كلما أبعدتُ نفسي عن التفكير بها، أجدها أمامي في غفوتي وصحوتي.. هي تجذّرت فيّ، مثل ملح في أرض ذاتي، ولا يزال السؤال يجر السؤال. ما الذي حدا بفنان ملأت نفسه الألوان وبهجتها، ليطلق العنان لريشته لرسم لوحة استقرأت مستقبل العراق بشكل عجيب، استقراء عجز أساتذة الاجتماع والسياسة والفكر عن الإشارة إليه، فقد كان العراق حين أنجز الفنان المبدع فيصل لعيبي لوحته التي شغلتني المسماة "الجنازة " يعيش زهواً وربيعاّ وألقا أصبح هاجس العالم كله.
لم يرسم فيصل لعيبي لوحة تتحدث عن مدينة أصابها زلزال أو توقع أن يحدث لها ذلك، فهذا موضوع تتولاه الطبيعة، ولم يتخيل وجها جميلاً وما ستفعل به السنين القادمة، ولم يعكس شوق امرأة للطفولة وهي تعرف أنها عاقر ولم.. ولم.. إنه رسم لوحة بانورامية لحالة أصبحت ثيمة عراقية على مدى العقود التي أعقبت رسمها ولا زالت شاخصة وستبقى كما تشير الدلائل إلى عقود أخر. إنها سحابات من قلق كبيت شرع فيصل لعيبي في إظهارها في لوحة "الجنازة" التي أصبحت (جنازات) لا تعد ولا تحصى وبانت آثارها على محيط وطننا الباكي.
لقد وعى لعيبي، ذات وطنه واستقرأ مستقبله، بريشة ولوحة بقيت وستبقى خالدة، تحكي قصة شعب ألف توديع محبيه في جنائز وبدون جنائز. وبهذا أصبح معنى ومفهوم الفنان المثقف المنتمي الى أمته شاملاً لأنه أدرك قضايا مجتمعه وماذا يحيط به، وبهذه اللوحة، بيّن فيصل لعيبي أن الرسم نبوءة وهو حركة تغيير الصمت والساكن إلى لغة وحروف وحركة وصوت وأن المحارة الجريحة وحدها هي التي تضمد جراحها بلؤلؤة. ولكن هل بقى في الوطن لآلئ؟
• الرسم واستقراء الآتي..
إن مبدع "الجنازة" أدرك في عقله الباطن أن الرسم مسؤولية شخصية وجماعية وجمالية وتاريخية، أي أنه تحقيق للذات الواحدة والمتعددة وهو بالنهاية نبض الروح، وهو هنا أكد أن الرسام الذي لا يُعرف من مسك فرشاته لا يستحق أن يُعرف، وعندي أن تلك اللوحة هي معيار إبداع فيصل لعيبي على الرغم من عطاءاته المعروفة كماً ونوعاً. وعذرا من كُتاب النقد التشكيلي، فأنا بالتالي كاتب صحفي، مهتم بالثقافة والفنون لاغير.
لقد هتك الفنان لعيبي ببراءة أو قصد فسحة الأمل والخدر الذي كنا نعيشه وتنبأ بما سيحصل وجسّده في لوحته "الجنازة" التي أطرها بخلفية تبين عظمة العراق وأمامها ثلة من النسوة الموشحات بالحزن.
إن هذه اللوحة أخذت من مشاعري الشيء الكثير على مدى سنوات طوال دون وعي مني، واستغرقتني في عالم لم أتخيل ان يحدث لا سيما أن منظمة الصحة العالمية، كانت أعلنت عام 1976 وهو وقت إنجاز اللوحة أن العراق يشهد انخفاضاً في معدل الوفيات بسبب الخدمات الصحية الرائدة وازدياد الوعي الثقافي وانحسار الأمية وارتفاع الدخل للمواطنين. في ذلك العام وفي مثل هذه الرؤية الدولية، يطلع علينا لعيبي، بنذير على شكل لوحة باسم "الجنازة"، هذا النذير كان كما يبدو يعيش داخل الفنان فتسقطه عبر ريشته وزيتها فوق لوحته "الجنازة". وهي رؤية استقرائية يبدو أنها كانت تعيش في داخل الفنان وهو يعيش فيها أيضاً في علاقة تبادلية لا انفصام بينهما!
