الثقافة والسلاح قيم استعمالية لا تنتهي
مبتدأ القول* لأمةٍ تحت الاستهداف الشامل الممتد إلى اللحظة وابعد، إن الحد الفاصل بين النصر والهزيمة أمضى من حد السيف، ولا يعتمد على السلاح فقط بل على سلاح السلاح: ضبط الأعصاب لحظة الاشتباك ودقة التهديف حتى لو كان السلاح كلمة. حين تفيض الهجمة على الأمة إحفر خندقك واقبض على عنق عدوك الذي بجانبك. هذا مبتدأ المقاومة. نحن في حضرةِ كلمة وسلاح هو المثقف المشتبك الذي يولد مع كل عصر ومرحلة. "هذا الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي" (اسطورة جلجامش). دعونا نرى ماذا رأى دون أن ننسب له النبوة، لكنه نبي أرضيٌ مسلح، نبي ثائر.
إن كان لنا القول أن سلاحنا هو العمل والحب والثورة، فإن فانون قد الهمنا أن المثقف المشتبك والمنشبك بهذه الثلاثية لا يُعجزه العمر فلا يتقاعد، وحين يرحل يتجدد. "في العالم الذي فيه اسافر وأرتحل، فإنني أقوم بخلق لنفسي لا ينتهي ". خلق نفسه طبقيا وأممياً ورحل وفي رحيله واصل خلق نفسه وغيره. فانون أتى ... ولم يمضِ. فتنبهي يا جزائر، يأتيك الفرنسي على ظهر خليج النفط يردد حقد الجنرال اللنبي: "ها قد عدنا يا جزاير". عاد اللنبي إلى أمة دمرها السلاجقة العثمانيون محمولاً على تواطئ بدوٍ – ما قبل الرأسمالية - حلموا بأي نوع من العروش،. يعود اللنبي اليوم مع البُنى نفسها، ثقافتها ما قبل الوطن والدولة، ثقافة المكان، اي مكان، بُنى قبلية تعالج الإنترنيت كما تقود البعير تعيش من اقتصاد تساقط الريع متراكبة على راس المال المالي والشركاتي المعولمَين. غدت جزءاً تابعاً من طبقة عالمية مجسدة في الشركات الكبرى وراس المال المصرفي تنير لراسمالها الطريق نخب مثقفة معولمة في خلفيتها التثقيفية لبراليون متخارجون متغربنين، وصهاينة عرباً وهجريون يوالون المحافظية الجديدة.
من هو فانون؟
اقلقنا عشاق تعدد وتناسل الهويات في قراءة هوية فرانز فانون. لكن سؤال الهوية لا ينطبق على من تجاوز الهويات لا سيما في لحظة تصاغرها إلى الفردانية المطلقة، من بدأ كإنسان وانتهى كأممي. كم يُشاغلنا حِرَفييو تناسل الهويات في هذا العصر كي يصلوا بنا إلى أن كل فرد هو هوية تهيم منفلتة في فضاء الإنترنيت بينما يعرف راس المال هويته تماماً حتى وهو ينتقل إلى الاقتصاد الجديد والمكون المعلوماتي للاقتصاد محاولاً تعميتنا عن خطابه المخفي عن الربح اللامحدود المتحول عن القيمة الزائدة والمشرعَن له بالملكية الخاصة، هذا هو محركه في التحليل الأخير قبل اللون وقبل الدين وقبل الجغرافيا ولكن بالطبع ليس قبل أو بدون نمط الإنتاج.
في أمميته الأولية افترض فرنسا وطناً فقاتل من أجلها كمثقف مشتبك، وبرؤيته الصافية رأى باكراً احشائها العنصرية، بل رحمها العنصري، ومحْلَها الأخلاقي حتى وهو يقاتل من اجلها. لذا كتب في الفترة التي قضاها في منزل الروائي بول بورجيت (1852-1935) حيث قضى منها حيناً طويلاً في مكتبته القديمة. وكان فانون قد جُرح في ظهره منطقة دووبس قرب مونتبيلادر.كما شارك في معركة الألزاس. وكتب حينها إلى والديه: "إذا لم أعد قط، وإذا ما سمعتم ذات يوم أنني قضيت وأنا اقاتل الأعداء، حاولوا الشعور بالراحة بأية طريقة تستطيعونها ... ولكن لا تستقروا على الاعتقاد بأنني مت دفاعاً عن سبب شريف (...) لا شيىء هنا، لا شيء مطلقاً يبرر قراري المتسرع بتكريس نفسي مدافعاً عن حقوق المزارعين، حينما لا يعير المزارع بالاً للدفاع عن هذه الحقوق". ومنذ تلك التجربة قرر مقارعة فرنسا التي قاده وعيه إلى الفجيعة بها، قرر قتالها في موقع حضورها الثقيل، اقتصاديا وعسكريا واستيطانيا وثقافيا، في الجزائر، متجاوزاً اللون والدين والجغرافيا. لم ينطبع ولم يتطبَّع فانون وقرر تنظيف اسطبلات أوجياس من روث اللبرالية البيضاء.
إذن، فرانز فانون: لن نقل لك : "التطبيع يسري في دمك" ومن بين عديد المثقفين لم تستدخلك الهزيمة بل هزمتها في شتى ميدان حتى بعد رحيلك. في صفوف جبهة التحرير اكتشفت السلاح أكثر وتسلحت بالثقافة أكثر، واكتشف الثقافة والقومية في حقبة المقاومة وفي تمثيل الجزائر في افريقيا اكتشفت الطبقة حتى بين معذبي الأرض، فنظر ت لما هو ابعد منها لتكمل دائرتك الأممية متعجلاً ذلك قبل رحيل عمرٍ بدأ مرتحلاً . زمنك االشخصي القصير مثقل بالوعي وعبىء التجربة ووجعها والاشتباك، فالزمن ليس بامتداده بل باشتداه. وفي الوقت الذي كانت فيه قيادات عديدة في الشيوعية العربية تناصب القومية العربية العداء مأخوذة بأخذ مجتمعات فلاحية إلى الاشتراكية عبر كيانات قُطرية، ومتورطة في الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي كتخليق وتصنيع استعماري وقبلت بمقولة ستالين بأن الأمة العربية ما زالت "أمة في طور التكوين" في الوقت نفسه كان فانون يرسم التقاطع الثوري والمنطقي بين القومية والأممية : "إن وعي الذات/النفس لا يعني إغلاق منافذ التواصل. يعلمنا التفكير الفلسفي ، عكس ذلك، فذلك ضمانتها. فالوعي القومي، الذي ليس هو القومية، هو الشيىء الوحيد الذي يعطينا بُعدا اممياً".
هذه المسألة في علاقة القومية بالأممية /الاشتركية ما تزال عصية على الحل لدى من تستعصي عليهم الرؤية. (لننظر لاحقاً). كتابك معذبوا الأرض، قرآن ثوارها، وصفته بلادة و صلادة أكاديميا الغرب ب "المولود بعد رحيل أبيه" ... يا معلمينا سابقاً وليس اليوم، أبا معذبو الأرض لم يرحل، شبح مشروعه يطوف الأرض اليوم كلها، يجادل حراك الأمة العربية ويقاوم هجمة الثورة المضادة لذبح هذه الأمة مجدداً.
راهنية أدوات فانون:
وبعيداً عن اعتبار مانوية فانون مجرد ثتائية تناظرية يرفض البعض الإقرار بها او التركيز عليها، النور والظلام الأسود والأبيض فهو أفنى نفسه من أجل عالم واحد جديد وحقيقي وهو ما لا يتحقق سوى بالعنف المطلق (ص 37 من معذبو الأرض طبعة سارتر) هو يرى أن السواد والبياض متلازمان، طالما هناك قهر استعماري. ألا نرى الاستعمار اليوم يُستدعى إلى فراش الأمة يُضاجع عباءات النفط وكوفيات الأمراء. يمول طائراته خليج النفط والكمبرادور والريع في غزوة "الهيمنة الثالثة".
أدرك فانون اثر اللغة، بل الخطاب في صياغة الوعي وتجليه عبر الثقافة على شكل شيطنة الأسود. هي اميركا اليوم، تحت جلد كل أبيض عنصري حقيقي. فما غدت لغة فانون قديمة؟ هل نقارن هذا مع سعيد الذي ينتحب على عدم احترام أميركا للعرب؟ حاول الأسود بتصرفه ووولائه ولغته وتأدبه أن يُقبل في المجتمع الأبيض معتقدا ان خطاب الحقوق الذي يزعم مساواة الناس بمعزل عن مظهرهم هو خطاب حقيقي. لكن براعته وطهارته كشفت الخطاب المخفي. التقط كيف يجري إدخال القيم الثقافية في الوعي فيتم استدخالها لتخلق فصاما بين وعي الأسود وجسده. في الخليج يجري استدخال مختلف، ما من خطاب مخفي، هي مقايضة تبادلية، كل الأمة ببقاء العجول الهجرية على الكراسي والحريم.
مثقف فانون ومثقفون آخرون
كتب فانون: "إذا كان يُعرف الإنسان بأعماله، فعلينا القول أن الشيء الأكثر إلحاحاً اليوم على المثقف أن يبني أمته. وإذا كان هذا البناء حقيقة، اي لنقل إذا فسَّر تجلي إرادة الشعب وكشف عن توق الشعوب الإفريقية فإن بناء الأمة لا بد أن يصاحبه بالضرورة اكتشاف وتشجيع قيمٍ كونية. وبمعزل عن الابتعاد عن أمم أخرى، فإن التحرر الوطني هو الذي يقود الأمة كي تلعب دورها في مسرح التاريخ. إن الوعي الأممي ليعيش وينمو في قلب الوعي القومي. وإن هذا البزوغ الثنائي هو في النهاية مصدر الثقافة.(ص 52) تحوي هذه الفقرة من كتابة فانون ترسيمة كاملة لرؤيته كمثقف للأمة وللأممية معاً. ولعل أهم ما فيها حسم العلاقة الجدلية بين الوعي القومي التحرري وبين الأممية. وهذه مسألة تفتح على ذلك النقاش الموسع وغير المحسوم بعد فيما يخص رؤية الماركسية للقومية. وهي الرؤية التي تعاني من قراءة قاصرة معاقة تعمم تحليل ماركس للقومية في أوروبا في عصر الاستعمار على مطلق المسألة القومية عالمياً.
