تهمك أنت وعائشة بطريقة غير مباشرة، ولا بد أن تكونا على علم بها..
ـ نعم.. ألا تقول على الدوام بأننا أختاك الصغيرتان اللتان لم تلدهما أمك..
من المفروض، إذن، أن نتعامل مع أسرارك كأنها أسرارنا الخاصة..
ـ هل لكما أسرار أيضا لا علم لي بها..؟! قلت مازحا..
ـ كلك نظر.. يا أستاذ..!
ـ طيب.. لقد كذبت عليك حين قلت لك بأني كنت عند بعض الأصدقاء..
ـ والله يا خويا.. أحسست ببصيرتي أنك تكذب، ولكني لم أرد أن أعــكر
مزاجك..وقلت لنفسي: يا صفية! المعطي كذب علـيك.. وما له! خلـيه
يكذب مادام الكذب يريحه..
ـ والله آ صفية أنت طيبة، وبنت الحلال..
ـ وأنا أعد لك فنجان القهوة كنت أقلب الأمر في دماغي، وأقـول: لابد أن
يتكلم، لأنني متيقنة من أنك لا تستطيع النوم متلبسا بالكذب..
ـ وها أنا أصلح الخطأ.. اسمعي جيدا.. لقد التقيت اليوم صـدفة صديقـة لي
قديمة..
ـ كنت إذن عند امرأة..؟!
ـ لا.. ليس كما تصورت.. يجب ألا يجنح دماغك نحو ما هو غير وارد..
ـ ….
ـ ذهبت عند العم حسان ووجدتها هناك في بيته..
ـ اسمها سعاد.. أليس كذلك؟!
ـ كيف عرفت ذلك..؟! أتكونين فتشت جارور الدولاب؟! أقرأت الرسائل
الخاصة بي؟!
ـ إذا فعلت ذلك سأكون خنت ثقتك، وبادلتك الإحسان بالشر.. بيـنك
وبين نفسك قل آ خويا.. هل يمكن أن أفعل مثل ذلك..
ـ بالطبع لا..
ـ ولماذا أسأت بي الظن إذن؟!
ـ لم يسبق لي أن فاتحتك في موضوعها أبدا..
ـ وأي موضوع؟
ـ موضوع سعاد..
ـ سعاد كانت في ذهني مجرد اسم لغز..
ـ المهم.. كيف عرفتِ اسمها..
ـ لم أقل بأنني عرفت اسمها، بل خمنت أن يكون اسمها..
ـ لا يهمني الفرق، ما يهمني اسمها وهو يرد على لسانك..
ـ طيب.. أنت.. لا تستغرب، ولا ترفع حاجبيك هكذا، وكأنك لا تصدق..
هناك سر لم أرد أن أطلعك عليه، لأنني خشيت أن أسيء الأدب.. مـرارا
كنت أسمعك تصيح بقوة في الليل أثناء النوم، فأستيقظ مهرولة نحو غرفتك،
وأبقى واقفة متوجسة إلى أن تمر نوبة الصياح.. كنت أفعـل ذلك خـوفا
عليك..
ـ آه..! إلى هذا الحد تنشغلين بأمري!
ـ ألست أخي وأسرتي؟! المهم أنك خلال نوبة الصياح هذه كنت تكرر اسم
سعاد.. وكم كان يعذبني ذلك.. حتى أنني كنت أزمع أحيانا على مفاتحتك
في الأمر، لكن كنت أحجم عن ذلك خشية من أن يكون من غير اللائق أن
تفعل ذلك فتاة في مثل سني..
ـ كل شيء إذن واضح لك..
ـ مسألة الوضوح فيها نظر..
ـ كيف..؟ ما الذي يدعو رجلا إلى أن يكرر اسم صديقة له في النوم مرارا..؟
ثم ما الذي يحدث له بعد أن يلتقي بها بعد غياب دام أكثر من عشرين سنة؟
ـ الآن.. ربما فهمت.. اتفقتما على الزواج..
ـ لم يحصل بعد ذلك، وإنما أفكر في الأمر من جهتي..
ـ سيحصل.. أنا لي كامل اليقين أنه سيحصل.. رجل في مثل طيبتك وكرمك
وتفهمك لا يمكن لأية امرأة أن ترفضه..
ـ إذا ما حصل.. أقول إذا ما حصل.. ستصبحين أنت وعائشة داخل المعادلة،
وهذا هو الغاية أصلا من الحديث إليك..
ـ وما دخلي أنا وعائشة في قضية تخصكما؟
ـ كيف أفهمك؟ سهلي علي الأمر الله يسهل عليك!
ـ يا خويا كل شيء بيدك!
ـ حاولي أن تفهمي! ألست مقيمة أنت وعائشة معي؟ فإذا ما قبلت سعــاد
الزواج ما هو الموقف الجديد الذي سنكون مضطرين إلى مواجهته معا؟
ـ آه..! فهمت.. يحلها ألف حلاّل.. ما يقفل باب حتى تنفتح أبواب.. المهم
هو أن توافق تلك المرأة.. وأن تكون سعيدا، أما نحن فلا تنشغل بأمرنا!
ـ ليس قصدي هذا.. أردت أن أحيطك علما حتى لا تفاجئي أنت وأختك..
أما مستقبلكما فهو قضيتي التي لا يمكن أن أتخلى عنها..أردت بحديثي إليك
أن أطمئنك على مصيركما..
ـ هذا هو المظنون فيك.. جزاك الله خيرا !
ـ الآن يمكنني النوم مرتاح البال..
ـ تصبح على خير..
ارتميت فوق فراشي متعبا، من دون أن أغير ملابسي، فقد كان فكري موزعا بين سعاد وصفية وعائشة، بين نداء الحب الذي يعمي وألفةٍ دامت أزيد من عشر سنوات، ربع العمر تقريبا.. كنت أتقلب فوق الفراش شبيها بمن يخير بين أمه وأبيه.. سعاد الروح والقلب، وصفية وعائشة الحضنان الرؤومان اللذان وفرا لي السند العاطفي، فقد ملأتا الفراغ الذي أحدثه غياب الحبيبة، وكانتا تشعراني بالعطاء الذي لا يحد، كل واحدة منهما تسعى إلى إرضائي ما وسعها الجهد، وتقلق لغيابي، و تهتم بي في حالة المرض، وتعتني بي في حالة التعب.. كنت بالنسبة إليهما كل شيء.. الأب والأخ والصديق.. رعيتهما وهما صغيرتان إلى أن استوتا كاملتي الأنوثة.. دخلتا حياتي بالصدفة مثل هبة من الله.. كنت عائدا من العمل فاستوقفني رجل في منتصف العقد السادس ومعه صبيتان.. الكبيرة تبلغ من العمر الثانية عشرة، والصغيرة لم تكد تتم عامها السابع.. كانت ملامح الرجل تدل على العوز وقلة اليد.. جلباب صوفي مرتق ونعلان قديمان مهترئان ووجه داكن مغبر.. الجلد على العظم.. والصبيتان تكادان لا تختلفان عنه.. نحيلتان عليهما من الثياب ما يستر الجسد، وفي قدميهما الصغيرتان صندلان من المطاط، عيناهما تبحلقان في ما حولهما مخطوفتين، وكأنهما تساقان إلى مصير مجهول.. سألني الرجل بكل عفوية ما إذا كنت أعرف عائلة، أو عائلتين في حاجة إلى الصبيتين مقابل مبلغ مالي..لم أصدق ما سمعته، فسألت الرجل مستغربا: أتقصد بيعهما؟! فأجابني بكل هدوء مداريا خجله بأن لا حيلة له أمام عشر نفوس، وبأنه رجل معدم لا يقوى على إطعامهم والاهتمام بهم جميعا، وبخاصة بعد وفاة زوجته التي كانت تتكفل على الأقل برعايتهم، ثم أضاف وهو يحك قفاه: ومن يدري قد تجد البنتان فرصتهما في المدينة، أليس من الأفضل لهما أن تخدما غيرهما، وتنعما بعيش مناسب بدلا من أن تضطرا إلى التسول.. كانت الصبيتان تلتقطان كلام أبيهما غير مباليتين بما ينتظرهما، وغير مقدرتين ما سيحدث لهما، وعيناهما تتطلعان إليّ، وكأنهما تستطلعان، كما أباهما، مدى قدرتي على إنهاء رحلة من التيه والبحث.. فكرت بسرعة في ما يمكن أن تتعرض إليه البنتان من قسوة واستعباد في حالة ما تمت الصفقة مع زيجة حديثة النعمة، وفكرت في ذل الرجل مهيض الجناح، ومدى الألم الذي يعتصره، وهو يعرض فلذتي كبده للبيع، كما يعرض أية بضاعة خاسرة، ولعنت في داخلي هذا الزمن الذي صار طاحونة تسحق من دون رحمة الروح قبل الجسد.. ولم أترك لنفسي مهلة لأي استبصار، أو حساب منطقي يجعلني أقدر مدى المسؤولية التي يمكن تحملها من جراء أية محاولة أقوم بها لإنقاذ الفتاتين الصغيرتين، فقلت للرجل بأنني مستعد لمساعدته، فانبسطت أساريره، وانحنى ليقبل يدي فسحبتها، وطلبت منه أن يتبعني.. كان يجر خلفي قدميه متثاقلتين مقاوما انفلات نعليه والصبيتان تتمسكان بجلبابه حائرتين نظراتهما تكاد لا تستقر، تنتقل بين المارة والواجهات، وكأنهما تلجان متاهة، وكان الرجل بين الفينة والأخرى يستحثهما على الإسراع.. وكنت خلال الطريق أفكر في ما أقدمت عليه متسرعا، تتوزع مشاعري بين الحماس للفكرة التي خطرت لي وبين التخلي عنها. وكلما اشتدت الحيرة كان سليمان يتبدى لي ويدا الرجل الغريب تختطفه من بيت الخالة، وتتبدى الحياة التي عشتها محروما من دفء الأسرة متنقلا بين الأمكنة، كما المتاع الذي ينتقل من ركن إلى آخر.. صعدت درج العمارة والثلاثة ورائي يلهثون عيونهم على الأبواب، كما لو كانوا يخمنون أيها ستشرع أمامهم لتبتلعهم، فتحت باب الشقة فدخلوا خلفي مترددين، ثم جلسوا فوق الكنبات التي تتوزع على المدخل على هيئة نصف دائرة، حملت إليهم مشروبا غازيا، وصببت لكل واحد كأسا.. كان الأب يحتسي المشروب متلمظا، بينما شربت البنتان كأسيهما دفعة واحدة، ثم مررتا ظاهر يديهما على شفتيهما.. الكبيرة كانت تتفحص محتويات المدخل والصالون الذي يقابله والصغيرة تتحسس طرف الكنبة وهي تأرجح قدميها، والصندل المطاطي يكاد ينفلت منهما.. افتتح الرجل الحديث ممتدحا خصال ابنتيه، فهما طيعتان وذكيتان وصبورتان، وأيديهما مغلولة إلى لجام لا تمتد إلا بعد الإذن لهما، ولما لاحظ أنني لم أنبس ببنت شفة وهو يعدد مزاياهما قال في ما يشبه الاستغراب:
ـ آش قلت؟!
ـ قبل القول.. آش اسم البنتين؟
ـ الكبيرة صفية.. والصغيرة عائشة.. إيوا.. أين صاحبة الدار لكي نعرف
رأيها؟ ومن ستختار؟
ـ لست متزوجا.. والبنتان سأحتفظ بهما معا..
ـ وما حاجتك إليهما وأنت ليس لك زوجة، ولا أولاد..
ـ اسمع.. أنا وحدي لا أسرة لي، و لن أتركك ترمي هاتين الصغيرتين إلى
الجحيم، أنت لا تعرف ما يلحق الصبايا المستعبدات من أذى..
ـ أتريد أن...
لم يتم العبارة، وإنما أتى بإشارة فضة بجمع سبابتي يديه في اتجاه صفية، وفهمت منه أنه يتساءل ما إذا كنت أفكر في الزواج منها، فأحسست بالامتعاض، وكدت ألعنه، لكني تمالكت نفسي.. وبدا لي الرجل قميئا من دون أخلاق، ومستعدا لأن يؤجرهما حتى للشيطان فقلت:
ـ هل تظن أن رجلا في الثلاثين من عمره يناسب ما في دماغك..
ـ آ ولدي ! الأرض هي الأرض حرثها البغل أم الثور.. المهم الغلة..
ـ يجب أن تفهم.. غرضي ليس هذا..
ـ المهم قل غرضك وخلصني..!
ـ طيب.. ستعيشان هنا في بيتي كأي طفلتين في سنهما، وسأعمل عـلى
تربيتهما إلى أن تبلغا سن الرشد، ووقتذاك يمكنهما التفكير في حياتهما..
ـ أهذا غرضك؟!
ـ نعم.. ألا يسعدك أن تجد البنتان من يعتني بهما..
ـ لا بأس.. يبقى الثمن..
ـ أقول لك إنني سأتكلف بتربيتهما، وأنت تقول لي الثمن.. ألا تحتـاجان
إلى الأكل واللباس والتعليم.. كل هذا يتطلب المال، وأنا سأتحمل الإنفاق
عليهما..
ـ لم آت بهما من أجل أن يجدا مكانا يعيشان فيه.. أتيت بهما مـن أجـل
نصيب من المال أستعين به على الحياة..
ـ طيب يمكن أن نتفق على حل آخر.. أترك لي عنوانك، وكلما توفـر لي
قدر من المال أرسله إليك..
ـ شوف..! الزرع حين يهبط إلى السوق لا يهم أيطحن أم يعطى علـفا..
ما يهم هو ثمنه..
ـ سأمنحك عشرين ألف ريال.. هي ما أملك..
ـ اتفقنا...
ـ هناك شيء آخر.. يمكنك أن تأتي لزيارتهما متى أردت.. كما يمكنهما أن
ترحلا إليك لزيارتك.. شريطة ألا تتدخل في شؤون تربيتهما..
أخفى الرجل المبلغ داخل ثيابه جهة الصدر بعد أن عده، وأعاد العد، ثم ودع الطفلتين وهو يوزع وصاياه عليهما من دون أن يقبلهما، وتوجه نحو الباب مذكرا بما اتفقنا عليه. وبمجرد ما أن غادر الشقة حتى شرعت عائشة في البكاء ملتصقة بأختها التي لم تكن تقل عنها اضطرابا وحزنا، ووجدتني وجها لوجه مع تجربة جديدة تفرض عليّ التصرف من دون أن تكون لدي مقاييس محددة، وبالتالي كان من المفروض أن التجئ إلى إحساسي الداخلي استخدمه في عملية التطبيع مع الطفلتين. جلست بالقرب من عائشة ومررت بيدي على شعرها، كان النشيج يتصاعد وكأنه ينبع من صدرها، أخذت منديلا ورقيا من جيبي، وحاولت أن أمسح دموعها بينما اكتفت صفية بمراقبتي.. لم أرد أن أكلمها واكتفيت بجس مشاعرها، فقد كانت في حالة ترقب مشوبة بقلق غامض، ربما تنتظر مني إشارة للقيام بعمل ما، أو تريد قول شيء ولكنها تتحين الفرصة، أو تعاني من الرغبة في البكاء ولكنها تحاول إخفاءها ريثما تبقى لوحدها..وبينما أنا أستطلع ما يبوح به وجهها الدائري بعينيه الواسعتين السوداوين انتصبت قائمة، وظلت واقفـة أمامي من دون أن تفصح عن شيء.. سألتها عن السبب، فقالت بأنها تريد غسل وجهـها، فأرشدتها إلى الحمام، غير أنها قبل أن تتحرك طلبت من أختها أن تصحبها، ثم التفتت نحوي وقالت بأن عائشة يجب أن تغسل هي أيضا وجهها. طلبها هذا جعلني أدرك أنها ذكية، لها قدرة على صرف انتباه الآخرين عن مقاصدها الحقيقية، فهي إما أرادت أن تبكي من دون أن أراها، أو أرادت أن تقضي حاجتها، فعبرت عن ذلك بطريقة غير مباشرة. لكنها بتصرفها هذا وفرت علي عناء كبيرا، لأن مجرد رغبتها في استعمال جزء من البيت يعني مباشرة الانخراط في محاولة التعرف عليّ، ويعد ذلك يتحقق إمكان بداية التآلف مع عناصره، وبالتالي مع من يسكنه.وكنت أتخيلهما، وهما تغلقان عليهما الحمام، تتفرسان وجهيهما في المرآة، وقد تلمس أناملهما حاجياتي، فرشاة الأسنان أو آلة الحلاقة أو زجاجة العطر أو أي شيء يخصني. وكنت أتمنى لو تفعلان لأن ذلك يعني بداية الاقتراب من عالمي. حين خرجتا أشعلت التلفاز، وقلت لهما بأنني سأغادر البيت هنيهة من الزمن لأجلب الأكل، ويمكنهما الاستمتاع بمسلسل الرسوم المتحركة ريثما أعود.
في مساء اليوم نفسه صحبتهما معي إلى الباب الكبير لأشتري لهما ما تحتاجان إليه من لباس، وحاجيات أخرى يتطلبها سنهما، أدوات زينة، دمى، حلويات.. وكنت أشعر لأول مرة، وأنا أتسوق وأختار ما يناسب كل واحدة، وأبحث عن المحلات التي تبيع هذا النوع أو ذاك، بالمسؤولية الملموسة اتجاه الغير التي تجعلك تحس بالانتماء إلى مجموعة تخصك، وتقاسمك الحياة من حيث هي تفاصيل عيش.. مرت الشهور الأولى وأنا أحاول تعليمهما كيفية التصرف في مختلف المناحي التي تقتضيها الحياة في البيت أو خارجه، وفي أنصاف الأيام التي لا أشتغل فيها كنت أعلمهما القراءة والكتابة.. اعترضتني صعوبات كثيرة، لكنها ما لبثت أن تلاشت مع التعـود والتكرار.
في السنة الموالية ألحقت عائشة بالمدرسة، وصفية بمركز نسوي لتتعـلم بعـض الصناعات اليدوية لأنها كانت قد تجاوزت سن التمدرس.. وكان عليّ أن أتأقلم مع مسؤولية جديدة يداخلها الحب في صقل مادة خام والخوف من استعصائها على التشكل وفـق القالب المناسب.. وصار تفوقهما قلقا يلازمني، وبدأت مرحلة من التحدي تطلبت مني مراقبة ما تنجزه عائشة من فروض ودروس، والعمل على تقويم الاعوجاج وملء الثغرات والتنبيه إلى التقصير..كما كان عليّ أن أساعد صفية على استدراك ما فاتها في ما يخص اللغة والحساب حتى أجعلها قادرة على الانخراط في محيطها من دون مشاكل.. وكم كانت تغمرني السعادة حين تحتل عائشة الصف الأول متفوقة على زميلاتها، أو حين تبدع صفية في إنجاز تلك التشكيلات الرائعة من أنماط الطرز المختلفة.. لم تمر الحياة دوما على نفس الوتيرة، فقد كانت تظهر بين الفينة والأخرى مشاكل محددة، وكان من المفروض أن أتغلب عليها وفق ما تتطلبه من اللين أو الصرامة. لكن الصعوبات كانت أكثر حدة حين بدأت عائشة تطل على عالم المراهقة، فكانت تدفعها الرغبة الجامحة في التعبير عن الاختلاف والاستقلال بالرأي وإثبات الجدارة بأي ثمن إلى اختلاق النزاع تلو النزاع مع صفية، وصارت التظلمات تصلني تباعا تارة من عائشة وتارة من صفية، وكان عليّ أن أمسك العصا من الوسط حتى لا أشعر أية واحدة منهما بامتياز عن الأخرى، محاولا تضييق الهوة بنيهما معتمدا أحيانا الحوار، وأحيانا أخرى الردع من دون قسوة، ومما زاد من التوترات بينهما اختلاف الطبع، فصفية هادئة تميل إلى الاعتدال في اللباس والزينة وملازمة البيت مع نزوع نحو العزلة، بينما كانت عائشة أكثر حركة.. تثير حولها صخبا لا ينتهي، وتشعر باعتداد بالنفس زائد عن اللزوم، مع ميل إلى الاهتمام بهندامها، والحرص على أشيائها بحيث أنها ترفض مقاسمتها مع الغير، فضلا عن رغبتها في الانفتاح على الآخرين والعالم الخارجي. وبالرغم من سلوكها المشوب بالأنانية كان تفوقها الهائل في الدراسة يشفع لها، ويجعلني أقتنع أن الزمن كفيل بتهذيب إحساسها المفرط بذاتها، بل أحيانا كانت تفرض عليّ بما تأتيه من إقبال على التحصيل الاقتناع بشخصيتها، كماهي، حتى أنني كنت أتساءل ما إذا كان الذكاء ليس سوى فضيلة لهذا الشعور بالتميز عن الآخرين بما يتطلبه من إثبات للجدارة من طريق تحويله إلى أفعال مبهرة.. لكن بالرغم من اختلاف الطبع بين عائشة وصفية، فقد كانتا تتميزان معا بقدرة هائلة على الغفران والنسيان، وعلى منحي كل ما يشعرني بالحنان والدفء، ومدي بعناصرالابتهاج في لحظات الضيق، واشتداد سعير اللامعنى..
كنت امشي في سرداب طويل نهايته لا تبين أرضيته مظلمة، بيد أنها كانت شفافة. وعلى الجانبين غرف مفتوحة،كلما دخلت إحداها وجدتها تطل على هاوية لا قرار لها، تراجعت من الرعب إلى الخلف فوجدت رجلين ضخمي الجثة يشيران إلي من دون أن يتحركا، وفجأة رأيت سليمان يدخن غليونا في نهاية السرداب وعيناه تلمعان مثل ذئب، ثم اختفى في إحدى الغرف.. عدوت خلفه، ولما وصلت إلى الغرفة لم أجده، ثم أحسست يدا تمسك بكتفي.. استدرت مذعورا فرأيت امرأة ملطخا وجهها بالرماد تًخرج ثديها وتقول لي هل أنت جائع، فقلت لها أريد أخي سليمان لقد دخل هنا واختفى..لم تجبني وإنما أشارت إلى ثديها الثاني، وهي تتألم وتقول سيسقط مني، وحين امتدت يدي إليه وجدتني أمام سعاد وقد اختفت المرأة، وهي تقول لي لقد جف الثدي وصار ضامرا.. ولم أكد أجيبها حتى رأيتها تجري خارج الغرفة.. تبعتها أعدو خلفها، وهي تتجه نحو نهاية السرداب المعتمة، غير أنها اختفت.. وفجأة انتبهت إلى ثغرة هائلة في الجدار يتسرب منها ضوء الشمس، فنفذت منها إلى مرج أخضر فسيح ينتهي بأحجار ضخمة تحجب ما وراءها.. مشيت فوق العشب مقاوما ريحا قوية لها فحيح لا ينتهي، وسترتي تتطاير أطرافها وكأنها ستقتلع من مكانها، وكلما تقدمت ابتعدت الأحجار عني، ثم سمعت، وأنا على هذه الحال من الخوف، بكاء أنثويا مرا.. التفت باحثا عن مصدره، فلم أتبين أي شخص، لكنني لمحت قبرا عند شجرة سرو تنحني ثم تستوي بفعل هبات الريح.. اقتربت من القبر فتبينت سعاد مطرحة جنبه.. سألتها: قبر من يكون؟ فقالت قبري..
أحسست يدا ناعمة تربت على كتفي، وكنت أصرخ مناديا على سعاد التي كانت تبتعد هاربة قدماها حافيتان وثيابها ممزقة. ثم سمعت صوتا يناديني أن أستيقظ فقد حـان موعـد الانصراف إلى العمل.. فتحت عينيّ، فوجدت صفية شبه منحنية فوقي، ويدها ما زالت تربت على كتفي:
ـ قم.. يا خويا! باسم الله عليك!
