يلج الكاتب في متاهات تلافيف دماغ طوطم الديكتاتور ليستبين طبائع جوابه الاستبدادي مع الشعب المنتفض، فتتبدى على سطح المقالة فظاعة الرد "الرسولي" للطاغية في سبيل تحقيق المسار الخلاصي لنظامه المافيوي الاستبدادي، كما تبدو الكثير من آليات السلطة المطلقة ضمن مضمرات الممارسات التي تتسم بالعمى.

قراءة في عقل بشار الأسد

سمير سعيفان

قبل أن يبدأ الربيع العربي كان بشار الأسد واثقاً من أنه لا يوجد أي سوري يتجرأ على تحدي سلطته. فقد اعتاد أن تكون سلطة عائلة الأسد مطلقة دون حدود. فهو ابن وزير الدفاع الذي انهزم جيشه أمام إسرائيل عام 1967، وبدلاً من محاكمته، كما يجري في الدول الديمقراطية التي تحكمها المؤسسات، قام بانقلاب عسكري واستولى على السلطة كاملة عام 1970، ووضع رفاقه الذين اختلف معهم في السجن إلى أن ماتوا فيه. واعتاد أن يسجن معارضيه عشرات السنين لمجرد البدء بتنظيم أو إصدار بيان. ومنع أي تنظيم سياسي أو غير سياسي، سوى التنظيمات الموالية الجوفاء. وشرذم قوى المجتمع، فما عادت قادرة على أي فعل جماعي. إذن لم يبق في سورية ما يخيف الأسد.

استمر بشار على نفس نهج والده. لم يكن يحسب للشعب أي حساب، سوى أن يصفق له، كيف لا وهو ابن حافظ الأسد الذي أطلق على ذاته "شبه المقدسة" تسميات "الأب القائد"، و"القائد الخالد" و"القائد إلى الأبد". وكرس نمطاً من النظر إليه كطوطم مقدس لا تستطيع مسه أو الاقتراب منه، وجعل من سلطته تابو. وشاهد كيف استطاع والده أن يتصرف بسورية كمزرعة خاصة به، وكيف استطاع توريثه الرئاسة، وكيف عدل الدستور بجلسة تهريج لمجلس الشعب دون اعتراض السوريين. وشاهد طوابير صغار النفوس وأصحاب الأغراض الخاصة يتصاغرون من حوله.

لكل هذا لم يكن بشار يفكر بشكل سوي، ولم يكن يتصور وجود متظاهر ضده في الشارع. هذه الصورة أكبر بكثير من أن يحملها عقله. كان مقتنعاً بأن على الشعب أن يحبه، ومن لا يحبه عليه أن يخافه، ويصدق مظاهرات التأييد التي تخرج بأمر أجهزة الأمن ومؤسسات الدولة.

كان واثقاً بأن الشعب السوري غير قادر على فعل شيء ضده، وإن وجد من يتظاهر ضده، فهو بلا شك يستحق الموت. كان مقتنعاً بأن طلقتين من الرصاص كافيتان لتفريق أكبر تجمع سوري معارض. هذه العقلية هي عقليته وعقلية نظامه بالكامل.

عندما انطلق الربيع العربي في تونس ثم مصر كان بشار يجيب بثقة بأن سورية في مأمن، لأن "سورية بلد الممانعة". لذا لم يصدق عندما قامت الثورة السورية في آذار 2011 أن هذا يمكن أن يحدث في سورية بهذه القوة. لذا كان يردد في كل شهر أن الأزمة في سورية "خلصت" وبأن "المشكلة باتت وراءه". ولكنه يكتشف في اليوم الثاني أن القادم أصعب. ورغم فشل هذه التكهنات دائماَ، فمازال مستمراً في وهمه بأنها ستنتهي قريباً.

ولكن وضمن الدائرة الضيقة للسلطة فقد كانت حساباته تختلف، فقد أحسب الخطر مع انطلاقة الربيع العربي، فدخل مع أركان نظامه في حوار عما يجب فعله فيما لو وصلت الأحداث إلى سورية. وكانت النخبة الصغيرة الحاكمة أمام أحد بديلين:

* البديل الأول: الثقة بأن سلطة الأمن كفيلة بردع الشعب، وأن بضع رصاصات كفيلة بحل المشكلة، ولدى النظام تاريخ طويل في الصراع مع الشارع، وأن هذه المرة تشبه كل مرة.

* البديل الثاني: أن يدرك حكم التاريخ ويعترف به، ويسلم بانتهاء عمر أنظمة الحزب الواحد واللون الواحد والشخص الواحد والمزارع الخاصة. وإنه قد حان استحقاق إعادة السلطة ليد الشعب، وأن يهيئ سورية لانتقال سلمي سلس للسلطة إلى دولة مدنية ديمقراطية. وحينها كان السوريون سيذكرون ذلك له طويلاً متناسين ما فات.

لم يستطع بشار أن يفكر مجرد تفكير بالبديل الثاني، فاختار البديل الأول والتمسك بالسلطة مهما كان الثمن، وحضر خططه لمواجهة التظاهرات. وبالتالي فلم يكن تصرف نظامه رد فعل آني وعفوي عندما أعطى الضابط عاطف نجيب، ابن خالة بشار الأسد، ورئيس فرع الأمن السياسي في درعا، الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين الذين خرجوا يطالبون بإطلاق سراح أطفالهم الذين اعتقلهم وعذبهم عاطف نجيب، فقتل ستة متظاهرين. ولكن المفاجأة المرعبة غير المتوقعة كانت أن هذه المرة ليست كما المرات السابقة، وأن التظاهر استمر، وأن الشعب السوري قد كسر حاجز الخوف، بل ومع مزيد من استخدام الرصاص والاعتقال والتعذيب كان التظاهر يتوسع ويتوسع من حيث المكان ومن حيث أعداد المشاركين.