لو فقد فانون راهنيته في كل ما كتب، فإن راهنية الثقافة والسلاح تكفيانه لأنهما كما التناقض، بل لأنهما أدوات حل التناقض، لا تنتهيان. ربما لم يقرأ فانون تراث غرامشي الذي أُحيي بعد رحيل فانون، لكنه تقاطع مع المثقف العضوي ليكون فانون المثقف العضوي والمشتبك لمعذبي الأرض الذين ما زالوا يتجددون على يد راس المال لمختلف الطبقات الشعبية على صعيد عالمي. ارتكز فانون على الثقافة لكنه ليس ثقافويا بحتاً. التقط القوة الرمزية للثقافة، قدرتها على الخلق والهيمنة لكنه رآها في حقيقتها واصلها المجتمعي، في الأمة منبعها ومجسِّدها في وجود الأمة وحضورها في التاريخ. وابعد، فقد حفر عِبر الفعل الثوري في جوهرها ليكتشف أن الثقافة كالأمة، اي في طبقات، فركَّز طبقاً لموقعه في الثورة الجزائرية على الفلاحين الذين يختزنون ثقافة الأمة بعكس التشوه المديني في بلدان المحيط، وهكذا كانت الصين وكوبا وفيتنام ولاحقا جنوب اليمن.
تمرد على الهيمنة الأولى، هيمنة الثقافة البرجوازية الفرنسية البيضاء والعنصرية لصالح الهيمنة الضد برجوازية، هيمنة الطبقات الشعبية وخاصة في المحيط فنقل غرامشي إلى المحيط، ليخرج من جسده الثوري جرثومة المركزانية الأوروبية، كيف لا وغرامشي لم يتحدث عن بلدان المحيط، فلم يكن لينين هكذا. لا يستطيع مثقف فانون أن يكون شوفينيا بل ولا يبقى قومياً، هل هذا لأنه تطهر بالسلاح فطهر السلاح، أم لأنه تسلح بوعي الطبقات الشعبية؟ إنه انشباك الوعي والبندقية والفقراء، انشباك لم يتفكك. كيف لا، حين لم يعد الوعي إلى جانب السلاح ماتت الإشتركية المحققة. انطبع فانون بكثير من سارتر، وانطبع به سارتر فقدَّم لكتابه وأصدره. كان عمل سارتر مثابة اعتذار أبيض للنبي الأسود. اعتذار فيلسوف أدرك وحشية الأبيض الراسمالي، لكنه سارتر عجز عن اقتلاع ذلك الجذر الصهيوني من داخله، اليس الذي كتب: "إنه لن يكون هناك فرنسي يعيش في أمان طالما كان هناك يهودي يعيش في إسرائيل أو في أي مكان في العالم لا يشعر بالأمان". فأي نفاق للمؤمنين المستوطنين، الذين يُعدُّون لمذبحة مجدو، من فيلسوف ملحد! لو طلب الأمان لليهود خارج المستوطنة البيضاء في فلسطين لكان في الأمر قولاً مختلفاً. وهكذا أبقانا الفيلسوف الأبيض الذي تجمَّل زُلفى باللون الأسود ابقانا نحن العرب والفلسطينيين آخر معذبي الأرض. هل اتكأ برنارد هنري ليفي على هذا الجزء من تراث سارتر في حقبة العولمة؟
تجاوز فانون وهو المثقف المسلح بالوعي تجاوز مثقف إدوارد سعيد "المثقف الإنساني". مثقف إدوارد سعيد كان علانية ضد الكفاح المسلح في وطنه فلسطين حيث الاستيطان الأبيض ذبح وطرد أهلها وما زال يدير حملة اقتلاع نهائية اوسع بكثير من زعم إيلان بابيه انه تطهير عرقي، فهو طرد متواصل وممتد في الزمان والمكان. شتان بين المثقف المسلح (فانون الجزائري فالأممي) والمثقف المراوغ (سعيد الفلسطيني-الأميركي) هذا مركز تناقض سعيد رغم الحالة الاستيطانية البيضاء نفسها في الجزائر وفلسطين، بل في فلسطين أبشع! وفي حين استبطن فانون شعب الجزائر المعذب والمناضل استبطن سعيداً ثقافة اليهودي المراوغ أدورنو الداعي إلى اللاوطن، إلى رؤية الوطن كمكان، كقيمة تبادلية لا استعمالية، بنموذجه اليهودي فقال سعيد : "انا اليهودي الأخير". لكن اليهودي احتل وطناً، وطن سعيد دون ان يدري سعيداً كما يبدو. وهكذا نجح أدورنو في خداع سعيد.
وحسب توصيف سعيد للمثقف بانياً على أدورنو: "المثقف حالة منفى دائم، يراوغ القديم والجديد ببراعة/ لا يستريح في أي مكان، يَحوْل، كما يميل ادورنو للقول، دون أن يُفهم بسهولة ومباشرة" إلى أن ينتهي سعيد بالقول: "أنا آخر مثقف يهودي ... أنا الحواري الحقيقي لأدورنو، انا يهودي- فلسطيني"! وإذا كان مثقف إدوارد سعيد متاثر بمثقف الحسن البصري، (فما أكثر ما يتقلب هذا الحسن البصري - مظفر النواب) ومن ثم بمثقف لوكاتش الذي اعتذر للحزب عن ما اتخذ من موقف، فإن مثقف فانون تمرد كلياً. لعل الأثر الأكثر تأثيرا على فانون قد جاء من إيمي سيزار الذي استطاع أن يشكل أولى حلقات فكر فانون، فسيزار يحتفي بعرقه ولونه، وهو مؤسس حركة الزنوجة التي جاءت ردة فعل على ذالك التمايز العرقي والهيمنة الإمبريالية، وهكذا فقد استمد فانون هذا المنطلق، ولكن هذا لم يلبث أن تطور لاحقا بعد أن تجاوز فانون فكرة ردة الفعل، فالاحتفاء بالزنوجة يعني تأكيد الاختلاف والتمايز التي جاء بها الغربي، مما خلق تحولا فيما بعد عبر تتبع مراحل الكتابة المقاومة لديه. لا شك أن كتابة الفيلسوف سيزار الترانيمية قد سحرت فانون الذي بدا مُريداً لكنه لم يَُنصِّب سيزار شيخاً. فتجاوز المريد "زنوجة" شيخه ومضى ابعد من مختلف الألوان ، وركز على أن وضعية المرء تحددها حالته الاقتصادية وموقعه الاجتماعي وحين يجد الجد، يحدده سلاحه.. كيف لا، الا يختبىء الثائر خلف سلاحه ليحقق اذته؟
"ليست لدي الرغبة أن أكون ضحية خداع عالم اسود. يجب أن لا تكون حياتي مكرسة لوضع ميزانية للقيم الزنجية. ليس هناك عالم ابيض، ولا أخلاقيات بيضاء ولا حتى مثقفاً أبيض. هناك في كل جزء من العالم رجال يبحثون. لست اسيرا للتاريخ. لن ابحث هناك عن معنى لكرامتي. سوف أُذكرِّ نفسي دوماً بأن القفزة العظمى تتأتى من تقديم اختراع الوجود. ففي العالم الذي فيه سافرت، فإنني دوما أخلق نفسي" تمرد فانون المثقف والطبيب النفسي المارتينيكي المولد، وفرنسي التعليم، تمرد على فرنسا وقاتلها في الجزائر. وفي نفس لحظته كان في الجزائر بيير بورديو المثقف الفرنسي تماماً الذي أصر على أن ينحصر المثقف في الأكاديميا مركزاً على تأثير المخزون الثقافي من الأسرة والمدرسة والبيئة على المثقف. وراوغ بورديو بعناد هائل للابتعاد عن الطبقة رغم حضورها فما بالك بالحزب ليكن أعلى ما ركب هو حصان الوقوف مع المحتجين والمضربين والخروج في المظاهرات" بينما كان غرامشي حزبياً حتى العظم، وفانون حزبي يمارس حرب غوار الكلمة وحرب غوار البندقية. في تركيزه كعالم نفس على المخزون الثقافي النفسي المذبوح بالعنصرية لم يُؤخذ فانون بالهيمنة (أسميها الهيمنة الأولى) عند غرامشي بما هي حالة استدخال الطبقات الشعبية لإيديولوجيا السلطة والتي التقطها بورديو ليسميها راس المال الرمزي في محاولة مرتبكة لتجريد راس المال هذا من بعده المادي. أما فانون فجسَّد النفسي كهيمنة وسيطرة إلى حالة كان حمل السلاح علاجها.
يَحضرني هنا الإعجاب الكاريكاتوري القزم للأكاديميا الفلسطينية التي تضع بورديو قرطاً في أذنيها فتزجَّه في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وحتى التنمية، ولا تعبأ بفانون؟ قلق مثقف بورديو الأساسي هو في "كشف ديناميات علاقات القوة في الحياة الاجتماعية" لفهمها وتفسيرها، فهو معني بوعي الفرد والنخبة (تاثيرات فيبر) وليس الطبقة، بينما لدى ماركس لتغييرها، وفانون لقتالها بالسلاح. يجادل بيورديو أن العمل المبكر للسوسيولوجيين لتغيير وتفسير العالم تغير إلى الحفاظ عليه، كما هو واضح من حياة بورديو. يقترب مثقف هارولد وولبي من مثقف فانون ولا يرتفع إلى مصافِّه. يخلص بيورووي إلى أن وولبي دمج بين الدورين للمثقف بمعنى:
أنه كان مركزاً على حرب الحركة اولا لتفكيك دولة الأبرثايد interpretative
ومن ثم في مشروع إعادة إعمار الدولة في جنوب إفريقيا حرب الموقع Legislative
هنا يصبح مثقفا عضويا للدولة أو حتى تقليديا وبما ان الدولة ليست أداة تنمية ، يكون المثقف قد خدم طبقة وبيروقراط، هذا ما نقرأه اليوم في جنوب إفريقيا وتواطؤ مثقف المؤتمر الوطني الإفريقي حين وصل حزبه السلطة. أما تواطؤ المثقف الفلسطيني فحاصره في التطبيع مع الكيان ومع سلطة تقود التطبيع مع الكيان، وأدت به الغربة والاغتراب إلى تبرير تحويل فلسطين من قيمة استعمالية/وطن، إلى قيمة تبادلية مكان، فبرر مقايضة جزء من فلسطين بجزء آخر من فلسطين متقاسماً وطنه مع العدو. يخلص بيوراووي إلى أن وولبي دمج بين الدورين بمعنى أنه كان مركزاً على حرب الحركة اولا لتفكيك دولة الأبرثايد ومن ثم في مشروع إعادة إعمار الدولة في جنوب إفريقيا. وهو بيوراووي نفسه يرى تداخل المرحلتين بمعنى أن لا واحدة تستثني الأخرى.
