تطرح الباحثة السودانية المرموقة على القارئ موضوع تقسيم السودان، في علاقته الجدلية وتعالقاته التفصيلية مع الحاضر العربي والصراعات المالية على ثروة عالمنا العربي ونفطه ومائه وتكشف عن العلاقات المضمرة بين ما يدور في الغرب الأمريكي وما يدور في عالمنا العربي من مؤامرات على بلدانه وعلى ثوراته في آن.

تعالق يسر تقسيم السودان وعنصرية العرب

خديجة صفوت

مقدمة:  بالونة اختبار لا تثير اكتراث احد:
بقيت سيرة هذه البقعة من ارض السودان المجهولة تماما، الا لاهلها من الدينكا نجوك وقبيلة المسيرية كونها عامرة بالنفط ويقال بالغاز اكسير حياة الغرب الافتراضية. والاحبولة ان نفط ابيي قليل وفي سبيله الى ان يغيض. والاخطر ان الرأسمالية تهم حثيثا منذ وقت ونحن نيام لاستبدال النفظ بطاقة اخرى حتى تبور ثروات النفطيين فى كل مكان.  فما هي حكاية ابيي الحقيقية؟ ما هي حكاية امريكا واسرائيل مع جنوب السودان وبقية السودان حقا؟ عشنا عندما كنا صغارا في جنوب السودان من مديرية اعالي النيل الازرق الى مديرية الاستوائية. وكانت جوبا لا تزيد على صفوف من البيوت على جانبي طريق ممتد الى النهر. وكان شارع واحد يبدأ بجبل الرجاف وينتهي عند رصيف الميناء، حيث ترسو الباخرة الاتية من الخرطوم كل اسبوعين حاملة البريد والصحف، ولما كانت بالباخرة مكتبة فقد كان لك ان تستعير منها ما تريد على ان تعيده بعد اسبوعين. وكانت مدينة جوبا عاصمة جنوب السودان الان كمدن الكاوبوي حتى انها كانت مقسمة طبقيا بهذا الوصف ايضا. فقد كان الانكليز يعيشون بالقرب من فندق جوبا وكان الشماليون ـالمندوكورو هو اسم الشماليين لدى الجنوبيين مثلما يطلق سكان المكسيك على المستوطنين البيض، ورعاة البقر اسم جرنجو.- كان الشماليون يعيشون على طول الشارع من المطار الى رصيف الميناء. ويعيش الجنوبيون على مشارف الرجاف بمنطقة تسمى الملكية. وكانت روايات تنتشر حول خصوبة ارض جوبا، من انك ان القيت عظما فانك واجد خروفا صباح اليوم التالي. وهذا هو لب المسألة برمتها.

ان ارض المديرية الاستوائية على الاقل من الخصوبة والري الطبيعي بحيث تؤلف كنزا زراعيا من كل اصناف الخضر وفاكهة جميع المدارات الفصلية  والمحاصيل النقدية من البن والقطن وغيرهما. وحيث تسقط الامطار بغزارة الا انه ما ان تفعل حتى تشربها الارض عكس ارض مديرية اعالي النيل أو منطقة ملكال عاصمتها والمناطق المحيطة بها. ذلك ان تلك الارض لا تشرب الماء وطينتها صمغية فان سرت فوقها وهي مبتلة علوت سنتيمرات بقدر ما تطول مسافة المشوار حتى لتحتاج لان تنظف الطين مرات عن نعليك والا بقي تراكم ذلك الطين تحتهما الى الابد.

لماذا يهول من نفط ابيي ونفط السودان حتى؟ لماذا نستدرج للجأر بانه النفط وقد امتلأت افئدتنا رضى عن انفسنا بادراك لب المعرفة والعلم ببواطن الامور؟ يكرر معظمنا لأنه للتفط  واحيانا الغاز وقد راح يهز رأس الحكمة بوقار وقد وضع ساق العلم على ساق التأمل العميق كونه ادرك ما يثابر الغرب على فعله،و بالمقابل يتهم الغرب كل قائل بغير تلك التخرصات بالنظرية التآمرية، فكل ما لا يستحبه الغرب او لا تستصيغه الرأسمالية المالية ولا توافقع عليه الصهيونية العالمية يوصم بالنظرية التآمرية. ان كل ما لا يصدر عن خطاب الاخيرات مجرم يستباح دم قائله. لذلك قد ليوذ معظمنا بطريق السلامة متجنبا طريق الحق فلم يعد يسلك طريق  الحق الا قلة مضحية بالنفيس والغالي. والا هل ان الغرب رحيم يقتل ابناءه من اجل دمقرطة العراق ومساندة الجنوبيين لتحريرهم من ربقة ما يشارف عبودية العرب الشماليين لهم على مر مئات السنين؟ وكأن الغرب لم يتاجر بالافارقة سنين، وكأنه لم يذهب ضحية تجارة الرقيق عبر الاطلسية ما قدر باربعة ملايين من شباب افريقيا، رجالا ونساء. لا يستاء الغرب من تقولات العرب والمسلمين وغيرهم من المستهتر بهم، وانما يتكاذب الغرب امعانا في تضليل الناس حتى نثابر على التوجس مما ليس هو الاخطر علينا بالفعل، وقد فات علينا ما يوقعه الغرب ـ الرأسمالية المالية ـ بنا فعلا وحقا من الشر كل الشر.

