تستشرف (الكلمة) بهذا العدد عاما جديدا، هو العام السادس من عمرها القصير. وهو عام استشراف المستقبل والمراهنة على الكلمة الحرة المستقلة أكثر من أي وقت مضى. فقد كان رهان (الكلمة) منذ أن بدأت مسيرتها القصيرة في مطلع عام 2006 هو الرهان على الكلمة الحرة المستقلة، عبر شعارها «مجلة لحراس الكلمة وليست لكلاب الحراسة»، وعلى الوعي الشاب الذي يروم المعرفة النقدية الحرة، ويسعى إلى مستقبل جديد، بعد أن سد الفساد والاستبداد الأفق أمامه حد اليأس، والاندفاع إلى قوارب الموت في البحر الأبيض المتوسط. وهو رهان لاتزال (الكلمة) تؤمن به، بل تشعر بأنها أشد حاجة إليه في لحظتها الراهنة مما كانت عليه في أي وقت مضى. لأن عامها الجديد سيكون بحق عاما حاسما في حياة تلك الثورة العربية الوليدة، والتي استطاعت إزاحة ثلاثة طغاة عن المشهد، ولكنها لم تنجز بعد برنامجها في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، ولاتزال تعاني من مؤامرات الثورة المضادة في الداخل والخارج على السواء، ومن خيانة المثقفين الذين استمرأ الكثيرون منهم دور «كلب الحراسة» الأمين لأي سلطة وكل سلطان، وعملوا على تشويه الوعي وتزييف الواقع قبل الثورة، ومازال الكثيرون منهم يواصلون دورهم الكريه بعدها، وإن تستروا بمزاعم الترحيب بالثورة والذود عن حماها، بل والزعم بأنهم، وهم يعملون بإخلاص في خدمة مؤسسات الاستبداد الفاسدة، والترويج لرموزه التي أسقطتها الثورة، قد بشروا بها وكانوا من صناعها.(1) فخدّام الاستبداد لا يستطيعون العيش إلا في ظل استبداد جديد. (2) ولا يعون أن الشعب الذي قوض قلاع الاستبداد، في ثلاثة بلدان عربية، وزلزل قلاعه الباقية في البلدان الأخرى، لن يقبل أن يقيموا على انقاضها قلعة استبداد جديدة. فها هي معاول الشعب، في ثورة مصر الثانية والمستمرة، تنقض عليها وهي لاتزال موقعا مزريا للبناء، وأكواما من الحجارة لا تنفع إلا لرجم هؤلاء المثقفين الخونة.
لاتزال الثورة تحبو في طريق ينصب لها فيه هؤلاء المثقفون الخونة الفخاخ التي ترشح من نفاقهم الممجوج للثورة، ومن سعيهم الحثيث لأن تطرد عملتهم الرديئة وخطابهم المغشوش، العملة الثورية الجيدة من السوق. فتنتهي الثورة صريعة ملقهم الأصفر الممجوج. لكن خطابات المثقفين من خدّام الاستبداد، لم تنطل على الشعب. وها هو اندلاع الثورة من جديد يؤكد أن الخطاب الفاسد الذي سعى هؤلاء المثقفون لترويجه واستخدامه لشيطنة الثورة، من أجل الاستقرار، ومؤشرات البورصة المضحكة، وتعثر الديون التي يريدون بها المزيد من تكبيل مصر ورهنها لرأس المال الأجنبي، واستعادة الأمن المفقود عمدا، كي يمنح افتقاده شيئا من المصداقية المفقودة للخطاب المكذوب، لم ينجح هذا كله في تضليل الناس أو حتى في صرفهم عن أهداف ثورتهم.
فقد كان العام الماضي بحق، عاما باهرا وفارقا في التاريخ العربي الحديث. تبرعمت فيه بطريقة مفاجئة ومدهشة معا كل آمال التغيير والتجديد والحرية، وانفتح فيه الأفق الذي سدته أنظمة الفساد والاستبداد والتبعية والهوان لعقود طويلة أمام ثلاثة أجيال من الشباب. فتحه الشباب بأنفسهم عنوة، وقد فتحت لهم وسائط التواصل الجديدة نافذة لم يتمكن النظام القائم من سدها، كما سد أمامهم كل شيء، فانطلقوا منها لهدم قلاع هذا النظام والإطاحة بعروشه الخاوية، واحدا وراء الآخر .. ولايزال الطريق مفتوحا أمام عروش أخرى مرشحة للانهيار. وهتفت فيه الجماهير العربية تعلن عن إرادتها، ليس فقط في إسقاط نظم الفساد والاستبداد والتبعية «الشعب يريد إسقاط النظام»، وإنما أيضا في المطالبة بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. فقد اندلعت في العام الماضي نيران الثورة من رماد اليأس والقهر والحرمان، رماد جسد محمد بوعزيزي المحترق في واحدة من أبعد نقاط الهامش العربي عن الأنظار، لا في العالم العربي وحده، بل في تونس نفسها التي كانت «سيدي بوزيد» أحد أبعد هوامشها المقهورة عن مراكز الاستبداد، والتزييف الإعلامي، والخطاب الثقافي المغشوش.