ترى هل قرأ وولبي بعض فانون: "وإذا كنا نريد لأنفسنا أن نكون جزائريين فقد بدا لنا جميعاً أن واجبنا هو إما الالتحاق بالمقاومة وإما إعداد أنفسنا لنكون الكوادر المقبلة للدولة ويرى بيورووي: ان وولبي يصر على استقلالية المثقف طالما كان يريد خدمة أهداف سياسية. بدوره ذهب فانون لما هو أبعد من الدولة بعد "الاستقلال" فكان قلقه من دولة البرجوازية المحلية/ الوطنية التي هي تعبير كرتوني عن مرحلة الاستعمار. فانون وفرويد طبيبان وعالمَيْ نفس. تركزت رسالة استقالته 1956 على التناقض بين الدور الاستعماري وبين أخلاقيات العمل النفسي، فماذا أوحى علم النفس لضحايا كل منهما؟ مرضى فرويد افراداً يُعالجون بأن يُقرأوا جنسياً ليعودوا إلى المجتمع اللبرالي أفراداً يتحقق وجودهم بالجنس. إذا ما عولجو. إشكالية مرضى فانون بيئوية مقحمة ، رغم أن كثرة منهم مرضى من الاغتصاب. الا يُحرجنا في اللحظة فانون؟ فالاغتصاب تجدد في أبو غريب وسِرت وبني وليد. حالة مرضى فانون تُعالج بالسياسة بالانخراط في حرب الغوار لإعادة خلق الذات بيد الذات نفسها عبر الجماعة الطبقة الأمة المقاتلة، فيشفى المستعمِر والمستعمَر. فانون الذي اشفى سارتر تجاه الجزائر ولكن سارتر لم يشفى من التضمُّخ ب "إيدز" الصهيونية.
وهكذا، طوَّع فانون علم النفس ليرتكز عليه في تحليل ما هو سياسي واجتماعي ليعالج مرضاه من العلاجات التقليدية .. وانطلاقاً من اقتناعه بأنّ الهيمنة هي العامل الأساس في الاضطرابات النفسيّة، وضع هؤلاء في محيطهم الاجتماعي بدل حجزهم في غرفٍ ضيّقة او على فراش حتى لو كان وثيراً كالفراش القَطَري الذي يستقبل الصهانية. لم تكن طريقة العلاج تلك مجرّد تقدّم علمي، بل موقفاً ينسجم مع إدراك الفيلسوف العميق لمسألة الحريّة وتأثيرها على شعور الإنسان بكرامته. في المقابل، أكّد فانون أنّ المستعمَر لم يخض معارك التحرير إلا عندما أدرك أنّه ندّ للرجل الأبيض وليس حيوانه الأليف. ورأى "الأدب للقتال، أنه يصوغ الوعي القومي ... لأنه الإرادة في التحرر معبرا عنها في الزمان والمكان" (حديث لمؤتمر الكتاب الأفارقة السود 1959). تعبير لافت/ السود. لكنه يذكرني أن هناك أفارقة حنطيين وبيضاً يغتالون في ليبيا اليوم المقاتلين السود وباسم الإسلام الذي حسم اللون منذ أزيد من اربعة عشر قرناً.
ربما أوحى فانون أو اسس لمساهمة هومي بابا في استنطاق التابع، تقديم الدور الذي قامت به الجماعة التابعة في تاريخ الهند ، وليس استنادا إلى الهيمنة الاستعمارية، أو التصور الذي تم تجذيره عبر وجهة نظر البورجوازية الهندية. كتب فانون: "بينما في البداية يدرج المثقف الأصلاني على إنتاج عمله بهدف ان يُقرأ بشكل استثتائي من قبل القامع، سواء بهدف إسعاده أو التعريض به ، إنكاره، عبر وسائل إثنية او ذاتية، فهو الآن يتقدم سريعاً باتجاه التوجه إلى شعبه نفسه. إنه منذ هذه اللحظة تحديداً بوسعنا الحديث عن أدب قومي...وهذا يمكننا وصفه بأنه أدب الصراع بمعنى انه يدعو الشعب كله كي يقاتل من أجل وجوده كأمة" (ص 47 ) هنا قام فانون بتثوير التابع وتسليحه فاشتبك ليكتب الفارق بين المثقف الأكاديمي والمثقف الثوري. أما المثقف الفلسطيني التابع فكرس التبعية بالحماية تطبيع ومفاوضات وتحويل الحياة مقاومة إلى الحياة مفاوضات. لعلها النقطة الأكثر سواداً في تراث محمود درويش الذي كتب: "من يخرج على الشرعية - يقصد قبادة م.ت.ف - يخرج على الإنسانية" ها هي الشرعية تصف العمليات الاستشهادية بالحقيرة!
مثقف فانون، المثقف الفلسطيني، والصهيوني
كتب فانون: "إذا اردنا تتبع أعمال الكتاب الأصلانيين فقد مرت بثلاثة مراحل: الأولى: يقدم فيها الكاتب الأصلاني الإثبات على انه قد تمثل ثقافة قوة الاحتلال ... والمرحلة الثانية نجد ان الكاتب مرتبكا حيث يحاول تذكر ما هوـ والثالثة يتحول لتثوير الشعب" ص 40-41. ربما بدأت الحالة الفلسطينية متقدمة على المرحلتين الأولين لدى فانون، فالأدب المقاوم في فلسطين قبيل 1948 تجلى لدى عبد الرحيم محمود وخليل السكاكيني وإبراهم طوقان. وهو ما تورثه أحمد حسين وراشد حسين كنضال قومي ويساري وبقيا عليه. بينما تمسك به محمود درويش قبيل خروجه الطوعي من فلسطين 1969، لينتهي متواطئاً عبر اتفاق أوسلو الذي تقاسم الوطن مع العدو. وهو التواطؤ الذي كان نموذج تعبيره التعاقدي إميل حبيبي وانتهى إلى استدخال الهزيمة. إذن انطلق أدب المثقف الفلسطيني الملتزم والعروبي من الوجود الموضوعي المعطى للفلسطيني كجزء من الأمة العربية فبدأ مقاوِما. هذا مبتدأ المقاومة الفلسطينية والتي شارك فيها عرب كثيرون منذ عشرينات القرن الماضي.
مع هذه الحقيقة ينسجم فكر فانون: "إننا نعتقد أن الكفاح المنظم الواعي الذي يخوضه شعب من الشعوب لاسترداد سيادة الأمة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن، ليس نجاح الكفاح وحده هو الذي يهب للثقافة قيمة وصدقاً وقوة، بل إن معارك الكفاح نفسها تنمي، في أثناء انطلاقتها، مختلف الاتجاهات الثقافية وتخلق اتجاهات ثقافية جديدة، فالكفاح لا ينيم الثقافة أثناء اندفاعه، وكفاح التحرير لا يرد إلى الثقافة الوطنية قيمها القديمة وأطرها القديمة، ولا يملك ما دام يهدف إلى إعادة تنظيم العلاقات بين البشر إلا أن يبدل الأشكال والمضامين الثقافية للشعب، إن التحرير لا يزيل الاستعمار فحسب، بل يزيل المستعمَر". وهكذا يلتقط فانون حقيقة الصراع بأنه إذا كان هناك خلقاً من طرف فهو خلق للآخر بشكل متبادل. (كتاب: خمس سنوات على الثورة الجزائرية-دار الفارابي 1970)
وهذا يناقض مزاعم إيلان بابيه، وتوافق فيصل دراج معه، حيث يزعم/ يؤصِّل بابيه عن وعي أن "الحركة الصهيونية حركة قومية في التاريخ، لأنها انما وجدت لتخلق شعبا واحدا فإذا بها تخلق شعبين". الادعاء هو أن الحركة الصهيونية هي التي اخترعت الحركة الوطنية، وأن الهوية الفلسطينية أنتجت بالتعرف على الحركة الصهيونية وعبر المستعمر الصهيوني". ليست الصهيونية حركة قومية، هي إيديولوجيا لتخلق حركة قومية. فالقومية تقوم على وجود موضوعي لأمة على أرضها. إن الثقافة المقاوِمة هي توليد ذاتي للأمة المضطَهَدة، هذا ما يبينه فرانس فانون كمثقف ومقاوِم بالسلاح: "ان القتال من أجل الثقافة الوطنية يعني في المقام الأول القتال من اجل تحرير الأمة، هذا حجر الزاوية الذي يجعل بناية الثقافة ممكنة. لا مجال لنضال آخر من اجل الثقافة يمكن ان يتطور بعيدا عن حرب الشعب. فلنأخذ مثالا، إن جميع هؤلاء الرجال والنساء الذين يقاتلون بأيديهم العارية الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ليسوا باي معنى غرباء عن الثقافة القومية للجزائر".
أما عزمي بشارة فيتورط أكثر ليقول: "تعودت ان اراها كحركة استعمارية بذاتها او جوهريا، ولكن من خلال قرءاتي للأدبيات الصهيونية فأنا متأكد انها أكثر تعقيدا من ذلك، فهي تنظر لنفسها كحركة نهضة، كحركة تحرير، ولذلك فإنها في حالة توتر بين تصورها لنفسها وبين ممارساتها". هنا يراوغ بشارة حيث يترك الباب موارباً من حيث موقفه منها، مما يكشف أنه على الأقل لم يعد يراها كحركة استعمارية. لكنه يقطع الشك باليقين حين يدخل الكنيست ويُقسم يمين الولاء للدولة اليهودية، ويرحل مُيمِّماً شطر قّطَر زاعما أنه منفي ليدير هناك، بإشراف غربي راسمالي، مطبخ خلية فكرية دورها اقتلاع التيار العروبي لإحلال الهجريين في الوطن بمجموعه.