بات السودان لا فتا للنظر بعد فوات الاوان:
حيث بات السودان مهما فجأة بدليل فان كل من لم يهتم بالسودان يوما يكتب مقالا كشعيرة دينية تبرئة للذمة. ولم يقل احد شيئا عندما تمت المساهمة في تمزيقه بالفعل، بمصادرة التجربة الديمقراطية السودانية وكانت تجربة السودان الديمقراطية تحرج بعضهم في حوشهم الخلفي، قياسا فالذي حدث هو انه لم تعـــد ثمة معارضة تحمي السودان حيال ما يحيق به، وقد ثابر البعض على تأييد الانظمة العسكرية خصما على الديمقراطية، ما ان انقضى زمان عبدالناصر الذي ساند الحركات التحررية واحتضن مناضلي القارة كافة. فان باتت مصر جاهلة ليس بالسودان وانما بالقارة، فقد داهمنا جميعا الغول الذي لا يعرف الا مصالحه، ولا يعرف معظم المثقفين العرب مصالحهم وحسب وانما يتهافتون على ترديد كل ما يعصف بمصالحهم هم وشعوبهم جهلا او تسطحا او عقلانية متكاذبة، ولم يعد بعضهم يجد غضاضة فى التصايح من فوق اهم القنوات العربية، باحتفال وفصاحة كونه اكتشف ان الدولة القومية فاشية. ولم تكن الدولة القومية فاشية الا في خطاب الرأسمالية المالية. ذلك ان الاخيرة كانت قد وصمت القومية الاشتراكية بالفاشية كون الاخيرة كانت تصدر بعد عن البرجوازية الصناعية. ومع ذلك بقيت انجلترا وامريكا تتعاملان مع هتلر وموسيليني وفرانكو وزعيم الجبهة الوطنية الفرنسية. فمرحى لكم ها هي اولى الدول القومية العربية تتداعى امامكم ولم يكلف اي منكم نفسه حتى ذكر السودان، وانتم تتشدقون بالقومية العربية. وليس السودان وحده المغفل في تلك المحافل، وانما ربما لا شيء يهم سوى المنطقة العربية الشرقية، فالمغاربة ايضا مهملون نسبيا قلا نفظ سوى لدى ليبيا والجزائر بتفاوت. فلكل هذا وغيره يردد معظمنا ما لا طائل وراءه فيما يواصل الغرب ـ تواصل الرأسمالية المالية - الصهيونية العالمية معاركها معنا وراء اشياء غير النفط؟ ازعم انه ان امعنا النظر قليلا ادركنا من فورنا ان الحرب على العراق وعلى افغانستان والسودان ليست سوى حرب بشأن الماء والمحاصيل الغذائية في عالم يواجه ازمة ذات معدلات هندسية حول تلك المحاصيل، ان لم يكن حول الماء بداءة. ويتعالق استيراد المحاصيل الزراعية والماء بصورة منتهية. ذلك ان بريطانيا مثلا تستورد ما يفوق 40' من الطعام من العوالم الجائعة العطشى، مما يعنى انها تستورد الماء في شكل محاصيل غذائية وازهار ونباتات لاستخراج الطاقة، كالميثينول، خصما على مجتمعات معرضة للجفاف سراعا. ومن المفيد ملاحظة ان كافة الدول العربية ـ فيما خلا العراق والسودان، تعاني من شح الماء وصولا الى خط الخطر المائي وسيلحق العراق والسودان بغيرهما بحلول 2015.

