هذه مراجعة لكتاب عصام عبد الله (علم تاريخ الأفكار).يعود فيه لتاريخ الفلسفة باعتبارها "أم العلوم" ويؤرخ لمباحثها الثلاثة: الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) والإبستمولوجيا (المعرفة) والأكيسولوجيا (القيم).

علم تاريخ الأفكار

ممدوح الشيخ

عنوان لافت هذا الذي اختاره الدكتور عصام عبد الله أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس المصرية لكتابه (علم تاريخ الأفكار). فعبر تاريخ الفكر البشري كانت الفلسفة تسمى "أم العلوم" وبعد أن كانت تعالج في مباحثها الثلاثة الرئيسة: الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) والإبستمولوجيا (المعرفة) والأكيسولوجيا (القيم) جملة من القضايا المتصلة المنفصلة انفصل مبحث الإبستمولوجيا ثم تحول إلى علوم متعددة موضوعها مناهج البحث المختلفة. ثم استقل مبحث الأكسيولوجيا ليصبح علما قائما بذاته هو "علم الأخلاق". وبظهور علم الاجتماع تحولت الفلسفة السياسية ـ أو تكاد ـ إلى تراث كلاسيكي وأصبح الاجتماع الإنساني محل دراسة تعتمد على التحليل أكثر مما تعتمد على التنظير.

وفي مسيرتها شهدت العلوم الاجتماعية انفصال مباحث من بعض العلوم ليصبح كل منها علما مستقلا في موضوعه وخصوصية ما في منهجه. وعبر مساره ظل علم التاريخ محتفظا بثبات نسبي من حيث موضوعه ربما استثناء ظهور "فلسفة التاريخ" التي شكلت جسرا بين الفلسفة والتاريخ. وتأتي أهمية الكتاب الذي نعرض له "علم تاريخ الأفكار" من كونه مؤشرا يشير إلى ميلاد علم جديد يولد من تلاقي الفلسفة والتاريخ. وفي التقديم للكتاب نتوقف عند عبارات مهمة، فهذا العلم يتناول: "الأفكار البشرية مبرزا الكيفيات التي تجعل أفكارا ومفاهيم تبقى وتستمر . . . مقابل إبراز الصور والخلفيات التي تقف وراء اضمحلال أفكار ومفاهيم أخرى بصورة سريعة دون مساهمة كبيرة في بناء الحضارة. هذا فضلا عن طبيعة نظرة هذا العلم للأفكار وهي نظرة تتجاوز اعتبار الفكر نتاجا للعقل المجرد إلى الوقوف عند كل فكرة وعلاقتها بلحظتها التاريخية وخلفياتها الاجتماعية المختلفة". ص 5.

وتشف العبارة عن أفكار مسبقة يستبطنها الباحث فيما يخص مدلول "العقل" و "التاريخي" و"الاجتماعي" وهو ما يظهر جليا في الدراسة نفسها. ومن التقديم أيضا ننقل: "ومع أن هذه الدراسة تشير إلى الآراء التي انتشرت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر عند المدرسة الماركسية، فإنها وقفت عند واقع العلم وتبلوره مع فلاسفة آخرين قبل هذه الفترة ومن غير الاتجاه التاريخي، وعند التطور الذي حصل في دراسته خلال النصف الأخير من القرن العشرين بعد ازدها العلوم اللسانية والسيميولوجية وبخاصة مع المدرسة البنيوية، الأمر الذي يدل على الشمولية (الأكثر دقة الشمول) والاستقصاء ويرشح هذه الدراسة لأن تكون مرجعا مفيدا للطلاب والباحثين على السواء" ص 5 - 6.

