قصة من الأدب الكردي. يكشف فيها راويها ما يلاقيه من أشكال التعذيب المادي والمعنوي في "الحفلة" أو دورة جديدة من التحقيق معه وتعذيبه. وتتسع دلالة السجن لتشمل العالم خارج المعتقل بتقاليده وأوهامه ومعتقداته التي تكبل حرية الإنسان وتمنعه من تحقيق وجوده.

رأس حان قطافه

جلال مصطفى

ترجمة: سامي الحاج

 

الى محمد كمال: من عار الحياة الى عار الموت(*)

 

أخرجوا زجاجة العرق من جيب سترتي الممزقة، دفعوني بقوة الى الداخل. دارت عيناي في محجريهما.. ودارت معهما صورة الغرفة رأساً على عقب، تهاويت على الارض، عالم مظلم، ملئ بالنار والثعابين والعقارب والمردة والسعالي.

ألف مرة احترق جلدي وظهر لي جلد جديد، فقدت الاحساس بالألم وتخدر جسمي بالكامل. جاؤوا ودلقوا دلو ماء بارد على رأسي، أفقت مذعوراً كالمجانين، إلتم الجميع حولي، بثيابي المهترئة وبلسان ثقيل وبيدين مرتعشتين رحت ألقي على مسامعهم خطاباً، خلطت فيه كل شعارات المساواة والهوية القومية والحريات الشخصية والقيم الاجتماعية والمواقف السياسية..

 جاء صوت من أسفل ركن الغرفة:

- طززززز.

اختلطت أصوات الاستهزاء والشتائم السوقية والكلمات النابية بأصوات الضحك والتصفيق وتعالت في الأجواء.

جلست ودفنت رأسي الذي غدا كالطبل بين راحتي يدي ورحت أعتصره بقوة: من أنا وماذا أكون وكيف وصلت الى هنا؟

خارج جدران هذا السجن عالم آخر، جبال وصخور وربوع خضراء، جداول وعيون مياه باردة، حقول ورياض وأزهار برية، قرى ومدن وأطفال بوجوه باسمة، وأنا الذي ترعرت وكبرت على مزابل هذه المدينة أقبع اليوم، ممثلاُ عن كل الناس، بين هذه الجدران الاربع المنيعة.

ها قد أتوا..

اجتاحتني قشعريرة برودة، بدأت أطرافي الاربع بالارتجاف، لقد حان وقت جولة جديدة من الحفلة، هم يسمونها حفلة، والحق يقال إنها كذلك، ولكن حفلة متوحشة، من العصر الحجري. وعملاً بأنظمة الصيد فأنهم يقيمون حفلة حول فريستهم. بدايةً يغنون، يتقافزون ويرقصون، يؤدون رقصة مجنونة متوحشة، ثم تبدأ طقوس حفلة الأسنان والأنياب في نهش اللحم والعظام.

*          *          *

جاء صوت الباب..

يقولون إن الدنيا توشك على الخراب، وهذا العالم سيُقلب عاليه سافله، سيتدمر نظام الكون وتجنح النجوم والكواكب عن مداراتها، ستتشظى الشمس وكذا القمر، الجبال ستتصادم ببعضها، كل البشر والحيوانات، كل الكائنات ستخرج من جلودها، حينئذ ستتحقق العدالة، لا أسود ولا أبيض، لا أمير ولا فقير، لا صياد ولا طريدة، كل العيون ستظل معلقة في انتظار تقرير مصيرها.

ها قد أتوا..

انتزعوا زجاجة العرق من بين يديّ.

 دفعوني الى الداخل صفعاً وركلاً بالاقدام، غيروا معادلة تكويني الجسدي. يد وسنّان وضلع واحد خرجت من هذا الصراع وباتت غير منحازة.

"لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم"

يدان، رجلان، فم، أنف موضوعة في شوال، جاهزة للرمي ولكن ليس واضحاً للآن على أية مزبلة ستستقر.

في الخارج عالم آخر..

سجن آخر ولكن أكبر من هذا، في ذلك السجن الكبير يبحثون عني الآن، يبحثون عني ليقبضوا علي ويجلبوني الى هنا.

هم يعتبرونني مذنباً، وهم على حق، فأنا حطمت أصنامهم، أنا ارتددت عن دينهم، لقد مزقت وأهنت قدسية صورهم ، وأنا الذي فقأت عيني (هبل).

أحدهم طرحني أرضاً، وضع قدمه على صدري:

- هل صحيح أنك قلت: أن شواربه بيضاء ولكنه يصبغها؟

إنهم يصدقون القول معي.

- بامكاننا أن نسحقك كحشرة في أية لحظة نشاء، لا بل أن قتل حشرة أصعب من قتلك، سنرمي جثتك على المزبلة.

لا القيامة قامت ولا الدنيا خربت ولا الدجال ظهر. عندما تجاوز الليل منتصفه تناهت للسمع أصوات طلقات رصاص وكان هناك رأس آخر جاهز للرمي.

 

(*) محمد كمال: كان صحفيا ً شاباً ذو ميول راديكالية، متمرداً على الفساد - في عقد التسعينيات- جريئاً في نقده المواضيع التي كان يتناولها في صحيفته (نوروز) الشهرية التي كان يحررها لوحده. قتل على يدي والده في ظروف غامضة.