هل الحروب الماثلة حروب ماء؟
حيث عبرت ثقافة الاستهلاك عن نفسها في ذهنية الحق في كل شيء فقد ادخل في روع الفرد الغربي ان ما يسمى بالمستوى الغربي للحياة قابل للاستمرار. ويسوغ ذلك الوهم الجماعي الحروب من اجل التوسع قسرا في ارض الغير وما عليها بغاية انتاج الغذاء والاستحواذ على المعادن واختراع موارد الطاقة. فلم تعد الحروب من اجل النفط وحسب. المهم لعل ذلك الوهم الجماعي يسر انتشار الثقافة الصهيونية، والعكس صحيح فقد خلقت الاخيرة ذلك الوهم الجماعي وكرسته وغذته. وتهيمن تلك الذهنية مع توسع الرأسمالية المالية على نحو غير مسبوق جراء هيمنة الاخيرة على الاعلام والمراكز المتنفذة في كل مكان. ولا يقتصر الاعلام على تكريس تلك الذهنية بين شعوب العالم الغني. وانما الاخطر ان يكرس الاعلام ثقافة الغفلة بين شعوب العوالم المفقرة بالهائها عما يحيق بها. فالاعلام الغربي وبعض القنوات الفضائية العربية المشبوهة، يلوحان امام اعين شعوب المجتمعات المفقرة بسرديات وقضايا انصرافية بشأن مخاطر ملفقة لخلق مناخ فكري زائف لا علاقة له بما يحاك لتلك الشعوب. وبالمقابل تجلس اسرائيل وهيلاري كلينــــتون وقد اسبـــلتا اجفانهما ببراءة الحمــــارة في نكتـــــة بيرنى منذ سنين في 'روز اليوسف' او 'صباح الخير' لا اذكر. تجلسان والجدل دائر حول التطبيع. ويلاحق من طبع علنا وخفية الجنوبيين بالتبكيت ولم يكلف اي منهم نفسه زيارة الجنوب يوما، ما خلا رقصة صلاح سالم (عضو مجلس قيادة الثورة في مصر) في ادغال الجنوب منذ مايشارف 40 عاما.

تعالق يسر تقسيم السودان وعنصرية العرب:
تم تقسيم السودان 9 يوليو 2011 ولا ينتهى الامر هكذا فالخارجية الامريكية تتوعد بان السودان سيواجه عزلة دولية متنامية جراء احداث أبيي وجنوب كردفان. ورغم ان أهمية ابيي الحدودية لا تعود للنفط الا بقدر ما يختزل  الاعلام الغربي-بتبسيطية مفعمة بسوء القصد كعهده- الحقيقة ويزيف واقع  المنطقة وحقوق سكانها وتاريخهم-فابار النفط  المتاخمة للابيي ادرجتها اتفاقية لاهاي Final Award in Abyei Arbitration 22 Jul 2009   خارج ابيي باكرا. سوى ان ما يشكل اهمية ابيي لطرفي القبائل التى تتعايش فى ابيي وولاية جنوب كردفان-ان الاخيرة عبارة عن سودان مصغر اذ تضم قبائل واثنيات السودان وتضاريسه المختلفة. ويشمل امتداد الولاية الجنوبي منطقة أبيي- وهى منطقة تماس الجنوب والشمال تضم قبائل النوبة وبعض القبائل الرعوية الأفريقية والعربية..والنوبا  ابناء عمومة النوبة الشمالية اصل الحضارة الوادي نيلية فبينهما قياسات عدة. ومعظم  قبيلة المسيرية العربية الشمالية انصار حزب الامة ورثهم الانقاذ فبات لهم علي السلطة القائمة حق الدفاع عن مصالح المسيرية القبلية البدوية المترحلة على اطراف التماس بين الشمال والجنوب عند ولاية الوحدة وابيي واويل. وقبائل العرب الرحل السودانية من اقدم  القبائل البدوية فى العالم. فقبيلة البجا على طول ساحل البحر الاحمر لها  تاريخ طويل قديم يتصل باصل ونشوء الدولة المركزية الخراجية في وادي النيل الاسراتى الجنوبي والشمالي  مما كتبت فيه بحثا قديما. ويعتبر المسيرية,حوازمة من أولاد عطية بن راشد بن الجهيد وينتسبون الى جهينة ومعظمهم ينتسب الى جنيد بن احمد بن بابكر ابن العباس. ومعظم السودايين ينسبون أنفسهم للعباس (!) ولكل اسرة سودانية قديمة شجرة تمتد من العباس عبر انساب طويلة كرسها الانجليز بدراسات تأصيلية كالسرديات الموصوفة.

والمسيرية من الترانسهيومانس Transhumance وتترحل صيفا وشتاءا وراء المرعي والمسيل على مر التاريخ الا انها مع ذلك ليست كذلك باطلاق اذ  يتزاوج المسيرية كقبائل غرب السودان من الفور وغيرهم مع غيرهم من المستقرين فيتبادلون الاعتماد والتكافل. الا ان الصراع حول المرعى والمسيل يخلق شرط التشادد الدوري او المنوالي. وتمر تلك الاحداث مع كل موسم  بلا مغبة كبرى مما وعينا نحن عليه غارات موسمية بين الرزيقات والمسيرية مثلا منذ الصغر. وللمسيرية ثروة حيوانية هائلة تسهم فى الناتج القومي الاجمالي على نحو معتبر. ويقال ان اهتمام جنوب السودان بابيي راجع لبعض زعماء الجنوب حيث يسعى الاخيرون للاحتفاظ بابيي كونهم جاؤوا منها. وقياسا ضمت ابيي في مسودة الدستور المؤقت لجمهورية جنوب السودان. ويعتبر بعض الجنوبيين ان ذلك الاستباق خلق توقا غير مؤسس بين الجنوبيين للاحتفاظ بابيي ويتخوف البعض الاخر من مغبة ذلك الاستباق الماثلة وربما اللاحقة بعد تقسيم السودان فى 9 يوليو 2011.