الزيارة الثالثة
رمقتني ابتسام، وأنا أتجاوز مدخل الزقاق الضيق، مًقْبِلا صوب بيت العم حسان، فتخلت عن اللهو مع الصبايا، وهرعت نحوي بتنورتها الخوخية متهللةَ الوجه.. انحنيت كي أقبلها، فطوقت عنقي بساعديها الطريين.. أخرجت من جيب سترتي شكولاته وأهديتها لها، فأخذتها شاكرة، ثم أمسكت بيدها، وتوجهت نحو الباب نصف المفتوح.. الرجال المتحلقون حول لوح الضامة كانوا يراقبون المشهد في فضول حذر، والنساء اللواتي يخرجن رؤوسهن ونصف جدعهن الأعلى من الأبواب المواربة يتبادلن في ما بينهن إيماءات الاستغراب من بعيد، وكنت متأكدا أن شهيتهن للاغتياب ستتفتح بمجرد ما أن أتوارى عن أنظارهن.. دخلت دار العم حسان صحبة ابتسام.. كان الباب السفلي مفتوحا على الردهة، وسعاد تبدو جالسة على الكنبة تشاهد التلفاز. وبمجرد ما أن لمحتني، وأنا أنزل درجات الباب الثلاث حتى خفت إليّ، وهي تمد يدها مرحبة بي.. شعرها مشدود إلى الخلف، ترتدي قميصا خوخيا من دون أكمام، وبدت ذراعاها الرخاميتان مصقولتين نابضتين بطراوة الحرير، وما تحت العنق نديا يختزن ذخائر من الدفء لا تنضب، أما تنورتها فكانت رمادية ملتصقة بوركيها الواسعين مما زاد نعومة الجسد إشراقا آسرا.. أفسحت لي كي أدخل، غير أنني لم أفعل، وقلت لها سأرى العم حسان أولا، ففركت يديها مدارية انفعالا مكتوما، وكأن شيئا يراودها في الداخل لا تريد الإفصاح عنه، لكن عيناها وهما تزوغان كانتا تشيان به بنوع من التستر الذي ينادد قدرتي على التخمين. وأحسب أنها أوَّلت رغبتي في الصعود إلى العم حسان بشيء من الشطط، ظانة بأنني أخابث نفسي بعدم الإفصاح عن غرضي الحقيقي من المجيء إلى الزاوية مداريا الرغبة في رؤيتها باصطناع الحاجة إلى رؤية العم حسان، ولذلك حسمت الأمر بما يتطلبه الموقف من الحنو المتفهم قائلا:
ـ لا أستطيع التنازل عن عرض كهذا يعد بمذاق خاص، إلا إذا كنت عديم
الذوق.. ولكن هناك أمر هام يضطرني إلى رؤية العم حسان أولا..
ـ لك ذلك.. ظننت أنك أتيت لزيارتي، ولذلك دعوتك..
ـ لم كل هذا القلق؟ سأمر عليك بمجرد ما أن أنتهي..
ـ ولِمَ أقلق؟! خذ حريتك..
ـ طيب.. لحظات قليلة أنزل بعدها إليك..
أشعرت العم حسان بوجودي بدقات خفيفة على باب الطابق العلوي، وتناهت إلى سمعي نحنحته المعهودة قبل أن يسمع صرير المزلاج، ثم برز الوجه المتغضن ترتسم عليه علامات الاستطلاع، وما أن رآني حتى انفرجت أساريره مرددا عبارات الترحاب بصوت يخالطه بعض الإعياء.. تقدمني إلى الداخل، ويده المرتعشة تشير إلى الصالون والمسبحة تتدلى منها متأرجحة في ارتخاء.. كان يرتدي قندورة رمادية فضفاضة، ويضع على رأسه طاقية مستديرة من دون حواف مشغولة باليد بيضاء تتخللها بعض التخاريم.. بدا،وهو يجلس على السداري مقلبا عينيه في أرجاء الصالون، كمن أضاع شيئا ثمينا.. ثم بدأ يردد مهموما: كانت هنا فوق المائدة.. يا إلهي! أين هي؟ لا بد أنها هنا في مكان ما.. المرء حين تنال منه الشيخوخة يصير كثير النسيان تخونه الذاكرة، حتى أبسط الأشياء تفلت منه.. هل أكون أرجعتها إلى مكانها في جارور الدولاب؟! لا بد أنها هناك.. سألته عما يبحث، فقال: بضعة أوراق.. أوراق تهمني.. أحتاج إليها، ثم غادر مكانه وهو يغالب غدر الجسد المنهك، وقد أدركته نوبة من السعال، كان يهتز لها صدره الواهن تحت ثوب القندورة.. اختفى وبقي السعال وحده ينم عن حضوره، ثم عاد بعد برهة بيده أوراق رهيفة أحال القدم لونها إلى اصفرار ممتقع به لطخات شبيهة ببقع حريق لم يصل درجةالاشتعال.. حاول تسليمها إليّ، لكن يده المرتعشة خانته، فسقطت على السجاد.. التقطتها، ثم سألته:
ـ ما شأن هذه الأوراق يا عم؟!
ـ عقود يا ابني.. عقود ملكية تخص قطعة أرض ورثتها عن أمي رحمها الله..
ـ وما حاجتك إليها؟ أتريد بيعها؟
ـ لا.. ليس مرادي ذلك.. أريد أن تتأكد منها.. لقد استولوا على الأرض..
تراموا عليها.. حررنا البلاد لكي يأتي أولاد... لسرقة أولاد الحلال..
ـ هل أنت متأكد مما تقول!
ـ أخبرت بالأمر، فسافرت إلى أولاد شعير للوقوف على الحقيقة، فوجدت
الخبر صحيحا تماما.. ذهبت إلى القائد أطلعه على ما جرى فلم يستقبلني..
فأنا حائر..
ـ هل أصبحت الدنيا سائبة إلى هذا الحد؟!
ـ أكثر من سائبة يا ابني..! إذا كنت مسنودا بالنفوذ فلك ما عـلى الـبر
والبحر.. هكتارات باتت ما أصبحت.. جاءوا وطردوا الرجل الذي كان
يحرثها بالنصف.. وزرعوها بالتبغ، وخصصوا جزءا منها لتربية البقر..
ـ ومن أقدم على هذه الزبلة؟!
ـ ومن يكون غيرهم..؟! أصحاب الوقت.. أحدهم.. لا أعرفه، لكنهم
يقولون بأن له نفوذ قوية..
ـ وأهل القرية؟!
ـ لم يعرني أحدهم اهتماما.. من أعرفهم رحلوا أو ماتوا.. ومن بقي لاذ
بالصمت.. الخوف صار جاثما على صدور الناس.. كل واحد يهـمه
النجاة بنفسه، بعيدا عن حريق الرأس..
ـ ولكنك تملك عقودا تثبت ملكيتك للأرض..!
ـ نعم.. لكن قال لي رجاله الذين وجدتهم على الأرض بأنه يملك عقودا
تثبت أحقيته بها..
ـ إذن هذا نصب واحتيال..
ـ هذا المشكل هو الذي جعلني أهتف إليك وأطلبك بسرعة..
ـ أنا رهن الإشارة، ما ثقل عليك خف عليّ..
ـ أنا يا ابني رجل وهن مني العظم، ولم أعد أحتمل المتاعب، و دوخـان
دهاليز الإدارة والمحاكم، لذلك أتمنى أن تتحمل عني هذه المشقة.. تكفل
بالإجراءات التي تراها لازمة، وأنا مستعد لدفع المصاريف..
ـ كن مطمئنا يا عم ! سأتدبر الأمر..
ـ أعتذر إن كنت سأسبب لك بعض المتاعب.. كما تعلم.. لا أحد أطمئن
إليه غيرك..
ـ يا عم ! تعبك راحة.. لا داعي للاعتذار، أنت في مقام الأب..
ـ أصلحك الله يا ولدي..! ورزقك الذرية الصالحة..!
ـ بالمناسبة.. لم تخبرني من قبل برغبتك في كراء السفلي..
ـ الفكرة لمعت في ذهني فجأة.. لم أفعل ذلك رغبة في المال، وإنما رغبة في
من يؤنسني ولو عن بعد.. قد أموت ولا ينتبه إليّ أحد.. لقد رجوت المرأة
التي اكترت السفلي أن تتفقدني بين الفينة والأخرى.. أريد يا ابني ميتـة
مستورة.. فمن الصعب أن نبتذل في الحياة والموت معا..
ـ ما زلنا في حاجة إليك.. ستعيش حتى ترى أحفاد المحتار إن شاء الله..
صمت الرجل ممعنا النظر في السجاد محركا رأسه كبندول الساعة، وكأنه اكتوى بنار غير مرئية، فأحسست أني لمست المنطقة الملتهبة في أعماقه من دون أن أقصد، وأن ما كان راكدا قد تحرك مثيرا حسرات لا تعد على مفتقد لا أمل في تحققه.. أمنيه بطول العمر ورؤية أحفاده، وأنا أكثر الناس علما بما يضنيه ويعذبه، وأكثرهم فهما لإحساسه الفاجع باللحظات الخابية من عمر تتسرب ثمالته من بدن مثلوم بأعطاب لا تحصى. وأعلم علم اليقين فداحة الخيبة التي يستشعرها كلما فكر في الاجتثاث الذي لحق بجذوره التي يبست، فأصاب الانثيال ماخلف فوق الأرض من تمار.. كم يشقيه أن يرى العبار غير آبه بأمله في امتداد يانع يزهر في صبيان يملأون عليه البيت والدنيا وينسونه المآل الذي يربض له مخيفا في كل آن وحين من دون أن تمتد يد حانية طرية تنتشله من الهاوية، وتشعره بثراء البقية مهما ضؤلت.. العبار لم يكن أبدا عديم الإحساس وجحودا، وما كان ليخيب رغبة العم حسان لولا الوهم الذي لف روحه، وحكم عليه بالسكن في زمن ولى، ولا أمل في عودته.. وهم نظيمة الذي أبدع الخيال منها امرأتين.. المرأة الخائنة والمرأة المخلصة، تلك التي تمشي كبقية الناس وتكره وتحب وتكذب وتصدق وتفي وتخلف الوعد وتبكي وتضحك وتظهر وتختفي وتقترب وتبتعد، وتلك التي تسكن القلب منزهة عن التبدلات وارفة تمنح ظلالها وتمارها غير متبرمة ولا شاكية.. وهم نظيمة الصورة وليس الجسد.. لقد تزوجت وأنجبت وانتهى الأمر، فلِمَ تعذيب الذات وتجريحها ولومها على إثم غير مقترف ولا مرتكب، وعلى حماقات مفترضة لا أساس لها من الصحة.. أهو التأسي على زمن رومانسي مفعم بالنقاء، أم هو الإحساس بنفاد الأشياء الجميلة؟
لا شك أن العبار شأنه شأن خلق الله تغويه الأنثى فيقتفي أثرها، ولكنه ينتهي إلى ما يشبه عي الروح، لأنه كان يرى في نظيمة عالما آخر غير إغراء المرأة والجسد الفوار بالشهوة واللذة..كان يرى فيها ما يتبدى على هيئة إيقاع مقطوعة موسيقية يرتفع معها الواقع والزمن والمادة والأبعاد والفراغ والعدم والهيولى والكتلة..كان يستشعر خلف أنوثتها سرا غامضا يشي بوجود ثر بالمعنى كلما حاول إدراكه صار أكثر إيغالا في التخفي.. يوم أن لسعه، هو الحاضن إنشاد الحب الوارف الحاني، صدُّها المتعمد لأول مرة مرتديا ثوب الإشاعة شعر بأن الكون كله قد خسف، واستبدل سيرته، وقال في نفسه: ماتت نظيمة صاحبتي وانتهت.. هذه نظيمة أخرى لا أعرفها.. نظيمة أخرى انتصبت في روحها فزاعة الأخطاء الآثمة.. لما علم العبار بأن نظيمة أجرت لسانها للشيطان وغير الشيطان، وتصفه بالكلب والمناضل المثخن بالتناقضات والخائن الجلف ركبه الغضب، فكانت الرسالة إياها التي أرخت لعهدين: عهد ما قبل الإشاعة وعهد ما بعد الإشاعة. هكذا كنت أستفزه حين يصل البوح إلى درجة السخرية.. كتب إليها خطابا متسرعا من دون روية أو التنبه إلى خبث أهل السوء، وكانت لغته مزيجا من الحزن واللوم والكبرياء ليقول لها ضدا على قلبه: أعفيك يا حارسة العفة الطهور من حبي الآثم، وأحررك من عهد ترينه منذورا للهباء وعبث الفاجرين.. لن أدافع عن نفسي، ولن أقول لك بأن ما بلغك افتراء، ولكن أقول إن القيم الرائعة في غير حاجة إلى تلصص لأنها لا تمارس في الخفاء، ولأنها كالشمس لا تستأذن الظلام كي تبسط نورها الباهر.. عاد العبار من فرنسا بعد انقضاء سنتين يشده الحنين إلى أهله، وكانت قصة نظيمة قد انتهت، أو طويت صفحة منها على إحساس بخيبة المسعى.. ولم تمر على العودة سوى أيام معدودات حتى زارته في بيته على حين غرة أختها الكبيرة تدعوه إلى حضور حفل سيقام في بيت أسرتها بمناسبة نجاح أختها.. لم يكن جلفا عديم اللباقة حتى يرفض دعوتها، بل تقبل الأمر بنوع من الواجب الذي تحتمه الصداقة قبل أي شيء آخر، فذهب إلى الحفل في موعده حاملا باقة ورد ومزهرية من الكريسطال كهدية منه إليها.. استقبلته نظيمة استقبالا ملتبسا تخالط الرغبةُ فيه بقايا احتراس موارب، لكن العبار لم يكثرت لاضطرابها.. سأل عن حالها والأهل، وترك العابر يمحو العابر.. قادته إلى الصالون الذي كان آهلا بشبان لا يعرف منهم إلا وجوها قليلة، وأفسحت له مكانا بينهم، ونسيت أن تقدمه إلى الحاضرين، فنابت عنها أختها بأن وصفته بصديق العائلة.. ظلت نظيمة تنتقل بين الصالون والمطبخ، والعبار يراقب المشهد متطلعا إلى خاتمته، فقد كان كل شيء مهيئا لكي يصله الموقف بكل وضوح..كان الجمع المكون من شبان وشابات موزعا إلى فـئات متآلفة في ما بينها، أما هو فكان يجلس كالغريب فاصلا بين فئتين.. الفئة التي كانت على اليمين تخوض في نقاش حول دور الثقافة في تحسيس الجماهير بوضعها المزري، وتمكينها من الوعي الممكن من أجل الرقي بها مما هو عابر وهامشي إلى ما هو أساسي يرتبط بمصير الشعب ورفع الوصاية عنه، ثم بدأت الأمثلة المستقاة من تجارب الشعوب الأخرى تتهاطل مثل المطر المدرار لينشر الخصب في الوهاد والسهوب والمفازات، ومع تهاطلها بدا الاختلاف حول الوسائل والأساليب، والعام والخاص، والآني العاجل والبعيد المؤجل، والرئيسي والثانوي، وأنواع المدى.. وكانت الفئة التي على اليسار تتخذ لها موضوعا آخر تشبعه تحليلا وتقطيعا وتركيبا وتوزيعا بكل ما أوتيت من حماس وبلاغة ورنة، فسلخت القومية ودعاتها سلخا، وكان البصاق يتطاير من الأفواه المزبدة والمرغية والمتيبسة وهي تضغط على الكلمات، لتؤكد على المأزق التاريخي الذي تقود إليه دعاوي الوحدة حتما من جراء تمركز أنصارها على ذات مفارقة لصيرورة التاريخ، مما يجعل من المهام العظيمة والنبيلة والجليلة المنوطة بالطبقة العاملة من أجل تحررها الخلاق وامتلاك وسائل الإنتاج وتقرير مصيرها مهاما مؤجلة.. ثم يقفز التحليل الرصين العلمي المنزه عن الحسابات والمصالح والمسلح بترسانة من النصوص المحفوظة عن ظهر قلب إلى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وصمت الأنظمة العربية المريب المناقض لحس الجماهير التي ستدك معاقل التخاذل، وتواطؤ الإمبريالية السوفيتية ضدا على مصالح العالم الثالث.. كان العبار يختزن كل ذلك بحس الثوري الرومانسي الذي لا يؤمن إلا بصدق الفعل وتأججه، وبزمن البطولات والتمرد، ولذلك كان يرى في الكلام والتحليل ثرثرة سمجة لا تقدم ولا تؤخر، وفي الحقيقة لم يكن مؤمنا بأي شيء.. يكاد يشك حتى في اللغة التي يتكلمها.. صحيح أنه كان منتميا إلى الحزب، ولكن انتماءه ظل يعاني من ريبة تجعله كلما اقترب من أصفيائه ابتعد عنهم كارها حذلقتهم، حتى أنه كان يقيس ممارستهم بالتربص الذي يعتبره حالة تحين مستمر لفرص قد تلوح في الأفق، لكنه لم يكن يدرك ما هي هذه الفرص بالضبط، فيكتفي بالقول بأن العيون ترى بريقا لا نراه، ويقسم بأن الذين هم فوق ليسوا هم كما نراهم نحن الذين في الأسفل..لهذا لم يكن غريبا عليّ موقفه وهو يصف الحفل الذي انتهى فيه التحليل وتشنج الأعصاب إلى طقس راقص على إيقاع الطرب الشعبي، حيث كانت الحاجة الحمداوية تصلصل ودقات البندير تدوي داعية الأجساد المتعبة إلى التحرر من أقمطة التاريخ التي كانت تلفها.. العبار لم يشاركهم، كما قال لي، نزوة الرقص، واكتفى بمعاينة المشهد ممتعضا، وكارها كل شيء، ومتمنيا في دخيلته لو كانت القناعات التي تسكن الرؤوس المائلة يمينا وشمالا، وهي ترقص، صادقةً كما الأجساد في تعبيرها عن نفسها من دون تستر. لكن الذي حز في نفسه أكثر ما بدا إليه كما لو كان حلما، ولم يتوقعه أبدا، هو استجابة جسد نظيمة لدنا طيعا، وهو يتلوى، إلى يد ذكورية امتدت إليها راجية مراقصتها. وما أغاظه أكثر ليس الاستجابة في حد ذاتها، ولكن اللهفة التي تمت بها، ومن دون إبداء أدنى تردد، ولو على سبيل التمنع الذي تبديه الأنثى عادة في مثل هذه المواقف.. كانت تراقص الشاب وهي تهبه جسدها كله، بينما نظراتها كانت مصوبة نحوه هو.. ظل العبار يراقب الدور الذي يُستعرض أمامه متقنا وفق تواطؤ لا يعلم مصدره الحقيقي.. ومن يتقصده منهما بتلك الرسالة المغيظة.. أتريد الأفعى التي سكنت روح نظيـمة الضغط على دواسة الغيرة الرخوة داخله إلى أقصى الدرجات، أم يريد الشاب الذي ينتمي إلى فصيلته السياسية إقحامه في حلبة التنافس لإثبات صلاحية الزعامة حتى في مجال العواطف؟ لم يظهر العبار أي إحساس يشي بامتعاضه محاولا الحفاظ على برودة الدم حتى لا يشعرهما معا بوصول الرسالة. ولم يتضح سر الرقصة المتعمدة إلا بعد ثلاث سنوات، كاتبني المختار بعدها ليحكي ما كان حقيقة ولم يصدقها أبدا، إذ جاءه من يبلغه أن محمود شاكر قد عقد على نظيمة، وفهم من فاعل الخير بطريقة مباشرة أن من اللائق عدم تعكير صفو اختيار نظيمة..لم يسأل العبار فاعل الخير عن قصده الحقيقي من إخباره بزواج نظيمة، ولم يهتم بصحة الخبر، وما إذا كان من الممكن أن تتزوج وهي ما زالت لم تكمل دراستها بعد، وإنما تعامل مع الأمر بنوع من عدم المبالاة، فقد كان مهيأً لكل الاحتمالات، أو بالأحرى تعود على اليأس ليس بوصفه طبعا، ولكن باعتباره حقيقة ممكنة وواردة.. وهكذا طويت الصفحة إلى الأبد، وطويت معها لذة الالتياع، ولم تفتح مرة أخرى على الحنين الممض إلا بعد عودة العبار نهائيا إلى البلاد ليتقلد منصب المدير التجاري في المؤسسة الوطنية العتيدة إياها.. ذات نهار صيفي، وهو يستقل القطار متجها صوب طنجة العروس الحانية الساهرة العطوف، وجد نفسه أمامها وجها لوجه صحبة طفلة لم تتعد حولها الثالث بعد، نظيمة كانت ليس غيرها، ظل مصلوبا في مكانه منخطفا لا يدري ما يجب أن يفعل.. حياها وهي جالسة لوحدها مع طفلتها في القمرة، ثم حاول أن يغلق الباب، وينصرف بحثا عن قمرة أخرى تاركا لها المكان خلوا مما يعكر عليها رحلتها، أو بالأحرى حتى لا يعكر صفو رحلته بالجلوس إلى نصفه المنزوع منه في لحظة التباس مدوخة. لكنه لم يكد يستدير حتى سمعها تدعوه إلى الجلوس، فوجد نفسه مشدودا إلى النداء من دون إرادة، فترك جسده يتهاوي أمامها جوار النافذة العريضة.. ظل صامتا لا يتكلم عيناه تراقبان حركة المسافرين في الخارج، وهم يهرولون صوب العربات، حاملين حقائبهم، ووجوهم تطفح بانتشاء طرب، منهم من يستعجل جسده، ومنهم من يستعجل صغاره وهم مشدوهون إلى الثعبان الحديدي.. سألته عن حاله، وقالت بأنها مسافرة إلى القنيطرة، ثم حاولت أن تفتح معـبرا نحو الماضي، غير أنه لم يطاوعها متعللا بأن ما انقضى لا يمكنه أن يعود، وألا فائدة من استرجاع الضائع، لأن ذلك يزيد الجراح اتساعا، واعتبر ما حدث قدرا يجب تقبله، غير أنه في دخيلته كان يريدها أن تتكلم من أجل أن يفهم ما حدث بالفعل. لقد كان يتصنع فقط، أو كان يرغـب في اختبار نواياها الحقيقية على وجه الاحتمال. ولأن نظيمة لها ذكاؤها أيضا، وحاستها القوية القادرة على ضبط شعوره المستتر، أصرت على استعادة ما حدث بطريقتها الخاصة، حيث الاقتحام يتخذ شكل توسل أنيق لا تغيض شراسته الناعمة أبدا. فشرعت من دون استئذان في سرد حياته بفرنسا، وهي تعلم أن من اللياقة ألا نحكي حياة الآخرين بدلا منهم، لأن لهم الحق وحدهم في ذلك، فعرضت إلى علاقاته الملتبسة بالنساء، وعربدته ومجونه في حانات باريس، وفشله في إتمام دراسته، ثم اضطراره إلى العمل بأحد المطاعم بعد أن يئست العجوز الفرنسية من أمره، وطردته من بيتها.. لم يفضل العبار الرد عليها، وحاول أن يتماسك إلى أن تنهي تقريرها الدقيق.. وبعد أن نضدت أمامه خيط قصته بباريس، انتقلت إلى تبرئة ذمتها من صلف الزمن المفلس الذي عاشته جراء زوغانه، ثم قالت بأنها ظلت مع ذلك تنتظر مؤملة أن يعود عن غيه، ولما يئست من صلاحه وجدت نفسها أمام اختيار صعب.. إما أن تراهن على سراب اسمه العبار، أو تقبل بالنصيب الذي يتراءى لها موفورا. ولما كان شاكر يسد عليها كل المعابر في الغدو والرواح، في الشارع والبيت تنازلت عن نداء القلب، وطاوعت ما يمليه العقل، ثم صمتت تنتظر الرد، ووجد العبار نفسه وكأنه أمام محاكمة فعلية، فعقب عليها ينضو عن يقينها الداكن لحاء كيد معتم ظالم بأسلوب غاضب مضرج بملاحة السخرية: الكاجبي هذا..! إيوا.. ما بلغوكش بأني كنت على علاقـة ببريجيت باردو.. على فكرة هي ما كتحب العرب بزاف، ونزيدك.. نساو يقولوا ليك بأني كنت منخرط في الماسونية.. آللا بنت الصون مولاة الثباتة والحصافة ما كاين رسايل ولا تقطعوا من البلاد.. علاش ما ردتي عليّ حين كتبت ليك، وقلت لي هذا الشي.. ثم كف عن تجريحها ليفهمها بأن ما التقطته في الطريق، واعتقدت بصحته مجرد خيال مصاب بعمى الحقد، وأن نفسا بها لوثة التدمير سقطت من تقاويم الأزمنة الرديئة كانت وراء كل هذا الزخم الهائل من الوشاية الكليلة، وأنها بدلا من أن تتحرى تقبلت الإشاعة على أنها حقيقة، فساعدت من أراد الإساءة إليه على تعميق الهوة بينهما. ثم أخبرها بأنه أتم دراسته متفوقا، ويعمل حاليا ببلده مديرا تجاريا، وختم تعقيبه، وهي غير مصدقة، متسائلا عمن كانت له المصلحة في زوال ما بينهما من صلات الحب المصفى، من دون أن يقول لها بأن شاكر الذي استبدلته به هو المحتمل، وعوض أن تتهمه عليها أن تنبش في ماضيه لتعلم من أية طينة جبل. وبالطبع لم يستغل العبار الظرف ليحكي لها الحكاية التي نعرفها جميعا حول شاكر الذي كنا نسميه القطَّ، والذي تعارك مع رفيق له أيام الجامعة من أجل مضاجعة طالبة تأخر بها الليل في أحد التجمعات الطلابية، فاضطرت إلى المبيت عندهما بالبيت الذي يكترونه بالعكاري مؤمنة بطهرهما، لتجد نفسها عرضة لحماقة غير متوقعة، وقضت ليلتها ترتجف رعبا، وهي ترى نفسها مهددة داخل الحمى الثوري برغبة آثمة في اغتصابها..
