"تحليلٌ متشائم، ولكن الإرادة متفائلة":
تكشف هذه العبارة للإيطالي أنطونيو جرامشي واقع الحال بالنسبة لكتابٍ عن "ثورة مصر" وعلاقتها بأزمة الرأسمالية العالمية، الذي فتح فيه مفكر اقتصادي مصري مرموق نظريته الجديدة لفضح السياسة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة. لا يحمل المفكر الاقتصادي سمير أمين في جديده وجهاً مُتشائماً فقط، بخصوص مستقبل الربيع العربي، الذي بدأ مخاضه منذ مطلع العام الجاري، وحصد إلى الآن ثلاثة حكام مُستبدين في تونس ومصر وليبيا، بل يحمل ما يمكن أن نعتبره نبوءة مفكر اقتصادي، طالما احتُسب واحداً من أكثر الأصوات حدَّة ضد الرأسمالية المتوحشة، وظل لعقود وعبر أكثر من ثلاثين كتاباً ـ كان آخرها "ثورة مصر وعلاقتها بالأزمة العالمية" الصادر عن (دار العين للنشر بالقاهرة ـ الصوتَ الأعلى للتعبير عن فقراء العالم الثالث). ولكي نقدر قيمة تحليل هذا الرجل، علينا أن نذكر بأن سمير أمين يكمل الآن طريقاً كان حفره من دون كلل لدراسة أطراف الرأسمالية الضعيفة والهشَّة في العالم الثالث، متأكداً من أزمات الأطراف كانت دائماً ومنذ بداية القرن العشرين المأزق الدائم الرأسمالية العالمية، وهو هنا يتوقع أن يكون الربيع العربي بداية خريفٍ طويل لهذه الرأسمالية.
ولد سمير أمين في مصر العام 1931 لأب مصري وأم فرنسية، وكلاهما كان يعمل طبيباً، قضى طفولته في مدينة بورسعيد الساحلية، وحصل على شهادة الثانوية عام 1947 من مدرسة فرنسية، غادر بعدها إلى باريس ليكمل دراسته، فحصل العام 1952 على دبلوم في العلوم السياسية قبل أن يأخذ شهادة التخرج في الإحصاء 1956 والاقتصاد 1957 ويعود إلى مصر حاملاً شهادة الدكتوارة في الاقتصاد من السوربون. انتسب أولاً إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وكان مقرباً إلى الحلقات الماوية في الحركة الشيوعية، عمل مستشاراً اقتصادياً في مالي وجمهورية الكونغو ومدغشقر وغيرها، وعمل مديراً لمعهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادي بداكار، وشارك في تأسيس المجلس الأفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية والاقتصادية (كوديسريا) ومنتدى العالم الثالث والذي يترأسه حالياً.
قدَّم أمين على مدار سنوات عمله الطويلة قراءات متعددة في العلاقة بين المركز والأطراف، والتبيعة لبلدان الثالوث الرأسمال المسيطرة على خيرات العالم، وهي عنده أمريكا وأوروبا واليابان، ومحاولة لتجديد قراءة المادية التاريخية وأنماط الإنتاج وخاصة في محاولته شرح نمط الإنتاج الخراجي ـ قبل الرأسمالي ـ متجاوزاً التحليلات الماركسية السائدة عن نمطي الإنتاج العبودي والاقطاعي، ومن أهم كتبه: التطور اللامتكافئ، الأمة العربية القومية وصراع الطبقات، الطبقة والأمة في التاريخ وفى المرحلة الامبريالية، حوار الدولة والدين (بالاشتراك مع برهان غليون، في نقد الخطاب العربي الراهن).
أقل من ثورة
هو أصلاً لا يسمي ما يحدث في الشارع العربي الآن ثورات، فالثورة المصرية عنده ـ مثلاً ـ تبدو "حركة.. أخذتْ مجراها في المجتمع المصري أواخر يناير 2011 (وهي) في واقع الأمر انطلاقاً ثورياً قد يتحوَّل إلى مدٍ ثوري، لا أكثر، ما حدث هو أكثر من انتفاضة، أو فورة يعود بعدها المجتمع إلى ما كان عليه قبلها، لكنه أيضاً أقل من ثورة". يحلل سمير أمين الحركة بعقلية مجردة من العواطف، معتبراً أن مليونيْن من المُسيَّسين خرجوا يوم 25 يناير في محافظات مختلفة، تضافر معهم ما لا يقل عن 13 مليوناً خلال 24 ساعة، وأن هذين المليونين يتكونان من: شباب ويسار راديكالي، وعناصر الفئات الوسطى الليبرالية الديمقراطية، بالإضافة إلى شئ أوسع منهم يتمثل في جماهير الشعب المصري بشكل عام.