عنصرية بعض العرب:
فيما باتت ابيي محور الكلام عن تقسيم السودان ومغبته بين كل من يريد ان يدلي بدلوه تبرئة للذمة، تقف ابيي اليوم جرحا فاغرا فاه وقد حدث الشر كل الشر ولم يتنبه العرب. ذلك ان اسم السودان بقي غائبا لم يتداوله معظمهم حتى فوات الاوان. وقياسا فلا يلتفت الى السودان ولا يقارن بغيره. والسودانيون الذين يذري بهم معظم العرب فلا يذكرونهم، هم سكان اقدم المجتمعات العربية. ويعود تاريخ المجتمع السوداني المكتوب الى 200 الف عام قبل الميلاد- مما اكون قد كررت بمغبة الاملال. وهم الذين بادروا بالانتفاضات الشعبية الحديثة بعدما جففت منابع التنظيم والتفكير الشعبي العربي من توفر شرط الانتفاض على حكام ارذال من اعراب الشتات. وكانت معظم النخب العربية قد خذلت الشعوب العربية جريا وراء الارتزاق فيما ضمر دور المثقفين وقد صورتهم الدولة من ينابيع الالهام والعمل الشعبي واخذت بتلابيب الشرفاء منهم، واوقعت ببعضهم وما تبرح توقع بحقهم بما يشارف الحكم بالإعدام المدني. وبالمقابل ابدع النخب الانتهاز والارتزاق والانبطاح للمنظمات الغربية المشبوهة، ولأثرياء العرب اكثر مما اجادوا الفكر والثقافة. وحيث اصبح لكل شيء ثمن، لم تعد لشيء قيمة، وقد باتت بعض الذمم تباع وتشترى ببطاقة سفر.

وقياسا لم ينتفض شعب عربي منذ ثورة 1919 والثورة الفلسطينية 1936 فالانتفاضتين الفلسطينيتن اللتان  تركتا فى عراء ويتم التضامن العربي - لم ينتفض سوى شباب مصر وبعض المجتمعات العربية عزلا من تضامن الطبقات الوسيطة والمتوسطة. الا ان السودانيين انتفضوا في ستينات القرن العشرين ومنتصف الثمانينات وهم الذين خرجوا يهتفون ضد البنك الدولي فى سبيعنات القرن العشرين باكرا،  قبل ان يعرف بعض المثقفين العرب ماهو البنك الدولي. هذا وحين تقارن انجازات المرأة العربية لا تذكر المرأة السودانية من حيث اول نائبة فى البرلمان، وأول قاض، وحق الاجر المتساوي للعمل المتساوي مما حققت فيه السودانية سبقا  تاريخيا باكرا. الا ان احدا لا يعلم ولا يريد ان يعلم. وكان عربي قد سأل- و قد لمح سودانية على التلفاز سوداني – سال سوادنيا يجالسه: "هادولي نسوانكم"؟ فرد السوداني بالإيجاب ليتحسر العربي على السوداني قائلا:

"الله يكون فى عونكم".

ولم يتعين لذلك العربي وغيره التعرف على السودانيات والسودانيين وهم اللذين قال فيهم اهم الشعراء العرب وغير العرب ما لم يقولونه فيمن عداهم. فقد قال نزار قباني فى رحلته الثانية للسودان:

«ها انا مرة اخرى في السودان فهل يمكنني ان اصرخ هنا كما اشاء. وانزف كما اشاء، انا اعرف السودان جيدا واعرف السودانيين جيدا، واعرف ان صدروهم كعادتهم مفتوحة للامطار وللريح وللبرق والرعد والحرية. ومن يدري ربما اشعل لي  السودان قناديل الامل وارجع الي حبي الضائع وحبيتي التى ليس لها ارض او عنوان» الاعمال النثرية الكاملة:300-4.