المسألة القومية وقومية الطبقتين: الحاكمة والكامنة
بينما هناك تسليم عامٍّ بوجود الأمم وحتى بتصنيع أمم، فالأمة العربية وحدها التي تواجه هجمات متعددة تبدأ وتنتهي من إنكار وجودها وقطع الطريق على وعيها/مشروعها القومي. قلَّة هي التي تُقر بالقومية العربية وكثرة من هذه القلة تُدرجها في عداد الشوفينيات.وليس هذا مجال قراءة تاريخية لوجود الأمم القديمة والممتدة، لا التي طواها التاريخ او التي بلا تاريخ، اي الأمم السابقة بزمن عميق على المرحلة الرأسمالية في تجليها الغربي. وإذا ما حُصر عصر القوميات، أو بدايته قياساً على نتائج الثورة الصناعية في أوروبا حيث اسمي القرن التاسع عشر عصر القوميات وهو كذلك، بل واساساً عصر تفجر علاقة الرأسماليات الأوروبية استعمارياً إلى المحيط، وهي تسمية سُحبت افتئاتاً على العالم، مع أنها لم تكن سوى الموجة القومية الأولى، بينما كانت الموجة القومية الثانية هي قوميات ثورات حركات التحرر الوطني في بلدان المحيط ضد الاستعمار وخاصة في إفريقيا وهي تفجرت في عصر الإمبريالية وتمتعت بحماية غير مباشرة وأحيانا بحماية ودعم مباشرين من الكتلة الاشتراكية. وبلدان المحيط الجديدة هذه افتقرت غالبا للتطور الراسمالي المناسب فكانت الراسماليات المحيطية (سمير أمين) والقُطريات العربية ومنها الجزائر من بين هذه البلدان. وهذا قرأه فانون بعين ثاقبة ترى للأمام والأبعد، عين زرقاء اليمامة.
قاد انحطاط قوميات الموجة الثانية وكمبردرتها التي توقعها فانون، وتفكك الكتلة الاشتراكية إلى فرصة جديدة لتغوُّل المركز الرأسمالي في حقبة العولمة ليقوم بتصنيع "قوميات" الموجة الثالثة، وغالباً بنقل سياسية "فرَّق تسُد" إلى سياسة تفكيك المحيط وتركيز المركز" بتوليد دويلات لم تتوفر الشروط التاريخية لتوليدها لتكون أدوات عدوانية لأصولها ولصالح المركز الرأسمالي المعولم (وطال هذا التفكيك الوطن العربي والاتحاد السوفييتي واليوغسلافي السابقين). لعل الفارق الأساس بين قوميات الموجة الثانية والثالثة أن الثالثة هي تجميع تصنيعي على يد المركز الرأسمالي المعولم، بينما الثانية هي وجود موضوعي ونضال طبيعي تطور عنه. يقدم لنا فانون هنا رؤية ثورية ثاقبة تستدعي قراءة وضع القومية العربية الحالية على اساسها من جهة وفي تعرضها لأكثر من عدوان من جهة ثانية إذ يربط النهوض القومي بحرب الشعب. لقد خص الاستعمار الوطن العربي بعداء مبكر مستدام، منذ محمد علي وصولاً إلى الناصرية وحتى التحضير لاحتلال سوريا اليوم وتهديد وزير خارجية دويلة قطر للجزائر بأن "دور اغتيالها آتٍ". وفي سياق مقاومة هذا العدوان كان موضع الجزائر وتطوع وانتماء فانون لجبهة التحرير الوطني الجزائرية.
ولكن، اين موقع فكر فانون في هذه المعادلة وقد رحل قبل أن يُهزم الاستعمار الاستيطاني في الجزائر؟ تبلورت رؤية فانون ومن ثم إضاءته في عمله الدبلوماسي في إفريقيا حيث شاهد عياناً بدايات الكمبرادور التي تؤكد أن هذه الطبقة وهي في السلطة مثابة مولود سفاح للإمبريالية. هي التعبير الشكلاني عن القومية. وهي عبر دورها الوظيفي والخدماتي وغير الإنتاجي والفاسد تخون المصالح الحقيقية للطبقات الشعبية التي تختزن القومية الكامنة. ولو سحبنا هذا النموذج على الوطن العربي اليوم لرأينا أنظمة القومية الحاكمة مثابة أدوات للإمبريالية لا تتقيد بالتبعية وحسب، بل تقوم بتصفية المواقع القومية العربية على مستوى الأنظمة والشعوب كذلك. إن الدور الذي تلعبه اليوم جامعة الدول العربية في تصفية الأنظمة العربية ذات التوجهات القومية، وإن كانت ما تزال محكومة بافق قُطري، سوريا والجزائر، كما كانت ليبيا والعراق، وحتى مصر الناصرية، تؤكد هذه الهجمة أن طبقة الكمبرادور التي التقطتها الماوية وركز عليها فانون هي أكثر الطبقات في بلدان المحيط قابلية للخيانة الوطنية، بل الخيانة جوهرها. وبقدر ما التقطت هذه الطبقة مصلحتها فوراً وبدقة، فإن البرجوازية العربية ذات التوجه القومي والإنتاجي قد عجزت عن التقاط ثلاثة تطورات شكَّلت الخطر الفعلي على وجودها إلى حد احتمال تصفيتها جميعاً وهي:
لم تدرك أن وجودها "المستقل" وأحياناً المشاكس كان ممكناً بوجود القطب الآخر الذي حال دون عودة جيوش الاستعمار.
هذا على الصعيد السيادي الوطني، أما على الصعيد الداخلي فقد اعتمدت القوة الأمنية لتثبيت سلطتها، هذا رغم محاولاتها التنموية التي هوجمت وعُرقلت، مما قاد إلى احتجاز تطور اياً منها إلى دولة عربية مركزية لتلعب دورا وحدويا سواء بالبسماركية او غيرها.
قاد فقدان الديمقراطية والتنمية بمفهومها الشعبي الواسع، إلى اختراقات هائلة في جسد هذه الأنظمة. فتكونت إثر ذلك قوىً عديدة من اللبراليين والدين السياسي ومرتدي الماركسية والحثالات والعوام، ليكونوا سلاح الراسمالية المعولمة في إعادة احتلال هذه البلدان (العراق وليبيا) عبر عدوان الهيمنة الثالثة.
وإذ لم تتدارك هذه الدول تلك التطورات، ولم تردف الإدراك بأن المركز الإمبريالي ما زال هو الذي يحكم العالم بغض النظر عن أزماته العديدة وخاصة الأزمة الاقتصادية المالية الجارية، فإنها إن لم تشتغل جدياً على مشروع الوحدة بما هو المطلب الشعبي اولا وفرصة الحماية الوحيدة ثانيا، فإن هلاكها بدوان الهيمنة الثالثة محتملاً. لقد سقط أكثر من نظام من هذه الأنظمة القومية في التورط في مشروع الهجوم الراسمالي المعولم من المركز وبدور ناشط من الأنظمة الريعية وشارك في غزو أنظمة قومية أخرى (حالة سوريا ضد العراق وها هي سوريا تتعرض لنفس الهجمة ليس من أجل الديمقراطية بل لدورها العروبي والممانع). لقد بات واضحاً أن التسوية ودمج الكيان الصهيوني افشكنازي اندماجا مهيمناً في الوطن العربي لن يكتمل دون تدمير سوريا.
قاد عدم اتحاد النظم القومي من جهة وتورط أنظمة قومية ضد أنظمة أخرى ضمن الغزو الإمبريالي من جهة ثانية إلى عدة إشكالات:
الأول: خرق المبدأ القومي الوحدوي بالمشاركة في ضرب قطر عربي من قبل قطر آخر في ذيل الإمبريالية مما وجه ضربة قاصمة للوعي القومي العربي وقاد إلى خلط بين المسألة القومية كما رآها فانون، وبين دور نظام حكم ذي توجه قومي برجوازي.
تعميد الجامعة العربية لتكون مؤسسة بيد المركز الرأسمالي المعولم ضد الأمة العربية، مقودة هذه المرة بالأنظمة الريعية النفطية التابعة وهي أنظمة ما قبل الثقافة القومية من جهة ومرتبطة براس المال المالي المعولم من جهة ثانية، فاي تشوه!
فتح الطريق لقيام هذا المركز، باحتلال وتصفية دول عربية تحت أغطية الشرعية الدولية، وخيانة الأنظمة العربية.