وعلى عكس كثيرٍ من المحللين السياسيين، يطالب سمير أمين بفترة انتقالية طويلة نسبياً، مُعتبراً أن هذه الحركة بحاجة أولاً إلى وقت لكي تخطو للأمام، ولكي تنتعش وتتوسَّع، وتتجذَّر وتتعمَّق، لأنه يظن أن ما يقال عن أن الثورة أسقطت النظام وحاكمت بعض رموزه، وأسقطت الدستور القديم، صحيح على مستوى عالي من التجريد النظري فقط، لكنَّه ليس صحيحاً عملياً، يقول "هناك رغبة أو ميل لإسقاط النظام، لكن لا أكثر من ذلك، وكذلك إسقاط الدستور الذي لا يزال ساري المفعول هو وجميع القوانين المتمشِّية معه، إذن الفترة الطويلة بالمعنى الصحيح للكلمة تأتي في مقدمة الشروط المُقتضية للتغيير".
يبدو سمير أمين هنا حريصاً على صياغة فكرة أن الاستعمار الرأسمالي يضع مصر وثورتها بين خياريْن لا ثالث لهما، إما العلمانية الفاسدة غير الديمقراطية أو الفاشية الدينية، ربما لضمان السيطرة على قلب الأمة العربية الذي أثبت أنه لا يزال نابضاً بثورة 25 يناير، هنا يصمِّم على أن الرأسمالية العالمية تحت قيادة أوباما وحليفته اسرائيل رأت ضرورة الاستعجال في الفترة الانتقالية بغرض "أسلمة" السياسة والمجتمع والإغراق في التأويل الوهابي المُتجمد السلفي للإسلام، على أساس أن ممارسة نظام مبارك منعت ظهور صوت غير أصوات الإسلاميين في المساجد 'إنما هو ضمان عجز المجتمع عن مواجهة فعَّالة لتحدي العصر، وهذا في نهاية المطاف هدف الولايات المتحدة واسرائيل: إجهاض ثورة مصر ونهضتها". بسطور واضحة يقول إن "خطة أوباما إجهاض الثورة المصرية" كانت تتضمن مرحلة انتقالية قصيرة يبقى نظام الحكم خلالها في أيدي الطبقة الحاكمة ذاتها في مصر، بعد الحفاظ على الدستور الحالي بتعديلات تافهة، وانتخابات سريعة عاجلة تضمن مساهمة الإخوان في البرلمان واستمرار النظام، يقول سمير أمين في كتابه صفحة 32 "توجد الآن وثيقة أمريكية نُشرت مؤخراً تؤكد أن هذه هي بالفعل الخطة الأمريكية".
وقد نُفذِّت المرحلة الأولى من الخطة فعلاً في الواقع، بإجراء استفتاء على الدستور 19 مارس من العام الجاري، أي بعد أقل من 38 يوماً فقط من تنحي مبارك، ويفجر الرجل قنبلة جديدة حين يقول إن الولايات المتحد تجهِّز لمصر النموذج الباكستاني، لا التركي، كما قد يظن البعض في مصر، على الرغم من تعقيدات الخلاف على النظامين، يقول سمير أمين إن الفارق كبير بينهما، "ففي النظام التركي تقف المؤسسة العسكري وراء الستار لحماية (علمانية المجتمع)، وتلك ليست ظروف مصر على الإطلاق، فالنمط الباكستاني يُعد النمط الرئيسي للديمقراطية الذي تعده الولايات المتحدة لمصر، وما يقال عن (النموذج التركي) هو كلام للتضليل وتسويغ النموذج الباكستاني المُعدّ فعلاً".
بين خيارين
يفسر الرجل إصرار الولايات المتحدة على فرض هذا النموذج في مصر، بأن المطلوب من النظام الجديد الذي سوف يحكمها أن يقدم تنازلاتٍ في المجال السياسي لضمان استمرار تبعيتها، ومنها احترام شروط السلام مع اسرائيل أي بمعنى أدق "الامتناع" عن التضامن مع شعب فلسطين في مواجهة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، واستمرار التبعية الاقتصادية للعولمة واقتصادها، علماً بأنه أشار إلى "الكتلة الرجعية" في المجتمع المصري التي تكره الديمقراطية الصحيحة، لأنها ستتحول بالضرورة إلى حركة اجتماعية تقدمية في المجال الاجتماعي، والتي ستكون بالضرورة ـ وعلى حد تعبيره ـ ثورية ومُعادية للاستعمار، وهو ما تخشاه بالضبط الولايات المتحدة والتكتل الرَّجعي.
يستكمل المفكر الاشتراكي والفيلسوف الاقتصادي العالمي ـ المصري الأصل ـ سمير أمين مشروع كارل ماركس الاقتصادي والفلسفي، هنا في هذا الكتاب، فهو يُكمل الجزء الذي لم يظهر للفيلسوف الألماني مؤسِّس "الاشتراكية العلمية"، تحديداً الجزء السادس من رأس المال، موضوع عولمة رأس المال، وهو يعترف بأنه قد تجرأ بالقيام بهذا العمل، مقترحاً قانون "القيمة المعولمة" الذي يعطي الأهمية الواجبة للتنمية غير المتساوية "أي الاستقطاب بين المركز والتخوم"، التي لا تنفصم عن التوسع العالمي للرأسمالية التاريخية، حيث يندمج "الريع الإمبريالي" في صلب عملية إنتاج وتدوير رأس المال، وتوزيع فائض القيمة، وهذا الريع هو أساس التحدي، فهو يُفسِّر من ناحية غياب النضال من أجل الاشتراكية في المراكز الإمبريالية الكبرى، ومن ناحية أخرى إبراز البعد المعادي للامبريالية في صراعات التخوم ضد نظام العولمة الرأسمالية الإمبريالية.