 وقال ناظم حكمت :

"السودانيون يتمتعون بجمال خارق انهم منقوشون فى ارقي انواع الاخشاب الابانوسية .. أعرف شاعرة سودانية، انها من ملكات جمال العالم"(الرسالة الثالثة). ولا يؤخد عن كاتب سوداني ولا يشار الى فكره او طروحاته وان اخذ فدون ذكر اسمه هكذا عيانا بيانا فسرقة حق السودانيين حلال على الوقحاء منا. ولا يستهين الذين يطلق عليهم النخب وحدهم بالسودان. فقد بقيت مصر الدولة - حتى افاقت بعد ربيع العرب لتستعيد جذورها الافريقية - بقيت تستهين بالسودان الا بقدر ما تخترق ثوراته الشعبية و-أو تخلق شرط الانقلابات العسكرية  او تسارع الى التماهي مع الانقلابات العسكرية كون الاخيرة تيسر التعامل مع أي حكومة. وكانت مصر قد باتت تنويعا على ما اسمته الامم المتحدة فى سبعينات القرن العشرين بالدولة الاستعمارية الاقليمية . power of many regional states.' (Shaw, 2001a) 'The Quasi-Imperial State. وفي تغييب وغياب مصر تتبادل هذا الدور اليوم كل من السعودية وقطر.

على كل حال لم يهتم بالسودان وقتها-و قد ترك امره للسفارة المصرية - سوى قلة نادرة من ناحية ومن ناحية اخرى تحين التواقون لتلميع ذواتهم بادعاء الاهتمام بالسودان متباهين بلقاء كبير او وزير سوداني الامر الذي لا يعنى للسودانيين شيئا. فلم يكن كبار السودانيين يتعالون او يتباعدون ككبار العرب. فكلهم قريب اوجار او زميل دراسة او حتى ابن قبيلة. لم تنشأ ظاهرة تباعد الحكام الا مع حلول الانظمة العسكرية والاسلام السياسي مما خلق المسافات الاجتماعية ومواكب الموتوسيكلات والحرس.

ويتجرع العرب اليوم مغبة اهمالهم تجربة السودان، وكان الاولي ألا يقع كثير مما وقع من هزائم العرب لو اننا تجاوزنا عنصرية معظم النخب وبعض المثقفين العرب. فالشعوب العربية متسامحة مع بعضها ولا اعتقدها تتعامل مع بعضها مثلما تفعل النخب التي لا تعرف من المثقفين والكتاب السودانيين غير الطيب الصالح واسمين اخرين وحسب. ولم يكتب عن السودانيين سوى الاصدقاء رجاء النقاش رحمه الله وصبري حافظ وحسين عبد الرازق وفريدة النقاش وحسين شعلان وربما بضعة اخرين. لماذا؟ علي بعضكم ان يتفكر ويراجع نفسه ويعتذر لنفسه.

ما هو آت تباعا فلنتحسس رؤوسنا:
ازعم ان السودان كان باكرا بمثابة خارطة الطريق للشرق الاوسط الكبير، ولم يتنبه كثيرون للأسف الشديد. فان كرس الاسلام السياسي حكم الشريعة وحاصر السودان متعدد الثقافات والاعراق في كل ما هو عربي وبالتالي مسلم، وعرب (بفتح وتشديد الراء) كل مسلم فلم يعد ثمة مكان ذكر او ينسى لغير العرب المسلمين او المسلمين المعربين. وقد سهل ذلك تقسيم السودان الى عرب مسلمين وغير عرب وغير مسلمين. ولم ينفك اسلام بعض الاحزاب السياسية او احزاب الاسلام السياسي ان بات يشارف القومية على غرار يهودية صهاينة اسرائيل-المستوطنين من المهاجرين الانتهازيين الاقتصاديين اكثر منهم اليهود حقا. وقياسا فقد يحق ومن ثم حق لكل قومية ان تدعى لها دولة بهذا الوصف. ويترى هذا السيناريو فى المجتمع العربي تباعا. فان غدى شمال مصر مسلما تغلب عليه السلفية- الوهابية-بضيق الامر بالأقباط فيصبح لزاما خلق دولة للأقباط في الوسط. وان تقسم مصر بهذا الوصف يصبح منطقيا ان تكون دولة للنوبا فى الجنوب وقد ادعوا لهم سردية تتنوع على سردية أعراب الشتات وهلم جرا فى كل مكان تحت رايات التحرير وديمقراطية المحافظين الجدد.

و يقول الجنرال  والزلي كلارك Wesley Clerk القائد الاعلى لقوات حلف الناتو ان خارطة الطريق-التي يضعها البنتاجون للحملات الامريكية العسكرية الماثلة تحت الوية ما يسمى حماية المدنيين وغيرها من اختراق المجتمعات العربية وأحابيل الربيع العربي- يقول ان حملات الناتو تتخذ لها مسارح عمليات تؤلف خطة الخمس سنوات المقبلة وتشمل سبع دول. وكانت تلك الخطة قد بدأت بالصومال فالعراق والسودان ثم ليبيا وتستهدف سوريا تباعا فلبنان الى ايران. وبإمعان النظر فان حلقات هذا السيناريو المسمى احيانا ربيع العرب، كانت قد بدأت تباعا بربيع أمريكي تلاه ربيع اوربي جهنمي مريب.