من أبعد مناطق الهامش انطلقت الثورة، لأن الخطاب الذي رفض الغش والتزييف، وقاوم صيغ الهيمنة الفاسدة، كان هو الآخر محاصرا في الهامش ولايزال. ولكنه يشكل برغم حصاره ذاك صوت الضمير العربي. ويجسد صورة الحلم العربي في العدل والحرية. هذا الخطاب الذي واصل القبض على الجمر بينما باع نخاسوا الثقافة ضمائرهم، ووظفوا ذرابة ألسنتهم في خدمة أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، واصل عمله بدأب في الهامش رغم الحصار. يزرع في نفوس الشباب مبادئ العقلانية والفكر النقدي الحر برغم كل ما يحاك له من مؤامرات، وبرغم إحكام الحصار حوله وتهميشه في جل البلدان العربية. ويكشف لهم آليات الهيمنة الفاسدة، وخواء العروش العربية العارية من الشرعية والمصداقية. ظل هذا الخطاب الذي تنتمي إليه (الكلمة) وترعاه حيّا ومستمرا، يقظا ومختلفا. يزرع في نفوس الشباب الأمل والحرية، يضيء لهم طريق الوعي النقدي الحر، ويفضح زيف خطاب هيمنة المؤسسة العربية الخاوية والعارية من كل شرعية ومصداقية.
ظل هذا الخطاب العقلي النقدي الحر يقوم بدوره في هامشه المحدود، يحاصره المناخ الطارد المشبوه الذي يحُول دون المثقف المستقل والاضطلاع بدوره العقلي والنقدي في واقعه. ويدُعُّ أي فكر نقدي مستقل ويسعى جاهدا لتهميشه أو حتى تشويهه. ومع ذلك ظل الخطاب العقلي النقدي الحر يواصل رسالته النقدية والتنويرية المستقلة، برغم الحصار والتهميش، لأنه يعي أنه كلما استحكم الظلام كلما ازدادت الحاجة إلى أنوار العقل الذي يرهف الرؤية ويضيء طريق الخلاص. وخاصة بعدما تحَوّل المثقف في ظل انظمة القهر والاستبداد العربية إلى مروج رخيص لخطاب الاستبداد المغشوش، وإلى أحد صناع خطاب الهيمنة الهشة التي تغلي تحت عروشها الخاوية مراجل الغضب الشعبي الكظيم. وإلى كلب حراسة للنظم المستبدة الفاسدة التي تغدق عليه المال والنفوذ. وتزداد حاجتها لتلميعه وإبرازه والاعتماد على خطابه الشائه كلما تقلصت شرعيتها، وساخت أقدامها في مباءات التبعية والهوان. وكلما علا نجم هذا المثقف التابع كلما أزداد إحساسه بالخطر من الكلمة الحرة والفكر المستقل، فيعمل بدأب على تهميشه ومحاصرته وتشويهه.
وبدلا من أن تعدل الثورة هذا الميزان المقلوب، ويتوارى المثقف التابع خجلا بهزيمته المزرية، وقد فضحت الجماهير الثائرة، على مد رقعة الربيع العربي التي تواصل التنامي والاتساع، تبعيته وخزيه. نجد أنه سرعان ما تلون كالحرباء، وكان أول من أنقضّ على الثورة، يدّعي وقوفه معها، بينما يعمل في حقيقة الأمر مع أعدائها، ويسعى لإجهاضها وإفراغها من محتواها. وتحوّل دوره بسرعة، كما هو الحال في مصر الآن، إلى العملة الرديئة التي تطرد العملة الجيدة من السوق. لذلك تزداد الحاجة اليوم إلى فرز الخطاب الداعم للثورة بحق، من خطاب كلاب حراسة النظام الجديد، والذين تحولوا بسرعة البرق إلى كلاب لحراسة المجلس العسكري وإجراءاته المتخبطة والمفضوحة في الإجهاز على الثورة التي ما كان له أن يحكم دون تضحياتها. يسعون لشيطنة الثورة تارة، وللتذرع بالدفاع عنها لإفراغها من محتواها أخرى. لابد من فرز خطاب الثورة عن خطاب المثقفين الخونة الذين يسعون جاهدين لوضع الجماهير العربية من جديد في قمقم الاستبداد والتبعية والهوان. ويعملون بدأب مدفوع الأجر ومجزول العطاء، باسم الاستقرار تارة، وعودة الأمن والانتاج أخرى، إلى خلق خطاب هيمنة جديد يجهز على الثورة. ولكن هيهات! فلن يستطيع المثقف التابع والتي فضحت الثورة خزيه وتبعيته أن يعيد عجلة الزمن للوراء مهما أخلص في خدمة سادته من سدنة الثورة المضادة .. لأن الثورة ستنتصر مهما تكاثرت من حولها النصال. ولأن الحلم العربي البسيط بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، حلم إنساني نبيل. لابد له في نهاية المطاف أن ينتصر على مؤامرات الغش والخداع والتدليس، مهما كانت مدججة بكلاب الحراسة ومدعومة بذرابة ألسنتهم الحربائية.