جرب الأسد منح السوريين بعض المزايا العينية، وجرب الاجتماع بالكثير من وفود الأهالي، ولكنها لم تنفع، وجرب إطلاق برنامج إصلاح سياسي واقتصادي وقدم تنازلات لم يكن ليفكر مجرد التفكير بها من قبل، مثل إلغاء قانون الطوارئ وإصدار قانوني الأحزاب والتظاهر، وفتح حوار وطني وسمح للمعارضة بعقد مؤتمرين في سورية، وكان يعتقد أن هذا كاف لإرضاء معظم الناس. ولكن كل هذا لم ينفع في وقف التظاهر لأنه لم يتضمن إعادة السلطة للشعب والانتقال بسورية إلى نظام ديمقراطي تعددي وتداولي للسلطة. حتى أن بشار، ورغم كل ما جرى، لم يلفظ قط أنه لن يرشح نفسه للرئاسة عام 2014 أو أن يقر بجعل انتخاب الرئاسة عام 2014 انتخاباً حراً وليس استفتاءاً مزوراً عليه كمرشح وحيد، كما في السابق.

اخترع الأسد ونظامه حكاية المندسين وحكاية المؤامرة الخارجية والإمارات السلفية كي يخلط الأوراق ويبرر قتل المتظاهرين. وسعى منذ الأيام الأولى للثورة لدفع الانتفاضة باتجاه حمل السلاح، ليجرها إلى معركة هو الأقوى فيها، وليبرر سلوكه القمعي تجاهها، طالما أنه مطمئن إلى تراخي المجتمع الدولي في محاسبته.

لم يفهم بشار ما يجري حتى الآن. وقد أصيب بالحيرة والارتباك عندما لم تفعل سياسات الاسترضاء هذه فعلها، ولم يكن لديه سوى الاستمرار في حله الأمني، وإقحام الجيش في مهمة قذرة هي مواجهة المتظاهرين وقمعهم. ووسع حله الأمني هذه المرة ضد المنطقة كلها. فجاء التهديد أولاً لأمن إسرائيل على لسان رامي مخلوف ابن خالة الرئيس ورجل الأعمال الرئيسي لعائلة الأسد، ثم قام الأسد نفسه ليهدد المنطقة بأكملها، فيما لو تم المس بسلطته.

يجرب النظام استخدام تكتيك استخدمه خلال ما عرف بأحداث الإخوان المسلمين بين 1979 1982 إذ يضرب منطقة معينة ضربة قوية ترعب بقية المناطق، ولكن هذا التكتيك لم ينفع لا في درعا ولا في حمص ولا في إدلب ولا في حماه ولا في دير الزور ولا في أي مكان. استخدم الأسد منطق "أن الأزمة التي لم يحلها استخدام العنف يحلها المزيد من استخدام العنف". فكانت النتيجة أن تحولت المظاهرات من أسبوعية إلى يومية وتحول قتل المتظاهرين من أسبوعي إلى يومي، وقد تحول جزء من المتظاهرين نحو حمل السلاح كرد فعل متوقع جداً.

حتى اليوم، يصمم الأسد على المضي في لعبة عض الأصابع مراهناً على تعب الشارع. وحتى الآن ورغم كل الكوارث، فإن أبعد ما يتصوره الأسد هو إعادة إنتاج نظام مثل نظام مبارك في مصر الذي سمح بتعددية حزبية تحت سيطرة الأمن تضمن إعادة انتخابه رئيساً مطلقاً للجمهورية السورية لمرات قادمة غير محدودة. ومن المدهش أنه مازال لدى الأسد وهم بإمكانية إعادة عقارب الساعة للوراء. لأن الدوائر تضيق من حوله، فقد اضطر للتوقيع على مبادرة الجامعة العربية بعد رفضٍ ثم مماطلة ومناورة لأكثر من شهرين، وبعد أن بدأت روسيا تغير موقفها، وقد كان يعول على موقفها كثيراً. وهو الآن يحضّر لإدخال الجامعة العربية في متاهة تنفيذ مبادرتها على الأرض ويحضر لمسرحيات من الأحداث المفتعلة التي سيرتبها على الأرض بقصد تضليل الجامعة العربية وإرباكها، آملاً بتحويل مجمل المشكلة، من مشكلة شعب يريد استعادة حريته، إلى التركيز على قضايا إجرائية جزئية لتنفيذ بروتوكول المبادرة العربية التي لم تتضمن انتقال سلمي للسلطة ضمن مدة محددة قصيرة وبآلية واضحة.

مشكلة سورية ليست في قبول الحوار مع نظام الأسد، أو الموقف من برنامجه الإصلاحي، أو وجود مندسين أو مؤامرة عربية وأجنبية أو مسلحين أصبحوا موجودين بكثرة بسبب قمعه الوحشي للمتظاهرين السلميين، فهذه كلها تفريعات ونتائج جانبية للمشكلة الرئيسية وهي أن بشار الأسد لم يدرك بعد ما يجري من حوله، وما زال يرفض تسليم السلطة للشعب صاحب السلطة ومازال مستمراً في أوهامه ومازال يعتقد بقدرته على الاحتفاظ بالسلطة رغم كل ما جرى وسيجري وقد يجري. وهذا ما سيجلب الكوارث لسورية ما لم يتم ردعه بطريقة فعالة.

 

كاتب سوري