ثلاث مراحل
ينقسم المسار التاريخي الطويل للرأسمالية ـ عند المفكر سمير أمين إلى ـ إذن ـ ثلاث مراحل متتالية متميِّزة.
الأولى: مرحلة الإعداد الطويلة للتحول من النظام "الخِراجي" ـوهو النظام الذي كان سائداً في المجتمعات الطبقية (ما قبل الحديثة) إلى النظام الرأسمالي الصرف، وهي مرحلة القرون الثمانية من العام 1000 إلى العام 1800 ميلادية.
الثانية: مرحلة نضج قصيرة خلال القرن التاسع عشر تتأكَّد خلالها سيادة الغرب، حيث عاشت لوقتٍ قصير، في قمة هذا النظام، حيث فرض تراكم رأس المال شكله النهائي وصار القانون الأساسي الذي يتحكم في التطور الاجتماعي، مذكراً بالمقولة التي أثبتت صحتَّها عدة مرات في التاريخ وهي أن "التراكم يدمِّر الأساسيْن اللذيْن تقوم عليهما الثروة، الكائن الإنساني ـ الذي يتحوَّل إلى سلعة ـ والطبيعة".
الثالثة: مرحلة تدهور طويلة دفعت إليها صحوة الجنوب، التي انتزعت خلالها شعوب الجنوب المبادرات الرئيسية في تحول العالم، والتي طوّرت موجتها الأولى في القرن العشرين، وهذه المعركة ضد النظام الامبريالي لا تنفصم عن التوسع العالمي للرأسمالية ـ أي نحو الاشتراكية ـ وهي تبدأ مع القرن الحادي والعشرين موجةٌ جديدةٌ من المبادرات المستقلة لشعوب الجنوب.
منصف جداً سمير أمين هنا، لدرجة أنه يعتقد أن الرأسمالية قدَّمت خلال المرحلة القصيرة لنضجها خدمات جليلة وتقدمية لا يمكن انكارها، لأنها ـ هذه الخدمات ـ هي التي خلقت الشروط التي جعلت من الضروري تجاوزها إلى "الاشتراكية ومن ثمَّ الشيوعية"، سواء على المستوى المادي أم على مستوى الوعي السياسي المرتبط بها. وهو ممن يظنون ـ ولهم كل الحق في ذلك ـ أن الاشتراكية ليست أسلوباً أرقى في الإنتاج وفقط، بل هي مرحلة أرقى لتطور الحضارة الإنسانية، ولذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن الحركة العمالية والاشتراكية عمَّقت جذورها بين الطبقات الشعبية وبدأت النضال لتحقيق أهدافها منذ منتصف القرن التاسع عشر بالذات حين صدر البيان الشيوعي 1848، وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن انطلقت أوَّل مبادرة للتشكيك في مسار الرأسمالية على شكل أول ثورة اشتراكية في التاريخ وهي كوميونة باريس 1871.
يعتقد مؤلف هذا الكتاب أن القرن العشرين أحدث انقلاباً في مسار التاريخ الرأسمالي، حيث انتقلت فيه المبادرة إلى شعوب وأمم التخوم، معتقداً أن كوميونة باريس كانت النبوءة وأن الثورة الإيرانية 1907 كانت بداية فصل جديد من التاريخ، ثم ثورة المكسيك 1910 وثورة الصين 1911 ثم ثورة روسيا 1905 التي تتبعها ثورة 1917 ثم النهضة العربية الإسلامية وقيام حركة شباب تركيا الفتاة وثورة 1919 في مصر وتكوين حزب المؤتمر الهندي، كل ذلك وغيره كان بمثابة فصلٍ جديدٍ في التاريخ.. ويذكِّرنا الكاتب أن لينين هو أول من أبرز التحول الكيفي الذي أحدثه الانتقال إلى رأسمالية الاحتكارات، واستنتج من ذلك أنَّ الرأسمالية فقدت طبيعتها كمرحلة تقدمية في التاريخ، وأنها وصلت إلى مرحلة "التعفُّن"، أي صارت نظاماً "فات أوانه"، وبذلك وضع لينين على رأس جدول أعماله ضرورة الانتقال إلى الاشتراكية التي صارت ممكنةً وضرورية، وهكذا قاد لينين ثورة من التخوم في روسيا، التي كانت في ذلك الوقت واحدةً من أضعف حلقات الرأسمالية، وحين خابت آماله في الثورات الأوربية لتستكمل المسيرة، نقل توقعاته إلى الشرق بعد أن رأى أنه من الممكن الربط بين أهداف النضال ضد الإمبريالية والنضال ضد الرأسمالية.