هوية غير واضحة
تحت عنوان: "تاريخ الأفكار" يستهل المؤلف دراسته قائلا : "ينسب (تاريخ الأفكار) كفرع معرفي جديد إلى التاريخ الحديث وإن كانت هويته ما تزال غير واضحة نظرا لتقلب موضوعه وعدم دقة حدوده وكون مناهجه ذات أصول مختلفة المشارب .. .. .. وقد اختلفت الآراء حول الأصل الحديث لتاريخ الأفكار" ص 7. وإن كان المؤلف لا يشير من بعيد أو قريب إلى أصل قديم لهذا العلم كما يفهم من عبارته، ويعرض بعد ذلك لنشأته الحديثة فيذهب بعض المؤرخين إلى القول بأنه ظهر في عصر النهضة في أوروبا وبخاصة مع فرانسيس بيكون (1561 - 1626) الذي أوضح في كتابه "تقدم المعرفة" خصائص هذا اللون من التاريخ. بينما ذهب آخرون إلى أنه يرد إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر مرتبطا بظهور المؤرخين المتفلسفين الذين حاولوا ربط التقدم بارتقاء العقل أمثال فولتير (1694 - 1778). ومرة أخرى نسجل هنا أن المؤلف يستخدم تعبيرات هي في الفكر الغربي مصطلحات ذات ظلال وتحيزات يمليها السياق وتتأسس على التسليم بأفكار مسبقة كالقول بتطور العقل البشري عبر مراحل محددة في مسار خطي. وهو يتجاهل ذلك منتقلا إلى استخلاص نتيجة مفادها أن هذه الآراء على تباينها تكشف عن الحاجة الملحة لوجود فرع معرفي ما يتناول الخصائص والسمات العامة للمعرفة وأن يربط بينها وبين العصر الذي أنتجها، وهو ما يبلور في رأيه "المراحل المضمرة" لتاريخ الأفكار في صورته التقليدية. وهذه الحاجة إلى ذلك الفرع المعرفي وهذا التشكل البطيء بقيا في حالة اختمار. ولم يبرز إلى السطح بقوة إلا عام 1882 وللتحديد هنا أهمية كبيرة إذ يشير للظروف الموضوعية لظهوره. فمنذ زمن بيكون اطرد نمو المعارف والأفكار في الغرب متزامنا مع التفتت المتواصل والمتسارع لمختلف أنشطة الحضارة وإن كان قد اتخذ أبعادا مفزعة في النصف الأول من القرن العشرين. وعلى المستوى السياسي تصدع الكومنولث الأوروبي وعجزت الأمم عن تحقيق الوحدة.

وهذا الربط من جانب المؤلف بين حالتي التشظي المعرفية والسياسية يشير إلى طبيعة علاقات التأثير والتأثر المتبادلة بين "المعرفة" و "الواقع" في الخبرة الغربية ، فمثلا ظهرت الداروينية كنظرية في علم الأحياء ومنها تولدت الداروينية الاجتماعية والسياسية . . . وهكذا. ويشير المؤلف في سياق التأريخ والتحليل أن أقسام المعرفة جنحت نحو التشتت فلم يتوافر لأي "علم" القدرة الكافية لأن يلم شمل بقية العلوم، فمنذ العصور الوسطى فقد اللاهوت قدرته على القيام بذلك وتنازلت الفلسفة عن جزء من مساحة "الميتافيزيقا" للعلوم الجديدة، بل انقسم العلم ذاته إلى علوم. وتوقف الفكر السياسي والتاريخي عن التحدث بلغة الكليات وأصبح أكثر تخصصا وأكثر عناية بالفردي والجزئي من عنايته بالقوانين العامة. من هنا كانت الحاجة ملحة لعلم تاريخ الأفكار ليواجه "الوضعية" التي بلغت ذروتها آنذاك في العلوم الاجتماعية كلها. ورغم أن المؤلف يرى أن الدور الرئيس لهذا العلم تأسيس نظرة للحضارات ككيانات متكاملة والحفاظ على استقلال العلوم الاجتماعية في مناهجها عن العلوم الطبيعية فإن هذا العلم هو محاولة للبحث عن نقطة ثبات وسط دوامات الصيرورة وروابط تجمع وتكشف عن الكليات وهو بذلك استجابة لحنين فطري لدور كان الدين يقوم به ولم يستطع العلم بموضوعيته وجزئيته أن يحل محله.