يا عم حسان لا تلم العبار على ما كان غصة في قلبه قبل أن يكون غصـة في ضميرك.. لو أدركت أي انكسار لحق به، وأي سماء حلق في زرقتها فهوى على حين غرة مهشما تطبق على صدره غمة لا انفراج لها، لأشفقت عليه من شلال الألم الهادر الذي يتقاذفه.. الخديعة حين تلتف على المرء وتفقده هدأة النفس، وترمي به في متاهات الريبة، يصير معرضا لاهتزاز اليقين غير آمن على مشاعره.. العبار مثلي يا عم حسان، ومثل الكثيرين ممن شادوا دنيا من الرمال ما لبثت أن تهاوت على رؤوسهم غير مصدقين أن الرياح يمكن أن تخدع وتغدر.. ناموا على حلم جميل فاستيقظوا على الفجيعة، لكنهم ظلوا على وعدهم من دون أمل، كمن يراهن على حصان خاسر في حلبة سباق محسوم سلفا.. كل شيء صار عديم القيمة، وظل الداخل وحده الملجأ الأخير ليس للحقيقة، ولكن للحنين إلى زمن كانت فيه وهما من دون أن تكون كذلك. فما الفائدة إذن من الانخراط في صيرورة نعلم مسبقا أنها تفضي إلى السراب.. الهزائم المتوالية، ثورات الكارتون، الثوريون الذين استبدلوا معاطفهم في منتصف الطريق، الواقعيون الجدد، المنافحون، السماسرة، الدجالون، المتملقون، أنصاف الكتاب وأشباه الشعراء، الإتيكيت الذي يقول لك مدى قدرتك على أن تكون حداثيا، أو ابنا شرعيا للغة متبلة بالحياد.. أنا المعطي الرابحي والعبار وساحم وسعاد ونظيمة جيل كان منذورا للنقاء كما بشرت به أحافير أزمنة الوعد الوارف، لكن طواحين الكذب والرياء والتزلف نطلته، فدرته الرياح في كل الجهات…
لست أدري كيف ومتى تخلى العم حسان عن فضيلة الصمت التي يتحصن بها عادة كلما أدركته شبه الغيبوبة عن عالم الحس.. كما لم أفطن إلى اللحظة التي توقف فيها سيحاني في ملكوت الذكرى، وكأن التواطؤ بيني وبينه على الشرود قد صار متبادلا نقتسم عطاياه من دون اهتمام بالطريقة التي يتبعها كل واحد منا في التعبير عن سطوته، فقد كنت ألتجيء إلى الصمت الشارد من أجل الغوص في مخزون النفس، أما هو فقد كان يتوسل به بغية البحث عن رأس الخيط الذي يفضي به إلى الحكي.. المهم أنني وجدتني أفارق حالة الانكفاء على الداخل أستدرجه أمام استعصاء الكلام والفهم، ووجدت العم حسان ينعطف فجأة نحو الغائر ينطل عناقيده متوسلا بشراع الذاكرة ليمخر عباب ماض تتنزى حممه شظايا ملتهبة، فكان عليّ كالعادة أن أكتفي باستراق السمع إليه مأخوذا بسكينة الصوت الأجش المصفى الناهض من بين لجج الحكايات والأقوال الآهلة بلهيب زمن لا يكف عن استعادته أمامك، وكأنه يحكيه لأول مرة.
آه.. يا ابني..! ليت الحياة تتخذ لها نفس المسار، وتزودك بنفس الحكمة.. فما تكاد تعلمك أن شيئا هو كذا وكذا، حتى تقول لك ليس كذلك. ولهذا السبب نفسه تعلمت أن أكون على الدوام في غمارها لا خارجها. وكلما قسَتْ وامتنعت وعاندت ارتميت في حضنها مصرا على مداراة جفائها بجوب مسالكها. ولم أخاصمها، وأترك معتركها إلا حين انهد الجسد، وجردت من أحبتي، زوجتي وابني الصغير، وقال لي الموت: أنا غريمك الذي لا يمل، فأي السبل سوف تسلكها هربا من قدومي الجارف. ومع ذلك أعيش الحياة من خلال بصيص الذكرى.. أسترجع كل شيء، وأعيد رتق المزق، وترتيب التفاصيل.. لا أهدأ من النبش عما اختزنته من أحداث ووقائع، غير نادم عما اخترته، متأملا ما اضطررت إليه.
رحل موسيو توليو إلى فرنسا، فوجدتني مرغما على العودة إلى الدار البيضاء مرة أخرى لأبدأ من الصفر، وخطرت لي فكرة أن أعمل لحسابي غير آبه بالنتائج.. ما كان يهمني فقط هو أن أختبر القدرة على المغامرة، فكانت البداية صندوقا من الخشب أحمله على الكتف مملوءا بالموز أوزعه على الزبناء في الأحياء التي يسكنها النصارى.. أبيع لهم بالدزينة، فلم يكن بيع الفاكهة وقتذاك يتم بالميزان، وفي المساء أعود إلى الغرفة التي اكتريها بالمدينة القديمة متخشب الكتف وقدماي متصلبتان. ومع ذلك كان إصراري على الاستمرار في التجربة أقوى من التعب. وكلما نما الرأسمال الصغير اشتد الحماس وقويت الإرادة، فاشتريت عربة من عجلتين حتى أستطيع حمل أنواع مختلفة من البضاعة، كنت أدفعها من حي إلى آخر غير مبال بما كنت أبذله من جهد. ولم يكن لدي الوقت الكافي للتفرغ لنداء الذات، فقد كنت أسابق الزمن من أجل ربح القوت، والإعداد لضمان وضع مريح نسبيا..كانت هناك هفوات بالطبع، ولكنها نادرة لا تحدث إلا في الأوقات التي تخفت فيها تلك القوة الهائلة في داخلي على العمل، وقد كانت قليلة جدا..شربت الكأس الأولى في لكانتينا مدام شنطال وركبت رأسي، فطلبت من الفرنسية أن تسقي من بالحانة على حسابي، واستيقظت في الغد مفلسا، فاضطررت إلى السلف من أجل شراء البضاعة. وكنت أذهب إلى اسبرانسا بين الفينة والأخرى إلى أن أصبت بالزهري، فأحسست لأول مرة بالحرج أمام جسدي.. ذهبت إلى الطبيب ميشو بعد تردد طويل، ولم أشأ أن أقف أمامه عاريا، فقال لي: أنتم المغاربة لا تخجلون، وإنما تخافون.. تزهون بهذا الشيء، ولا تعرفون أبدا ما تعملون به.. رضخت لإرادته، ففحصني غير خجل، ثم حقنني بالدواء، وبقيت أتردد على عيادته لتتكفل زوجته بحقني، حتى شفيت. بعد ذلك قررت الزواج، فأتيت برقية من القرية وهي لم تتجاوز الثانية عشرة، فقد كانت طفلة ما تزال تهوى اللعب وصنع العرائس جاعلة لها أسماء تذكرها برفيقاتها في القرية.. علمتها التعود على عالم مخالف عما ألفته من عادات ومطالب بسيطة، حتى تعرف كيف تتعامل مع الجدران المضغوطة، والمساحات المقلصة التي يسمح بها فضاء المدينة، وكان عليّ أن أروضها على نسيان الفساحة والامتدادات المباحة من دون قيود، والتأقلم مع زمن محسوب بالدقائق والساعات، وأن أطلعها على أسرار الطبخ، وترتيب الأشياء وإعدادها حسب أماكنها المناسبة.. كانت منبهرة بالعالم الجديد الذي انتقلت إليه، تداخلها الرهبة والدهشة، ومع ذلك كانت تبدي رغبة لا تحد في فهم ما حولها، وتسعى إلى إتقان مهام العش، كما كانت تحب أن تسمي البيت، بسرعة ودقة، وكنت أحمل لها معي كل مساء الشوكولاته والحلوى وبعض الحاجيات الخاصة بالزينة، فتأخذها فرحة وتضمها إلى صدرها غير المتمر، وكأنها تريد إدماجها في جسدها، ولا تلبث أن تسرع إلى المطبخ، ثم تعود بالطعام، وتفترش الأرض جنبي لتحكي لي كل ما التقطته نهارا من خلال النافذة المواربة.. السقاء وهو يكرر نداءه دافعا العربة المحمولة ببراميل الماء الصغيرة، وموزع الحليب بحماره الأشهب الحرون والأطفال يغيظونه بمقالبهم، كأن يستغفلونه وهو منصرف إلى باب من بالأبواب يكيل للزبونة المقدار الذي تحتاج إليه، فيعمدون إلى وخز الحيوان في ما تحت بطنه فينطلق راكضا وهو يرفع قوائمه الخلفية في الهواء، فيضطر صاحبه إلى الجري وراءه لاعنا الشياطين الصغار وأمهاتهم اللواتي أطلقن لهم العنان من دون تربيتهم، والراهبات بلباسهن السماوي الداكن وغطاء الرأس الأبيض، والرجال السود السينغاليون بزيهم العسكري، وأجسادهم النحيلة وعيونهم الجاحظة، وهم يمرون الواحد وراء الآخر في الزقاق بنادقهم على الكتف، وانقفال الأبواب واختفاء الأطفال عند رؤيتهم، والعمال الذين يأتون صباحا لإصلاح المصابيح الكهربائية التي كسرت بالحجارة ليلا، الزغاريد التي تعلو فجأة من وراء الجدران من جراء انتشار الأخبار حول العمليات التي ينفذها الرجال الشجعان ضد فرنسا، وانتظارها القلق لعودتي من دكان البقـالة، وخوفها عليّ من بطش العساكر.. ولدت لنا صبية سبحان الخالق، وعاشت ستة أشهر، ثم أخذ الله ما أعطى، لم نعترض على مشيئته، وبقينا على أمل تجدد هباته، وأهل الطفل الثاني، والثالث، فالرابع، كلهم كانوا يأتون في شبه زيارة قصيرة، ثم يودعون الدنيا تاركين وراءهم الحسرة والحزن والدموع والصمت المريع بعد التآلف مع صراخهم ومناغاتهم الجميلة.. استشرنا الطبيب آندري التابع لمصحة الحفرة التي كانت تشرف عليها الراهبات، لكن أدويته لم تفلح ولا نصائحه أمام ذلك الشيء الغامض الذي كان يداهم كل وليد تأتي به رقية.. وكان المختار الاستثناء الذي منحنا البهجة والاطمئنان.. ولد ولم يختطفه الموت، فكنا نتمسك به بكل قوة، ونحيطه بكل ما يحميه من تلك اليد التي تمتد خفية لتوقف مجرى الحياة، وكلما أصيب باعتلال مفاجيء، ولو كان نزلة برد بسيطة نستنفر كل طاقتنا من أجل ضمان بقائه، ولم نحسبه في عداد الأحياء إلا بعد أن اشتد عوده، وصار صبيا مكتملا، يوزع شقاوته في سخاء على الأواني والأشياء، وكان المختار نهاية القحط الذي يضرب بعنف الغلال اليانعة فيحيلها إلى موات أصفر بارد لا حراك فيه، وبعده جاء نبيل الذي قاوم بدوره تلك الضربات المفاجئة للقحط.. آه ! نسيت يا ابني أن أحدثك عن زمن القحط الذي داهم البلد خلال الأربعينيات.. آفة كان تنسي آفة الاستعمار.. ما نهبته فرنسا من أجل جنودها أثناء حرب الألمان نهب القحط أضعافه، وأحال الحياة إلى جحيم لا يطاق.. سماء صافية غير رحيمة على الدوام لا مزن ولا مطر ولا رياح تحمل البشرى.. الآبار جفت والينابيع والأنهار والتربة يبست ومال لونها إلى الاحمرار الداكن، وصارت أثلامها غائرة وصلبة، ونفقت الحيوانات والماشية، وظهرت خصاصة مهولة في الغذاء، ونشط المضاربون واحتكروا السلع، وكلما اشتدت الندرة رفعوا الأثمان.. وطبقت فرنسا نظام البون، وصار كل شيء خاضعا للحصص المستحقة حسب أعداد الأسرة، الخبز والسكر والشاي والزيت والصابون، وكان ما تتوفر عليه كل أسرة يكفي فقط لحفظ قطرات الحياة في الأجساد.. الأغنياء كانت لهم القدرة على جلب ما يفيض على الحاجة، مما يجعلهم في مأمن من الجوع ووطأته الحادة.. من اكتوى بنار القحـط وويلاته الفقراء والمهاجرون الذين تركوا حقولهم أو باعوها مقابل ريالات قليلة لم تف بالمـراد وتبخرت كما الماء بمجرد ما أن نزلوا إلى المدينة.. لا حمار لا سبع فرانك.. حفروا الأرض بحثا عن الترفاس وتلغودة، وأكلوا ما يشبه النبات، واستساغوا طعمه المر، ولما نفق كل شيء وبقي التراب وحده يمموا وجهوهم صوب الحواضر لعلهم يدركون نصيبا من الفـتات الذي يوزعه النصارى مستكثرينه عليهم والدواب سواء.. كان من المحال ألا تطلع شمس يوم جديد من دون أن تتساقط العشرات من الأرواح على جنبات الطرق والجدران، فصارت الجثت المتيبسة منتفـخة البطن مشهدا يوميا يتفادى النظر فداحة رؤيتها كما هي منزوعة من الكرامة حتى في حالة الموت، وكم يكون مروعا أن تتهاوى الأجساد أمامك من دون أن تكون قادرا على مد يد العون.. نسي الناس كل شيء، ولم يعد يهمهم سوى الحصول على لقمة شاردة كيفما كان مذاقها، ما دامت قادرة على إسكات حرقة الجوع ولو إلى حين. وما عدا ذلك صار لا قيمة له على الإطلاق، العرض والكرامة والإيثار والكبرياء والأنفة والحنو والسماحة والعدل كل ذلك اختفى ليحل محله شيء واحد هو نداء البطن الطاوي.. حدث القحط قبل أن يهل المختار بسنوات، فاكتظت الدار حتى ضاقت بمن هاجر هربا من ضربات العام الممحل إياه، وأول من حط عندنا كان والدي وزوجته وأولاده منها، ثم أعقبتهم عائلة رقية، فكان عليّ أن أتدبر فراشهم وطعامهم.. التجأت إلى المال الذي ادخرته احتياطا للزمن لكي أسد حاجياتهم، وأغلقت دكان البقالة لقلة البضائع، أو لعدم قدرتي على جلبها من جراء ارتفاع الأسعار، وقصدت البحر شأن الكثيرين، أستدر عطاياه، وحين يشح بسمكاته كنت ألجأ إلى جمع القواقع العالقة بالصخر، أو أبحث بين الثقوب والمغارات الصغيرة عن الأخطبوط المتخفي في انتظار المد. وكان ما يجود به البحر فضلا عن النصيب الضئيل من البون لا يوفر إلا وجبة واحدة في اليوم تكاد لا تفي للإبقاء على نظارة الحياة. ومر العام الممحل وبقيت آثاره جلية في ما يشبه الأشباح، وتمخضت عنه مآس وحكايات ومصائر. ولم يعد الناس قادرين على الاهتداء إلى ما كانوه قبله، ولا يتذكرون من أين أتوا، ولا يعرفون ما يفعلونه بأنفسهم لأن الخوف من عودته استولى عليهم وحال دون التفكير في الوحش الذي يربض لهم بالمدينة جاهزا للانقضاض عليهم في أية لحظة ليفسد طباعهم. فمن هاجر من قريته فضل البقاء على العودة، وإن كان من غير شغل، أو حرفة، ووطن النفس على أن يكون من أهل الحضر، مهما كان الثمن. ولم تشد عائلتي أو عائلة رقية عن هذه الرغبة الرعناء في البقاء، فأصبحت قطبا تدور حوله الرحى، ومرشدا روحيا لهم، وعالما بأسرار العالم الجديد رغما عن أنفي.كنت أشعر بالزهو، لكنني كنت في الوقت نفسه عرضة إلى كثير من الاستباحة. وكان عليّ أن أتغاضى مقابل تعزيز موقع الحكيم الذي صرته، كما كنت مضطرا إلى حل مشكل السكن والشغل، وإلى الفصل بين الخصومات التي تحدث بين الفينة والأخرى لأسباب تافهة موازنا بين المشاعر الملتهبة.. أليس من صفات المرشد الروحي أن يكون نزيها؟ لكن أحيانا كنت أقف حائرا أمام الحماقات التي تصيب فجأة بعضهم من دون أن أقوى على إيقاف عدواها، وبخاصة حين يشتد سعار الغيرة بينهم، فيظن كل واحد منهم أنه أحق بما في يد غيره، أو ما قدر له أن يكون من نصيبه، فيكثر اللمز والغمز، والحسد والكيد.. سأحكي لك يا ابني ! ما يتيسر من ذلك، أو بالأحرى حكايتين تخصان قريبين لي.. أحدهما صهري، والآخر أخي الأصغر، ولنبدأ بحكاية الصهر فلولاها لما كانت الحكاية الأخرى. كان صهري هذا في مقتبل الشباب، عمره لا يكاد يتعدى الرابعة بعد العشرين، محسونا مكمول الصفات يرضي العين، قامة لها من الطول ما يزين باتساع في الكتفين وصلابة في الصدر مع قوة في العضلات، وسيم الوجه ذو بشرة بيضاء وشفتين معتدلتين فوقهما شارب خفيف ومحفوف وأنف منقاد وعينان يشع منهم بريق الذكاء، وشعر أسود سلس، هاديء المزاج غير ميال إلى الانفعال، لا يقدم على شيء إلا بعد روية، مع جسارة مفعمة بالجرأة، غير هياب ركوب الصعاب إذا تيقن أنها الطريق الأنسب لتحقيق أغراضه، وله قدرة على التراجع في الوقت المناسب حين يتيقن أن اندفاعه قد يفسد عليه طموحه الذي لا يحد.. يقبل على الاشتغال في أي حرفة غير متأفف مؤمنا بأن أول الغيث قطرة. وصفاته هذه سهلت عليه الاندماج بسرعة في الحياة داخل المدينة والتأقلم مع الناس على اختلافهم، وكسب تقديرهم وحبهم له. وما أن بدأ يطل على عالم النصارى، وإن من بعيد، حتى صار مهووسا بهم، يقلدهم في كل شيء، في اللباس والحركات وطريقة العيش، وكم كان يسعده أن يرطن بالكلمات الفرنسية التي يلتقطها سمعه، ويحرص على أن يعيدها حتى يثير انتباه الآخرين، وكأنه يريد أن يؤكد أنه لم يعد ذلك البدوي الذي كانه، وباختصار الانتماء إلى عصره. وبمجرد ما أن ترقى من حمّال إلى عامل بمصنع للمناديل القطنية، واحتك بالآلة صار شخصا آخر منجذبا إلى أسرار المعدن المتحرك، فاشترى دراجـة هوائـية مستعملة، لتصير تحت رحمة انبهاره، يغدق عليها من الزينة ما يليق بفرس أصيلة، لكنه كان دائم الشغف بتفكيكها، الدواسة في جهة والعجلات في جهة والمقود في جهة أخرى، ثم يعيد تركيب الأجزاء، وكأنه يتملك بذلك أمر خلقها لأول مرة. وحين صارت اللعبة غير مجدية، وجه اهتمامه إلى عالم الساعات، اشترى الأولى وفككها، ولما لم يستطع تركيبها، اشترى الثانية، من دون أن يصيبه اليأس، وتكرر الأمر مع الثالثة فالرابعة إلى أن أفلح في إعادة الحياة للعبته. ولم يكن ميلود صهري مكتفيا بانشغالاته هذه، بل كان ميالا إلى البحر الذي كان يسمع به ويتخيل له صورا عديدة من دون أن يراه. وحين رأى المحيط لأول مرة ملك عليه حواسه، فأصر على أن يكتشف هذا العالم الذي يمتد شاسعا من دون حدود. ولما كان يعلم ولهي بالصيد، صار يتحين الآحاد التي أنزل فيها إلى البحر ليصحبني. لم يهو الصيد، وإنما كان ولعه شديدا بالسباحة والغوص، يعارك الموج، وكأنه ينادد جبروته.. وذات نهار، زمن نزول الأمريكان، قصدنا المحيط على الدراجات صوب الولي سيدي عبد الرحمن، ولما أشرفنا على البحر تاركين غابة الديسا الكثيفة خلفنا متوغلين داخل الكثبان الرملية المكسوة جنباتها بشجيرات قزمية استوقفني ميلود مشـيرا صوب الجـهة المعاكسة لموقع الولي الصالح، فرأيت جنديا أمريكيا بلباسه العسكري يجر خلفه فتاة فرنسية، وهي تصيح مستنجدة، وتحاول الانفلات منه، ولما يئست من التخلص من قبضته، هوت منبطحة إلى الأرض متشبثة بالرمل بكل ما أوتيت من قوة. لكن الجندي الشبيه بثور هائج لم يأبه لمقاومتها، وأخذ يسحبها نحو الدغل، كما يسحب كيسا من الرمال. وكان الشاطيء فارغا إلا منا نحن الأربعة، ضحية ومعتد وشاهدان. وكنت مأخوذا بما يجري، ذهني شبه معطل، وداخلي يرتجف وكأنني معني بما يقع للفتاة الفرنسية، حاولت أن أتفرس وجه ميلود لأستطلع مشاعره، لكنني لم أستطع النفاذ إلى ما يدور في ذهنه، فقد كانت ملامحه خالية من أي انفعال، الشيء الذي زاد من وساوسي، فعزمت على الانسحاب سالما، فمن خاف نجا، وما بكت عليه أمه، غير أن وضعي كأب روحي لم يسمح لي بأن أكون أنا الباديء بإعلان أمر يومي من هذا القبيل. لذلك وجدتني مضطرا إلى الكلام متسائلا عما يجب فعله، محاولا دفع ميلود إلى التعبير عما أفكر فيه، لكنه بدلا من أن يجيبني، انطلق كالثعبان بين الكثبان الرملية مترصدا وجهة الجندي، يزحف على بطنه تارة، ويمشي منحنيا تارة، ويقف حذرا ليشب بعنقه مستطلعا المكان.. ناديته أن يعود، وتوسلت إليه أن يترك الأمر لأن لا طاقة له به، لكنه كان كمن بأذنه وقر. وواصل زحفه الحثيث، ثم اختفى عن البصر تماما، وبقيت حائرا تتوزعني الهواجس، غير قادر على التصرف، أنتظر بين الفينة والأخرى وقوع كارثة، وأشد ماكان يرعبني هو تخيل الجنود الأمريكيين، وهم يسوقوننا كالأغنام منكلين بنا. وضبطت سمعي على توقع طلقات الرصاص، فمن غير المعقول أن يكون الجندي دون سلاح. لكن لا شيء من هذا حدث، كان يصلني فقط ضجيج النوارس وهي تحوم فوق الموج ارتفاعا وانخفاظا لتنقض بين الفينة والأخرى على الماء بسرعة خاطفة، ثم تعاود التحليق لتكرر المحاولة مرة أخرى. وفجأة سمعت حركة هرولة، فانبطحت على الأرض كنعامة تخفي رأسها في الرمل اتقاء لطلقة الصياد، ولم أستعد رباطة جأشي إلا بعد أن برز شبح ميلود من بين الكثـبان وخلـفه الفرنسية.. كانا يعدوان في اتجاهي، ميلود مندفعا بجسده الفارع والفرنسية تحاول جاهدة اللحاق به، وحين وصلا كانا متعبين يلهثان. ومن دون أن ينبس ميلود ببنت شفة توجه إلى دراجـتي، ووضعها تحت رهن إشارة الفتاة التي بدا وجهها ممتقعا ويداها مرتجفتين، ثم أخذ دراجته وانطلقا نحو الطريق طالبا مني مغادرة المكان في الحال، ثم اختفيا في لمح البصر، فجمعت عدة الصيد وهرولت نحو الطريق متخذا الوجهة المعاكسة للمعسكر الأمريكي الرابض فوق التل المطل على الغابة والبحر. وكان علي أن ألتف على الدشرة مارا بمصنع اللاستيك، ثم أصعد العقبة المحاذية لكريان طوما. ولم أطمئن إلا بعد أن أشرفت على مركب الزفت. وهناك أخدت الكرويلا التي أقلتني إلى القصيبة، لأكمل بقية الطريق إلى درب غلف ماشيا، وأنا أستعيد المغامرة التي أقدم عليها ميلود مجازفا بسلامتنا، ولولا الألطاف الإلهية لكنا في عداد الموتى. وما أن وصلت إلى البيت حتى وجدت العفريت ينتظرني، وهو يرتشف الشاي وعلى شفته ابتسامة الزهو مما زاد من حدة غيظي، فحاولت أن أعنفه على ما بدر منه من دون تفكير في العواقب، لكنه لم يتح لي فرصة شفاء الغليل بفضل قدرته الفائقة على تحويل المواقف لصالحه عن طريق قلب الأمور الجادة إلى مادة للمزاح، لينعطف بعد ذلك إلى احتكار الكلام من أجل حرمان محاوره من فرصة العودة إلى التشبث بحقه في الرأي. وهكذا شرع في حكاية تفاصيل ما جرى له مع الجندي والفرنسية، فقال بأنه لما رأى الوحش الأمريكي منبطحا فوق الفتاة يحاول اغتصابها، وقد غرس بندقيته في الرمل موجها فوهتها نحو الأعلى، زحف على بطنه حريصا على ألا يثير أي صوت. وحين لمحته الفرنسية أشار لها بأن لا تثير انتباه الجندي، فلزمت الصمت، وطوقت عنق الوحش بساعديها حتى تعوقه عن الحركة في حالة إذا ما فطن إلى ما يجري خلفه. ولما اطمأن إلى أن في استطاعته الوصول إلى هدفه انقض على السلاح، فوجه ضربات موجعة وقوية لرأس الجندي بعقب البندقية.. وكلما صرخ الوحش من شدة الألم انهال عليه ميلود بضربات أشد وقعا مستفرغا كل طاقته إلى أن انهار الجندي فاقدا وعيه، فطمر السلاح في الرمل بعيدا عن الرجل المسجى حتى لا يكون في متناوله إذا ما استرجع وعيه، ثم فر صحبة الفرنسية ليلتحق بي حيث تركني أنتظر مفزوعا. أما في ما يخص مرحلة هروبهما على الدراجتين، فقد أخبرني بأنهما اجتاز الطريق من دون أن يعترض سبيلهما أحد، إلى أن أوصلها إلى الفيلا بحي السيال حيث تسكن، ولما أراد الانصراف أبت الفرنسية أن تتركه قبل أن تقدمه إلى والديها اللذين رحبا به، وهما في حالة من القلق من جراء ما عايناه من آثار الاعتداء البادية على ابنتهما. فقد كانت الفتاة تبكي وهي تحكي لهما عما وقع بالتفصيل، وكيف جازف ميلود بحياته من أجل إنقاذها، وهي تشد بين الفينة والأخرى على يده امتنانا بما صنع. وما كان من الوالدين المذهولين سوى تقديم الشكر لميلود، وهما يعبران له عن اعتزازهما بشجاعته وتضحيته من أجل وحيدتهما فرنسواز. وحين هم ميلود بالانصراف طلبت منه الفتاة أن يعود غدا من أجل الدراجة.
