يقدم الباحث البحريني قراءة دالة على وشائج العلاقة التاريخية، على امتداد قرن من الزمان، بين سلطة المشيخة البحرينية، وبين الإدارة الاستعمارية والامبريالية، البريطانية والأميركية، للهيمنة على المنطقة والسيطرة على خيرات البلد وقمع كل حركات التحرر فيها.

شخصيات امبريالية في تاريخ البحرين

يوسف مكّي

من يستقرىء تاريخ البحرين الحديث ومنذ تشكل الدولة الحديثة تحديداً مع بدايات القرن الماضي وحتى الآن يلاحظ حضور شخصيات امبريالية فاعلة في المشهد السياسي البحراني، خاصة كلما جدّ جديدٌ أوحدث حراك شعبي سياسي وأصبح النظام في مأزق سياسي وتاريخي. هذه الشخصيات ارتبطت أولاً باللامبريالية البريطانية عندما كانت مهيمنة على الخليج العربي ومن ضمنه البحرين، ثم بالامبريالية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن.

أما دور هذه الشخصيات فكان يهدف إلى ضبط الحراك السياسي في هذا البلد (البحرين) بحيث لا يخرج عن السيطرة ولا يهدد نظام المشيخة وبطبيعة الحال بقية المشيخات، ولا يهدد في الوقت نفسه مصالح القوى الامبريالية النافذة/ بريطانيا أولاً وأميريكا تالياً في هذا البلد المهم جيوسياسياً، وكذلك بقية دول التعاون الخليجي (فهي منطقة نفوذ امبريالي متوارث بريطاني/ أميريكي تحديداً.

وإذا ما عدنا الى بداية العشرينات من القرن الماضي سنجد أن الميجر آي أيه ديلي المعتمد البريطاني هو أول من دشن الدور/ التدخل المباشر لهذه الشخصيات الامبريالية في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والحياتية في البحرين، وبما يتوافق مع مصالح العائلة الحاكمة. والجدير بالذكر في هذا السياق أن حضور هذه الشخصية جاء بالتزامن مع حراك شعبي في هذا البلد يطالب بإصلاحات سياسية والحد من سلطة آل خليفة القبلية والاستبدادية وتوحيد نظام الإدارة بدلاً من نظام الاقطاعيات، هذا الحراك الذي قام به البحارنة في فبراير سنة 1922 احتجاجاً على ظلم آل خليفة، حيث أعقبه في السنة التالية عزل الشيخ عيسى بن علي حاكم البحرين حينذاك والقيام ببعض الإجراءات الإصلاحية ومن بينها منع السخرة عن البحارنة، وإلغاء بعض الضرائب التعسفية المفروضة على الشيعة دون السنة، مثل ضريبة السمك والرقبية (ضريبة الرقبة) وهي ضريبة مفروضة على الذكور من الشيعة وضريبة المحرم وضريبة النخيل... الخ.

لكن الميجر ديلي لم يمكث طويلاً في الجزيرة، إلا أنه مهد لشخص امبريالي آخر هو شارلز بلغريف، ابتداءً من عام 1926 حتى 1957 وهو الذي أشرف على تنفيذ اجراءات سلفه ديلي وأضاف عليها لاحقاً اجراءات من شأنها أن تثبت نظام الحكم وتحافظ على المصالح الامبريالية البريطانية في هذا البلد، وقد عاصر هذا الشخص حاكمين من آل خليفة، وهما الشيخ حمد بن عيسى 1923- 1942 والشيخ سلمان بن حمد 1942- 1961. وتعتبر هذه الفترة من أهم فترات تاريخ البحرين في الحراك السياسي وكانت لـ بلغريف اليد الطولى خلال هذين العهدين، وكان الحكم في حقيقته ثنائياً من قبيل (عهد حمد/ بلغريف، وعهد سلمان/ بلغريف) كما شهدت هذه الفترة عدداً من الهبات والانتفاضات الشعبية  وإضراب المدارس 1930، وانتفاضة الغواصين 1932، وحركة 1938، ثم حركة هيئة الاتحاد الوطني (1954-195) والتي تم إخمادها من قبل هذا الرجل الذي جاء باعتباره شخصاً موظفاً ينظم الشئون المالية لحكومة البحرين، إلى أن اصبح رئيس الشرطة والأمن العام ورئيس التعليم وحاكماً سياسياً يدير كل أمور الجزيرة، ويقرر مصائرها ويسحق حركاتها السياسية، ويعتقل المعارضين للحكم ويحكم عليهم كيفما يشاء، ويرفض أي اصلاحات سياسية تحد من طغيان الحاكم لصالح الشعب البحراني، بل أصبح الحاكم العام للجزيرة، وما على الشيخ الحاكم إلا أن يستمع إلى توجيهاته، وعلى الشعب أن يقبل بما يمليه عليه.