دلتاي مؤسسا
يعد عام 1882 حاسما ليس بالنسبة لتاريخ الأفكار فحسب وإنما للعلوم الإنسانية بشكل عام ففيه شغل فيلهلم دلتاي (1833- 1911) كرسي هيجل في جامعة برلين في وقت تسيدت فيه "الوضعية" وبلغت ذروة عنفوانها. ونادى دعاتها بأن الخلاص الوحيد لتأخر العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية يكمن في تطبيق المنهج التجريبي عليها للوصول إلى قوانين كلية. أما دلتاي المؤسس الحقيقي لعلم تاريخ الأفكار فجعل للتاريخ الصدارة بين العلوم الفكرية وجعل العقل البشري الفيصل في مسائل التاريخ، والإنسان عند دلتاي كائن تاريخي يفهم نفسه من خلال التجارب الموضوعية للحياة لا التأمل العقلي وماهيته وإرادته ليست أشياء محددة سلفا، فهو يفهم نفسه بطريق غير مباشر عن طريق "تأويل" التعبيرات الثابتة التي تنتمي للماضي. والتاريخ نفسه ليس معطى موضوعيا في الماضي بل معطى متغير: "إننا نفهم الماضي في كل عصر فهما جديدا من خلال التعبيرات الباقية لنا ويكون فهمنا للماضي أفضل كلما توافرت شروط موضوعية في الحاضر شبيهة بما كانت في الماضي" ص 10.

وفي القرن العشرين توطدت مكانة تاريخ الأفكار وازدادت شعبيته وبخاصة بعد نشر الأعمال الكاملة لدلتاي وترجمت في العشرينات وساعد المناخ السياسي المشحون بين الحربين العالميتين وما ترافق معهما من صراع أفكار على تطوير تاريخ الأفكار واتساع نطاقه فاجتذب بعضا من أفضل العقول في القرن العشرين، فمن المؤرخين أرنست كاسيرر وفردريش ماينكه الذي توسع في عرض نظرة دلتاي لتشل الفكر السياسي وميشيل فوكو الذي انتقد تاريخ الأفكار التقليدي وقدم منهجا جديدا للبحث أسماه "التحليل الحفري" وكذلك آرثر لوفجوي الذي بذل هدا ضخما لإدخال علم الأفكار أمريكا. وشارك في إثراء هذا العلم عالم الاجتماع كارل مانهايم الذي انتزعه من المجردات وبط بينه وبين التاريخ الاجتماعي. وقد صدر قاموس ضخم لهذا العلم وتوجد الآن حلقات دراسية ومراجع علمية وبرامج في تاريخ الأفكار في العديد من الجامعات في أمريكا وأوروبا واليابان، كما تصدر مجلته منذ عام 1940 في نيويورك. ومن أبرز كتابه في الغرب برنارد جروتهوزوين فيدريكو شابود وبول هازارد ودانييل مورينيه وغيرهم.