سيعود ميلود في الغد إلى الفيلا بالسيال في كامل أناقته، وستلتقيه فرنسواز مرحبة مرحة، وقد بدا عليها أنها تجاوزت آثار المحنة التي تعرضت إليها أمس، وستقوده إلى ركن ظليل تحت شجرة أوكاريا سامقة، تعلو نحو السماء فاردة فروعها المتفرعة والمثلثة الشكل على هيئة طبقات؛ حيث يقتعد والدها مسترخيين قبالة المسبح، وستجلس فرانسواز جوار والدتها طالبة من ميلود أن يفعل مثلها. وبمجرد ما أن انتهى طقس الترحاب اقترحت الفتاة على والدها أن يُشغِّل ميلود معه.. لم يمانع الرجل، ورحب بالفكرة.. وسيبدي ميلود حماسا في العمل وإخلاصا تاما في القيام بكل ما يطلب منه، مما سيجعله رئيسا للعمال بالمقلع الحجري الذي يحمل اسم صاحبه شنيدر. غير ما أن كان غير منتظر البتة هو أن ميلود سيصير خلال أشهـر معـدودات زوج فرانسواز، والساعد الأيمن لشنيدر.
لننتقل إلى حكاية أخي الأصغر عابد. فقد كان ربع القامة مع ميل إلى السمنة، وسمرة خفيفة، مقبول الوجه، قليل العناية بهندامه، مشتت الذهن لا يستقر على حال، يبدي أحيانا علامات تدل على الطموح، لكنه لا يعرف ما يريد، عشاق وملاَّل، ما أن يبدأ في الاهتمام بشيء معين حتى يتركه إلى آخر، يستمع إليك من دون اعتراض ويوافقك الرأي مقتنعا بما أسديته له من نصيحة، ثم لا يلبث أن يفعل ما يدور برأسه. كل العالم على خطإ ووحده على صواب، وحين يفشل يلقي باللوم على الآخرين. ولا يستفيد من التجربة أو يتعظ، فما أن يتجاوز ورطة ما حتى يرتكب ما هو أفدح منها. والدنيا لا تتجلى له إلا كما هي موهوبة لغيره، فما أن أن يصيب الخير إنسانا أقرب إليه إلا وظن أنه الأولى به، دائم الغيرة يحاول إثارة الانتباه إليه وكأن العالم خلق من أجله وحده.. ابتدأت حكاية عابد من حيث انتهت حكاية ميلود، والخيط الرابط بين الحكايتين نار الغيرة التي حين تُضرم في القلب تُعمى البصيرة.كان أخي هذا يعمل مساعدا في محل لبيع الورود في مارشي سنطرال تمتلكه سيدة فرنسية، كنت قد رجوتها أن تشغله عندها بعد أن طرد من أكثر من ورشة، معرفتي بها تعود إلى الأيام التي كنت أتجول فيها حاملا صندوق الموز على كتفي. كانت مدام هيري قد تخطت الأربعين، وفقدت طراوة البدن، وامتلأت سمنة، وجهها مكور، وخداها واسعان، وأنفها أفطس وقصير، وجبينها ضيق وعيناها منتفختان.لم تتزوج منذ أن توفي زوجها الضابط في إحدى المعارك، وفضلت أن تقصر حياتها على رعاية ابنها الوحيد. كانت امرأة حازمة وصارمة، طبعها يتميز بحدته مع ميل إلى النكتة، وتقليد حركات الناس، لا تحدثك إلا وهي متقمصة طريقتك في الكلام، وكأنها توحي لك بأنها هي التي تتحكم في الموقف ولست أنت. لكن ما كان يحمد لها هو حرصها على أن تكون عادلة في معاملتها اتجاه الغير قبل أن تكون عادلة اتجاه نفسها، ولذلك كان الزبون عندها فوق كل اعتبار، وإرضاؤه يعد واجبا عليها قبل كـل شيء. لم تكن بائعة ورد فحسب، بل أيضا عاشقته، وخبيرة بأصنافه والرائحة المميزة لكل صنف، وتغدق عليه كل أشكال العناية التي تجعله موفور اليناعة مشع البريق زاهي اللون. زرتها أسابيع بعد تسلم عابد الشغل في محلها لأسأل عما إذا كان منضبطا أم لا. فقالت بأن عابد تربى في البادية وسط النبات، ولكنه لا يعرف كيف يتعامل مع الورود، وبأنها قالت له مرارا بأن تلك الكائنات الصامتة تحتاج إلى أياد رقيقة ولطيفة، غير أنه لا يسمع لأن رأسه ثقيلة، ثم تداركت وهي تمصمص شفتيها، كما لو أنها تتذوق طعما حريفا: مي مدام تقسم بربي اللي خلقها إيتعلم.. مدام.. أنت تعرف لحجر تعلمه.. ما تخافش يصبح واحد معلم مزيان.. شوية وقت مش بزاف يتعلم..
لما علم عابد بخبر زواج ميلود من فرنسواز انفتحت أمامه طريق جديدة للتعبير عن قدرته على المضاهاة منعشا في داخله وهم استحقاقه ما يعتبره حقا يخصه قد انحرف عن مساره نحو الغير. وقد كنت أنتظر أن يصدر منه مثل هذا الإحساس، لأنه لا يعرف كيف يخفي ما يضمره، غير أنني لم أكن أقدر حجم تهوره، ولا نوع الحماقات التي كان سيقدم على ارتكابها.. فقط كنت أعلم أنه لن يسلم من نوبات الجنون التي تستولي دائما عليه في مثل هذه الحالات. وبدأت البشائر الأولى تظهر متتالية تعلن الانقلاب التام في مزاجه، فبعد أن كان مهملا هندامه صار يهتم به، ويرطن بكلمات فرنسية مقعرة غير سليمة بطريقة تثير الشفقة، ثم بدأ يتعاطى إلى التدخين، فاشترى غليونا، وكم كان يبدو منظره مضحكا وهو يعض عليه بأسنانه نافثا الدخان من منخريه. وصار يكثرمن الحديث عن مدام هيري متقصيا أخبارها، ما الذي اشترته، النكت التي روتها له، أخبار كلبها الكانيش الذي يجر الزبناء من ثنية سراويلهم السفلى ليقودهم إلى المحل، فيشتروا الورد إكراما للحيوان الذكي. لكن ما كان يُغيظ في حديثه هذا ادعاؤه أن مدام هيري تطلعه على أسرارها، وتصحبه إلى بيتها ليشاركها الطعام شاكية له وحدتها من جراء سفر ابنها إلى فرنسا بغية إتمام دراسته، وطلبها مشورته في أمور عديدة تتعلق بحياتها الخاصة.. كنت أعلم أنه يكذب، لكنني كنت أتغاضى ظانا أن هذه المهزلة ستنتهي في أقرب وقت، لكن ظني لم يكن صادقا تماما. فذات ليلة طلب مني أن نتكلم على انفراد، لم أتردد في الاستجابة ظانا أن الأمر لا يعدو أن يكون طلب المشورة في بعض الأمور البسيطة التي تخصه، لكن طلبه كان سخيفا في حجم هبالته.. أتدري ما هو يا ابني؟! قال بكل هدوء أنه ينوي التقدم إلى مدام هيري طالبا يدها، وعلي أن أمهد له الطريق بمعرفتي. سقط طلبه عليَّ كالصاعقة، غير أنني أخفيت امتعاضي حتى لا أدفعه إلى العناد، وحاولت أن أسلك سبيل الإقناع، وإن كنت أعلم أنه لن يقتنع على الإطلاق. فقلت له: يا عابد ! هذه السيدة تكبرك سنا.. وحتى إذا نحن افترضنا أن مسألة السن لا تهمك في شيء فإنها لن تقبل بك زوجا، لأنك ببساطة لا تناسبها، وإذا ما حاولت أن تتجاوز حدودك منصاعا إلى تفكيرك السخيف هذا، فإنها لن تتردد في طردك من العمل. وهذا حقها.. فكر يا عابد قبل أن تقدم على ذلك في ما ستتسبب فيه من إفساد للعلاقة الطيبة التي تربطني بها! يمكنك الزواج وهذا حقك، لا أحد يمانع فيه، ولكن فكر في امرأة في مثل سنك، ومن بلادك، على قدِّ يدك.. وأنا مستعد لمساعدتك. احتج عابد وهو يقول: هل ميلود أحسن مني؟! لِمَ يتزوج هو فرنسية، وأنا لا؟! ما الفرق؟! فقلت له: بأن الفرق موجود بينك وبين مدام هيري، وليس بينك وبين ميلود. أتدري لماذا؟ بالطبع لا، لكن سأتكلف أنا بالإجابة، لأنك مازلت شابا لم تتعد العشرين، ومدام هيري تشرف على العقد الخامس، ولن تفكر في الزواج من طفل مثلك، لأنها إذا فعلت ستصير عرضة للسخرية والتندر. أما ميلود الذي تغار منه فقد كانت فرنسواز رهينة صنيعه معها، وهي التي سعت إلى الزواج منه، وليس هو. كما أنها في مثل سنه. إذا كنت تقارن نفسك به فابحث عن جندي أمريكي وأقنعه باعتراض سبيل أية فرنسية، وخلصها منه، لعلها تعجب بك، وتتزوج منك.. هل تستطيع ذلك؟! إذا كان ممكنا فافعل! زمجر وأزبد وانصرف غاضبا.
أتعلم ما الذي جرى آ ولدي المعطي بعد كل هذه المواعظ؟!
انتظر عابد في الغد موعد انصراف مدام هيري من المحل، ليطلب منها مرافقتها إلى البيت، فاستغربت طلبه، لكنهالم تردعـه، وحاولت أن تفهم مقصوده بتصنع عدم الاهتمام، واكتفت بالتساؤل عن السبب، فاقتبرب منها هامسا كمن يدلي بسر خطير، وهو يرتجف، معبرا لها عن رغبته في الزواج منها. ففغر فاها، وجحظت عيناها، وركبها جنون الدنيا برمته، ولم تتمالك نفسها وهي توجه له صفعة قوية على وجهه. وما أن رآها عابد تحمل مزهرية لتهشمها على رأسه حتى فرّ من المحل أمام استغراب التجار، والحمالين، والزبناء، وهو يلتفت يمينا وشمالا غير مدرك لما حوله.
عاد عابد إلى البيت مساء، وانزوى في ركن من غرفة الضيوف صامتا من دون غليون، فاقتحمت عليه خلوته، وقد حدست ما أقدم عليه من حماقة، لم أرد أن أسأله تاركا له مبادرة الإفضاء بما يتكتم عنه، واكتفيت بالتحية، ثم لذت بالصمت إلى أن بادر بالكلام قائلا بأنه لن يعود مرة أخرى إلى مارشي سانطرال، وأنه سيبحث عن صنعة يتعلمها، لأن عمله مع مادام هيري لن يفيده في تكوين مستقبله. غير أنني لم أصدق حجة تغيير العمل، والرغبة في تعلم صنعة مفيدة، وأدركت أنه يكذب، ويخفي الحقيقة، فقلت له، بأن ما قاله جيد، ولكنه ليس هو السبب في العزوف عن العمل مع هيري، وإنما تجاوزه الحدود. ولما تفطن إلى أن الأمر لم ينطل عليّ كما كان يظن، اعترف بالقصة كما حدثت. لقد كان ينتظر مني، وهو ينهي ما جرى له مع مدام هيري، أن أنتفض أو أثور في وجهه، لكنني لم أفعل أي شيء مما كان يتوقعه، وانسحبت كاتما غيظي، ولست أدري أبدا هل استوعب الدرس أم لا، وهل أدرك أن أولاء الفرنسيات لم يأتن إلى المغرب متجشمات العناء لأن الرجال ينقصونهن، أو أتين من أجل سواد عيوننا وسمرة جلودنا، وإنما أتين من أجل الحلم الفرنسي. صحيح أن مدام هيري تحب الورود، لكنها تحبها أكثر من أجل بهجة مواطنيها وسعادتهم، ونحن لسنا إلا خدما لهذه البهجة فقط.
سكت العم حسان على وقع دقات متوالية على الباب، وهمّ بالنهوض مغالبا جسده لمعرفة من الطارق، لكنني رجوته أن يظل ملازما مكانه، وخففت إلى الباب مسـرعا أفتحه، وإذا برجل في الخمسين من عمره يسألني عما إذا كان العم حسان موجودا أم لا، ففسحت له الطريق أمامي.. كان يمشي بتؤدة، وهو يميل جانبا كلما خطا، فتبينت أن أحد ساقيه أقصر من الأخرى. وما أن رآه العم حسان حتى بدت على محياه علامات الامتعاض فاضحةً، لكن الرجل لم يبال أبدا وتقدم نحوه مادا يده محييا.. جلست وأنا أنقل البصر بينهما، وهما يتحدثان.. كان الرجل يميل إلى سمرة داكنة، ويتكلم لهجة تنم عن انتمائه إلى الجنوب، عيناه غائرتان، وأنفه قصير وبارز تكاد أرنبتاه أن تلامسا شفته العليا المكتنزة، يضع على رأسه طربوشا طوليا مخروم الوسط مقعره. وبعد أن فرغ الرجل من السؤال عن أحوال العم حسان، انحنى نحوه يخاطبه هامسا، لكن العم حسان رجاه أن يتكلم علانية:
ـ غير تكلم.. ما معنا غريب ( مشيرا نحوي ).. راه بحال ولدي..
ـ طيب.. قال الرجل.. سكان الزنقة قرروا باش ايتخذوا موقف..
ـ الآن عاد زالت على عينهم الغشاوة.. يا سبحان الله.. الآن عادت أصبـحت
السويطة قوادة.. امرأة لا تصلح.. سنين هذه وهم يصبحوا عليها ويمسيوا.. ولا
عين شافت ولا قلب وجع.. اليوم عاد بان المستور..
ـ لا تلوم حد آ عمي حسان.. الناس ما باغوا يسدوا باب التوبة عليها..
ـ أهاه.. إيوا آ سيدي فين عمر كانت اللوية مسرحة.. أنا خايف غير القضية
يكون فيها مولى نوبة ميش التوبة..
ـ الله ايهديك آعمي حسان! أنت مول العقل زعما..
ـ والله ما عرفت شكون مول العقل، وشكون الأحمق في هذا الزمن !
ـ حنا كَانْ نوقعوا واحد العريضة باش نسايفطوها للمخزن.. وخاصك توقع معنا
عليها..
ـ وشكون مول هاذ الفكرة؟!
ـ شكون غادي يكون؟! موالين الزنقة..
ـ آخرج من روندتك آسي فاتح.. إياك ما قلت عمك حسان خرف، أو ما
بقى يدري حتى حاجة.. راني على بال.. آش من حزب نويت نشاء الله تقدّم
بسميته هاذ المرة؟!
ـ آش جاب لبيض للكحل.. حنا في القوادة ولا في الانتخابات؟!
ـ آسي فاتح لنطولوه نقصروه.. أنا رجل كبير.. شوف شي واحد آخر.. الله
يسهل!
بالرغم من رد العم حسان المجافي والجارح، لم يبد الرجل الأدكن أي علامة تدل على الغضب أو عدم الرضى، وكأنه حجر لا حس له، ثم التفت نحوي مشيدا بخصال العم حسان، معتبرا إياه رجلا حكيما، عميم البركة، من أولياء الله الصالحين، كل من في الزقاق يسعى إلى مشورته، ويكن له بالغ الاحترام.كان يتحدث منافحا وهو ينظر من خلال زاوية عينيه إلى العم حسان متبينا وقع كلامه عليه. وحين انتهى من منافحته انتقل إلى الحديث عن بلائه الحسن في خدمة أهل الزاوية، وحبه لعمل الخير ابتغاء لمرضاة الله، عملا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم استطرد به الحديث إلى الشكوى من أولئك المثقفين الذين لا يعرفون أبدا أهل الحي، ولا تجربة لهم في الحياة، ولا دراية لهم بالهموم اليومية للناس، ومع ذلك يصرون عـلى المشـاركة في الانتخابات. ولما لاحظ عدم حماسي لمبادلته الحديث، وصمت العم حسان، قام من مكانه واتجه نحو الباب مودعا. لم أرد أبدا أن أفاتح العم حسان في أمر الرجل، فقد كان الإحساس بالتعب باديا على ملامحه، لذلك قلت له بأن موعد انصرافي قد حان، وسأتركه لكي يرتاح، ووعدته بأنني سأتصل حين تتاح لي الفرصة، بمحام كفء ليتولى أمر قضية الأرض، ويتخذ الإجراءات التي يراها مناسبة. وقبل أن أنصرف مدّ لي العم حسان ورقة، وقال بأن بها الاسم الكامل للرجل الذي استولى على أرضه. أخذت الورقة وتفحصت ما كتب عليها بخط رديء، وكم كانت دهشتي قوية حين قرأت: شبيك سليمان. لاحظ العم حسان علامات الاستغراب على وجهي فسألني إن كنت أعرف صاحب الاسم، لكنني اكتفيت بالقول بأنني كنت أستغرب طبيعة الخط الغامض، ثم انصرفت.
فيما كنت أنزل الدرج في اتجاه الطابق السفلي معرجا على سعاد وفاء بالوعد، ألحت على ذهني الحكايتان اللتان قصهما عليّ العم حسان.. هل هما مجرد صيرورتين تنمان عن طبعين مختلفين لشابين عاشا لحظة الاستعمار بكل التباساتها، أم أن الأمر يتعدى ذلك إلى وضع تاريخي مأزوم استحكم من النفوس والعقول؟ لماذا هذا الانجذاب المحموم والأخرق نحو الغير الأبيض الأعجمي؟ ولم الذوبان في محارق صورته، حتى لو كانت هذه الصورة مجرد شبح ممزع، به مَهَهُ الرماد؟ لما يصر عابد على الزواج من امرأة لأن اسمها مدام هيري، ولأنها سليلة جلد يستعير لونه وملمسه من الثلج والبرد.. امرأة في منحدر العمر، مات فيها نبض الاستغواء، ويبست فيها منابع الأنوثة؟ قد يركن الذهن المتعجل من أمره إلى جارور من جوارير فرويد ويؤول الأمر بالحكاية إياها المعهودة فينتصب أوديب بكامل خطيئته ليصير عابد ظلا له، يناهبه نَكْمَتـَهُ..رجلا يحن إلى جسد أمه المختزن في تعاريج الذاكرة منذ أزمان موغلة في القدم، وتصبح هيري مجرد استبدال من ضمن استبدالات أخرى للأم.. ربما كانت القضية أكبر من ذلك، لها أكثر من معبر ومدخل، يحكي العم حسان عن عابد في مقابل ما يحكيه عن ميلود من زاوية التقابل بين السوي وغير السوي.. ينزه الصهر ويشهر بالأخ غير الشقيق.. يمجد التروي ويحط من شأن الحماقة.. هل الأمر يتعلق بمسألة تعود جذورها إلى غياب تماسك الذات الصلب، وانشطارها غير القابل للتسوية من جراء فقدان نقطة استناد يعود إليها التطلع قادرة على جلب الاطمئنان لذات لا تمتلك لا حاضرها ولا مستقبلها. وحتى إذا فحص الأمر من زاوية نظر العم حسان، أ يمكن اعتبار حالة ميلود مندرجة في خانة السوي أم اعتبارها الوجه الخفي لغير السوي في حياتنا؟ قد نعتبر إنقاذ حياة فرنسواز تعبيرا عن الشهامة بلغة الأخلاق، بيد أن ذلك ليس سوى مجرد طبقة سطحية هشة تحجب ركنا مظلما في تلافيف النفس لم تلمسه أشعة العقل المتحفز غير المتهيب.. ربما الأنثى هنا ليست سوى موضوع للتبادل، نُقل من مكان إلى آخر، فنُقلت معه الحقيقة من مجراها الأصلي إلى مجرى مضلل: إزاحة ما يشير إلى الذات وإحلال الغير محله.. صحيح أن الاغتصاب يرتفع لتشيد بدلا منه فضيلة الصيانة والحماية، ولكنها صيانة حادثة بفعل شجاعة محرفة عن أصلها.. صيانة رمزية واهمة استبدلت الأرض المسلوبة بالأنثى، لكن المشكلة في طبيعة الأنثى وصورة المعتدي.. الجندي المهزوم الفاقد سيطرته على موضوعه الأنثى ليس إلا طرفا ثالثا عابرا.. إنه أمريكي وليس بفرنسي.. لِمَ لم تعط الحكاية ـ وإن وقعت بالفعل ـ للأنثى اسما مغربيا وللجندي هوية فرنسية؟ ألم يتحول ميلود إلى أحد خدام آلة استنزاف خيرات البلد؟ قد يشتط بي الذهن بعيدا عن الصواب، ويلتهب في مخيلتي المعنى متقدا خارج حدوده، وتنقع لغتي في حمم من ندف التفسير، لكن الأسئلة تأبى إلا أن تدق جدار العقل، وتهزه بقوة.. ما سر هذا الانجذاب الذي تجعله الحكايتان قطب الرحى، تدوران حوله ليكون الزمن مجرد نتاج له؟ وهل هو يخص عابد وميلود وحدهما أم هو انجذاب ميز جيلا برمته عاش تحت الاحتلال، أم يتعدى ذلك إلى وضع تاريخي لا يزال يتربص بخطواتنا بكل قتامته في كل آن وحين ناشرا نمشه على الآتي؟ حكاية عابد المرفوض والمنزوي في الركن محتميا بخيبته، وحكاية ميلود المقبول والمندمج في نسيج الآخر طرفتان تتناسلان كل يوم، وتتداخلان لتحبكا ألف خيط وخيط يلف الأقدام والعقول والأحلام.. الأنثى ليست إلا رمزا وملحا لكل حكي، لكنها تنبثق في الحكايتين معا ممهورة بالاستغواء الذي يمارسه ظل الغرب علينا، فتصاب الأعين باللحَحِ، وتغيم الرؤية، ولا يهدأ اهتياج الروح إلا حين تلف بأقمطة الغير حججا ورطانة وذوقا ونبوءة.. لِمَ كل هذا الانصهار الكليل؟ أ لأننا لم نعد قادرين على إبداع السر الذي يجعل من الحياة قابلة للعيش، أم لأن المغلوب ينجذب نحو الغالب، أم أن الأمر مجرد تنكر للانتماء إلى ضفاف الضعف، أم هو جنوح نحو التميز عن الجماعة؟ وأي تميز هذا يمكنه أن يرضي الذات إذا كان لا يتعدى مجرد العابر، ما هو زائل، وغريزة، ولذة، ومظاهر …؟
رحبت بي سعاد، وهي في حُمُوَّةِ التألق تشع منها الابتسامة هامرة يستضيء بها المحيا الموهوب لرفرفة الأسى الحائم، ولضربات القلب المكلوم.. كانت في تمام البهاء مكتملةً ترتدي فستانا خوخي اللون من الحرير الناعم ينساب على قوامها المتقد، فيزيد تفاصيلَه دقةً لافتة، فضفاضاً عند القدمين، ضيقاً عند الوركين، به التماع مضيء تتغير شدته كلما انتقلتْ تحت نور المصباح الغامر.. كانت تضع مكياجا خفيفا يلائم بشرتها، وتركت شعرها مرسلا على الكتفين، ليمنح جيدها الدقيق والناتيء خلفيةً عميقةً تزيده جموحا وطلاوة، وعيناها كانتا تبدوان كحبتي لؤلؤ لامعتين خلف النظارتين الطبيتين، مما أضفى على وجهها سحرا غسقيا. قالت بعد أن استوت فوق الكنبة:
ـ تشرب شيئا؟! كل شيء أمامك فوق المائدة.. قهوة أم عصير أم شاي؟!