الانحصار القطري في كل دولة قطرية، وتجسيد الانفكاك عن العمق القومي، وهو الأمر الذي نعاني منه بقوة اليوم. لذا ليس غريباً أن يُقال اليوم " الثورات العربية –الربيع العربي" بينما لا تُرفع في اي قطر منها شعارات قومية، ولا يتم حتى التظاهر مثلا في مصر ضد غزو ليبيا او سوريا! لقد وصل الخرق القُطري عمق وعي الجماهير، فباتت محاصرة في قُطرية عمياء عن العمق القومي، وحالمة بسراب الوحدة الإسلامية، في حين أن معظم قوميات الدول الإسلامية تدافع عن نفسها ووحدة أرضها، وتتذيل للاستعمار وتنخرط في السوق الراسمالي العالمية كتوابع، وتهاجم القومية العربية وبعضها – تركيا تعلن الحرب على سوريا ضمن حلف أورو-أميركي-نفطي صهيوني؟ ألا يحتاج هذا لقراءة معمقة؟
وإذا كنا نسأل فانون عن هذه الصورة سيجيبنا بأنه نادى باكراً بوحدة إفريقيا وليس فقط الوحدة العربية، ووصل بقناعته إلى الأممية. وفي حين تنتهز الأمم الحية لحظة تراخي قبضة الإمبريالية، مثلا الأزمة المالية الاقتصادية الحالية، لتخرج من إسار التبعية، فإن الأنظمة العربية هي بين غائبة عن وعي هذه اللحظة الذهبية او متطوعة متبرعة بأقراطها لإنقاذ اقتصادات الغرب العدو! إنها حالة قوة طرد الفائض لتقوية الغاصب. في هذه الهجمة الموسعة لعب المثقف العربي المتخارج دوراً خطراً ضمن الجيوش الثلاثة لراسمالية حقبة العولمة: جيش الإعلام والجيوش العسكرية واللذين في خدمة جيش راس المال أي الرشكات الكبرى والمصارف. فمقابل مثقف فانون. يقول فانون: "ان القتال من أجل الثقافة الوطنية يعني في المقام الأول القتال من اجل تحرير الأمة، هذا حجر الزاوية الذي يجعل بناية الثقافة ممكنة. لا مجال لنضال آخر من اجل الثقافة يمكن ان يتطور بعيدا عن حرب الشعب. فلنأخذ مثالا، إن جميع هؤلاء الرجال والنساء الذين يقاتلون بأيديهم العارية الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ليسوا باي معنى غرباء عن الثقافة القومية للجزائر" (ص 44)
مقابل هذا المثقف، جرى نخر مثقفين عربا باللبرالية والقطرية وحتى الصهينة مؤكدين قناعتنا بوجود صهاينة عرباً وفلسطينيين يتركز وعظهم ضد القومية العربية لتأكيد التجزئة خدمة للأنظمة التي تعيش على تبعيتها للمركز وحمايته لها. وقد تكون حال المثقفين الفلسطينيين الأكثر دلالة على ذلك حيث لعب مثقفون دور التنظير لاتفاقات التسوية "سلام راس المال" وهم شريحة المثقفين اللبراليين ذوي التخارج الثقافي والمتمول من المركز الراسمالي وخاصة عبر منظمات الأنجزة، ومثقفي اليمين الفلسطيني الذين ارتبطوا بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في فترة "غابة البنادق" وخلال التسوية وخلال الانتقال من الحياة مقاومة إلى الحياة مفاوضات ومثقفي الماركسية الذين ارتدوا مع موجة الارتداد العالمية فزاحموا اللبراليين على ابواب الإدارة الأميركية. كان هؤلاء أدوات استدخال الهزيمة. وشكلوا بدورهم المبرر الفلسطيني لتخارج وارتداد مثقفين عرباً. وهؤلاء وأولئك يتركزون اليوم في قطر ليشكلوا وحدة المثقفين العضويين للأنظمة الريعية في هجومها على آخر معاقل القومية العربية. هؤلاء هم مثقفي الكمبرادور الذين ربما لم يتحدث عنهم فانون ولكنهم لا شك متواجدين في ثنايا تحليله.
فانون المرأة والنسويات:
في هجمتها على الماركسية وخاصة ضد النضال الطبقي، أزاحت الفورة النسوية الراديكالية فانون جانباً لتضعه في مصاف الذكورية، وذلك ضمن مفاهيمها التي ترفض النضال الطبقي المشترك للرجل والمرأة والذي يتركز على تحرر المرأة وليس فقط ما تمنحها إياه قوانين المساواة البرجوازية اللبرالية. وتلخص نقد النسويات ل فانون على تبسيط فانون وتشخيصه غير المتعاطف لتعقيد وضعية المرأة السوداء في الاستعمار، علماً بان المرأة السوداء من الطبقات الشعبية هي التي ترزح تحت الثقل الأكثر ضغطاً في المجتمع. في حديثه لمؤتمر الكتاب السود الأفارقة 1959 قال: "هذا الطمس الثقافي كان ممكنا بسبب نفي الواقع القومي، عبر علاقات شرعية جديدة جرى دحشها على يد السلطة المحتلة، عبر معاقبة السكان الأصليين وشطب عاداتهم لاحتلال المناطق لصالح المجتمع الاستيطاني، بالمصادرة والاستبداد المنظم للرجال والنساء".
فانون لم يكن ذكورياُ، بل كان اممياً. وفي حقبة التحرر الوطني رأى أن النضال الثوري هو لطرد الاستعمار كواجب على الرجل والمرأة. إن الوعظ النسوي الغربي بجناحيه اللبرالي والراديكالي، لا سيما في حقبة التحرر الوطني، إلى النساء عامة والفلسطينيات خاصة بعدم المشاركة في النضال الوطني/القومي بذريعة أن الوطن للرجل في التحليل الأخير والمطبخ للمرأة، هو في التحليل الأخير إضعاف أعمق لدور المرأة. فالمرأة المناضلة وكذلك العاملة أقدر على انتزاع حقوقها من المؤسسة الذكورية الراسمالية والبطريركية. والوعظ للمرأة بالابتعاد عن النضال الوطني هو مؤامرة عليها أكثر مما هو دعماً لها ناهيك عن أنه مثابة نقلها من تابع للرجل المحلي إلى تابع للنسويات الغربيات االلائي هن تابعات للسيطرة الراسمالية الذكورية الغربية في حال اللبراليات بشكل خاص. أما النسويات الراديكاليات فيؤسسن لتبعية نساء المحيط لهن رغم اختلاف الثقافة والبيئة والخطاب لتخريج نسوة مشوهات ثقافيا وفكريا في المحيط بدل أن يُبدعن آليات نضالهن وخطابهن محلياً. في الحالتين نحن أمام كولونيالية نسوية واحدة مرتبطة بالنظام الراسمالي والأخرى مضيَّعة ومضيِّعة لنسويات المحيط. لقد تمكنت النسويات الغربيات بتنوعاتهن من اختراق كثير من النسويات في الأرض المحتلة لإبعادهن عن النضال الوطني على اعتبار أن الوطن للرجل حينما يتحرر. وماذا كانت النتيجة؟ كانت ابتعاد مجموات صغيرة من النساء اللبراليات عن المجتمع وعن المؤسسات النسائية التي تمثل معظم النساء وعن القوى السياسية دون أن يخلقن بدائل عملية أو ثورية مكتفيات بعلاقات مع الأجنبي قائمة على التمويل وخاصة للكوادر النسوية العليا. وعليه، في حال توقف التمويل الأجنبي، لن يُغني عنهن الحقن بالخطاب شيئاً ولن يتمكن من العودة للانتظام في البنى المجتمعية للنساء بما هي مواقع النضال الحقيقي.
لا يُرسم النضال لأية طبقة أو شريحة اجتماعية من خارجها، أما الكولونيالية فتستقطب في العادة من هم/ن مؤهلين للتبعية وهؤلاء محدودي العدد. لذلك دخلت المرأة الجزائرية النضال بطوعها وليس بتبعيتها للرجل، وفي معركة الحجاب ناقش فانون الرغبة «المسعورة» لدى المستعمرين في نزع حجاب الجزائريات.. رغبة مدفوعة بنزعات جنسية «عدائية» ودوافع سياسية. وبحسب فانون، «يريد الأوروبي، وهو يقابل الجزائرية، أن يرى، لذا فإنه يتصرف بطريقة عدائية أمام هذا التقييد لرؤيته، ويمضي الحرمان والعدائية هنا في تناسق تام". أثبتت المرأة الجزائرية قدرتها على استخدام التقاليد والثقافة (والزي جزءٌ منها) وواصلت النضال حتى التحرير. وإذا كانت المرأة قد أُعيدت للمطبخ بعد التحرير، فإنها قد تمتعت خلال الثورة برصيد كي تبني عليه نضالها المقبل، وبدون تراث النضال ستكون فرص نضالها المستمر اضعف. يقول فانون: "إن تدمير الاستعمار يُنهض المرأة الجزائرية فإلى العديد من المواضيع التي طرحها، وبحسب تحليل فرانز فانون فإن تاريخ الغزو الفرنسي للجزائر بما شهده من هتك لأعراض النساء أسهم في بلورة هذه النشوة، فَـ«تَذكُّر هذه الحرية المعطاة لسادية المستعمر تجعل اغتصاب المرأة الجزائرية مسبوقا في حلم الرجل الأوروبي بتمزيق الحجاب"
ولا يخفى اليوم أن قرار الدولة الفرنسية منع الحجاب هو امتداد باثر رجعي لعقدة الهزيمة أمام المرأة والرجل إبان حرب التحرير. ولعل أعمق ما اشار إليه فانون هو قول المستعمِر: "لنعمل على أن تكون النساء معنا وسائر الشعب سيتبع". وما اشبه اليوم بالبارحة وفلسطين بالجزائر. لا يعرف سوى الله ودوائر المخابرات المالية كم يُنفق على ما يسمى حرية المرأة والمساواة والمؤسسات النسوية في الأرض المحتلة لكسب المرأة. لقد اكتسبوا فئة ضئيلة من النساء النسذكوريات اللائي انخرطن في سلطة أوسلو-ستان لخدمة الرجل المحلي الذي يخدم دوره سيطرة وهيمنة المستعمِر الغربي. هاتيك النسذكوريات اللاتي غدون ثقلاً إضافياً ملقى على كاهل المرأة الفلسطينية. لعل أحد كبار الأسئلة: ما الذي أدى إلى ضمور النضال النسوي في حقبة العولمة وقد ازداد العبء على النساء سواء بالحروب أو بالسياسات اللبرالية الجديدة وسيطرة اليمين المحافظ الجديد في الولايات االمتحدة.