خصائص تاريخ الأفكار
يتميز علم تاريخ الأفكار عن أنواع التاريخ الأخرى بأنه يركز على "العالم الباطني للفكر" لا على "العالم الخارجي للحياة العملية"، أما الأفكار التي تعد مدار اهتمام هذا العلم فهي الأفكار التي تحظى بالانتشار ويبدو أن مفتاح السر يكمن في لفظ "الانتشار" الذي قد يفهم بأكثر من معنى كالانتشار خارج نطاق علم ما أو الانتشار من خلال الجماعات البشرية. ومن ثم فهو العلم النموذجي للعلاقة بين النطاقات والمجالات المعرفية المختلفة فهو يتتبع الأفكار في انتشارها وهجرتها، وحسب فوكو فإنه: " يتتبع المبادلات التي تتم بين الميادين المعرفية وهجرة الأفكار بين بعضها البعض من خلال إبراز كيف تنتشر المعرفة وتكون مناسبة لولادة مفاهيم فلسفية وتفصح عن نفسها أحيانا . . . . كيف تهجر المشاكل والمفاهيم والأفكار المحورية الحقل الفلسفي الذي تشكلت فيه إلى خطابات علمية أو سياسية" ص 12 - 13. وهكذا يتناول تاريخ الأفكار موضوعا بين الفلسفة والتاريخ الحضاري ومن أبرز أهدافه الكشف عن فئة معينة من الأفكار التي قد تكون وراء كل الفكر الصوري أو تعد شرطا له، فهذه الأفكار هي الافتراضات أو التصورات المسبقة التي يمتصها الناس كما يمتص الماء النبات بقوة الارتشاح من بيئاتهم العقلية التي غالبا ما لا يكونون على دراية كاملة بها أو نادرا ما يسلمون بها تسليما. أي أن تاريخ الأفكار "يتركز حول أفكار قد يكون من الأفضل تسميتها (إيمانات)"، وثمة أفكار في تاريخ الإنسانية لا ننظر إليها كأفكار وحسب بل نؤمن بها مثل: الحرية، العدالة، التقدم. . . إلخ. وبدهي أن مثل هذه الأفكار من مفاتيح شخصية الشعوب والمجتمعات والعصور. ويختلف تاريخ الأفكار عن تاريخ الحضارة في أن الأول ينصب على أفكار الحضارة بمعناها الأسمى متمثلة في الفلسفة والفنون والآداب والعلوم بل مستويات مختلفة من التقنية.

دور الأفكار في التاريخ
تحت هذا العنوان يقول الدكتور عصام عبد الله طرح هذا السؤال ـ الذي يبدو بسيطا في ظاهره ـ على نطاق واسع في أواخر القرن التاسع عشر حين احتدم الجدل بين المؤرخين الفرنسيين حول أسباب ثورتهم (1789) إثر صدور كتاب "الروح الثورية قبل الثورة (1715 - 1789)" لفليكسي روكان. وخلاصة ما طرحه الكتاب أن ثورة الشعب الفرنسي لم تحركها أفكار العدالة والمساواة ولا كتابات فولتير وروسو ومونتسيكيو وغيرهم، بل حركتها مظالم فعلية صارخة: "لقد ثار الفرنسيون حين عض الجوع بطونهم وخوت أكياس نقودهم وألقوا مسئولية ضائقتهم على عاتق حكومتهم. فإذا شئنا أن نفهم حقا أسباب اندلاع الثورة . . . . . علينا أن ارجع إلى سجلات الحياة اليومية والحياة الاقتصادية . . . . وبمعنى أكثر تخصيصا علينا أن نقصد سجلات (لشكاوى الرسمية)". ص 14 - 15. وظل الرد على هذا الكتاب غائبا حتى عام 1906 عندما أصدر ماريوس روستان كتابه: "الفلاسفة والمجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر" وفيه أكد أن أفكار الفلاسفة هي التي ميزت القلاقل الفاشلة منذ 1715 عن الانتفاضة القومية 1789. ويلخص هذان الموقفان - إلى حد بعيد الخلاف الدائر داخل الفلسفة بين المثالية والمادية الذي بلغ ذروته في القرن التاسع عشر مع هيجل وماركس حول ما إذا كانت الأفكار هي العلة التي تدفع الناس للعمل أم الظروف المادية. ويرى الدكتور عصام عبد الله أن الخلاف حول أولوية أي من الأفكار أو المصالح في تحرك البشر هو في جوهره خلاف عقيم فدون أي منهما لن يكون ثمة مجتمع بشري حي فعال بل لن يكون هناك تاريخ بشري.