ـ لِمَ كل هذا؟! يكفي كأس قهوة..
ـ أريد الاحتفاء بصداقتنا.. هل لديك مانع..؟!
ـ لا.. أبدا.. هذا شيء يسعدني..
تركت سعاد مكانها، وجلست جواري، وهي تسوي شعرها بدفع خصلاته الطويلة المتهدلة إلى الخلف، ثم قالت في ما يشبه الهمس متسترة:
ـ ابتسام سألتني عنك.. من تكون..؟
ـ وماذا قلت لها..؟
ـ صديق قديم..وسألتني ما إذا كنت صديقا لأيبهـا، فأجبـت بالإيجـاب
بالطبع..
ـ ثم ماذا قالت أيضا؟
ـ لا شيء.. فقط قالت بأنك حزين..
ـ أتعرف ابتسام الحزن في هذه السن المبكرة؟!
ـ ولِمَ لا؟! ما دامت عاشت طفولتها في حضن الخصام والعراك، ومع أب
فاقد للإحساس..
ـ عندك أب الحق وليس عمه فقط.. لم يعد الحزن مقتصرا على الكبار، بل
صار موهوبا للجميع، حتى من ليس أهلا لفواجعه..
ـ ما هذه الأوراق التي معك..؟
ـ عقود ملكية تخص العم حسان.. قصتها قصة..
ـ من أجل ذلك أتيت إذن..!
ـ ليس بالضرورة.. العم حسان يهمني كثيرا أمره، لأنني عشت ردحا من
الزمن في بيته، ولا يمكن أن أتخل عنه في هذه السن المتقدمة..
ـ يظهر ذلك.. لقد قضيت عنده وقتا طويلا.. كم هو محظوظ!
ـ حين يكبر الواحد منا، يحتاج إلى تفهم الآخرين والصبر عليه.. العم حسان
يحكي طيلة الوقت عن زمانه المنصرم، وعن الفواجع التي ألمّت به، وعـلى
من يستمع إليه أن يكون مشاركا له حتى يُشعره بالسعادة.. حين يحكي
فإن الماضي يصير بالنسبة إليه حاضرا، وما هذا الحاضر سوى وقعِ
روايته على من يستمع إليه..
ـ ما كان العبار ليتركه يعاني من الوحدة في هذه السن..
ـ لم يكن لديه خيار آخر.. رجل عاد ليخدم وطنه فقالوا له.. شكرا لدينا
رجالنا، الله يسهل.. ما الذي يمكن أن يفعله؟! أراد أن يكون نزيها، لكن
اللوبي الذي يتحكم في إدراة المؤسسة كاد له، فكان أمام خيارين لا ثالث
لهما: إما أن ينبطح وينساق ويشاركهم الكعكة، وإما أن ينفذ بجلده
متنازلا عن الجمل وما حمل، ويقول بلاد الناس، ولا الفأس في الراس..
ـ وأبوه؟! أليس أهم من كل شيء آخر.. ألا يستحق أن يتجرع من أجـله
السم؟!
ـ حين تنطبق الكماشة على الإنسان يفقد القـدرة على تـحديد الاتـجاه
الصحيح..
ـ على أية حال.. نصف الأشواط هي لعبتنا مع الزمن والغير..
ـ لأننا في موقع الاضطرار..
ـ دائما التبريرات نفسها.. المعضلة كامنة في ضبطنا المنظور دائما وفق
الزاوية الثابتة نفسها من دون التفكير في تغييرها..
ـ ما يحصن الإنسان هو القناعات، والتفريط فيها، يا سعاد، يفضي إلى التيه..
ـ الإنسان هو الذي يخلق القناعات وليست هي التي تخلقه.. القناعات يمكن
أن تتجدد حسب التجربة والحياة..
ـ حتى لو تغيرت القناعات، فهناك القيم الثابتة الـتي لا يمـكن الـجدال في
ضرورتها..
ـ لا نختلف في هذا الأمر.. لكن ألا ترى بأن مشكلتنا كامنة في العقليـة التي
نتصرف بها اتجاه العالم: كل شيء أو لا شيء..
ـ أنصاف الحلول غير مجدية على الدوام..
ـ لماذا لا نجرب.. ثم نحكم.. بعيدا عمن يمتلك الحق الأزلي في تمثيل الحقـيقة
والحديث باسمها نيابة عن الآخرين..
ـ أنت واهمة.. الأمل أكذوبة في واقع يطبق عليه الإفلاس الشامل..
ـ لا.. لست واهمة أبدا.. وأنا يائسة مثلك، ومع ذلك فاليأس لا يولـد من
تلقاء نفسه، فله مسبباته، واليأس ليس بواحد.. يأسي ليس بالضـرورة أن
يكون هو يأسك.. ومعنى ذلك أن الحياة متعددة وليست واحدة، وأن
منظورنا إليها متعدد..
ـ ر بما.. ألم يخطر ببالك أننا نفكر في العالم على هذا النحو لأننا ننتمي إلى
شريحة متعلمة، بينما الجموع التي ينخرها الجهل والأمية لا يهمها حريق
الرأس هذا..
ـ ما تقوله الآن هو لب المعضلة، لأن الذين أخذوا على عاتقهم تغيير العالم
اتخذوا سبيلا لهم للوصول إلى هاته الجموع خطاب التجـريد مكتفـين
بالورق كمعبر، ولم يتوغلوا في حياة الناس البسطاء سالكين إليهم دروب
التعدد والتنوع..
ـ آه ! كم أنت لجوج؟!
ـ هذه اللجاجة ربما كانت الطامة بالنسبة إلى الأنثى في عالم ذكوري اعتاد
على أن يكون مصدرا لكل قرار، وربما كانت هي السبب وراء فشلي في
الحياة..
ـ دعينا من كل هذا.. لنفكر في اللحظة التي هي ملكنا الآن!
ـ بالمناسبة اتصلت بك مرتين بالهاتف.. ولكنك لم تكن موجودا.. ألم يخبرك
من ناب عنك في الرد؟!
ـ.....
ـ لِمَ الصمت؟! هل أحرجتك؟! بالمناسبة من رد عليّ لم يكن هو نفـسه في
المرتين..
ـ إذن قد وفرت عليّ عناء كبيرا.. لقد كنت أفكر في الطريقة التي أطلعك
بها على اقتسام أناس آخرين معي الحياة تحت سقف واحد..
ـ إذن.. أكثر من واحدة..
ـ أرجوك.. لا تبالغي.. ويجب ألا يجنح الخيال بك بعيدا..
ـ اشرح لي أخويا.. أنا مستعدة للاستماع..
ـ تعيش معي فتاتان ربيتهما منذ أن كانتا صغيرتين، وهما مثل أختين لي.. هل
يضيرك ذلك..
ـ لا أبدا.. لكن أتساءل ما إذا كانتا قريبتين لك..
ـ ليس بالضرورة أن تكونا كذلك.. كان أبوهما يريد التخلص منهما،
وشاءت الصدفة أن أنقذهما.. هذا كل ما في الحكاية..
ـ أريد أن أراهما..
ـ سيكون لك ذلك حين تتاح الفرصة..
ـ....
ـ سعاد أعتقد أن الأوان قد حان لتقولي كلمتك النهائية..
ـ حول ماذا؟!
ـ أرجوك.. كفى من تصنع عدم المعرفة..
ـ أصدقك القول بأنني لا أعرف ما تقصده بالضبط..
ـ أقصد يا سيدتي استرداد ما ضاع.. فأنا لا أريد أن أفقدك مرة أخرى..
يمكن أن نبدأ من جديد..
ـ ربما كان ذلك يحتاج إلى وقت..
ـ الزمن يسرق منّا ما تبقى من العمر.. المتاح اليوم قد يكـون غـير ذلك
غدا..
ـ لقد تغيرنا كثيرا، وأخشى أن يتحرك الحب في أوصالنا كما ألفـناه في
الماضي، فلا يجد التربة المناسبة فيموت..
ـ على أية حال.. يمكن أن نبعثه بما يناسب العمر وتبدلاته..
ـ آه.. لو نستطيع..!
ـ لنحاول..!
ـ سأسمعك شريطا كنت مهووسا به، لأنني كنت أحبه..
قامت سعاد، ووضعت الشريط داخل آلة التسجيل، ثم جلست قبالتي، وأرخت سماعها كله لأم كلثوم، وهي تصدح مجلجلة محركة ما بالأعماق من ثمالة الحنين: كلموني تاني عنك فكروني. وتفكرت ما كان يجب نسيانه، ما ظل ثاويا في الذاكرة على هيئة متاع لا فائدة منه، ولست ما السبب في انبثاقه الآن بكل رعونته وفجاجته؟! عاد بي الزمن إلى العشرين من العمر، وبالضبط إلى شهر ماي من سنة 1975، كنا ما زلنا في مستهل التجربة، يستحثنا الحب نحو مراقيه الباذخة، فنلبي الدعوة غير آبهين بالعثرات، ولا بالحدود، ولا الموانع، التقيت سعاد كالعادة مساء الجمعة أمام مكتبة البلدية بشارع الجيش الملكي، وسلكنا معا الطريق صوب الكورنيش راجلين نسابق الخطو، اليد في اليد، وقلبانا يرفان انتشاء، فنحس لدفق الدماء في أناملنا رشيشا رهيفا يوغل بنا في عوالم من الظلال والضوء يزيدها شجر الكالبتوس المتسامق على جنبات الشارع النازل نحو البحر سحرا عابقا بالندى والملوحة. حين وصلنا إلى الشاطيء الرملي خلعنا أحذيتنا، وصرنا نعدو خلف بعضنا ورذاذ الموج المالح يعلق بوجهينا، توقفت فجأة، وظلت سعاد تركض كمهرة برية شعرها يتماوج مع هبات الريح الخفيفة وآثار قدميها تبدو على الرمل المبتل غائصة على شكل منحنيات، ثم اتجهت نحو الماء لتداعب برجليها المويجات التي كانت تنتحر على الشط لافظة حشرجتها الأخيرة على هيئة زبد أبيض تنفجر فقاعاته الملتمعة تحت أشعة الشمس.. ابتل سروال الجين الأزرق فبدا ملتصقا على ساقيها الممتلئتين، وهي تعود نحوي غارفة الماء بكلتي كفيها تحاول رشه عليّ،لم أتحرك من مكاني لتطال وجهي برودة الرشيش. وحين صارت في متناول ساعدي ضممتها إلى صدري، فاستسلمت طيعة لأنعم بعطايا القوام اللدن، ثم تخلصت من شراكي وولت هاربة اتجاه الكثبان الرملية، فتبعتها أطارد ظلها الهارب وقدماي تغوصان في الرمل الحارق إلى أن أدركتها وقد أشرفت على الطريق، فالتحمنا من جديد وعينانا على الغابة التي بدت في الجانب الأيسر رحبة وعميقة وآهلة بالبداهة التي تمتلكها كل أرض بكر غير موطوءة بآثار الإثم.. تبادلنا نظرات سريعة نختبر بها ما جال مقتضبا وعاصفا في ذهن كل واحد منا، وكأننا نوافق معا على نداء صامت يدعونا إلى التوغل في التباس اللحظة التي كانت تصنعـها أمامـنا الأغصان اليانعة الملتفة على بعضها، فانحدرنا عابرين الطريق إلى داخل الدغل مخلفين وراءنا البحر والناس وأزيز السيارات لننخرط في فسح الظلال وبهاء الجذوع النافرة ورائحة شجر السرو العبقة..كان كل شيء يوحي بالسكينة ويبوح بأسرار الخلوة المفضية إلى الفـناء في ملـكوت الارتواء.. تغريد العصافير اللائذة بأعشاشها، ورقرقة الماء البلورية وهو ينساب بين ضفاف الجدول الذي يخترق الشجر متعرجا نحو مستقره الأخير في البحر، وصدى أصوات آدمية تأتي من بعـيد كأنها رجع ينهمر من عالم آخر.. استلقيت ممددا على العشب موجها وجهي إلى الأعلى حيث تتسلل بقع ضوئية بين الفروع المتداخلة ناشرة خيوطا من بريق فضي، واستلقت سعاد واضعة رأسها على بطني وهي تغني " زي الهوى " لعبد الحليم، وأنا أستمع إليها مداعبا خصلات شعرها.. وفجأة سمعنا وقع خطوات ثقيلة، فانتفضت من مكاني واقفا لأواجه أي احتمال..لم يظهر في البداية أي شبح، وبينما كنت أستنفر حواسي لأحدد مصدر الـحركة انبـثق من بين الأشجار رجلان من القوات المساعدة، فأدركت أن الأمر ينذر بالوبال.. انتبهـت سعـاد إلى الرجلين، فتركت وضعتها المسترخية وانتصبت قائمة حيرى.. تقدما مزهوين نحونا على وجهيهما علامات الشماتة، أحدهما قصير القامة بطنه تتدلى منتفخة نحو الأسفل، ووجهه يشبه مقدمة رأس سمك البرانيا، الفك الأسفل يتقدم الفك الأعلى، والأنف مضغوط نحو الداخل كأنه في حالة شم دائمة. والثاني كان ربع القامة ذا رأس ضخم، وذقن مثلث مسحوب نحو الداخل في اتجاه العنق، وحاجباه يكادان يغطيان عينيه.. طلب ذو الأنف المضغوط منا البطائق التي تثبت هويتنا، فاستجبنا لطلبه..كان يفحص الصور مقارنا بينها وبين وجهينا، بينما كان صاحب البطن المتدلية يمطـرنا بأسئلة مبطنة بالسخرية مهددا ومتوعدا، وحين انتهى صاحب الأنف المضغوط من فحص البطائق وضعها في جيب سرواله، وأمرنا بالسير خلفه نحو المخفر، وهو يلعن من أتى بنا إلى الدنيا ولم يحسن تربيتنا.. تدخلت لأبين له بأننا لم نأت بما يخل بالحياء، وأننا أحرار في اختيار المكان الذي نرتاده، وأننا لم نَعْتَدِ على أحد، فلكمني ذو الرأس الضخم، فما كان مني سوى الامثتال لمشيئتهما، وانتظار ما يمكن وقوعه من متاعب.. حين وصلنا إلى المخفر وجدنا به رئيسَهما جالسا خلف مكتب خشبي مهتريء يحتسي كأس شاي وبيده لفافة تبغ.. عيناه ضيقتان شبيهتان بعيني ثعلب، ورأسه أصلع، ووجهه منتفخ وداكن، وجبهته عريضة، وأذناه صغيرتان تكادان تقتربان من قفاه. لما رآنا زعق في وجهينا ناعتا إيانا بأشنع الصفات، ثم طلب من الرجلين الانصراف ليسألنا عما كنا نفعل في الغابة، وما العلاقة التي تجمعني بسعاد.. كنت أجيبه وسعاد صامتة.. كان يستمع إلي وهو يمضغ العلك كما لو كان يجتر.. صمت لحظة مركزا نظراته في الفراغ كمن يقدم على التفكير في أمر خطير، ثم هب واقفا واتجه إلى الباب الخارجي للمخفر وأغلقه، وعاد ليجلس في مكانه، ويرفع رجليه فوق المكتب واضعا الواحدة فوق الأخرى.. لم ينبس ببنت شفة واكتفى بالنظر إلينا من دون أن يرف له جفن، وفجأة قال ببرودة دم بأن أمر انصرافنا ممكن شريطة أن تشد سعاد نصفها الأسفل بشريط سحبه من أسفل المكتب، وترقص أمامه. لم تتمالك سعاد نفسها فانفجرت في وجهه ممطرة إياه بوابل من الشتائم، لكنه لم يأبه بما تناهى إلى سمعه، وهب واقفا واتجه نحوها وصفعها بقوة حتى خلت أن خدها قد انفجر.. لم يصدر عن سعاد أي رد فعل يدل على الألم، وإنما انهارت وسقطت على الأرضية فاقدة الوعي، تقدمت نحوها محاولا خضخضتها لعلها تسترجع وعيها، من دون جدوى.. فتح المخزني الباب، وقد أدركه الهلع، وأمرني أن أحملها إلى الخارج بعيدا عن المخفر، ولما رفضت طلبه، غادر المخفر لبرهة من الزمن، ثم عاد صحبة مرؤوسيه، وأمرهم بحملها.. اعترضت سبيلهما، لكنهما دفعاني بكل قوة، وحملا سعاد نحو الخارج من دون أن يهتما باحتجاجاتي، ووضعاها إلى جوار الطريق، وعادا إلى المخفر، وأغلقا الباب خلفهما.. انحنيت على سعاد، وأنا أهز صدرها مناديا باسمها، ولما لم تستجب، توجهت نحو البحيرة ونزعت البلوفر القطني وغمسته في الماء ثم عدت نحوها، وما أن وضعته على وجهها، وشعرت ببرودته حتى فتحت عينيها مبحلقة حولها، وكأنها بعثت من الموت. وحين فطنت طفرت الدموع منهمرة على خديها.. مددت إليها يدي لكي أساعدها على النهوض فاستجابت خفيضة الرأس من دون أن تقول شيئا. وغادرنا المكان صامتين، وقد أدركنا مدى ضيق السجن الذي نعيش فيه جميعا، وإن كان سجنا من دون جدران أو قضبان.
كلموني تاني عنك فكروني
مازالت أم كلثوم تصدح مناددة الذكرى، وهي تستطيل في الروح، وسعاد كانت كما هي في وضعتها فوق الكنبة تختزل الزمن، وتحيله إلى هباء، كأنه لم يكن أبدا، أو كأنه يبتديء للتو. لكن البصر وهو يهتدي إلى ما خلف اللون والهيئة من سجايا ألفة شفافة تعكس ألق الوجدان، كان يرتد إلى الداخل في هيئة إحساس غامض بشيء آت لا اسم له، ومستعص على الفهم. ومما زاد النفس حيرة ذلك الصمت المطبق الذي كان يرين على اللحظة التي نعيش جريانها الآن.. أنا غارق في لجة الداخل أستفرغه، وهي موهوبة لتأمل لا أدري ما المنطقة التي يتحصن بـحدودها.. فقط نظراتها التائهة هي التي كانت تغمر السمع بإيقاعها المضيء. حتى ابتسام التي بإمكانها أن تكون ذريعة لتواصل يخاتل نفسه مبدلا جهاته بالالتفاف على حقيقته فقد كانت مشغولة بدورسها. وإذ نحن على هذا الوضع الملتبس تناهت إلى سمعنا جلبة في الخارج.. تبادلت مع سعاد نظـرات الاستغراب، ومن دون أن نفكر وجدنا نفسينا نهرع صوب الخارج لاستطلاع ما يحدث.. ولم نكـد نفتح باب السفلي حتى وحدنا العم حسان يسبقنا إلى الزقاق.. كان هناك جمع من الرجـال والشباب متجمهرا أمام بيت السويطة والكل يصرخ مطالبا برحيلها من الزقاق، وفي مقدمة الجميع الرجلُ الأعرج الذي كان قد زار مساء هذا اليوم العم حسان طالبا منه توقيع العريضة التي تندد بتصرفات المرأة المخلة بالحياء.. قلت لسعاد بأنني سأنصرف، وبأنني سأزورها عما قريب، ثم تقدمت نحو الجمع صحبة العم حسان يدفعني الفضول لاستجلاء حقيقة الأمر..
ـ ما الذي يحدث؟ سألت شابا مصطنعا الجهل..
ـ لقد ضبط أهل الحي هذه المرأة وهي تفتح بيتها للأجانب..
ـ وماذا يفعل عندها الأجانب؟!
ـ ألا تعرف ما يفعل هؤلاء...؟! ألا تعرف لِمَ يأتون إلى بلادنا...؟!
ـ أتقصد...؟!
ـ نعم أقصد الفساد.. الدعارة.. و...
وبينما أنا أحاور الشاب خرج رجلا شرطة من بيت المرأة وتوجها نحو الجمع، وهما يبديان علامات السخط والتذمر، وما أن اقتربا من الناس المتجمهرين، حتى وجه أحدهما الكلام إلى الرجل الأعرج:
ـ لا نريد الفوضى..
قال الأعرج: نحن لا نثير الفوضى، وإنما نحتج على سلوك المرأة..
ـ قلت لكم هذه فوضى.. وعليكم بالانصراف من هنا حالا وإلا...
ـ والأجانب الذين يوجدون ببيتها، أليسوا حجة على ما نقول...؟! قال
شاب من الخلف وهو يخفي رأسه
ـ فتشنا البيت ولم نجد أي رجل.. أجنبي أو غير أجنبي..
ـ لقد رأيناهم يدخلون إلى الدار.. هذا منكر لا يقبله أهل الحي.. قال
شاب آخر
ـ إذن المخزن يكذب أولد... لقد سألنا المرأة عن التهم التي توجهونها
إليها، وقد أطلعتنا على الحقيقة..
ـ أية حقيقة..؟! قال رجل مسن..
ـ اتركني أكمل كلامي، ولا تقاطعني، والله لو لم تكن في مثل سن والدي
لأخليت دار أبيك.. الحقيقة تعرفونها وتتجاهلونها..لا يعقل أن تغار منها
نساؤكم لأنها تملك الشيء الفلاني والشيء الفلاني،فيكون رد فعلكم
سخيفا.. إنكم تحاولون الإيقاع بالمرأة استرضاء لتفاهة زوجاتكم..
ـ إنها تكذب.. قال رجل آخر
ـ لن نضيع وقتنا هنا في الأخذ والرد.. هي كلمة واحدة لا غيرها، إما أن
تنصرفوا إلى حال سبيلكم، أو سنحرر محضرا بالاعتداء على حرمة البيوت
في حقكم..
سرت همهمة خافتة ما لبثت أن بدأت في التلاشي أمام تهديد الشرطيين، ليعقبها صمت كاسح، ثم بدأ انسحاب الجميع نحو البيوت الواحد بعد الآخر، وفي المقدمة كان الرجل الأعرج، وهو يَعِدُ بعض الرجال هامسا بأنه سيتصل بمسؤولين كبار، وسيوقف الشرطيين عند حدهما.. وكنت بالطبع ضمن المنسحبين أنا والعم حسان الذي ودعته عند باب منزله، وانصرفت إلى حال سبيلي محاولا إقناع النفس بأن الأمر لا يخصني لأنني لست من سكان الحي، وزيادة في جلب الراحة للضمير قلت مع نفسي: إن الأمر لا يعدو أن يكون من مستلزمات الحملة الانتخابية السابقـة لأوانها.