الربيع الأمريكي سفر تكوين الربيع العربي:
ازعم ان الازمة المالية الماثلة منذ صيف 2007 وتباعا كانت قد خلقت شرط ربيع غربي بالمعنى المجازي. فقد استقطبت الازمة المجتمعات الغنية بصورة غير مسبوقة بين اقليات غنية بصورة فاحشة وأغلبيات مفقرة على نحو غير مسبوق. وكان مشروع فرش خلفية من القوانين والتشريعات والموانع والمحاذير القانونية والفكرية والثقافية والتنظيمية غير المعلنة وبصورة واضحة للكثيرين قد سبقت ذلك الاستقطاب  العنيف ومهدت له باكرا, وقياسا لم يعد واردا للغالبيات من الناس العاديين وقد اصحبت فوجدت نفسها مفقرة في المجتمعات الغنية بأي جهة تذكر او تنسى فى مواجهة هجمة اغنياء العالم على مقدرات الناس العاديين وحياتهم واعمالهم وعقارهم واسلوب حياتهم الذى كانوا قد وعدوا به، وكانوا قد اوهموا انه موفر لهم ومن حقهم المقطوع به على من عداهم من شعوب الارض. وعليه لم يعد امام أغلبيات الناس العاديين فى المجتمعات الغنية سوى الخروج الى الشارع مطالبين بنهاية الرأسمالية وشوارع المال والاقتصاد الحر والاسواق الحرة للأقوياء، خصما على من عداهم وينادون فوق كل شيء بنهاية سياسات العنف والحرب والتسلح. وقد استهدفت تلك الحركات جماعات بعينها من اعراب الشتات. ذلك انه حيث يحقق مشروع الناتو المذكور مكونا اساسيا لأجندة المحافظين الجدد حسب خطاب المعادين للسامية فى كل مكان فقد اتهم المعادون  للسامية  اليهود بانهم اودوا بالأعمال الكبرى- ويقصدون بذلك المشروع القومي والدولة القومية-فى القرن التاسع عشر واخترقوا الشيوعية فى القرن العشرين.

ويقول باري روبينBarry Rubin  بان لعبة او خدعة او حركات المحافظين الجدد الحالية تعبر عن نفسها فى ان الجماعات التى تقوم بها هى نفس الجماعات التى تقف وراء التدخل خصما على المشاريع المتصلة بالحياة العامة لبعض الشعوب على مر الزمان. ويؤكد باري ان الحركة الحالية التى تقودها طائفة معينة من اليهود اعرفهم باعراب الشتات لم  تكن لصالح  الشعب الامريكى وانما من اجل مصلحة اليهود واسرائيل(1). وقد استخدمت مفردة المحافظين الجدد في وقت  ما على سبيل نقد المنادين بالليبرالية الامريكية الحديثة American Modern Liberalism فيما طوح المحافظون الجدد الى اقسي اليمين حتى شارفوا التطرف  فى توريط الادارات الامريكية بخاصة 41 و43 فى سياسات خارجية وداخلية مدمرة, ويذكرك المحافظون الجد في ذلك وخلافه بالخوارج السياسيين مع العباسيين واواخر الاندلس الخ.(2)

وحيث يعرف المحافظون الجدد انفسهم بانهم اتباع فلسفة سياسية Political Philosophy فقد نشأت حركة المحافظين الجدد بهذا الوصف فى الولايات المتحدة وتدعى انها تساند قوة امريكا الاقتصادية والعسكرية من اجل  نشر الليبرالية والديمقراطية وحقوق الانسان فى المجتمعات الاخري. ويدعي المحافظون الجدد تكاذبا-انهم عكس المحافظين التقليديين Traditional Conservatives لا يرون غضاضة فى دولة الرفاهة فى حين يشجعون حرية السوق. وتزيد هذه المغالطة مع الاعتراف بفشل النموذد الامريكى للتنمية على مصادرة على مطلوب دولة الرفاهة حقا. فهم يحجمون عن ذكر تعالق حرية السوق والازمة المالية الماثلة منذ نهاية العقد الاول للالفية الثالثة. وقد اعترف نبي او كبير عرابي الماليين ألان جرينسبان Alan Greenspan  محافظ البنك الفيدرالى الامريكي بفشل اقتصاد حرية السوق دون ان يذكر ان الاخير يتمأسس فوق نموذج التنمية الأمريكي. وقد وقف جرينسبان الخميس 8 ابريل 2010 امام لجنة تحقيق حول دوره في تكريس شروط التسونامى المالي أي الازمة المالية التي حاقت بالعالم اجمع منذ صيف 2007 وقد بقيت ماثلة حتى صيف 2010.