والغريب أنه رسمها كما ذكرت، في وقت ربيع العراق وشمسه دائمة الإشراق وحقوله ممتلئة بالأزهار والورود، تنبت أوراق جديدة خضراء وطرية كنا نتصورها قادرة على الثبات، فلم ينظر لعيبي إلى المحيط الجميل الذي كان العراق يعيش في وسطه، بعينيه مثلنا، بل ببصيرته، وبدأت ألوانه وخطوطه تتشابك واشكاله تتبرعم، ودائرة معارفه تتوسع فذهب بخياله الاستقرائي الى تجسيد ما ضمّه عقله الباطن من تصورات لما سيحدث في الوطن من نكبات برمزية ملموسة اسمها "الجنازة".
• سلطة مطلقة..
لقد جسد هذا الفنان مقولة بيكاسو: "يجب ألا نبحث، بل يجب أن نكتشف" حيث بحث في جوانب توقع أنها ستحدث، وفعلاً حدثت، حتى استحال العثور في بعض الفترات اللاحقة على إنجاز اللوحة على توابيت لاحتضان الموتى، لكثرة الموتى وقلة خشب صناعة التوابيت، وهي قدر العراق منذ الأزل!
كانت سلطة فيصل لعيبي على موضوع لوحته غير محدودة، مطلقة. سيطرته على الشكل البشري والوجه البشري هي استبدادية فلم تتأثر لوحة "الجنازة" بالواقعية، والانطباعية، والتأثيرية، والتجريدية، والتكعيبية، والتنقيطية، بل بواقع تخيله فيصل وتحقق.
و"الجنازة"، لوحة تشاهدها مرة، ثم تعيد مشاهدتها باندهاش وترقب وخوف مرات، وترغب في الوقت ذاته أن تحفظها ذاكرتك، فتمعن النظر فيها مرة أخرى وأخرى. هي صوت حزين أطلقه فنان فعمّ أركان الوطن ووجدانه. والتشاؤم الذي استشعره الرسام وعبر عنه في لوحته، هو قراءة مستقبلية لتمزيق النفس من وحشة غائرة الوقع، عميقة الندوب مستعصية على الاندمال، آتية لا محال.. وقد أتت، ويبدو أن فيصلاً رأى دوننا، أسراب الطيور وهي تفزع من أعشاشها وتصرخ في السماء المليئة بدخان الحرائق الآتية وسمع أصوات البهائم تخور في الزرائب قبل أن ينتبه أصحابها ويفكوها من حبالها لتنطلق إلى الحقول هاربة من النيران.
ومن يشاهد اللوحة، يشعر أن رسامها مزج الفلسفة بالرسم، ويخيل أن رسمه وفلسفته تأمل لا خيال، تقوم على نظرة أحس بها بعقل تأملي وواقعية غير مرئية يشوبها شيء من الرمزية.
قال لنا فيصل في لوحته: عليكم أن تدربوا عيونكم على المشاهدة النافذة وعلى الإبصار في عمق الأشياء لاستقراء ما وراء الحاضر ولا تشعروا بالعزلة. لقد أنبأنا هذا الفنان أنه فرد في صيغة جمع دون أن يدري، فأصبح ناطقاً باسم هذا الجمع، لكن متى؟ بعد سنين من الحروب والحصار ثم الاحتلال الذي أضاف أنواعا جديدة من الجنائز التي ضاقت بها المقابر. وتغيّر مسلك الطريق الى مقبرة "وادي السلام" في النجف وهي أكبر مقبرة في العالم، صوب محافظات العراق كلها. أصبح في كل مدينة عراقية مقبرة!