لقاء غير منتظر
أفقت من النوم متأخرا، بعد ليلة نال مني فيها الأرق. لم يكن أحد بالبيت.. صفية قد تكون خرجت إلى السوق، وعائشة ذهبت إلى الثانوية.. ارتديت ملابسي وخرجت من دون أن أتناول الفطور، فقد كان لزاما علي تسوية مشكلة العم حسان في هذه الصبيحة لأتفرغ مساء للبحث عن شقة أخرى.. الشارع يضج بحركة السيارات، أرضيته تبدو مغسولة وملتمعة بفعل زخات المطر الذي تساقط ليلا في غير موعده.. عمال الهاتف ببدلاتهم الخاصة يتحلقون فوق الرصيف الأيمن حول فتحة مستطيلة تطل على نفق الكابلات المدفونة.. ربما يصلحون بعض الأعطاب.. الشمس ما زالت مائلة، لذلك كان الجانب الأيسر من الشارع مغمورا بالظل، بينما الجانب الآخر تغزوه الأشعة متسللة من بعض الفجوات التي ظهرت في طبقة السحاب، بضوئها الدافيء الذي ينعكس تلألؤه على الواجهات، وعلى سطوح برك الماء الصغير ة التي تتحصن بالفراغات الموجودة بين الرصيف وفرشة الإسفلت المرتفعة نسبيا في شكل انحناء منحدر.. البنايات تتوالى متساندة على امتداد الشارع بمداخلها الرطبة والظليلة.. كنت أسير بمحاذاة الواجهات الزجاجية المصقولة وخلفها السلع مرصوصة بعناية تامة.. لم أتمكن من إيقاف أية سيارة أجرة لذلك كان عليّ أن أتوجه مباشرة إلى شارع إبراهيم الروداني؛حيث موقف التاكسيات.. كنت أطوي الطريق وخطواتي تسابق ظلي، وذهني يستعيد السير ذاته في زمن آخر لا تقوى أية قوة على محوه.. رحماك يا تاريخا خبت جمراته: 1975.. تاريخ التجربة الأولى التي اكتشفت فيها أن الشارع ليس مجرد معبر فقط، بل هو أيضا ساحة يمكنها أن تصنع الزمن، وتقلب وجهة التاريخ.. لقد كان إبراهيم الروداني شارعا شهد أول اختبار لقدرتنا على تجسيد الفكرة بكل جلالها ونقاوتها وبراءتها، ونحن في مستهل الطريق نستدرج أعمارنا الصغيرة نحو غرغرة النبع المضرج بحرائق الأزمنة؛ حيث كانت دواخلنا مشبعة بحماس شبيه بالحمم. وكانت الأحلام المحمومة، فبل أن تسرق، تنادي علينا أن نغوص في قراراتها العميقة الزاهية بألوان البنفسج، فيجرفنا نحوها الأمل بكل قوة مطوحا بنا في وهاد مغمورة باحتشاد المشاعر، ونبالة الحناجر، وطهارة المواقف، غير آبهين بحساب الخسارة أو الربح..كان الرفاق يغادرون أوكارهم المعزولة في الضواحي، ويتـركون عتـباتها المسفوحة في حالة انتظار قلق، وينزلون إلى ساحات المدينة، وقد وطدوا النفس على أن يحركوا بواطن الخوف الشائخ الذي يهندس حياة الناس وفق هواه، فيربكون قيلولة النظارات السوداء بأصواتهم العالية، وخطواتهم الهادرة معلنين قلقهم اليافع أمام الملإ، وسأمهم من نير العبودية المقنعة، وكأنهم قد امتلكوا سر اللعبة، ومفتاح العبور إلى بوابة الزمن. ولأنه كان يخيل إليهم أنهم قادرون على الانتصار على القوى المعادية لحرية الشعب كانوا لا يبالون أبدا بالعواقب إيمانا منهم بأن الجماهير توجد خلفهم، وهي قادرة على حماية زهرة الوقت من التفسخ.. أتذكر الآن ذلك الزمن، وبالضبط ذلك اليوم الذي نزلنا فيه شارع إبراهيم الروداني في جموع هادرة من التلاميذ والطلبة بعد أن نظمنا صفوفنا، وسوينا خلافاتنا، ونحن نردد شعارات منددة بسياسة الحكومة التي لم نخترها أبدا مطالبين برفع الحظر عن منظمتنا الطلابية..كان العبار يومذاك ينتقل بين الصفوف موحدا الشعارات.. تراه خلف الجموع ووسطها وأمامها، قبضته إلى العلاء يغالب حنجرته التي بحت من كثرة الهتاف.. فكيف ينتهي كل ذلك في غفلة من الجميع؟!
عبرت ملتقى الطرق لألج شارع إبراهيم الروداني الذي كان يستلقي أمام العين كأنه ليس هو ممددا يرفل في فيض من الوقت اللقيط لا يربكه أي اهتزاز، يعبر الناس أرصفته المطعمة بتقمصات الحزن الأليف، عيونهم مخطوفة، وخطواتهم متلكئة كأنهم يبطئون الوصول إلى أمكنة يقادون إليها رغما عنهم، لا تكاد تحدد لهم وجهات معينة، ويتركون همّ الاتجاه تتكفل به الطرق التي هوت من فوق سروجها، كانوا يسيرون كما لو أنهم يعودون القهقرى إلى الوراء. وفي الزوايا تقف المومسات، وهن يمضغن العلك ويفرقعنه لمخاتلة رغوة الأماني في انتظار زبون تائه أعيته هدهدة الرغبة، فخرج يلتقطها أنى تيسر له ذلك. أما التجار المتنقلون الذين يفرشـون تجارتهم الصغيرة على أرضية الرصيف فلم يأتوا بعد، لأن الناس في هذا الوقت لا يفكرون إلا في غرغرة بطونهم، ولذلك يؤخرون رزقهم إلى المساء.
كان موقف التاكسيات خاليا منها تماما، فكان لزاما عليّ الوقوف منتـظرا قدوم إحدى السيارات فارغة لتنقلني حيث أريد.. الشمس حجبتها طبقة رمادية من السحاب غير المقيم والعابر كما لو أنه يستطلع آثار عربدته، بينما هبت ريح خفيفة مثل حشرجة أخيرة، وهي تهز البقايا الواهنة من ورق وغيره، وتطوح بها بعيدا في اتجاهات مبعثرة من دون روية. مازالت ترتج في الذهن تلميحات متقاطعة لالتباس لا ينتظم وفق منطق محدد.. لم أكن أنتظر أبدا أن تكون صفية داخل حيزه المضغوط باحتمالات لم تكن متوقعة على الإطلاق.. حتى أنني تساءلت خلال الليل برمته عما إذا كانت الحياة مجرد مجرى فائر لا يعترف ببركار العقل، وبخاصة عندما يصير وجودنا معلقا بما لم نكن نأخذه بالحسبان، أو بما لم نفكر فيه، ونستبعد حدوثه.. لم أكن أتوقع أبدا أن يكون رد فعل صفية بمثل ما كان عليه، وأنا أعاتبها على عدم إخباري بمهاتفة سعاد لي خلال الأسبوع المنصرم. لو اختلقت أي عذر آخر.. لو ادعت النسيان.. لو أنكرت.. لما شعرت بالحيرة. ولكن أن تبرر فعلتها بالخوف علي، ورغبتها في تجنيبي الآلام التي ظنت بأن سعاد تسببها لي، ثم تنفجر باكية من غير سبب، وتولي هاربة نحو غرفتها وتغلق عليها الباب، فمعنى ذلك أنها تعبر عن مشاعر مختلفة تضع الإنسان داخل منطقة ملتهبة من الالتباس.. وأشد ما أرقني أن يكون ما فكرته فيه على أنه الاحتمال الممكن: أتكون مشاعر صفية نحوي قد لامست حدود ذلك الشيء الغامض الذي يداهم الإنسان على حين غرة ويحوله إلى حالم مفلس.. أتفكر فيّ من خلال الحب من دون أن أدري؟! لا.. لا يمكن.. يجب أن أطرد هذه الأفكار من ذهني.. وقف إلى جانبي شاب يرتدي الجينز شعره مرسل من دون عناية، بالرغم من أن عهد الخنافس بدأ يعلن عن بداية خريفه، سألني كم الساعة، وكأنه يعاني من أزمة وقت، فقلت له بأني لا أملك ساعة، وأشحت بوجهي عنه لأنني كنت متأكدا من أنه يريد فقط مجاذبتي الكلام، لكنه عقب عليّ قائلا بأنه لا يعجبه بدوره وضع الساعة على معصمه. فقلت بأن الأمر ليس كذلك بالنسبة إليّ، ولا يتعـدى مجرد إهمال مني فحسب، غير أنه لم يستسلم لعدم المبالاة التي عبرت عنها اتجاهه وقال متأففا: ما الجدوى من حمل الساعة ما دام الزمن لا قيمة له في عالم لا يوجد فيه ما يمكن عمله. فقلت له مادام الأمر كـما تظن فلماذا تشغل نفسك بمعرفة الوقت. فأجاب قائلا لأنه يمر بطيئا ولا ينقضي. ثم صدرت عنه ضحكة مذوية، وأتى بحركة من يده مشيرا بها إلى أنه داهية، وأخرج لسانه في وجهي، فأدركت أنه يعاني من وضع نفسي مأزوم.. لم أبد أي رد فعل، واكتفيت بإشعال لفافة تبغ. وما أن لمحني أدخن حتى طلب مني سيجارة، فناولته واحدة أشعلها ونفث الدخان نحو العلاء وهو يرفع فمه المفتوح على هيئة صفر مضغوط نحو العلاء.. اقترب مني وهو يبحلق في وجهي ثم قال:
ـ عرفتك.. أنت العالم صاحب نظرية الجينات..
ـ تماما أنا هو.. قلت محاولا مسايرته فقط، فمعرفتي لا تكاد تتجاوز كلمة
الجينات نفسها..
ـ هل صحيح أن خطأ ما قد وقع في جينة الخزينة هي التي أدت إلى انتحار
الاتحاد السوفياتي..؟!
ـ صحيح.. المشكلة كانت مالية بالدرجة الأولى..
ـ إذن جربوا زرع جينة التوسع فلم تنجح التجربة، وقالوا لماذا لا نجرب
جينة البنك الدولي. فسقطوا في الفخ..
ـ لم يريدوا أن يرهنوا مستقبلهم باستنزاف مواردهم الطبيعية، فكان عليهم
أن يبدوا حسن النية اتجاه المؤسسات المالية الكبرى، فكانت البسترويكا،
ومسلسل الإصلاحات.. لكن الغرب كان الأذكى..
ـ أنا لا يهمني سوى اللعب..
ـ لكنني لا أتقن اللعب..
ـ ألست عالم جينات..
ـ قلت لك هذا صحيح..
ـ إذن تعال نلعب مع الجينات، فهي مغرمة بالاستغماية..
ـ لتبدأ أنت..
ـ طيب أنا الآن وراء جدار من الزجاج، أصدر الأمر للجينة أن تعود للوراء
بدلا من التقدم نحو الأمام.. تقول لي حدد الزمن الذي يجب أن أعـود
إليه، فأطلب منها الرجوع إلى السنة الأولى من عمري.. وها أنذا طفل
أتعلم المشي..
كنت أتأمل الشاب وهو يقلد مشية صبي في خطواته الأولى، وأنا أفكر في حقيقته، أهو مجنون حقا، أم بلغ به الافتتان بالعقل إلى درجة صار معها يتكلم لغة أخرى لا تنتمي إلى زمننا..؟ لا يمكن أن يكون إنسانا عاديا على الإطلاق.. إنه يمس بطريقته الخاصة مناطق خطيرة من الحقيقة، والأغرب من ذلك يجمع في كلامه بين مشكلتين يبدو في السطح أن لا علاقة بينهما، لكنهما تترابطان في العمق، بين ماض كان يبشر بالأمل ثم انهار، وبين مستقبل يبشر بانقلاب في تصور البشر للحياة لم يقل به العلم بعد أو لم يفكر فيه.. لأول مرة وجـدتني أحـس برعب الجنون.. حنون يتحكم فيه منطق شديد القوة..منطق يلعب بالرمز ليقول ما يستعصي على القول، ولم يكن في مكنتي أمام هذا الوضع الغريب سوى الحزن على وطن شديد الرحابة يفضي بأبنائه إلى هذا المصير المخجل.
انصرف الشاب يجر قدميه، وهو يصيح بأعلى صوته على سائقي السيارات محذرا إياهم بألا يضيعوا نقودهم في شراء البنزين، وأن عليهم أن يفكروا قليلا، ليكتشفوا أن بإمكان سياراتهم أن تتحرك لوحدها إذا ما استطاعوا أن يستغلوا دوران العجلات الخلفية والأمامية في توليد طاقة المحرك الذاتية.. ثم صار يكرر: السر يكمن في المولد الكهربائي.. المولد الكهربائي.. الدينامو.. الدينامو.. الله أكبر.. الله أكبر.. اللهم إني قد بلغت.. الله أكبر.. أقبل تاكسي صغير، كان فارغا.. تقدمت نحوه وفتحت الباب الأمامي، وتكومت فوق المقعد، وأنا أفكر في المولد الكهربائي والعجلات الخلفية والأمامية كما لو أن العدوى انتقلت إليَّ، وكدت اصرخ بدوري قائلا: الله اكبر.. الله أكبر.. اللهم إني بلغت، لولا أن نبهني السائق، وهو يتثاءب، بسؤاله عن الوجهة التي أقصدها، فقلت له، بعد أن حوقلت، شارع الزيراوي..كانت السيارة تسير مراوغة داخل الزحمة والسائق متوتر يلعن الدنيا برمتها. ولم يهدأ إلا بعد أن استطاع الانفلات من منطقة الاكتظاظ القصوى، والدخول إلى شارع الزرقطوني.. وقفت السيارة فجأة قرب الملتقى الذي يحاذي المركز التجاري توين سانطر. سألت السائق مستفهما عن السبب، ولمـَّا لم يجب ورأيت شرطي المرور يتجه صوب السيارة أدركت ما لا يدرك بالسؤال عنه، وغادرت مقعدي لأعفي نفسي من موقف ملتبس كهذا مفضلا البقاء في الخارج حتى يمر مسار التسوية بينهما بالتي ترضي الماهر منهما. فلم أكن مستعدا لمزيد من الامتعاض.. أجلت الطرف في البنايات التي نبتت بسرعة الضوء كاللبلاب متمليا شكلها المسرف في البذخ، بالطبع كان الجمال فيها يخاصم نفسه، مثل بدوية جميلة تبالغ في وضع الأصباغ على بشرتها فتصير مثيرة للشفقة.. الواجهات لماعة وآسرة، ولكن الإسراف في بهرجتها كان يسيء إليها، وفكرت في من يحتل ردهاتها ومصاعدها وممراتها وأجنحتها، من يكون؟ وكيف يكون؟ وهل تتمتع الكائنات المنبطحة داخلها بنفس التألق الباعث على الشفقة، أم أنها أسيرة له؟ قطرات المطر بدأت تنهمر فجأة، فأسرعت إلى التاكسي الأحمر، وتكومت فوق المقعد متأملا الخارج من خلف الزجاجة الأمامية للسيارة، المارة يفردون مظلاتهم اتقاء للمطر، والبعض الآخر أسرع مهرولا للاحتماء بمدخل البناية الشاهقة التي تحتل الزاوية اليسرى من الملتقى.. هناك دائما بعض الأشياء غير المتوقعة التي تحدث فتثير فينا مشاعر مختلطة تجمع بين الشفقة والسخرية، كما وقع لتلك الفتاة النافرة النهدين التي تنتعل حذاء ذا كعب عال، وبنطلونا ضيقا أسود اللون مشدودا بقوة عند خصرها الدقيق.. لما داهمتها القطرات الأولى أسرعت راكضة خوف أن يفسد المطر تسريحة شعرها، فوقعت خائرة فوق الرصيف ككومة قش، ثم قامت من سقطتها بسرعة تجمع أشياءها الصغيرة التي تسللت من حقيبتها مبعثرة في كل الأنحاء، وهي تتأفف ناقمة، لأن سروالها قد تمزق من الجنب وبدا جلد فخذها الأبيض واضحا للعيان..
اضطر الشرطي إلى الانصراف أخيرا بعد أن سلم السائق أوراق السيارة وهو يحذره من مغبة تكرار المخالفة.. أدار السائق المحرك، فانطلقت السيارة تدب تحت المطر الذي تضاعفت زخاته.. ماسحتا الزجاج تتأرجحان من اليمين نحو اليسار مخلفتين صريرا مزعجا راسمتين نصفي دائرتين متقاطعتين.. زمجرات الرعد تتوالى فوقنا هادرة مرعبة، فيهتز لها زجاج السيارة غير المتماسك.. بعض القطرات بدأت تتسرب إلى الداخل.. قلت محاولا تكسير الصمت: مطر في غير زمانه. قال السائق سبحان الله صيفنا وَلَّّى شتوة. ثم أردف قائلا بأن كل ما يأتي من الله فهو خير، أما ما يأتي من البشر فهو شر. فقلت له معاتبا: لماذا هذا التطير؟ الناس مختلفون، فيهم الخيـِّر والشرير.. صمت هنيهة وهو ينزل بجماع كفه اليمنى على المقود في حركات متتالية، ثم ما لبث أن استرسل قائلا بأن مهنته صعبة ولا تجلب ربحا يكفيه حاجاته اليومية، وشرع في سرد المشاكل التي يتخبط فيها.. أعطاب السيارة، تكاليف الصيانة الباهظة، الزبائن وتصرفاتهم الرعناء، الطرقات المزدحمة، اللصوص الذين يتربصون بالتاكسيات ليلا، السكارى الذين يعكرون مزاجه بتفاهاتهم، البخـلاء الذين يتهمونه غالبا باستغفالهم بالرغم من وجود العداد. والنساء اللواتي يصفنه بقـلة الذوق إذا لم يسايرهن في ثرثرتهن حول متاعب الأولاد وخيانة الأزواج، والبدو بمحمولاتهم الغريبة والذين يخطئون العناوين التي يتوجهون إليها، والمحتالون الذين يصطنعون ألف حيلة وألف مشكلة للتملص من أداء الثمن، ثم شرع في حكاية ما وقع له مع سيدة تبدو محترمة، حملها معه من الكورنيش، وحين أوصلها إلى العنوان الذي تقصده بشارع مولاي يوسف، في مواجهة مدرسة اليهود، رجته متضرعة أن ينتظرها دقيقة على الأكثر ليعيدها إلى المكان نفسه الذي أخذها مـه، وقالت بأنها ستحاسبه دفعة واحدة ذهابا وإيابا، ثم أضافت بأنها عادت من أجل شيء يهمها كانت قد نسيته عند مغادرتها الشقة. قال السائق بأنه وافق دون أن يعترض، أو يشك في أمرها، وبخاصـة حين تبادلت الحديث مع حارس العمارة وهي تقصد مدخلها حاملة حقيبتها الجلدية الرفيعة وكيسـا من البلاستيك.. ابتسم السائق بعد أن التفت جهتي مستطلعا أثر ما يقول في نفسي، ولما رآني أتطلع إلى بقية الحكاية من دون أبدي ما يدل على أنني قد خمنت النهاية، حرك رأسه ذات اليمين والشمال في حركة من يستغرب غفلته، وقال: أتدري ما حدث؟ ظللت أنتظر وقتا طويلا، ولمـَّا لم تظهر المرأة ذات المقام العالي، نزلت أستطلع أمر تأخرها من الحارس الذي أجابني ساخرا: إذا كنت تقصد المرأة صاحبة الفستان المشجر رمادي اللون، فإنها خرجت قبل قليل، بعد أن ارتدت الجلباب ووضعت نظارتين وأرسلت شعرها، ثم أردف قائلا بأنه سمح للمرأة بارتداء الجلباب في البهو بعد أن رجته قائلة بأنها تفعل ذلك حتى لا ينتبه إليها طليقها الذي يعترض سبيلها باستمرار، والذي يربض لها في الشارع على متن التاكسي.. لم أتمالك نفسي، وانفجرت ضاحكا إلى درجة أن أصبت بالاختناق، فتسربت عدوى الضحك إلى السائق الذي قال:
ـ كثرة الهم تضحك..
قلت ممازحا:
ـ كان عليكم إذن أن تأخذوا دروسا في فن الحيل..
ـ المغاربة كلهم تعلموا الغش..
ـ هذا الحكم ليس عاما.. هناك من له ضمير..
ـ نعم.. لكن هناك ضمير واحد فقط هو أنا وبعدي الطوفان..
ـ لا تبالغ..
ـ كيف لا أبالغ وقد تساوى العالم والأمي، الصغير والكبير في استغفال
الآخرين..
ـ الرأسمالية لها أخلاقها..
ـ شوف ! الله يخليك.. أنا لا أعرف الرأسمالية..كانت بالية أو جديدة.. ما
أعرفه هو أن المغاربة لم يكونوا هكذا..عرفت علاش؟
ـ علاش؟!
ـ لأنهم أضاعوا الطريق..
ـ ولماذا لا تكون المسألة متعلقة بالمصالح الخاصة.. وبطبقة تقتات على
حساب الشعب معتمدة على قوة النفوذ.. وتريد ان تصير أخلاقها عامة
وديدن الجميع.. من يفز هو المطلوب..
ـ وكيف تفسر أن الذين يقولون مثل هذا الكلام يفعلون الشيء نفسه حين
تسند إليهم المناصب، أو حين يصيرون بقدرة قادر ساهرين على تدبير
الشأن العام..
ـ لأن الأسس التي تقوم عليها اللعبة مغشوشة أصلا..
ـ شوف آ خويا! والله ما أفسدنا غير قلة التربية والعصا..
ـ الله يهديك.. العصا هي سبب البلاء.. أصحاب العصا هم من جعلوا
البلاد خالية من النقاء.. لأنهم تغاضوا عن الفساد حتى يضمنوا الولاء
لهم، ويضمنوا أمنهم قبل أمن المستقبل..
ـ ومن يضع حدا لهذه الفوضى..؟!
ـ العدل.. أن يصير العدل عدلا..
وصلت السيارة إلى شارع الزيراوي، وتوقفت أمام العنوان الذي أقصده، فأديت الثمن المسجل على العداد، وترجلت نازلا، ولم أكد أخط بضع خطوات حتى تناهى إلى سمعي صوت منبه التاكسي، فالتفت أستطلع الأمر، كان السائق يشير من داخل السيارة إلى أنني نسيت محفظتي الجلدية.. عدت وأخذتها شاكرا له صنيعه، ثم قفلت راجعا نحو مكتب المحامي.. استقبلتني السكرتيرة قائلة بأن قلاَّب لم يأت بعد، وأن بالإمكان انتظاره.. أشارت إلى غرفة الانتظار المحاذية لمكتبها فقصدتها.. قعدت على الكنبة أتأمل اللوحات التي علقت على الجدران.. كانت كلها نسخا مصورة لأعمال شهيرة، ميزت بينها لوحة غرنيغا لبيكاسو التي تعبر عن الحرب الأهلية الإسبانية.. تداخل الأجساد وتقاطعها، وتكسير الأبعاد وبسط المنظور فارغا، والاكتساح الفادح للسطح، وتراجع سطوة الضوء أمام القتامة التي تعلي من سطوة الالتباس. وكأن الشكل يوحي بغياب المعنى، وغياب فرص الانفلات من العبث الذي يكتسح العالم واندحار الأمل. كما لو أن بيكاسو يريد القول عبر التقنيات الآسرة التي شغلها في لوحته بأن العالم لم يعد كما كان، يدرك من خلال التمايز؛ حيث المواقع الجاهزة للمعنى حاضرة وتسمح للأشياء أن تبدو من خلالها متعينة داخل دائرة الوضوح الباهر، بل صار عالما آخر يزخر بالغياب، و الأشياء فيه تفقد محتواها المباشر لتندرج داخل صيرورة من الالتباس الحاد المفضي إلى الدوخان والتيه.. كل شيء في اللوحة كان يوحي بأن التماسك والامتلاء قد تلاشيا، وأخليا المكان للتحلل والإحساس بالاقتلاع. ولست أدري كيف خطرت الفكرة مؤرقة بالرغم من افتقاري إلى المهارة التي تخول لي الحق في الحومان حولها أصلا. فقد بدا لي وكأنني أتخيل لوحة مماثلة تجسد الزخم الذي يفيض من غرنيغا؛ حيث خمنت في ما سيكون عليه الوضع لو أستطيع رسم صورة مركبة يتقاطع عبرها العبار ونظيمة وساحم وسعاد.. كل واحد منهم يضع ملامحه في خدمة ملامح الآخر.. فهل من الممكن الوصول إلى ذلك التصادي الممكن بين ما نكونه على نحو مبعثر في تصور الآخر لنا، وبين ما نظن نحن على أنه نحن. وبينما أنا مستغرق في اللعب مع جنوح الخيال الجريح اقتحمت المكان امرأة تجاوزت الثلاثين من عمرها قليلا ترتدي ثوبا أزرق وتضع نظارتين طبيتين.. جلست فوق الكنـبة المجاورة وعلامات الإرهاق بادية على وجهها.. لمحت استغراقي في تأمل اللوحة المعلقة جوار المدخل جهة اليمين، فقالت راغبةً، ربما، في تكسير رتابة الانتظار:
ـ لوحة رائعة.. أليس كذلك؟!