راهنية الطبقة:
ثورة افريقيا تأتي فقط من الفلاحين، هكذا جادل فانون برؤيته الثاقبة وهنا بعدين: البعد العام هو العنف الثوري كبعد أممي، والبعد الخاص المدرك خصوصية إفريقيا دور الفلاحين. وهذا ما نناقشه عن خصوصيات الحالات، الخليج، العراق، مصر اليوم، أفغانستان...الح الثابت هو المثقف الثوري والنفس الثوري والمتغير هو المكان والتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية. هو لم يقل الفلاحين في فرنسا؟ يرى في العنف إعادة خلق. مزدوج وهنا فقط يتم تجاوز الثنائية. لنقرأ اين وصل هذا اليوم؟ ماذا عن اليوم؟ ذهبت البشرية شوطاً بعيدا في الاقتصاد، انتقلت أكثر إلى الصناعة بل نقلت الصناعة القديمة إلى المحيط، وذهب المركز إلى حقبة العولمة بعد الإمبريالية، وإلى الاقتصاد الجديد والمضارب بعد الإنتاج السلعي، وإلى اللبرالية الجديدة بعد اللربالية المؤسِّسة والآن إلى الأزمة المالية الاقتصادية مترافقة مع المحافظية الجديدة. اين افلاحين في هذا الخضم؟ مئات ملايين الفلاحين في الهند والصين يعودون إلى الريف فلا يجدون الأرض التي غادروها لأن الشركات الغربية الكبرى شاغلتها. ألا يعني هذا أن الفلاحين ما زالوا طبقة لها زخمها الثوري الكامن؟
لكن فانون لم ير الفلاحين كطبقة مؤبدة ولا كثورة في كل مكان، وكما يبدو لم يقتنع بالنفس الثوري لبروليتاريا المركز العنصري الأبيض على الأقل في المرحلة التي عاشها، وبالطبع حتى اليوم. فالطبقة العاملة هي مخزون الثورة المحتمل، ولكنها لم ترتفع بعد إلى قوة الثورة المتفجرة، فلماذا ننقلها قسراً من الموات إلى الثورة إن لم أو ما لم تنتقل هي؟ هذا المناخ البئيس للبرولتاريا هو الذي ورَّط ماركوزة في الحثالة، دون ان يدرك أن الطبقة العاملة/الطبقات الشعبية تختزن نفسا ثوريا لكنها تحتاج إلى ثقافة جديدة ربما تتولد مع الأزمة المالية وأزمة نمط الإنتاج الراسمالي وثورة المحيط.
أنظمة/ طبقات الكمبرادور:
أفادت فانون تجربته في إفريقيا ليرى البرجوازية التابعة على حقيقتها وليترسم مستقبلها وليطور بناء على ذلك أفضل ما أنتج بما هو رؤية لما هو مُقبل على إفريقيا وغيرها. لقد لاحظ مسألتين مركزيتين هما العجز البنيوي ثقافيا وإمكاناتياً إلى جانب ما يحول دون التخلص من هذا العجز وهو تشبهها بالبرجوازية الغربية. هنا تبخرت الثقافة الوطنية التي تحدث عنها خلال حرب التحرير لأنها كانت ثقافة المقاتلين، ثقافة الطبقات الشعبية او القومية الكامنة لتحل محلها ثقافة البرجوازية غير المنتجة. فلو كانت ثقافة هذه البرجوازيات غير شكلانية وغير استهلاكية وذات توجه للاعتماد على النفس ومعتقدة بالقومية الكامنة لكان بوسعها البدء بمشروع تنموي قومي وإقليمي. لقد انتقلت من ثقافة وتقشف حركات التحرر الوطني إلى ثقافة ونفقات وترف دولانية، ولذا كان الويل للبلدان فقيرة الثروات (معظم البلدان الإفريقية) والويل أعمق للبلدان ذات الثروة الريعية (الخليج العربي) التي لا شهدت حركات تحرر وطني ولا برجوازية تفهم البعد القومي ولا حتى معنى الدولة فظلت مرتعاً للشركات ومقرات لجيوش الاحتلال الغربي الراسمالي.
لذا يقول:: "إن البرجوازية الوطنية تكتشف لنفسها هذه المهمة التاريخية وهي أن تكون وسيطاً، وهكذا لا تكون رسالتها تغيير أحوال الأمة، بل جعل نفسها وسيطاً بين البلاد وبين رأسمالية مضطرة للتخفي، رأسمالية تضع على وجهها اليوم قناع الاستعمار الجديد... إن البرجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة ليست متجهة نحو الإنتاج، والابتكار والبناء، والعمل، وإنما هي تنفق نشاطها كله في أعمال من نوع الوساطة، إن نفسية البرجوازية الوطنية هي نفسية رجال أعمال، لا رواد صناعة، ويجب أن نعترف أن جشع المستوطنين، ونظام الحجر الذي أوجده الاستعمار لم يدعا للبرجوازية حرية الاختيار كثيراً. البرجوازية الإفريقية تقيم الكازينوهات وأماكن السياحة وتتشبه بالأوروبية وتسمي ذلك صناعة وطنية"
تلهث الحالة الفلسطينية بعيداً حتى وراء دول الكمبرور من حيث ما تسمى "السيادة" حيث قبلت بسلطة إدارية مالية في الضفة والقطاع دون سيادة على الأرض. فالعجز عن تحقيق المشروع الوطني في التحرير والعودة اقنع البرجوازية الفلسطينية بشرائحها الثلاثة: البرجوازية البيروقراطية في قيادة م.ت.ف والبرجوازية المحلية المنخرط معظمها في شركات التعاقد من الباطن مع راس المال الصهيوني[2] وراس المال المالي الفلسطيني في الشتات اقنعها باللجوء إلى الحكم الذاتي حيث تحقق عبر ذلك مصالحها على اساس اقتصاد التساقط لأن البديل لذلك هو استمرار المقاومة والانتفاضة مما يخلق قيادات وقوى قاعدية جذرية تتعداها سائرة إلى الأمام، وهكذا أكدت هذه البرجوازية أن الوطن مجرد سلعة، قيمة تبادلية. وقد وجدت هذه البرجوازية تحت إبطها فرقا من المثقفين العضويين لها ممثلين في المثقفين اللبراليين المتخارجين باكراً ومثقفي م.ت.ف االذين تربوا في بلاط القيادة ومثقفي اليسار الذين ارتدوا بسُعار ضد الماركسية، وكانوا في سُعار مبكر ضد القومية العربية ورتع هؤلاء جميعاً في تمويل سلطة الحكم الذاتي أو المؤسات الثقافية الغربية وخاصة عبر منظمات النجزة فتحولوا من مثقفين إلى سلع وأشياء تبيع نفسها وتُباع بالعملات والمنح والشهادات والوظائف وحتى كتابة تقارير إخبارية للأعداء تحت مسميات ابحاث وجراسات وأطروحات جامعية. وهذا ما نتجت عنه بنية ريعية في الأرض المحتلة تعيش على التمويل السياسي من أعداء الأمة العربية والشعب الفلسطيني بالطبع. ومن هنا كان أول مشروع كبير لسلطة الحكم الذاتي هو الكازينو. فكيف لا نستنهض روح فانون؟ إن من يسير في مدينة رام الله لا يتخيل أن هناك احتلالاً سواء بغزارة السيارات الفارهة يقودها اساسًا غلمان ونسوة ما بعد حداثيات وتعج أسواقها بالمقاهي والمطاعم والمقاصف المكتوبة يافطاتها باللغات الأجنبية. وأما في الليل فتكون مدينة حانات واماكن تبعث إشارات ضوئية بنفسجية تنبىء عن فرص التفريغ الجنسي! والشكر لله أن ليس لهذه المدينة شاطئاً لتعرَّت تماماً.
في الطرف الأقصى تماماً ولكن ليس النقيض في الوضع العربي (الأشياء) الحاكمة في بلدان النفط العربية وعلاقتها بالتركيبة "الطبقية" المعولمة. ذلك الشريك النفطي الخليجي فيها والذي يجمع ما بين ثقافة وعقل بداوة ما قبل الدولة بما تعنيه من اللاوطن وبالتالي اللاوطنية اي بدو لا ينتمون سوى إلى القبيلة أو حتى الأسرة الحاكمة وانتقالها الحاد والمفاجىء إلى العيش على ريع النفط والغاز والتحول إلى جزء من رأس المال المالي المعولم الذي يدور على صعيد عالمي بدور مضارباتي عابر القارات أكثر مما هو إنتاجي، ولكنه جزء من هذا الراسمال الذي منتهى تراكمه وإدارته في المركز الإمبريالي سواء في نيويورك و/أو لندن هذا النموذج المشوه لا يؤمن ولا ينتمي إلى وطنية او قومية. وربما هذا ما يفسر لا قومية هذه الأسر الحاكمة من جهة وارتباطها بالمركز المعولم حفاظاً على وجودها من السكان المضطهدين إلى درجة غياب وجودهم اللهم سوى عن الاستهلاك والتناسل[3] من جهة ثانية، وهنا قطر الحالة المثالية.
يقول فانون: "العلامة القومية التي تتبناها هذه الطبقات وحتى كذلك بروليتاريا المدن غير كافية لثورة شاملة او كلية لأن هذه الطبقات مستفيدة من البنية الاقتصادية للإمبريالية... ان الثورات غير الزراعية تنتهي حينما تقوي الطبقات المدينية سلطتها الخاصة، دون القيام بإعادة تشكيل النظام بأكمله" ربما هذا ما دفعه للتركيز على الفلاحين واللغة والثقافة والقومية الكامنة. ربما كان على فانون أن يلتقط مسألة اساس وهي وجود الحزب الثوري الذي يعيد صهر الطبقات المتخارجة وتوطينها. ليس هذا مجال مناقشة دور الدولة في التنمية وهو دور اثبتت مختلف التجارب جوهره العُلوي والآمر أو البيروقراطي ناهيك عن ان أية دولة/سلطة هي ممثلة مباشرة أو أقل لطبقة. وهو ما يرشدنا إلى "التنمية بالحماية الشعبية[4]" النموذج الجماعي الشعبي الذي يبلور حزبه ويراقب حزبه وحين يمسك بالسلطة يكون الحزب تحت رقابة وإرشاد القاعدة الشعبية لا مقوداً من نخبة بيروقراطية وحتى تكنوقراطية وثقافوية.