ربما اكون على حق في تصوري أن رسم "الجنازة" كان محاولة من فيصل لعيبي لإنقاذ ذاته من حصارها، ونوعاً من التنفيس عن المكبوت في أعماقه ورغبة في الاستفادة منه في كسر صمت كان يستشعره في الحقبة التي فكر فيها برسم تلك اللوحة.
وأسمح لنفسي في سرد تصوراتي لحال فيصل لعيبي قبل رسمه للوحته. أنني أتخيله وقد استيقظ صباحا من رؤى في منامه.. رؤى كلها أجساد صرعتها الأنانية وطحنها النفاق ومزقها البؤس، وإحساسه ذلك تمثله عقله الباطن فأسرع الى ألوانه وفرشاته لينجز لوحته ظهرت في وقت استهجنها الكثيرون!
لقد اعتمد في لوحته على رؤية ذاتية سبق الآخرين في فهمها، وأدرك ضرورة أن يقدم شيئاً خارج المألوف الدارج، وإذ لم يفعل ذلك فسرعان ما تطوى فكرته في ثياب النسيان. كانت القيمة الحقيقية لـ"الجنازة" في اعتمادها على تجلياتها الإنسانية التي تتوارى خلفها.
وأقول بعد ذلك، إن الحزن يأكل النفس، كما الأيام تأكل الروح. واليأس يلتهم الإرادة، كما الأرض تبتلع الأجساد. وبين الحزن واليأس، يضيع العمر وتتلاشى الآمال. غير أن الوطن وحده يبقى في خلود دائم.. لقد حرق لعيبي نفسه وحرقنا معه بلوحته الرائعة ولسان حالنا يتوسل في ألوان الفنان صاحب "لجنازة" وفرشاته لإصلاح الخراب الذي ينخر فينا وفي كل شيء حولنا. فهل ينفع توسلنا؟
أخذتنا اللوحة من أنفسنا رغماً عنا لنستغرق في عالم الدنيا الآخرة. العالم الذي يعيش بداخل الفنان، فتسقطه عبر ريشته، في علاقة تبادلية عجيبة، فبين لنا أن الذكاء الجمعي موجود عند لعيبي من خلال التقاط ملامح البنية النفسية للمجتمع فحولها الى حالة مرئية. حملت متواليات من الأسئلة منطلقة من تراث فلسفي للوجود يقوم على قراءة للمجتمع العراقي ورؤاه للمستقبل، فحوّل هذه الرؤى الحسية الجزئية إلى رؤية بصرية شمولية تقرأ المتوقع بصرياً!
لقد تأثر فيصل (الإنسان) بإحساسه فحاول أن يؤثر بذلك الإحساس على فيصل (الفنان) منطلقاً من رهافة حسه ودقة ملاحظاته وقراءته لما يتوقع. فأنجز هذه اللوحة ليؤكد ان الفنان التشكيلي وهو يتنج عمله في عزلة عن الآخرين (المرسم) لكن هذا الأمر ليس صحيحاً فاللوحة الحقيقية لا تشعر بالعزلة ولا يمكن الفصل بين الحياة والرسام.
إن عينيّ وهي تتجول في اللوحة، أحسستني أن عمر "فيصل لعيبي" اكبر من شكله. وعقله أكبر من شكله وعمره، وريشته أكبر من شكله وعمره وعقله، كما أحس أن فيصلاً (عرف) المستقبل ربما من قراءته لماض لم نقرأه، فكان مؤمناً بأن فهمه للمستقبل هو استكمال لاهتمامه بالماضي بل لعله يكون أصل الأجزاء.
ولعل هناك من يقول: لا شيء يستحق أن يحزن الإنسان من اجله، وعندما ترى جنازة ميت لا تحزن، ابتسم وقهقه إن شئت، وأحمد الله على أنك لست أنت الميت، ولكن هذا القائل نسي أننا موتى بلا قبور منذ سنين رغم إننا نستنشق الهواء.
وأدعوكم للنظر معي إلى لوحة فيصل لعيبي "الجنازة"!