غير أن ظاهر الأمر يوحي بأن تاريخ الأفكار يقوم على افتراض مسبق مفاده: "أن العقل أو الروح هو القوة القصوى وراء كل تقدم في التاريخ" ص 15. أي أنه يميل إلى المثالية غير أننا إذا أمعنا النظر نجد أنه يقوم بالوساطة بين المثالي والمادي. والأفكار لا تدفع الناس للعمل إلا إذا أحدثت لديهم إيمان حي بمعنى أن يكون إيمانا دافعا للفعل. وقد اتخذ مصطلح La Partideelle الذي بلوره جودلييه أهمية كبيرة في حسم الصراع المزمن بين المثالية والمادية وفي الكشف عن الدور الذي يقوم به تاريخ الأفكار بالفعل. فقد بيَّن أن النتاجات المادية البشرية يحتوي بالضرورة على بعد فكري روحي بالضرورة وأن الفكر بالذات يتحول إلى قوة مادية، وبالتالي لم يعد هناك مبرر لانشطار العالم الفلسفي إلى معسكرين: مادي ومثالي. وتكمن أهمية إسهام جودلييه في أن صاحبه من النقاد الماركسيين الجذريين وهو لا يتخلى بذلك عن ماركسيته بل يريد تطوير الجوانب الحية من فكر ماركس ويتخلى في الوقت نفسه عما تجاوزه العلم والزمن، ويدعو المؤلف إلى إعادة التفكير في مسألة الغلبة أو الهيمنة بغية تحرير البحث العلمي من القوالب الجاهزة.

وفي حقيقة الأمر فإن ما يعتبره المؤلف حلا توفيقيا بين المادي والمثالي ليس إلا حلا مراوغا يتحول فيه المثالي إلا مثالي اسما مادي فعلا على طريقة باروخ اسبينوزا الذي استخدم مفردات ذات مدلولات مثالية متجاوزة للدلالة على ظواهر مادية صرف مثل مقولة الإله/ الطبيعة وغيرها.

البحث في تاريخ الأفكار
يقدم لنا تاريخ الأفكار خلاصة تفكير الآخرين وتجاربهم واستبصاراتهم وإجاباتهم عن الأسئلة المحورية عبر العصور، ورغم تفوقنا على السابقين في جملة مجالات معرفية فإننا نرى أنفسنا والعالم من منظورنا نحن ولابد أن يكون خاصا وجزئيا ومحدودا ومن ثم فنحن في حاجة دائما لأن ندرس كيفية إدراك الآخرين. من ناحية أخرى فإننا نتكلم عادة عن العالم بصيغة المفرد كما لو كان هناك عالم واحد بينما هناك في حقيقة الأمر عوالم قد تكون منسجمة وقد تكون متناقضة فهناك: عالم الفيلسوف وعالم اللاهوتي وعالم السوسيولوجي وعالم البيولوجي وعالم الفنان. . . وهكذا. لهذا ثمة حاجة دائما إلى تركيب فكري يتجاوز هذه العوالم ويجمع بينها، فالعقل الإنساني مدفوعا بما يسمى تناقضات الوضع التاريخي والوضع الإنساني كان يرى هذا التركيب ضروريا وتجب صياغته في شكل ما لأن هذه التناقضات تدعو - بوجودها نفسه أو بجدليتها - إلى الكشف عن عقلانية عامة تضبطها وتتجاوزها. ويحتل علم التاريخ الحد الفاصل بين التاريخ والفلسفة مشاركا في غايتهما معا وهو: " أفضل وسيلة لدراسة التغير والنسبي والمشروط معا بل إبراز ما يتغير وسط التغير" ص 17. وبمقدور هذا الفرع المعرفي أن يتبين كيف أن أفكارا معينة لم تنتشر فحسب بل ساهمت في بناء حضارات عظيمة بينما أفكار أخرى لم تُعمر طويلا. ويسلم تاريخ الأفكار بوجود علاقة متكاملة بين الحقيقة والأصول التاريخية للفكر فكل فكرة إنما تبزغ في بيئة ما ورؤيتها في حالتها الأصلية شرط لفهمها فهما كاملا وبطبيعة الحال يساعد في فهم ماهيتها. ويقع انتشار الأفكار كما حدده قاموس تاريخ الأفكار في فضاءات أو اتجاهات ثلاثة:
      الاتجاه الأفقي عبر التنظيمات المعرفية المختلفة في بيئة معينة وعصر محدد.
      الاتجاه الرأسي (الخطي التاريخي) عبر العصور المختلفة.
      أما الاتجاه الثالث فيتقاطع فيه الاتجاهان السابقان في مراكز إشكالية محددة تخص العصر أو البيئة الثقافية ويسمى "العمق".