ما بعد الاستعمار وسلسلة المابعديات:
ليس صحيحاً إدراج فانون ضمن منظِّري ما بعد الاستعمار، وإن كان رائد معالجة هذه المسألة عبر تحذيره من دور طبقة الكمبرادور التي أمسكت بالسلطة في بلدان المحيط. وربما بقدر ما كان مشروع سارتر إدخال الحرية في الستالينية (وليس في الماركسية كما زعم هو وآخرون) فإن فانون قد أدخل موضوعة "ما بعد استعمارٍ ما، هو الاستعمار العسكري إلى اهتمام الأدبيات الماركسية فجاء ذلك مساهمة هامة وطبيعية وضرورية. وقد يكون اهتدى إلى هذه المساهمة بناء على خلفيته ودوره في الكفاح المسلَّح وكأنه يقول إن انتصار القوة الثورية للكفاح المسلح على جيوش الاستعمار هو أمر حاسم وضروري ومؤكد، ولكن بعد ذلك لا ينتهي الاستعمار من جهة، وسنواجه تمفصلاته المحلية من جهة ثانية. وإذا كان فانون قد اعتمد على ذخيرتين أو سلاحين للوصول إلى الانتصار ودحر عسكر الاستعمار وهما الكفاح المسلح والثقافة القومية فإن هذين السلاحين قد ثُلما بعد الاستقلالات الشكلية سواء بتحويل المقاتلين إلى جيوش نظامية مدجنة لخدمة الحاكم، وطمر الثقافة القومية الثورية بثقافة قُطرية خلقت لها اصنامها بالعَلَم والمراسيم وأمن الأنظمة وزعم ثقافة وطنية...الخ ثقافة القومية الحاكمة.
ولا يقلل من تحليلنا هذا زعم كثيرون بأن فانون هو ضمن هذه المدرسة وليس ضمن المدرسة الماركسية ذات الأفق القومي المنفتح. لعل أهم ما يختلف به فانون عن معظم منظري ما بعد الاستعمار كامن في خروجه على بل وعدم اكتراثه بقلقهم وحرصهم على الاعتراف والتطابق مع ثقافة وحتى سياسة الاستعمار والإمبريالية. إن فكر فانون هو مواصلة النضال ضد الراسمالية المحلية والعالمية وصولا إلى الأممية الاشتراكية. ولا يرضى بالطبع بعض الماركسيين عنه كذلك طالما لم ينسب نفسه لفصيل محدد فيسمونه تفضُّلاً "مناضل نشط" كما كتب ألان والد المروِّج الماهر للتروتسكية. هذا إضافة إلى البدء من الثقافة التي ركز عليها فانون ولكن ليأخذوها إلى لغة من الطلاسم السحرية التي تراوح بين التهويمات والتعقيد اللغوي الذي لا تقوى على قرائته سوى قلة نادرة من البيض وأنصاف البيض والسود بقناع ابيض. فرغم إبداع إدوارد سعيد في الاستشراق، إلا أن تورطه في ما بعد الاستعمار قد حوله إلى وسيط ثقافي بين أهداف الإمبريالية والأكاديمية الغربية، لنتذكر مثلاً، أنه: " لا ينتحب على تبعية العرب لأميركا وإنما على طريقة معاملتها للعرب". هذه الوساطة هي التي دفعته للتوسط المراسلاتي بين الإدارة الأميركية وياسر عرفات، بين الإمبريالية الأكثر توحشاً وبين منظمة كفاح مسلح ضد الكيان الصهيوني الإشكنازي الذي يجمعه بالإمبريالية كل جامع!
لقد رأى فانون وكتب أن الاستعمار حين يخرج بمستوىً ما يبقى بمستويات، وهذا يكفي لإخراجه من دائرة المثاقفة اللغوية هذه التي كان أفضل نتاجها في الأدب، بينما أفضل نتاجه كان في الثقافة والميدان والاستشراف السياسي الطبقي وهو أهم تأثيرات الفكر الماركسي، لا سيما على صعيد تأثر الوعي بالظرف التاريخي. وقد يكون جوهر الاختلاف بين ما بعد الاستعمار والماركسية في أن الماركسية تؤكد على الصراع الطبقي، فيما تقوم قراءة ما بعد الاستعمار على الصراع بين مستعمر ومستعمَر. وبابتعاد فانون عن ما بعد الاستعمار يبتعد بالطبع عن مختلف المابديات الأخرى التي سحبت فشل الحداثة في مشروعها الأوروبي في الحيلولة دون الحروب وغيرها على العالم باسره، اي تماماً كما يفعل الغرب الأبيض الراسمالي في كل الأمور، دون أن تأخذ بالاعتبار ضحايا الحداثة في المحيط. أنجزت ما بعد الحداثة عبر جهد معرفي الكشف عن التناقضات الحادة التي قام عليها مفهوم السرديات الكبرى في الغرب الرأسمالي خاصة مما يؤكد مركزانيات هذه المابعديات. ومن هذه المساهمات تمكُّن ليوتار وفوكو وجوليا كريستيفا وجاك لاكان وتودوروف وآخرون، من كشف ضعف أداء كثير من السرديات الكبرى رؤية السرديات على العالم في حل مشاكل العالم وتقديم مفاتيح للمغاليق التي واجهت البشرية وزعمها خطاب الإنسانية والعدالة والمساواة في ظل النظام الرأسمالي العالمي بما ارتكبه من مذابح ونهب. ولكن هذه الهجمة بالمطلق على السرديات الكبرى دفعت باتجاه تغاضي هذه المابعديات عن السردية الأخطر ألسوق. والسوق هنا بمفهوم النظام الرأسمالي العالمي وجوهره السياسي الذي انتهى احد روادها ميشيل فوكو إلى الاستسلام أمامه بإعلان موت السياسة؟ اي موت المقاومة. وإذا كانت مغادرة السرديات الكبرى في المركز والذهاب إلى الفردية المطلقة أمر قاد إلى المابعديات الغيبية فإن هذه البدان قد قطعت شوطاً في التقدم ما زال يسمح لها، رغم فلتان الفرديات بالاحتفاظ بهيمنتها على العالم، في حين أن الفلتان الفردي في المحيط يحول وسوف يحول دون التمسك بالسرديات الكبرى التي هي ضرورية للنضال من أجل الوصول إلى الحداثة على الأقل ومغادرة سردية السوق بشكل خاص.
إن احتفاء كثير من المثقفين العرب بالتكفير بالسرديات الكبرى ينمُّ عن تخارج مجتمعي وليس طبقي فقط مما يساهم في توازن الأنظمة القُطرية التي تحكم الوطن العربي بما قبل الحداثة الغربية الحالية. كيف لا نستحضر روح فانون اليوم، كثير من المثقفين العرب قد نجحوا في استيراد المابعديات الغربية، الكفر والتكفير بالسرديات الكبرى يهتفون لاحتلال ليبيا والتمهيد لاحتلال سوريا في كفر حاقد على القومية العربية والاشتراكية؟
مركز محيط ومدرسة النظام العالمي:
لم تكن نظرية التبعية وانقسام العالم إلى مركز ومحيط قد خُطت بداياتها في عمر فانون بعد. لكنه لامس كثيرا من مكوناتها: فقد انشغل فكريا وعمليا في المحيط (المستعمَر) وضد المركز (المستعمِر) وكان موقفه في هذا المستوى حاسما وحدِّياً. قد يدين الثقافويون هذا بأنه ثنائية لكنها قائمة. وفانون لم يقرأ مركز محيط من منظور مدرسة التبعية التي بدأت مع بريبتش في أربعينات القرن العشرين وتفتحت جيداً قبيل رحيله. فمنظورها كان دولانياً قوميا لا طبقياً بينما ركز فانون وارتكز على الثقافة القومية والقومية وانتهى في حالة الكفاح في جانب طبقة الفلاحين، في خروج عملي على التنظير الكلاسيكي لماركس نفسه وفي اقتراب غير مكتوب من الماوية والجيفارية، لينتهي ضد طبقة الكمبرادور في الحكم والتي هي طبقة الحكم في الدولة التي كانت تناقشها مدرسة التبعية. لم ينحَز فانون إذن مع المحيط لأنه المحيط، بل كان مع الطبقات الشعبية في المحيط. وبهذا فهو قد اقترب من مدرسة النظام العالمي التي اسسها لاحقاً سمير امين وجوندر فرانك وولرشتين واريغي. إن تحريضه ضد الكمبردور ولا سيما في تشبهه بالبرجوازية في المركز إنما هو إدراك لدور المركز وسياسته في احتجاز تطور المحيط بأدوات محيطية من جهة وذلك خدمة لسياسته الاستراتيجية في الاستقطاب من جهة ثانية والتي فصلها جيدا سمير امين.
لقد توصل الكثيرون من منظري التنمية إلى الإجماع بأن الاستقطاب الذي كرسه المركز الراسمالي المعولم قد أدى إلى واقعة أن : "لا يابان بعد اليابان". وهي السياسة التي مركزها أن : لا اوروبا بعد أوروبا لا غرب بعد الغرب" ولا سيما أوروبا الغربية وشمال أميركا. فمن اللافت أن اوروبا الغربية التي خاضت حروبا بينية طاحنة ومديدة حتى قبل الحربين العالميتين كانت تتطور بالتوازي ولم تحل الحروب دون تنقل راس المال وتبادل التكنولوجيا، وهذه مسألة بحاجة لقراءة مستفيضة. وهي السياسة التي شملت المستوطنات البيضاء كذلك.
هل كان العنف هوية فانون؟
ولد فانون أممياً بالفطرة كأي إنسان ووجه بلونه في الغرب فيمم وجهه نحو الشرق حيث الأمم القديمة ومعذبو الأرض وظل اممياً. لم يكن بحاجة لكبير عناء كي يكتشف ضرورة الصراع مع هذا الغرب العنصري وضرورة الصراع بالسلاح مع عالم يعيش على حد السيف. وعليه، لم يكن العنف اختياراً بل تقاطع مع ضرورة تتعلق بالوجود والكرامة الإنسانسية. اكتشف فانون بالوعي الثاقب أن الثائر في عالم متوحش يتمترس خلف سلاحه وخلف وعيه. وهذا يكشف أن نقد كتاب غربيين له في موقفه من العنف هو في حقيقة الأمر استكثار على الأسود أن يثور وأن يكتب. لم يخف ديفيد ماسي بغضه ل فانون حيث كتب:: "إن فانون قد استخدم بشكل سيء تغيرات ولدت في ظروف استثنائية من اجل ثورة دائمة". هل ثلاثة قرون وأكثر من الاستعمار هي مجرد ظروف استشنائية؟ بل هل المرحلة الرأسمالية بامتدادها واشتدادها منذ خمسة قرون هي فترة استشنائية بكل ما حملت من إبادة ومذابح وإفقار ونهب واستقطاب واحتجاز تطور؟ وهل هذا العبء الثقيل على التاريخ زائل بطبيعته أو قابل للزوال بتوجعات الفقراء وتفجعات الأرامل؟ ألا يصح هنا قول ماركس بأن الرأسمالية قد أوصلت البشرية إلى الخيار بين البربرية والاشتراكية؟ وإذا كان التناقض هكذا وإلى هذا الحد فكيف يمكن الخروج من طغيان راس المال هذا بغير العنف؟ وهل يخلو من حقد قول اللبرالي ماسي بأن فانون: "بعد إبعاده من الجزائر 1956. ملحدا من ويست إنديز في حركة قومية إسلامية قد رأى ما كان يريد أن يرى"؟. وكأن الرجل مجرد حاقد متخلف يكره الغرب "الحضاري"؟ والمعروف أن فانون هو الذي استقال من عمله. ماذا يختلف هذا القول عن قول جورج دبليو بوش وثوماس فريدمان : "إن العرب والمسلمين يكرهون ويحسدون الحياة الأميركية التي لا يمكنهم الوصول إليها".