ـ نعم.. أظن أنها لمكائيل أنجلو..!
ـ اسمها السيدة والرسالة...
ـ يظهر أنك ملمة بفن الرسم..!
ـ شيئا ما.. إنني أتعاطى إليه.. أشتغل مدرسة الفن التشكيلي..
ـ تشرفنا...!
كانت لوحة منسوخة بالطبع باهرة بألوانها المتناغمة والمتدرجة، بها امرأة تحتل الواجهة الأمامية جالسة في حالة اهتمام زاخر بالانفعال ومنصرف إلى وجهتين: وجهة نحو الخلف، ووجهة نحو الأمام في اتجاه زاوبة الوحة اليمنى.. الوجهة نحو الخلف تمثلها اليد القابضة على الرسالة المفتوحة والمتدلية صوب الأسفل، وتمثلها أيضا حر كة ذراع المرأة الممتدة أفقيا في انثناء طفيف نحو الوراء. والوجهة نجو الأمام تمثلها نظرة المرأة الجانبية إلى موضوع يوجد أمامها من دون أن تظهره اللوحة تاركة أمر تكهنه للرائي. وبالواجهة الخلفية طفل عار يمسك بكتاب مفتوح، وأمامه جسد طفولي آخر لا يظهر مكنملا بفعل حجب جانب من بدنه من قبل الكتاب.
قالت السيدة ذات الثوب الأزرق الجالسة فوق الكنبة جواري:
ـ المرأة التي تطهر في اللوحة، لم يقدمها مكائيل أنجلو بغاية إبراز فتنة المرأة أو
أي شيء من هذا القبيل، وإنما رسمها من أجل القبض على الحركة، وهـي
تختزل صيرورة محددة، وكأن اللوحة تحكي شأنها في ذلك شأن راو موزع
بين الداخل النفسي والحدث الذي يجري في الخارج.. ففعل القـراءة الذي
يسند إلى المرأة في اللوحة يتخلله مثير يصرف البصر مؤقتا عـن الـورقة،
ويجعله معلقا إلى حين، وحركة الذراع تدعم لحظة تجميد صيرورة الـقراءة
في الزمن.. إن وضعة المرأة الجالسة ذات الثياب بثوبها الفضفاض تعـبر عن
انشغال قلق تشي به نظرات العينين التي تبدو خاطفة، لكنها تختزن، بفـعل
شكلها المحرَّف جانبا، حزنا شفيفا وتطلعا تخالطه الحسرة.
قلت مدعما ما ذهبت إليه من تحليل:
ـ لقد أصبت.. وأوضحت ما كان في ذهني مجرد أفكار.. مكائيل أنجلو كان
تواقا دائما إلى تجسيم الإيقاع بين الانفعال والحركة، والتقاطـع الممـكن
بينهما.. هذا ما كنت أعرفه، وقد تبين لي الآن من خلال ما أقدمت على
توضيحه..
ردت السيدة ذات الثوب الأزرق:
ـ هذا عين الصواب.. أراك مهتما بفن الرسم..!
ـ وبخاصة عصر النهضة الإيطالية، لأن الفن في هذا الحقبة كان يعنى بالإنسان
بوصفه طاقة، ويعبر عن بدايات استقلاله بمصيره، والتعويل على قدرته في
سبر حقيقته وحقيقة الكون...
ـ آه..! العصر الذي الذي اكتشف فيه الإنسان سحر البصرر، والابتهاج
بحواسه كلها...
صمتت المرأة برهة من الزمن، ثم قالت، وأنا مازلت أتمعن في اللوحة:
ـ ألديك قضية في المحكمة..؟
ـ تقريبا.. أنوب عن شخص عزيز في ما يشبه القضية.. وأنت ما جاء بك
إلى هنا؟
ما كدت أسأل المرأة حتى انفجرت تحكي، كما عود ثقاب كان في حاجة فقط إلى من يقدحه لتنطلق منه الشرارة، فقالت، وهي تنظر إلى المرأة التي أودع مكائيل أنجلو انخطافها في اللوحة، بأنها تواجه قضية قد تعصف بحياتها وتحيلها إلى خراب، فهي مهددة بابنزازها من قبل زوجها الذي رفع ضدها قضية شيك من دون رصيد.. كانت الحياة بينهما جحيما لايطاق، بسبب اختلاف في النظرة إلى الحياة. فهو يريد أن تكون رهن إشارته على الدوام، وتطيعه في الكبيرة والصغيرة، وألا تقدم على أي فعل مهما كان، قل شأنه أو عظم، إلا بعد موافقته. وهي تريد الاستقلال بنفسها، والتعبير عن قدراتها، وحرية التصرف في شؤونها الخاصة. هو يغيب عن البيت متى شاء، ويذهب أنَّى أراد، ولا حقَّ لها في الاعتراض، بينما لا يحق لها أن تغادر البيت من دون أن يكون على معرفة بالوجهة التي تقصدها، حتى صديقاتها كان يمنعها من زيارتهن.. يستولي على أجرتها عنوة، ويبعثرها أقساطا مقسطة في شرب الخمرة والإنفاق على جلسات الأنس مساءات الأسبات، وبدأت تكتشف أنه لم يرتبط بها رغبة فيها، وإنما ارتبط بأجرتها، وكلما زاد عطشه إلى مالها ساءت الحياة بينهما، حتى أنها اضطرت إلى الانصراف إلى العيش مع أسرتها مرارا هربا من جحيم الحياة معه تحت سقف واحد. وأخيرا، بعد أن بلغ اليأس منها مبلغا لا رجعة معه، طالبته بوضع حد للارتباط بيتهما بما يرضي الله لينصرف كل واحد منهما إلى الحياة التي تروق له. لكنه استرضاها متصنعا التوبة، وأتقن دور من عاد إلى رشده، حتى صدقته، فرجعت إلى شقتها ظانة أن زوجها قد أقلع نهائيا عن عاداته السيئة. وذات يوم جاءها طاليا قدرا من المال حتى يتيسر له استبدال السيارة بأخرى، فلم تبخل ووقعت له شيكا من دون أن تضع قيمة المبلغ الذي يحتاج إليه، فذهب من دون أن يعود إلى البيت، وفي الغد أرسل إليها أحد رفقائه ليخبرها بكل سفالة أن زوجها مستعد لتطليقها شريطة التنازل عن الشقة التي اشترتها بمالها الخاص، وما زالت تدفع أقساطها إلى البنك. وفي حالة عدم قبولها بعرضه الودي ستكون مواجهة بقضية تفضي بها إلى ردهات المحاكم فالسجن. فالشيك الموقع على بياض يمكنه من أن يضع عليه أي مبلغ يراه كافيا للزج بها في دوامة لا تخرج منها سالمة...
صمتت المرأة ثم أردفت قائلة والأسى يكاد يغمر صوتها:
ـ لهذا السبب أوجد هنا.. لعل استشارة المحامي تجد لي مخرجا قانونيا من
هذه الورطة..
ـ أية خسة هذه..!
ـ كنت مغفلة.. والقانون، كما تعرف، لا يحمي المغفلين..
ـ أي قانون هذا، إذا كان يحمي اللصوص..؟!
ـ هكذا فهموا عندنا الليبيرالية.. الحرية حتى في الاحتيال والنصب.. وإذا ما
رفعت صوتك منتقدا يقولون لك كل مرحلة لا بد من أن تخلف وراءهـا
ضحايا.. وهذا هو ثمن التقدم..
ـ أية ليبيرالية يفهمون..؟! مجرد نعوت يلصقونها بواقـع قـديم مستـديم..
الرشوة والنفوذ والوساطة والتسلط.. وزيد وزيـد.. كلهـا جايـة من
الليبيرالية.. الطريق واضحة إيلا بغاو الليبيرالية..
انقطع الحوار بيني وبين المرأة ذات الثوب الأزرق بفعل الصوت الذي أحدثه انفتاح الباب الرئيس للمكتب المواجه لصالة الانتظار، ولمـَّا رفعتُ عيني أستطلع صفة الداخل رأيتُ قلاَّب صحبة رجل في الأربعين من عمره، مديد القامة، عليه علامات النعمة، يفيض وجهه صحة واطمئنانا، ويرتدي بدلة تنم عن ذوق رفيع، لونها رمادي مفتوح، وفي يده اليسرى حقيبة جلدية بُنِيَّة.. ما كادت عينا قلاب الراقصتين في كل اتجاه ترياني من خلف نظارتيه الطبيتين حتى تهلل وجهه، وتقدم نحوي فاردا ذراعيه.. نهضت من مكاني وتوجهت نحوه، فاحتضن بعضنا البعض:
ـ ما هذا الغياب..؟ قال قلاَّب.. على الأقل طل علينا مرة.. مرة
آصاحبي..!
ـ أنت سيد العارفين.. الشغل يسرق كل الوقت، وزحمة الدنيا تنسي
الإنسان نفسه..
ـ إيوا.. زيارة فقط، أم شغل..
ـ الإثنان معا..
ـ آسيدي نحن في الخدمة.. غير آمر..
أمسك قلاَّب بيدي اليسرى، واستدار نحو الرجل ذو البدلة الرمادية، الذي كان انتباهه منصرفا إلى المرأة ذات الثوب الأزرق، وخاطبه في لهجة أقرب إلى التودد:
ـ أقدم لك صديقي الأستاذ المعطي..
مددت للرجل يدي، وأنا أشعر بانقباض داخلي لا أعلم سببه، فمد يده على مضض، وهو يتفحصني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي، والخيلاء بادية على محياه، كانما الرجل قُدَّ من ذهب يخشى على لمعانه من هبة ريح أن تفسده.. تصنعت عدم الانتباه مداريا شعوري بالامتعاض.. قال قلاَّب:
ـ أقدم لك صديقي شبيك رجل أعمال ناجح..
ـ حصل لي الشرف..
تفحصتُ الرجلَ ثانية، والدهشة تستولي علي، وقلت في دخيلة نفسـي ها هي الصدفة الماكرة تضعك مباشرة ومن دون سابق استئذان أمام غريمك الذي صار جزءا من حياتك رغم أنفك، والذي جئت من أجل منازلته نيابة عن العم حسان.. لكنه يهزأ منك من غير أن يعرفك، فيسد عليك كل المنافذ.. جئت تشكوه إلى صديقك قلاَّب الذي توسمت فيه الملاذ الأمين، والسند المتين من أجل أن يقدم لك المشورة، فإذا هو يدٌ ضاربة لشبيك، فما تراك فاعل آ المعطي؟ أنجو يا سعد فقد هلك سعيد..! فلا محل لك من الإعراب في هذا المكان..!
قال قلاَّب، وقد انتبه إلى دهشتي وأنا أتفحص شبيك، موجها إلي كلامه:
ـ أسبق لك معرفة السيد شبيك..فهو رجل معروف واسمه في السوق
يساوي البلد برمته..
قلت: لا.. وعلى كل سيماهم على وجوههم..
قال قلاَّب: لندخل إلى المكتب، فقد أطلنا الوقوف في الردهة..
قلت: عذرا سأنصرف.. أتركك مع السيد، فأنت مشغول..
عقب قلاَّب قائلا: والشغل الذي أتيت من أجله..
قلت: سأزورك مرة أخرى.. إلى اللقاء..
خرجت من مكتب قلاَّب إلى الشارع، وقد هدأت الريح، وكف المـطر عـن الهطول، وكان علي أن أتدبر أمر وسيلة نقل تنقلني إلى شقتي.. كنت أسير على الرصيف موزعا عيني تارة على الشارع لعل سيارة أجرة فارغة تظهر، وتارة على الواجهات أتملى ما وراءها.. ثم وقفت أمام مكتبة أنيقة أتفرس عناوين الكتب المعروضة فيها، وكان من بينها رواية غاندي الصغير لإلياس الخوري، ولست أدري ما الذي جعلني أتدكر شخصية عبد الكريم الروائية في هذه اللحظة بالذات.. هل يتعلق الأمر بطيبوبته وسذاجته أم بالأحدات التي تمر به من دون أن يكون فاعلا فيها، بل عرضة لها، وضحية قدر لم يشارك أبدا في صتعه، أم الأمر يعود فقط إلى إسرافه في الحياد اتجاه ما يجري حوله.. هل أنا هو في كل هذا الذي أتيت على ذكره أم نقيضه الذي تفضي به حدة وعيه إلى أن يصير غريبا عن نفسه والعالم من حوله.. لا ينتهي به الأمر إلى الموت نتيجة رصاصة طائشة، وإنما إلى التلاشي كقطعة غيار لم تعد صالحة فتركن في زاوية ما مظلمة في مكان ما.. كنت أَسِيرُ مشوَّشَ الذهنِ.. الناس يمرون من حولي ولا أكاد أنتبه إليهم حتى أنني اصطدمت برجل كهل كان يمشي الهوينى.. اعتذرت له، لكنه ظل يبحلق فيَّ مستغربا.. اعتذرت له مرة أخرى فانصرف، لكنه ظل يتابعني بنظراته.. غادرت مكتب قلاَّب، بيد أن ما رأيت به لم يفارق مخيلتي، ولم أفهم أبدا ما الذي يجمع بين لوحات تنم عن حس رفيع وارتقاء في الذوق، وعلاقة قلاَّب الملتبسة برجل من طينة شبيك..؟ أ يتعلق الأمر بتقلب ثاو في النفس، ولم تعمل الوقائع إلا على إظهاره للعيان، أم برشد متأخر..؟ أين هي الحقيقة إذن..؟ وتقف إلى جنب من..؟ أهي ما نراه يتكرر ويسود من دون حاجة إلى تبرير، أم هي ما اكتشفنا تعذر تحققه وتركناه يتفسخ كجثة مهملة تحت أشعة شمس حارقة غير عابئين بالروائح الكريهة، أم هي بداهة الأشياء وقوتها ومنطقها، أم لا وجود للحقيقة على الإطلاق..؟ فقط هناك الفكرة وقوتها وتنفيذها من دون الارتهان إلى خرافة الأخلاق، وما يهم هي النتائج التي ترضي هواجس التفوق فينا..؟ كنت أفكر في كل هذا وأسترجع صورة نبيل وأضعها إلى جنب صورة قلاب، فتتبدى الهوة سحيقة وسحيقة.. نبيل الذي ظل مثل شجرة سنديان في ظلمة السجن يقاوم بشاعته من دون أن يتسـلل الوهـن إلى عزيمته، أو يفكر في المساومة على شرف القناعة ونبلها ونصاعتها.. أضرب عن الطعام لما رأى أن السوء يحيط به، فخارت قواه وقال له جسده لست قادرا على الاستمرار، لكن إصراره لم يتداع إلى أن أحدقت به الغيبوبة، فنقلوه إلى المستشفى، وحاولوا عبثا تجنب الفضيحة باسترجاع ما بقي فيه من رمق أخير، غير أنه أسلم الروح مجللا بالكبرياء وجلال الموقف ونقاء السريرة.. كيف إذن لليد التي شاركت نبيل الرغيف اليابس في السجن، والتي أودعت حزنها معه في قبره، أن تصير يدا من دهاء تحمي شبيك وغيره من السقوط في الحفر، ومن ظلمات الزنزانة، ومن العقاب المستحق.. انتبهت إلى سيارة أجرة فارغة.. أشرت إلى السائق، فتوقفت وركبتها وجهتي الجحر لعلني أنعم فيه ببقية راحة، وإن كنت لا أظن أن الأمر كذلك...
الـموت مرة أخـرى
بينما كانت صفية تعينني في ترتيب حاجياتي في الحقيبة استعدادا للسفر صوب مدينة أصيلا لقضاء الأسبوع الأول من غشت صحبة سعاد وطفلتها ابتسام رن الهاتف فحملت السماعة.. كان صوت سعاد يأتيني متقطعا أجش به بعض لهاث.. ومن دون مقدمات ولا تحية طلبت مني أن أترك كل شيء، وأن آتي إليها على وجه السرعة.. حاولت أن أستفسر عن السبب، بيد أنها لم تزد عن أن تخبرني بأن ابتسام طريحة الفراش، لا تقوى على الحركة، ودرجة حرارة جسدها مرتفعة جدا.. قلت لها لا داعي للانزعاج سيكون خيرا، وأنني سأكون عندها حالا.. وضعت السماعة، وتركت أمر الحقيبة لصفية، ونزلت إلى الشارع أبحث عن أول سيارة أجرة تظهر..
كم هي رهيبة اللحظة التي تخيب توقعاتنا المطمئنة..! تلك اللحظة التي تتسلل إلى الحياة، فتفسد إيقاعها المتسايل، وتقول لك: إن العطب ينتظر فقط نسيانك الفواجع الكامل ليباغتك مطلا بوجهه الشامت هازئا بكل غفلتك، وصور الاطمئنان التي تتخايل لك في الهدوء المؤقت الذي يعقب التحولات العاصفة والجارفة، وأن الخلل مصر على أن يلحق صلابة توقعاتك، ويخيب أملك في السكينة التي تحتمي بوعودها الكاذبة كل صباح مع رشفة من فنجان قهوة، وكل مساء مع الاستعداد للهجعة المعتادة.. كان الاتفاق قد حصل بيننا.. أنا وسعاد.. على أن نعيد للزمن المنصرم وهجه من خلال تحقُّقٍ آخرَ مختلفٍ.. وكان الحلم يتراءى لنا في محاولة استعادة الارتعاشة الأولى، والخفقة الأولى، والانتشاء الأول.. كان يتراءى لنا كما صوت آت من بعيد ينادينا بأن نخف إليه، ونسافر سوية نحو المنبع الفوار الأول: أصيلا يكل مباهجها وأمكنتها المترعة بالزرقة وانسياب الصفاء ودعة الزمن البطئ المتخفف من الانشغالات.. ألح علينا صوت الحلم وألح بكل ما يجلله من هواجس الانتظار والاستعجال، ثم ألحَّ وألحَّ.. وكان كل شيء جاهزا.. القلب والجسد والذهن.. تذكرات السفر والحقائب والموعد والرغبة.. والتخيلات التي لا تنتهي.. كنا نتصل كل يوم طيلة أسبوع لنرتب صورة الحلم ونرسم مراقيه.. نشتري لنا ما نحتاجه من لباس وحاجيات.. نختار الألوان والأشكال وكل ما نتخيل أنه من لوازم الاصطياف.. حتى الفندق حددناه وحجزنا به غرفة، ولم يكن سوى " وادي المخازن " المكان الذي مررنا به في الرحلة الأولى إلى أصيلا ونحن ما زلنا يافعين، وحلمنا به وقتذاك.. كنا طيـلة أسـبوع نلتـقي بمقهـى " أوليفري "، ونستغرق وقتنا كله في تخيل المتاح الذي يوفره لنا السفر إلى الشمال، ونحن نرى الحب القديم مثل وليد خرج لتوه من لحظة الحبو نحو تجربة المشي الأولى، وكنا شديدي الخوف عليه من العثرات التي يمكن أن يتعرض لها..
وقفت سيارة الأجرة، فترجلت منها، وأسرعت مهرولا نحو بيت العم حسان.. كان الباب مواربا.. دفعته بقدمي، ونزلت الدرجات الثلاث لأجدني وسط الطابق السفلي.. اقتحمت غرفة ابتسام.. كانت ممددةً فوق سريرها شاحبةَ الوجه، وعيناها ذابلتان، وضمادة مببلة بالماء البارد فوق جبينها، والأنين يصاعد منها خافتا لا يكاد يبين، وسعاد تقتعد طرف السرير مخطوفة تحملق في طفلتهاجزعةً مهزومةً خائرةَ القوى.. سألتها مستطلعا ما حدث بالتفصيل.. قالت والدموع تطفر من عينيها المحمرتين بأن الطفلة كانت إلى غاية الصباح عادية تمرح فرحة لا تسعها الدنيا، وهي تنتظر مثلنا السفر إلى أصيلا، وفجأة بدأت تشكو من العياء وصداع أليم في الرأس.. مررتْ كفها على جبينها فوجدته يشتعل حرارة.. أعطتْها قرص أسبرين، وناولتها كأس ليمون، ومددتها فوق الفراش لعل الحالة التي ألمت بها تزول، لكن معدة ابتسام رمت فيما بعد ما بها، وازدادت حرارتها، ولم تعد تقوى على الكلام، وأعقب كل ذلك هذيان متقطع.. وقالت سعاد بأنها لما أدركت أن حالة طفلتها صعبة ركبها الرعب، وفقدت السيطرة على أعصابها، فلم تعد تدري ما يجب فعله، فاتصلت بي فورا لعلني أعالج الموقف، ثم أجهشت بالبكاء.. أمسكت باليد الصغيرة البضة فوجدت كل السعير بها، والعرق يتسايل منها.. ناديتها وقد أرعبني حالها: ابتسام.. ابتسام.. ابتسام، لكن الطفلة لم تستجب.. كان يُسمع الأنين المتواصل فقط.. لم أفكر حينها في ما يجب فعله.. أحسست فقط أن يديّ تمتدان إلى الجسد الممدد وتحملانه وتضمانه إلى صدري، ثم اتجهت نحو خارج البيت، وسعاد تلحق بي وهي تائهة.
كنا مثل مجنونين في الشارع نعترض أية سيارة تظهر لنا، إلى أن توقفت واحدة بها سيدة في مقتبل العمر.. شرحنا لها الموقف واستعطفناها، فلم تتردد ثانية واحدة.. أقلتنا سيارتها صوب المصحة متعددة الاختصاصات المحاذية لثانوية عبد الكريم لحلو.. تركتنا السيدة صاحبة السيارة عند مدخل المستعجلات، وانصرفت وهي تهوِّن على سعاد حالة الطفلة.
فحص الطبيب ابتسام، وقال بأنها مصابة بالتهاب السحايا، وأن حالتها خطيرة وتستدعي نقلها إلى العناية المركزة، والبقاء بالمستشفى لمدة أسبوع.. انهارت سعاد وهوت إلى الأرض خائرة القوى.. هرب الدم من وجهها، واستحال لونه القمحي إلى بياض أصفر.. نادى الطبيب على الممرضة وأمرها بنقل الطفلة مباشرة إلى غرفة العناية المركزة، وحدد لها نوع الإسعافات الأولية، والتحليلات التي يجب إجراؤها فورا.. ساعدني الطبيب في إجلاس سعاد على الكرسي، ثم ناولها قرصا مهدئا وكوب ماء.. اختفت الممرضة ثم عادت بنقالة بيضاء سجت فوقها الجسد الصغير المنهك، وسحبتها بسرعة إلى خارج غرفة الفحص.
سأل الطبيب سعاد بعض الأسئلة حول اسم الطفلة، وسنها، ومكان السكن، وما هو الطعام الذي تناولته خلال اليوم وما قبله، ثم قال بأن الزيارة ممنوعة، ولا يسمح بها إلا بعد خروج الطفلة من غرفة العناية المركزة.. بلغ الإنهاك بسعاد درجة لم تعد معها قادرة على الكلام، فكانت تحرك يدها من اليمين نحو اليسار تعبيرا عن رفضها الابتعاد عن طفلتها.. حاولت قدر الإمكان تهدئتها، لكنها لم تبال مُصرَّة على عدم ترك ابتسام وحيدة.. تدخل الطبيب مرة أخرى ليقنعها بضرورة مساعدته على القيام بعمله من أجل الطفلة، فرضخت سعاد للأمر الواقع. وحين خرجنا من غرفة الفحص سألتها عما إذا كانت ترغب في الذهاب إلى بيتها، لكنها أصرَّت على عدم مغادرتها المستشفى، وعلى بقائها جنب غرفة العناية المركزة..