ويقابل هذه الاتجاهات الثلاثة ثلاثة أنواع من الدراسات التطبيقية المتبعة في تاريخ الأفكار:
      الدراسات العرضية التي تحدد بزمان ومكان.
      الدراسات الخطية التي تركز على مسار فكرة أو مفهوم عبر العصور.
      وأخيرا الدراسات التي تجمع بين النوعين السالفين وترك بشكل رئيس على "العمق".

ومن النماذج الكلاسيكية للنوع الأخير كتاب: " سلسلة الوجود الكبرى" لآرثر لوفجوي (1936) وفيه قام بتحليل البنية الداخلية لمكونات الأفكار أو ما أطلق عليه "الوحدات الكبرى للأفكار" ص 19. الاستمرارية والتدرج والاكتمال وهي ليست، وصفا للإطار التاريخي والثقافي العضوي للأفكار بل خلاصة تحليلية وبحثية في تاريخ الأفكار، وهو يقترحها كعوامل مساعدة لتمييز الأفكار المركبة والمحورية التي تقف وراء معظم الحركات الفكرية الأخرى. وقد أصبح نموذج لوفجوي أحد أهم أسس البحث في تاريخ الأفكار التقليدي، وحسب فوكو: "فإن النشأة والاتصال والكلية هي الأفكار المحورية الأساسية الكبرى لتاريخ الأفكار" ص 19. ورغم هذا لا توجد حتى الآن طريقة معينة لتحليل البنية الداخلية الأفكار فهناك اجتهادات متعددة قدمها أرنست كاسيرر وكارل مانهايم وفرانكلين ل. باومر وغيرهم. وباستثناء "حفريات المعرفة" لميشيل فوكو لا يوجد - فيما نعلم - كتاب منهجي آخر في تحليل البنية الداخلية للأفكار.