كما كتب ماسي: "كان فانون شجاعاً ولكن متهورا، نبوئياً ولكن عنيداً لدرجة خطرة. وحينما بدأ يكتب، كانت الحقيقة سلاحه، وحينما اعتنق العنف الثوري، غدت الحقيقة قتيلة قراره. ينتاب المرء شعورا ماساويا وهو يقرأ فانون، كمثقف صمم على أن يثبت نفسه بين حَمَلة البنادق. وكمعظم المثقفين المدافعين عن العنف، فضَّل فانون ان يتأمل عن بعد. فحينما كان في مدرسة الطب، كان حتى التشريح الأولي يقوده للشعور بالغثيان". وكثوري وكاتب فقد بذل قصارى جهده لتجاوز "ضعفه" وليبدو صلباً". وبعيداً عن الرد على كل هذا، فالكاتب هو الذي كتب قصة حياة المفكر الكبير ميشيل فوكو. ولا بد أنه أُخذ بما انتهى إليه فوكو وقارنه بما انتهى إليه فانون. انتهى فوكو كافراً بالسياسة اي بالمقاومة والنضال، بينما انتهى فانون نبي حرب غوار الثقافة والكفاح المسلح.
طبعة مبكرة وأولية للاستشراق:
بعيداً عن الجدل بشأن دوافع الاستشراق، فإن ما كثَّفه إدوارد سعيد دقيقاً بأن الغرب قد خلق أو صنع صورة للشرق من عندياته، وحاول الغرب أن يجعل من هذه الثنائية حالة ثابتة من جهة لتبرر الاستعمار من جهة ثانية وهو ما تولد عنه لاحقاً الاستعمار الإيجابي الذي لا مندوحة عنه كي "يتطور" الشرق. وهو الأمر الذي تمكن فيه إدوارد سعيد وغيره من اللبراليين من اصطياد ماركس الذي وصل بالاستنتاج أن الدول المتقدمة سوف تعيد خلق الشعوب المتخلفة على شاكلتها، الأمر الذي لم يحصل لأنه متناقض مع استراتيجية الاستقطاب. وهذا ينسجم مع الثقافة الدارجة في الغرب عن تقسيم العالم إلى ثنائية (الغرب والبقية The West and the Rest . كمبرر للتفوق والسيطرة والاستعمار.
لقد وضع سيزار بذرو إدراك صناعة الزنوجة لدى فانون والذي بدوره دفع بها إلى وجوب التخلص منها ورفض تحولها إلى مكون بنيوي للسود بما هي شبيهة بالاستشراق اي خلق مقصود للأسود على شاكلة ما مبتداها اللون. يسرد فرانز فانون تجربة إدراك معنى الاختلاف عند مشاهدة فتاة بيضاء له، ورِدَّة فعلها على لون بشرته قائلة: «انظر … إنه زنجي Look, a Negro ». وهذه ليست محض تصور من فانون بل هي إحدى مكونات الثقافة الراسمالية العنصرية البيضاء. قبل خمسين سنة ولم نكن نعرف فانون ولا الاستشراق جلست بجانبي فتاة فلسطينية مولودة في الولايات المتحدة وعلى الطريق صعد رجل اسود يلبس كوفية وعقالاً وجاء جلوسه إلى جانبها، ولم تلبث ان تفوهت تلقائيا بالقول It is bad! فهي الثقافة العنصرية يحملها الموبوء بها اين حل. ما زلت أذكر بالضبط المتر من الشارع الذي نطقت فيه بهذه الكلمات.
يقول فانون بهذا الصدد: “عندما أتحدث إلى من يحبونني، يقولون أنهم يحبونني على الرغم من لوني، وحينما أتحدث إلى من يكرهونني، يعتذرون بأنهم لا يكرهونني بسبب لوني، وفي كلتا الحالتين أجدني حبيس الحلقة نفسها” ، ولهذا فهو يرى أن مشكلة الإنسان الأسود هي علاقته مع الرجل الأبيض، أو حتى مع المحيط، وبالتالي على الإنسان الأسود أن يطابق الصورة الموضوعة له، أي التمثيل representation المسبق له، وأن يتصرف بناء على تشكله في عقل الرجل الأبيض، فالدونية والانحطاط والتخلف والبذاءة، وكل هذه المكونات التي اختلقها الأبيض للأسود، هي صورة تعمل على تنميط شخصية ووجود الإنسان الأسود، ولهذا فإن فانون يرى أن عملية المقاومة تكمن في نقض وجوده الفيزيائي أولا، وقبل ذلك نقض كونه فكرة في عيون وعقل الرجل الأبيض، وطبعا كل ذلك مصاحب بتنظير فكري وفلسفي ونفسي عميق. لقد عالج فانون هذه الظاهرة برفضها بنقض وجوده الفيزيائي وهو المدخل الثوري الضروري. ولكن الراسمالية التي كثيراً ما ساعدتها لدائنيتها على التغلب على إشكالاتها، تخلق حلولا لنخب السود حيث تدمجهم بها وهي حلول لامتصاص هذه النخب واستخدامها ضد طبقتها وأهل لونها ويكون هؤلاء بالطبع اكثر شراسة ضد بني جلدتهم من البيض. قد تكون كونداليزا رايس نموذجا. بل إن إدار بوش قد تكون، ويا للطرافة مكونة من رئيس أبيض ووزيرة خارجية سوداء، بينما بدلت إدارة أوباما المواقع والألوان.
الاقتصاد السياسي: التبعية وجوهر أميركا
كتب فانون: "إن العالم الثالث يقف الآن أمام أوربا كتلة عظيمة تريد أن تحاول حل المشكلات التي لم تستطع أوربا أن تأتي لها بحلول، ولكن يجب علينا أن لا نتحدث عن وفرة الإنتاج، وأن لا نتحدث عن الجهد العنيف، أن لا نتحدث عن السرعة الكبيرة. ليس معنى هذا أن نعود على الطبيعة وإنما معناه أن لا نشد البشر إلى اتجاهات تشوههم، أن لا نفرض على الدماغ إيقاعا سرعان ما يفسده ويفقده سلامته، يجب علينا أن لا نتذرع بحجة اللحاق فنزعزع الإنسان وننتزعه من ذاته، من صميمه، ونحطمه، ونقتله. ..لا نحن لا نريد اللحاق بأحد..... إذا أردنا أن نحول أفريقيا إلى أوربا جديدة، وأن نحول أمريكا إلى أوربا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا إلى أوربيين، لأنهم سيحسنون التصرف أكثر من أعظمنا موهبة." الرجل غني عن أن نؤكد أنه لم يكن مبهوراً بالغرب الراسمالي الأبيض ولا حتى بالتشبه بنظامه ةقيمه. بل كان واضحاً في رفضه للنموذج اللبرالي الراسمالي سواء في رفضه وتحذيره من الكمبرادور، أو في إعلانه بوضوح رفض نظرية اللحاق التي حاول التأسيس لها والت روستو في خمسينات القرن العشرين والتي اتبعتها دول عديدة في المحيط وكانت سلسلة ضحايا وصلت المئة بوصفات صندوق النقد الدولي.
هل نتهمه بالنبوءة في رفض اللحاق؟ أم نتهمه بالنبوءة في رؤيته الثاقبة المبكرة لتوحش الولايات المتحدة. فقد كتب: «منذ قرنين، قررت مستعمرة أوروبية قديمة ان تلحق بأوروبا، وقد بلغت من النجاح من ذلك، ان الولايات المتحدة الأميركية أصبحت كائنا عجيبا مشوها تضخمت فيه تضخما رهيبا عيوب أوروبا وأمراضها ولاإنسانيتها». الولايات المتحدة هي نسل أوروبا من حيث العرق، والعدوانية وخاصة راس المال. هذا البلد الذي كان موئل الصادرات البشرية العنيفة والمتوحشة من جهة ومحط استثمار الاستعمار البريطاني، استثمار ما كان ينهبه من المستعمرات السمراء والصفراء ليستثمره هناك في ما اصبح يدعى الولايات المتحدة. هذا البلد الذي حينما وصل سن البلوغ سحق أمه بريطانيا وطردها. هذا البلد الذي تشدق بالديمقراطية والحريات حينما كان يحل محل ابويه (الاستعمارين البريطاني والفرنسي- كانقلاب أمير قطر على أبيه وسلطان عمان على أبيه- لاحظوا الفارق الذي يعبر عن حقيقة الواقع وحجوم الأشياء، هناك انشقاق دول وهنا غدرٌ داخل الأسرة). لم تنطلي خدعه وأكاذيبه على فانون وهي منطلية حتى اليوم على قطعان مثقفين عربا (المثقف السلعة/الشيىء). هل كان خطئاً ومبالغة أن وضعنا الرجل وهو في ضريحه إلى جانب جلجامش الذي رأى كل شيء؟
عن «كنعان»
* ورقة مشاركة في الندوة الدولية حول المناضل فرانز فانون التي أقامتها الهيئة العلمية التابعة لوزارة الثقافة "المركز الجزائري للبحوث في ما قبل التاريخ والأنثروبولوجيا والتاريخ" يومي 6-7 ديسمبر 2011 في الجزائر