المهم فورا كان مايكل هارينجتون  Michael Harrington الديمقراطي الاشتراكي الامريكي قد نحت مفردة المحافظ الجديد في 1973. فى مجلة العصيان| Dissent Magazine. فى مقال بخصوص سياسات الرفاهة Welfare policies. ويقول أي جي ديون E.J. Dionne ان حركة المحافظين الجدد كانت مدفوعة ابان بزوغها بفكرة ان الليبرالية قد فشلت ولم تعد تدري الى اين هي سائرة او بما تتحدث به. ورغم تسترهم فقد باتت مفردة المحافظين الجدد موضوع تغطية اعلامية متزايدة على عهد الادارة الامريكية 43 تحت جورج ووكر بوش وكانت تركز اكثر ما تركز على تأثير المحافظين الجدد على سياسة امريكا الخارجية فيما يتصل خاصة بما سمى تعاليم بوش Bush Doctrine مما كان قد بلغ مداه فى اجتياح العراق. ولعل أخطر ما ألم بالعالم إزاء سياسة امريكا المحافظين الجدد الداخلية والخارجية خاصة هو اتصال سيناريو اجتياح العالم قاطبة في المقياس المدرج بمشروع دمقرطة فضاءات أمريكا بدءا بالمنطقة العربية وافريقيا بمعرفة من يسموا بالدول شبه الاستعمارية  Quasi-imperial كمصر والسعودية متبوعة بشذرات فتحت ذراعيها او فخذيها للقواعد العسكرية مقابل فتات امجاد توسعية متوهمة في المنطقة العربية على غرار حركات البابك والقرامطة و الزط والخزر.  

المحافظاتية  Conservatismوتحوراتها :
قد يحتفظ معظمنا برأى مسبق في المحافظين وتنويعاتهم وتحوراتهم بالاحرى. ويعتقد البعض ان التورى Tory  والويجز Wigs  والمحافظين شئ واحد. ومن تنويعاتهم الجمهوريين الامريكان والاحزاب المسيحية الاوربية. ويدعى المحافظون التعين على المحافظة-انتقائيا غالبا- وعلى الظواهر التى تعبر عنه. وقياس فانهم يعيدون انتاج المحتمع والظواهر المواتية للمشروع المحافظ بانلظر الى مراحل تطور التشكيلات والطبقات الرأسمالية الحاكمة. وفى مشروع اعادة انتاج تلك والظواهر والتشكيلات تتضطر تنويعات المحافظين الى تزويق تلك التشكيلات والطواهر فتطلق عليها ما قد ييسر عمليات وراثة السلطة. وازعم ان التزويق  Euphemismوكان قد بدأ يتمثل فى الخطاب السياسي منذ القرن التاسع عشر على يدى المفكرين المحافظين المتأخرين. وازعم ان التزويق تنويع على المجاز، وربما الكناية مما تعين عليه الخوارج والمعتزلة في تمرير الكلام، فبات الكلام يقول غير ما يعنيه تماما، مثلما كان من قول المحكمة بين على ومعاوية بالبيعة والاختيار فكشفهم علي واصفا اياها بـ«قولة حق اريد بها باطل» مما اناقش بعضه في مكان اخر.

المهم فورا باتت معظم احزاب اليمين واليسار رهينة للرأسمالية وبخاصة المالية، فلم يعد يهم كثيرا أي "الحزبين الكبيرين" يصل الى السلطة. ذلك انه ما بين جورج ووكر بوش وباراك اوباما وبين تونى بلير ومارجريت ثاتشر وبين غردون براون وديفيد كاميرون محض تفاضيل تحييدها لغة ممفصلة وخطاب مهمته تمرير السياسات المواتية للمراكمة المالية اكثر من اى شئ اخر خصما على اغلبيات المتنجين للفائض. وتتفاقم تلك الحالة تباعا كما يلاحظ الناس فى كل مكان مع انتشار الوعي وتناقص الموارد وتكريس الثورة فى ايد اقل فاقل ومع الازمات التى جائت لتبقى طويلا. ويصدر المحافظون عن جملة مفكرين اهمهم اصحاب نظرية او سياسة اللاكمال او الخلل Politics of Imperfection . وكان معظمهم يؤمن بعدم كمال العامة وينكر عليهم القدرة على الفهم. من مفكري المحافظانية ايضا دعاة التنوير مثل ريتشارد هوكر  Hooker (1554-1600) وديفيد هيوم (1711-1776) ومنهم دعاة حالتجارة  الحرة ادم سميث (1723-1790) ومنهم دعاة افضلية تقليض هوامش الدولة-او العكس احيانا حسب التصاريف والظروف ومصلحة المحافظين بوصف الاخيرين اصحاب مصالح مالية غالبا فهم من كبار حملة الايهم واعضاء مجالس ادارة البنوك والشركات الكبرى الخ. ولا يرى المحافظون جدوى فى المجتمع  المدنى فيتعيونون على  محاصرة فضائه. ومن مفكري المحافظين الاوائل ادمون بيرك Burke (1729-1797)  ومنهم الاميريكى فريدريك حايكHayek  (1899-1992). ويتصل المحافظون البريطانيون ببينجامين ديزرائيلي 1801-1881. فقد كان هو المسئول على عهد الملكة فيكتوريا عن انشاء وتكريس ظاهرة حزب المحافظين فى 1846 من قلب عباءة ما كان يسمى بالتورى Tory او-و الويجز او ذوى الباروكات  Whigs كما كان من اهم الاباء الاوائل لحرية السوق. وقد تحولت حرية السوق الى عقيدة منذ حايك عبورا بديزرائيلى وصولا الى فريدمان الخ. ومن المهم تذكر ان ديرزائيلى الذى سيطر على السلطة كرئيس وزراء على مدى اكثر من 3 عقود كان قد تعين على سن قوانين عديدة كانت حرية بان تقيض بداية نهاية البرجوازية الصناعية لحساب الرأسمالية ما بعد الصناعية.