الأيديولوجيا وتاريخ الأفكار
"أيديولوجيا Ideologie" كلمة معربة وأصلها مركب من كلمتين يونانيتين:Idea وتعني الفكر، وLogoc وتعني العلم أو النظرية فهي اشتقاق يعني "علم الأفكار". وأول من سك المصطلح المفكر الفرنسي دستوت دي تراسي (1754 - 1836) في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر في كتابيه: "مذكرة حول ملكة التفكير" (1796) و"تخطيط لعناصر الأيديولوجيا" (1801). وأراد بهذا المصطلح أن يشير إلى "العلم الذي يدرس الأفكار بمعناها العام. أي العلم الذي يقوم بالبحث في وقائع اللاشعور فيعرض لتحديد خصائصها وقوانينها ونشأتها وعلاقتها بالعلاقات التي تمثلها" ص 25. ويبدو أن كلمة أيديولوجيا ارتبطت في نشأتها بالنزوع الحسي أو المادي الذي ظهر في فرنسا خلال القرن الثامن عشر فكانت الأيديولوجيا علم الأفكار وكان المنهج الأيديولوجي هو المنهج اعلمي الوحيد الذي يسير عليه الفلاسفة في تحليل الأفكار والبحث عن مصادرها. وكان الأيديلوجيون أنصار تلك الجماعة الفلسفية التي أسسها الفيلسوف المادي الفرنسي كوندياك وتأثروا بالتقليد التجريبي ونبذوا الميتافيزيقا وارتبطوا بالثورة الفرنسية ولعب معظمهم دورا الانقلاب الذي حمل نابليون إلى السلطة. وقد رفضوا الفكر الميتافيزيقي الذي كانت الطبقة الحاكمة المحافظة تبرر به وجودها وتربعها على السلطة ورأوا من ناحية أخرى أن دراسة الأفكار يجب أن تتم على أسس نفسية وأنثروبولوجية وليس على أساس منطلقات ميتافيزيقة. وظهرت كلمة أيديولوجيين للمرة الأولى حينما أراد نابليون أن يحقر هؤلاء الفلاسفة الذين عارضوا أطماعه الاستعمارية وكان يعني بذلك أن أفكارهم واهمة وغير واقعية بالنسبة لمجريات الصراع السياسي. ومنذ ذلك الحين أصبحت الكلمة ذات معنى سلبي، تطلق على من تصطبغ فلسفته بصبغة مذهبية تنأى بها عن الحقيقة. وقد حذا ماركس حذو نابليون في استخدام المصطلح، ثم عاد المصطلح ليحمل معنى إيجابيا عند لينين، وأولى المفكر الماركسي أنطونيو جرامشي الأيديولوجيا اهتماما خاصا حتى سمي "منظِّر البنية الفوقية".

وقد اكتشف السياسيون في الأيديولوجيا سلاحا جديدا فعالا لقهر الخصوم فاستخدموه بكفاءة ودهاء، ومع تحول الشيوعية من مجرد فكرة إلى بنى سياسية تحول "عصر الأيديولوجيا" إلى "عصر التحليل" وهو الوصف الذي أطاقه مورتون وايت على القرن العشرين. فظهرت الحاجة إلى التحول عن المنهج الأيديولوجي نحو منهج جديد من خلال علم اجتماع المعرفة وهو منهج يقوم على تحليل المذاهب الفكرية كلها. ولم تكد تتبلور ملامح البحث الحديث في تاريخ الأفكار في منتصف القرن العشرين حتى هبت رياح "البنائية" التي حاولت تقليص النزوع التاريخي بشكل عام بمراجعة التفسير التاريخي مراجعة جذرية ومحاولة القضاء على ادعائه احتكار القدرة على تفسير الظواهر البشرية، وظهرت نتيجة ذلك مدرسة تاريخية جديدة تركز جهدها على كشف المعالم العامة للحضارات التي تمتص في داخلها الأحداث وتصبغها بصبغتها الخاصة بدلا من أن تتشكل بالأحداث وتسير في تيارها وهو ما عارضه مؤرخون عديدون أبرزهم فرانكلين ل. باومر. ومؤخرا يعتمد علم تاريخ الأفكار على قراءة "النصوص" قراءة علمية بعد ازدهار اللسلنيات والسيميولوجية، ومن ثم أصبحت القراءة عملية معرفية شاملة تجمع بين التحليل اللغوي والتساؤل التاريخي والتدبير الفكري لاستخراج الجدلية الكامنة بين اللغة والفكر والتاريخ.

وبعد ـ فهذا الكتاب بحجمه الصغير نسبيا حافل بالأسئلة والتحليلات والاجتهادات وهو محاولة جادة لبناء صورة تجمع بين الشمول والعمق والوضوح لفرع معرفي جديد هو "علم تاريخ الأفكار" من خلال استقصاء تاريخي ونظري ومن المؤكد أنه يفتح الباب لمناقشات نظرية ومنهجية عديدة في التاريخ والفلسفة وعلم اجتماع المعرفة والتاريخ الحضاري وغيرها من الحقول المعرفية ذات الصلة.