وإذا كان العام الماضي هو عام اندلاع الثورة العربية، وتحقق رهان (الكلمة) على الحرية والحق والعدل، بصورة لم يتصورها العقل الثقافي، وإن أنجزتها حدوس الشباب الحكيمة والملهمة بشكل باهر، فإنه في الوقت نفسه هو عام بداية التاريخ. بداية تاريخ جديد طرح رؤيته وخطابه الجديد بالفعل قبل أن يطرحه بالكلمة. تاريخ يكتبه الشباب الذي يعلن بتلك البداية أنه سيصوغ مستقبله. حيث يشكل الأغلبية العظمى من الشعب العربي، إذ يتجاوز عدد من هم دون الخامسة والثلاثين في مصر 70% من سكانها، أي أكثر من 55 مليون نسمة. فما فعلته الثورة المصرية في العالم بتحضرها وعرامتها غير المسبوقة، واحتلالها للموقف الأخلاقي الأعلى، فتح بحق أفقا جديدا في الفكر/ الفعل الإنساني. وطرح بداياته العملية الباهرة وحدوسها الحكيمة في مواجهة خطاب تدليسي متواصل منذ مقولة فوكوياما عن نهاية التاريخ، واستقصاءات هنتنجتون الساذجة عن صراع الحضارات وحتى آخر صنوف ملق المثقفين المصريين الخونة للمجلس العسكري.
لقد آذنت الثورة المصرية، أو بالأحرى طرحت على العقل الإنساني كله بداية جديدة للتاريخ الذي صدعوا رؤوسنا بنهايته، في مواجهة خطابات الهيمنة المكذوبة التي تتصدع عدوانتيها ويتكشف للعالم كل يوم خواؤها، طرح الربيع العربي رؤيته المغايرة التي انبهر بها العالم فتلقفتها حركات كثيرة، حتى في قلب قلعة رأس المال المالي، وأشرس أدوات نهب الشعوب في وول ستريت، ودعت لاحتلاله. وهي بداية تحتاج من المثقفين المستقلين الأحرار الحدب على حدوسها، والالتفاف حولها وبلورة رؤاها، وصياغة خطابها الفكري والفلسفي والسياسي معا. فالطريق لايزال طويلا ومليئا بالصعاب. وها نحن نأمل، ونحن نستشرف مع قرائنا، برغم حصار خطاب الهيمنة التدليسي لمشروعنا، أن يكون هذا العام الجديد هو عام انتصار خطاب الثورة، وتبلور بداياته الباهرة، وفرض هيمنته على واقع عربي يتعطش لأفق جديد .. أفق مفتوح على اتساع الحلم في الحرية والتقدم، يتحقق فيه على مد الوطن العربي المترامي الاتساع الشعار الذي طالما حلمت به شعوبنا في وطن حر وشعب سعيد، وأهم من هذا كله شعار ثورات الربيع العربي في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
هوامش:
(1) من يتأمل المشهد في مصر الآن بعد ما يقرب من عام يدرك كم تردى المثقف التابع في حضيض غير مسبوق. وكم عاد نجوم المؤسسة الفاسدة والساقطة في الإعلام والثقافة للسيطرة على المشهد من جديد. وكم امتلأت بهم الفضائيات والصحف. وسأضرب مثالا واحدا في هذا المجال وهو جابر عصفور الذي كان آخر وزير ثقافة في آخر حكومة شكلها مبارك الفاسد المخلوع لإنقاذ مؤسسته الفاسدة من الثورة الجارية في ميدان التحرير وقتها، ثم حاول كفئران السفن أن يقفز من السفينة قبل لحظة الغرق الأخيرة. وها هو الآن يملأ الصحف لغوا بأنه بشر بالثورة، وهو الذي كان يفخر قبلها بنجاحاته الباهرة في إدخال المثقفين حظيرة فاروق حسني، ويتباهى بما يناله من علفها الوفير.
(2) من أبرز الأمثلة على ذلك الانحطاط الذي يزيف كل شيء باسم الاستقرار، واستعادة الأمن المفقود عمدا، جمال الغيطاني الذي طالب ولايزال يطالب بأن يبقى المجلس العسكري في الحكم لثلاث سنوات على الأقل، ويشارك بخطابه المغشوش في عملية شيطنة الثورة والثوار.