ويقول ميخائيل تشودوفسكى  Michel Chossudovsky بكتابه الحرب العالمية الثالثة - تحت الطبع- ان كارثة فوكوشيما اليابانية، وحملة الدفاع عن المدنيين الليبيين، قد تبدوان غير متعالقين الا انهما تمثلان أهمية قصوى لفهم كل من المسألة النووية، وحرب الولايات المتحدة وحلف الناتو المتوسعة تباعا على نحو غير مسبوق. وقد عبرت عن نفسها بالانقضاض على ليبيا. فقد ترادف الاشعاع الذري الناتج عن كارثة فوكشيما وبداية حرب اقليمية مسرحها العسكرى شمال افريقيا بذريعة العمل الانساني بتفويض من مجلس الامن لحماية المدنيين. ان العالم يقف عند مفترق طرق  خطير جدا حيث كشفت كارثة فوكوشيما- وقد وصفت بانها حربا نووية بلا حرب - المخاطر التي تحدق بالعالم  جراء الاشعاع الذري كما كشفت العلاقة -التى احاطها الصمت- بين صناعة الطاقة النووية والحرب النووية. فالاولى- وهي ليست نشاطا اقتصاديا مدنيا، بل مكون حيوي لصناعة السلاح النووي التي يسيطر عليها مقاولو صناعة الدفاع. فالمصالح الرأسمالية القوية تقف وراء صناعة الطافة النووية وصناعة الاسلحة النووية فكلاهما يتبالان الاعتماد. وقد تتدافع الوكالات الحكومية اليابانية حتى لا تنكشف التسهيلات النووية التي كانت مخبؤة داخل محطات فوكشيما الخمس فيما يجأر الاعلام متواطئا بان الخطر تم احتوائه والحقيقة غير ذلك. فسيناريو الحرب التى يشنها البنتاجون حربا عالمية ثالثة تنتشر معها قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو فى اقاليم متعددة من العالم بصورة متزامنة ويخول برنامج عسكرة العالم للولايات المتحدة قيادة قوات عسكرية موحدة لإشعال حروب متزامنة تقسم الكرة الارضية الى مناطق جغرافية قتالية تحت امرة البنتاجون-الصهيونية العالمية اول مسارحها البلاد العربية.

 

الهوامش والمراجع:
(1) هذاالجزء فيما خلا بعض التعليقات من شبكة المعلومات انظر(ي) لمزيد من التفاصيلNeo-conservatism: Wikipedia: Free Wikipedia: on the internet. 

(2) كان ايرفين كريستولKristol  اول من ادعى المفردة ويعتبر مؤسس حركة المحافظين الجدد وقد كتب كريستول اراءه حول المحافظاتية  الجديدة Neo-conservatism  فى 1979 فى مقال بعنوان اعترافات محافظ جديد حقيقي  "Confessions of a True, Self-Confessed 'Neoconservative.'"الا ان افكاره كانت قد راحت منذ خمسينات القرن العشرين تتحور تباعا وبخاصة عندما اسس وحرر مجلة الانكونترEncounter  وكان نورمان بودهوريتس Norman Podhoretz بدوره من مصارد تلك الحركة وكان محرر الكومنتري Commentary من 1960 الى 1982 وكان يسمى نفسه محافظ جديد فى نيويورك تايمز مجازين  New York Times Magazine في مقال بعنوان هلع محافظ جديد جراء سياسة رونالد ريجان الخارجية. وقد اسس وليام كريستول ابن ايرفين كريستول مشروع القرن الامريكى الجديد.Project for the New American Century