حملت إلى سعاد من محل البقالة المجاور للمصحة ما تحتاجه من أكل وماء، وسلمتها مبلغا من المال لمواجهة أي طارئ، وأوصيتها بالهدوء مهوِّنا عليها الأمر، وحكيت لها عن حالات مماثلةٍ لحالة ابتسام انتهت بالشفاء التام من دون أن تترك أية عواقب معيبة.. كنت أكذب بطبيعة الحال مصطنعا ما رويته من وحي الخيال، لأن وضع سعاد كان يستدعي اللجوء إلى كل الأساليب الممكنة للرفع من معنوياتها، وجعلها تتمسك بالأمل، حتى ولو كان كاذبا.. كانت تستمع إليّ وهي تنظر إليّ بعينين فارغتين، ينهمر منهما الدمع مدرارا، فاقتنعت في النهاية أن الصمت في هذه الحالة ربما كان الأجدى.. فجأة بدأ الهدوء يعود إليها، وبدأت تستوعب الموقف، فأخرجت منديلا تمسح به دموعها، ثم سلمتني مفتاح البيت ورجتني أن أحمل إليها من هناك الدب بُنِيَّ اللون، لأن ابتسام تعتبره رفيقها الأوحد، ولا بد أن يكون معها إلى جانبها في محنتها، فهي لا شك ستكون سعيدة بوجوده جنبها.. أخذت المفتاح، وقلت لها سأفعل بكل تأكيد وحالا.. لكنها استدركت وقالت:
ـ هناك شيء آخر..!
ـ ما هو..؟
ـ أبوها يجب أن يعرف..!
ـ شئ طبيعي وحتمي.
ـ تكفل بإخباره.. أرجوك..! عنوانه موجود مع رقم هاتفه في مذكـرة
ابتسام وهي موجودة بجارور دولابها..
ـ اطمئني..! سأخبره حالما أعثر على عنوانه..
أوقف الأطفال اللعب عند دخولي الزقاق، والتفوا من حولي.. أخذوا يسألون عن حالة ابتسام، كل واحد بطريقته الخاصة.. اكتفيت بأن أجبتهم بأنها متعبة، وتحتاج إلى الراحة بضعة أيام.. ران عليهم الحزن والأسى، ثم ما لبثوا أن تفرقوا.. منهم من ظل واقفا، ومنهم من هرول يحمل الخبر إلى أهله.. دخلت الدار وصعدت توا إلى الطابق العلوي.. وجدت العم حسان بنتظر عودتي قلقا ليعرف ماحصل.. لمـَّا انتهيت من إخباره بالتفاصيل كلها عاتبني بشدة على عدم تبليغه الخبر في حينه ليفعل شيئا، وقال إن ابتسام طفلة جميلة وذكية وحنون، أحبته منذ الوهلة الأولى، وكانت تناديه بما انتظره زمنا: جدي حسان، ثم صار يروي كيف كانت تلاطفه، وتستعطفه ليحكي لها الحكايات، وتمطره بالأسئلة حين يصحبها معها في خرجاته القصيرة، مبتهجة بما يشتريه لها من حلوى، أو مرطبات، أو ذرة مشوية.. تركني العم حسان جالسا واختفى للحظات عاد بعدها، وهو يمسك في يده ببضعة أوراق مالية.. سلمها لي طالبا إيصالها إلى سعاد، فقلت له:
ـ لا داعي يا عم..! سأتدبر الأمر، إن احتاجت إلى شيء..
ـ لا بد أن أفعل شيئا كما قلت لك..
ـ أنا موجود يا عم..! أترك المبلغ قد تحتاجه..
ـ ربنا كريم يا ابني.. وخيره كثير.. الإنسان في مثل هذه المحن يحتاج إلى من
يسنده.. سعاد امرأة طيبة، وبنت ناس، تستحق الكثير..
ـ طيب يا عم..! لك ما تريد..
ـ هل عرف أبوها الخبر...؟
ـ سأتصل به حالما أخرج من هنا..
ـ حسنا تفعل يا بني..! الظفر ما عمرو ما يطلع من اللحم.. مهما كان
فهي فلذة كبده.. ولا بد من أن تطمئنه عليها..
ولإن العم حسان لا يملك سوى الحكي للتعبير عما يشعر به، أو يريد قوله، أوغل في الماضي السحيق يستحلبه بحثا عما به يُظهر تأثره البالغ.. كان يدعك جبينه المتغضن، وكأنه يحاول تثبيت شئ منفلت في داخله، أو عصي على القبض، وكانت ترتسم في الآن نفسه على محياه علامات ألم مكتوم، ثم سحب يده من فوق جبهته، ووضعها فوق فخذه، ووجه نظراته نحو الفراغ، فأدركت أنه أمسك بأول الخيط، وأن الحكاية آتية لا ريب في ذلك: ما زلت أتذكر آولدي المعطي..! كنت في العام السادس عشر من عمري، وكان لي أخ يصغرني بأربع سنوات.. توفيت والدتي رحمها الله وتركته في الرابعة من سنه.. لم يكن يفارقني أبدا يصحبني إلى الحقل، وقلما يلعب مع أقرانه.. شديدَ الحساسيةِ كان، لا يطيق البقاء مع زوجة أبي لأنها كانت تقسو عليه.. وكان كثير التردد على زيارة قير أمي.. يقف أمام قبرها صامتا أطول ما يمكن، ثم ينحني على الشاهد يقبله، وقبل الانصراف يقطف نبتة من فوق القبر، كيفما كان شكلها أو لونها، ويحملها معه إلى الخيمة ملاطفا وريقاتها الصغيرة بأنامله.. كنت أسأله عما يفعل، فيجيبني بأن النبتة فيها شيء من أمي، ولا بد من محبتها.. كان شديد العزلة، وتزيد زوجة الأب بقساوتها هذه العزلةَ حزنا مقيما.. لما كان يراها تغدق على ولديها عابد وزهرة كل ما تملك من الحنان كان يستعيض عن لوعة الحرمان بالنبتة التي يحملها معه من المقبرة، ويبقيها ما أمكن في يده، وإلى جواره إلى أن تتلف.. كانت زوجة الأب تتعمد إتلاف الكثير من الأشياء، أو تفسـدها: المعاول والرفـوش والمناخل... وحين يسأل الأب عن الفاعل كانت التهمة جاهزة، والمصطفى الوديع يؤدي الثمن، ركلات وصفعات لا يطيقها جسده النحيف.. وحين أتدخل دفاعا عنه لأحميه من ظلم منتقِم وسطوةِ أبٍ متنطع أُطْرَدُ من الخيمة لأيام عديدة، لا تنتهي إلا بعد إجباري على الاعتذار لها..
جاء أحد الأصياف مختلفا عما عهدناه غيرَ رحيم، هجيرُه يُسقط الطير من العلياء، وشمـسُه المحرقة لا ترحم ترسل سياطا من النيران تكوي بها الجلود، وتلهب الأرضَ، والحلوقُ لها تجف، وكان على المصطفى أن يخرج مكرها إلى هذا الجحيم خوفا من وعيد زوجة الأب لينقل الماء والحطبَ، ويجتلب العلفَ إلى البهائم والماء، والحطبُ والعلفُ كـلٌّ وفيرٌ في مكانه من الزريبة.. لم يتحمل المصطفى لسعات القيظ الأهوج فخرَّ مُنْهَكَ القوى من جراء ضربة شمس لاهبة حولت جسدَه إلى مِسْـعَرٍ يتقد.. اكتفت زوجة الأب بإعداد مرتبة في ركن من الخيمة سجته فوقها، وانصرفت من دون التفكير في إسعافه.. قصدت أُمَّ الخيرِ زوجة جارنا فَضُّول، وأخبرتها بما حاق بأخي، فحملت ما رأته مفيدا في علاجه وتبعتني.. رمت البصل والخنيزة في المهراس ودقتهما إلى أن استويا عجينا لزجا، وأخذت الحناء وحركتها داخل إناء به ماء، ثم أضافت العجين اللزج إلى ذلك وحركت الخليط، ولم تنس أن تقطر فوقه صبيبا من الخل البلدي.. كانت أُمُّ الخيرِ منهمكة في تحضير نطولها، وهي تتأسى لحال المصطفى وزوجة أبي تثنيها عن تهويل الأمر قائلةً بأن الطفل كالعفريت، سويعات فقط وسيقف على رجليه، فهو يفتعل المرض على الدوام لكيلا يساعد إخوته في العمل.. لم تكترث أُمُّ الخيرِ لقولها وغمرت رأس المصطفى كله بالنطول، ثم غطته بخرقة شدَّتها إلى أسفل أذنيه ومؤخرة رأسه.. انصرفت أُمُّ الخيرِ إلى حال سبيلها بعد أن دعت للمصطفى بالشفاء، وخرجت خلفها حتى تصل إلى خيمتها شاكرا لها صنيعها.. جلبت إلى المصطفى قدحا من اللبن، وماء باردا من البئر.. شرب قطرات من الماء، ولم يقرب قدح اللبن، فناولته لأخي الأصغر عابد، لكن زوجة أبي توعدته إن شرب منه قطرةً قائلةً بأن العدوى سوف تنتقل إليه فترك القدح يسقط من يده مرتعبا.
كان المصطفى غير مدرك ما يدور حوله.. نظراته مزيج من الرجاء واليأس يطل منهما خوف لا يرعوي.. يحاول مد يده نحوي لكنه لا يقوى وكأنه يرجوني أن أخرجه من قرار مظلم يبتلعه، بيد أنني كنت عاجزا عن فعل أي شئ ينقذه.. كنت أعول فقط على نطول أُمِّ الخيرِ لعله يبعد عنه شبح الألم، ويعطل أسباب الخراب التي تعيث فسادا في بدنه.. لزمت جنبه لا أفارقه أتفقد بين الفينة والأخرى جبينه مستبينا درجة حرارته، وأمده بقطرات من الماء كلما جف حلقه.. لما عاد الأب مساء من الحقل تناهى إليه ما فيه المصطفى، فجاء إلى الغرفة الفصية مستطلعا ما أصاب الطفل.. خلع الجلباب الصوفي، ثم انحنى على المصطفى، وقبل جبينه داعيا له بالشفاء.. كان الأب يسأل والجسد الصغير المنهك ينتفض، ثم نادى زوجته أن تأتي، وكرر النداء قبل أن تحضر متمهلة الخطى، ولم تمهله لحظة ليفصح عن غرضه، فانفجرت أمامه متظلمة تشكوني إليه مدعيةً أنني أسأت إليها؛ إذ كيف أمنعها من معالجة الطفل، وألتجئ إلى الغريب، وهي أولى بابنها المصطفى من أُمِّ الخيرِ.. لم يتأن الأب لحظة ليسأل لماذا توسلتُ بالجارة، ولِـمَ أقدمتُ على ذلك، وكأنه كان ينتظر الفرصة فقط، فنهرني ممعنا في صب ما في جعبته من عبارات القسوة والإيلام منتصرا لمكر زوجته، لكنني لم أصمت، وانتفضتُ هائجا اتهمها بالكذب، وبأنها كانت السبب في ما حاق بأخي، فرمتني بقلة الحياء ونكران الجميل.. نهض الأب من مكانه، وأمسك بتلابيبي، ووجه إلي صفعة رددت صداها الجدران، والمصطفى كان يتابع ما يجري وعيناه تدمعان.. أحسست أن الأرض تميد من تحت أقدامي، فخرجت في الظلام الدامس، ولم أنتبه إلا وأنا في المقبرة أمام قبر أمي أجثو فوقه والدموع تطفر من عينيّ مالحةً كاويةً.. شكوت للتراب ضعف حيلتي، ولسع الحية، والأبوة الساهية عن العدل، ولما كان التراب ترابا لا حراك فيه، ولا جدوى، فعلت كما يفعل المصطفي عادة، فقطفت نبتة، وقفلت عائدا إلى الخيمة، وقد انتصف الليل.. تسللت إلى المرتبة التي يرقد فوقها المصطفى فتحسست جبينه.. كانت الحرارة متقدة ما تزال.. لَمَسَ يدي حتى يشعرني بأنه مستيقظ، فأهديته النبتة.. قبض عليها بمشقة، ولثمها، ثم تركها تسقط فوق صدره.
عند الفجر، ومع تباشير الصحو الأولى، وصياح الديكة، حملت المصطفى على ظهري وتوجهت به صوب أهل أمي.. كان مدشرهم يبعد عن الخيمة مسافة طويلة اضطرتني بين الفينة والأخرى إلى إنزال المصطفى عن ظهري برهة من الزمن أسترد فيها أنفاسي، ثم أحمله ثانية وأواصل السير إلى أن أدركت البيوت الطينية المتجمعة حول بعضها تتخللها شجيرات التين، وحواجز من الصبار الشوكي.. كانت أول خيمة صادفتنا خيمة خالتي رحمة.. الحوش من دون باب.. حين أطللت على فسحته الداخلية فاجأتني الكلاب تنبح مكشرةً عن أنيابها.. فزعت وتراجعت إلى الوراء وكدت أسقط المصطفى من على ظهري، لكن زوج خالتي الذي ظهر في وسط الفسحة نهر الكلاب، وعلامات الاستغراب بادية على وجهه.. رحب بي، وأسرع إلى الطفل، وهو يسأل عما جرى.. حمل المصطفى بين ذراعيه متفحصا حاله، وما أن وضع أذنه على قلبه حتى صاح: أخوك ميت.. أخوك ميت.. أخبرني ما الذي حدث؟! خرجت خالتي تسأل بدورها ما الخبر.. وما أن أَدْرَكَتْ أن المصطفى قد صار من أهل الدار الأخرى حتى علا صراخها ممزقا هدأة المكان.. أما أنا فغامت الدنيا في عيتيّ ووجدتني أهوي إلى الأرض...
أوقف العم حسان الحكاية حيثما أراد، لكنه تدراك الأمر قائلا بأنه كان حريا به ألا يروي ما رواه حتى لايكون فألا شؤما على ابتسام، واستغفر الله العظيم، فالأعمار بيده، ولكلٍّ أجله لا يؤخر ولا يقدم، ثم طلب لطفه في ما نزل، وحسنَ استجارته حين لايكون المهرب إلا إليه.. آذنته في الانصراف قائلا بأن سعاد تحتاج إلى بعض الأغراض، ولا بد من حملها إليها، فآذن وقال كان بودي أن أصحبك إلى المصحة، لكن الصحة لاتسمح، وطلب مني أن أنقل تحيته إلى سعاد، فقلت له لا عليك يا عم.. نطمع فقط في صلواتك من أجل ابتسام ودعواتك لها بالشفاء.
نزلت إلى الطابق السفلي ففتحت الباب، وتوجهت مباشرة إلى غرفة ابتـسام.. سحبت جارور الدولاب إلى الخارج، وأخذت المذكرة ثم أعدت الجارور إلى مكانه، ولم أنس أن أحمل معي الدب بُنِيَّ اللون.. غادرت المكان، ولم أكد أتجاوز الردهة حتى عدت أدراجي إلى غرفة الطفلة يشدني فضول غريب إلى مجيبة الصور التي كانت بالجارور، من دون أن أدرك السبب.. فتحت المجيبة متأملا صور ابتسام الواحدة بعد الأخرى، وفجأة تلعت صورته.. كانت في الجويب الأخير باللون الأبيض والأسود.. لم ينل منها القدم أبدا.. يبدو في الصورة طفلا في الخامسة من عمره واقفا إلى جوار سيدة ترتدي جلبابا.. كان هو، بكل تأكيد، كما اختزنت ذاكرتي صورته.. انتزعت الصورة من الجويب ووضعتها في جيب قميصي، وانطلقت إلى الخارج.. كنت وأنا أودع الزاوية خلفي متوجها صوب زنقة سمية أحاول ترتيب الأمور في ذهني.. كبف وصلت صورة أخي سليمان إلى مجيبـة ابتسـام..؟ ما العلاقة بين الاثنين..؟ أيكون قريبا لسعاد..؟ لا.. هذا استنتاج فاسد، لأنني سأكون أنا أيضا كذلك، ولا بد أن أكون على علم بذلك..؟ وحتى إذا اقترضنا هذا الأمر لسبب من الأسباب لماذا هو في المجيبة من دون غيره من أقاربها الآخرين..؟ يبقى شبيك الاحتمال الأقرب إلى الصواب.. لكن لماذا تحتفظ ابتسام بهذه الصورة، وليس أخرى غيرها حديثة..؟ المهم أنني عثرت على الخيط الذي يفضي إلى الحقيقة.. وسعاد ستخبرني بكل التفاصيل..
وصلت إلى المصحة محتضنا الدب بُنِيَّ اللون.. اجتزت المدخل، وتوجهت مباشرة إلى عرفة العناية المركزة.. كان الممر باردا على خلاف الخارج الذي يتقد نارا، ويكاد يكون خاليا إلا من شاب تشي المنامة التي يرتديها وهيئة مشيته بأنه نزيل المصحة.. كان يخطو بتؤدة واضعا يده على الجانب الأيسر من خصره، ويستند بالأخرى إلى الحائط شديد البياض.. لم تكـن هناك سعاد.. اقتربت من الغرفة مترددا يستولي عليّ التوجس كما لو أن قوة خفية تشـدني من وراء، وتقول لي عُدْ أدراجك من حيث أتيت، أو أَجِّلْ ما أنت مًُقدم عليه إلى وقت لاحق.. أطللت برأسي من خلف زجاج الغرفة.. كان السرير فارغا وابتسام لم تكن هناك.. أحسست برأسي يدور والممر بتراقص بكل ما فيه.. تراءت لي ممرضة في ثيابها البيضاء مقبلةً في نهاية الممر.. أسرعت إليها مهرولا كمن به مس.. لما رأتني في الهيئة التي ذكرتُ وَقَفَتْ جامدةً في مكانها وعلامات الاستغراب بادية على محياها.. سألتها، وأنفاسي تكاد تنقطع، عن الطفلة التي كانت في غرفة العناية المركزة، فأجابت في عدم مبالاةٍ مَنْ تعوَّدَ على الموت وألف زياراته الخاطفة: البقية في رأسك، ثم أضافت بأن من الممكن التأكد من الأمر في قسم الإدارة.. ذهبت إلى هناك كما قالت الممرضة، فأكد لي الموظف، بعد أن تأكد من الاسم في السجل الموجود أمامه، بأن الخبر صحيح.. لم أتمالك نفسي، وتركت للنحيب الصامت الممزع طريقه إلى داخلي ليهز مكامنه الراكدة، ويفجرها ماء مالحا ينهمر قطرات لا تتوقف.. تنبهت فجأة إلى اختفاء سعاد.. سألت عنها فقيل لي بأنها نقلت إلى الغرفة رقم 16.. لم تتحمل الرضة المفاجئة، فانهارت ودخلت في غيبوبة، وكان على الأطباء أن يقدموا لها الإسعافات المناسبة، فحقنوا جسدها بما يساعدها على استرداد قوتها ووعيها، ووضعوها تحت المراقبة المستمرة.. طلبت رؤيتها فرفضوا، وبعد توسل ممعن في التوسل، سمحوا لي بإطلالة قصيرة صحبة ممرضة شابة صاحبتني إلى الغرفة.. كانت سعاد ممدة جثة لا حراك فيها مغطاة بإزار أبيضَ اللون ناصعه، وكمامة الأوكسجين على مقدمة وجهها الممتقع، وأنبوب السيروم الدقيق ينزل من القنينة المعلقة ونصف الممتلئة حتى ساعدها الأيمن في اتجاه ظاهر يدها.. أقنعتني الممرضة الشابة بالانصراف وألا جدوى من البقاء، لأنني لا أستطيع فعل أي شئ..
عدت في الغد إلى المصحة صحبة العم حسان من أجل تجهيز ابتسام ودفنها، لكن الموظف في قسم الإدارة أخبرنا بأن أب الطفلة قد قَدِمَ، وقام بالإجراءات اللازمة، وتَسَلَّمَ جثةَ ابنته من أجل مواراتها التراب.. لحقنا بالمقبرة بما يمكن من السرعة لعلنا نحضر مراسيم الدفن، بيد أننا وصلنا متأخرين.. لمحت شبيك عائدا من الدفن يحف به رهط من أصدقائه ومن بينهم قلاَّب.. تقدمنا منه وقدمنا إليه عزاءنا في ابنته.. كان يضع نظارتين سوداوين وفي كامل أناقته، وصوته يوحي بالتجلد القوي، وكأنه يحرص على صورة الرجل القوي الشبيه بالصخر أن تظل كما هي في جميع الأحوال والظروف تاركا مهمة إظهار فداحة المصاب إلى أصحابه يتكفلون بإجادتها ليكون جلال اللحظة الرهيبة مكتملا بما فيه الكفاية.. التفت إلينا أحد هؤلاء، وقال لنا بأننا نستطيع الحضور مساء إلى بيت شبيك ؛ حيث يقام العشاء ترحما على روح الطفلة، فوعدناه إن سمحت الظروف.. وإذ هممنا بالانصراف.. تذكرتُ أمرَ الصورة التي أحملها معي، فقصدت شبيك، وطلبت منه دقيقة أكلِّمُه فيها على انفراد، فاستجاب بينما ظلت نظرات حاشيته تستطلع ما يحدث.. حاولت أن أبعده ما أمكن عن الجمع، فقال لا يوجد غريب هنا، ويمكنني قول ما أريده من دون أي احتراس.. بيد أنني أقنعته بأن الأمر يتعلق بمسألة تحدد مصيره، فبدت عليه علامات الاستغراب، ولم يجد بدا من أن يوافق على ما طلبته منه، ولما صرنا على مسافة من الجمع لا بأس بها أخرجتُ الصورة من جيبي وقدمتها له، وما أن رآها حتى قال والغضب يتطاير من شفتيه:
ـ كيف وصلتك هذه الصورة.. إنها كانت مع ابنتي..!
ـ أعرف.. ولذلك أسألك عن صاحب الصورة..
ـ إنها صورتي.. وما دخلك أنت في كل هذا..؟!
ـ شيئا من الهدوء.. هذه الصورة تهمني.. كما تهمك..
ـ كيف تهمك.. ولا علاقة لك بي، ولا بابنتي..
ـ صاحبها ضاع مني عقودا من الزمن.. وكنت أبحث عنه فوجدته في مجيبة
صور ابتسام..
ـ ما هذه الألغاز التي أسمعها..
ـ نعم هي ألغاز.. لكنها الحقيقة.. أنت أخي..
ـ أخوك.. ماذا تقول..؟!
ـ الحكاية طويلة.. وأنت في وضع لا يسمح أبدا بروايتها.. لنؤجل الأمر
إلى وقت لا حق يسمح لك بالاستماع واستيعاب ما حدث..
ـ طيب.. لي رجاء وحيد.. لا أريد أن يعرف أي مخلوق ما رويته الآن..!
ـ كن مطمئنا.. القضية تخصني وتخصك.. ولا أهمية لأن يعرفها الناس..
ـ ستحضر العشاء..!
ـ سأحاول..
أوصلت العم حسان إلى بيته، ثم قفلت عائدا إلى المصحة.. اتصلت بالطبيب المكلف بمعالجة سعاد، فرحب بي، وقال بأنها قد أفاقت من الغيبوبة، لكنها فقدت قدرتها على التمييز، ولذلك يحسن بي نقلها بعد معالجتها من آثار الرضة إلى مصحة الأمراض العقلية.. استأذنته في رؤيتها، فسمح لي بذلك، وحدد مدة الزيارة في دقائق معدودة.
كانت سعاد مشدودة إلى جانبي السرير بوثاق من الضمادات البيصاء، وأنبوب السيروم ما زال ملتصقا بظاهر يدها اليمنى.. عيناها تبدوان وكأنهما تغادران محجريهما الغائرين، ولون وجهها مائل إلى بياض داكن، وشعرها منفوش ومبعثر.. اقتربت منها، لكنها ما أن رأتني حتى انفجرت في وجهي تتهمني باختطاف ابتسام قصد قتلها، وأنها لن تسمح لي بذلك، وأن صديقها المعطي سيقتلني.. حاولت أن أفهمها بأنني أنا المعطي، بيد أنها أصرت على أنني شبيك ابن... سمعت إحدى الممرضات الصراخ العالي المنبعث من الغرفة، فأقبلت تستطلع الأمر، ولما رأت سعاد هائجة طلبت مني أن أخرج حالا.. امتثلت لأوامر الممرضة وانصرفت، وكان صراخ سعاد ما يزال يصلني وأنا في نهاية الممر.. وأنا في نهاية الممر أرى أني لم أر البداية.