وبعد سنة من القضاء على "حركة الهيئة" أي في سنة 1956 وبعد أن أدى المهمات القمعية تجاه التحركات الشعبية على امتداد ثلاثة عقود، أُعفي بلغريف من منصبه في سنة 1957 لتدخل البحرين مرحلة جديدة من الحراك السياسي الخفي المشوب بالحذر والاحباط من جراء سحق "حركة الهيئة" من قبل الانكليز والنظام، إلا أن مفاصل الدولة كانت تدار من قبل الانكليز حيث كانت معظم دوائر الدولة تدار من قبل شخصيات انكليزية، أمثال جي آر سميث سكرتير حكومة البحرين، وسنو على الصحة والكولونيل همرسلي على الشرطة.

في هذه الأثناء بدأت تظهر قوى اجتماعية جديدة قومية ويسارية متصدرة الساحة خلال السنوات التالية، ليعاود الوضع السياسي بالانفجار مع منتصف الستينات بحدوث انتفاضة 9 مارس 1965، والتي جاءت في أعقاب قرار صادر في 7 مارس عن شركة نفط البحرين بفصل مئات من العمال والموظفين والذين انضم اليهم تضامنا حوالي 500 عامل آخر، حيث شملت الحركة مختلف مناطق البحرين، وسرعان ما تحولت إلى حركة سياسية عامة دخل فيها الطلبة والتجار والموظفون ومختلف قطاعات المجتمع، وتقودها مجموعة من المنظمات الحزبية أطلقت على نفسها "جبهة القوى التقدمية" واستمرت الحركة مدة ثلاثة شهور سقط خلالها عدد من الضحايا. وكانت الأمور الأمنية والقمعية تدار بطبيعة الحال من قبل ضباط انكليز وبعض رجال النظام، حيث تمت مواجهة هذه الحركة بقمع شديد. وعلى الرغم من القمع الشديد الذي ووجهت به انتفاضة مارس 65، فإن النظام في البحرين ومن ورائه البريطانيون قاموا بإعادة هيكلة أجهزة القمع ليواكب مستجدات الحراك الشعبي الذي حدث، وقد يحدث في المستقبل.

في هذه الحال ما كان من الامبريالية البريطانية إلا أنْ استعانت بشخص يدعى ايان هندرسون، وهو أحد الضباط الانكليز الذين عملوا في كينيا، لقمع "حركة الماوماو" الكينية، ليواصل مهمته القذرة ولكن في البحرين، ابتداءً من 1966 حتى 2002، كرئيس لجهاز أمن الدولة السيء الصيت. وفيما يخص دوره فقد عاصر هذا الشخص معظم فترة حكم عيسى بن سلمان (1961-1999)، وهنا أصبح الحكم متعدد الرؤوس بين الحاكم وأخويه ثم ولده (الملك الحالي)، وأبعد فيما بعد أحد الأخوة ابتداءً من 1970، وكل هؤلاء من ورائهم هندرسون الذي قام بقمع كل التحركات السياسية المطالبة بالإصلاح على امتداد اكثر من ثلاثة عقود، بما فيها حركة التسعينات، وهي الفترة التي شهدت انتهاكات واسعة لحقوق الانسان.

وإذا كان بلغريف شخصية علنية على علاقة بالناس وعادة ما يتفقد المناطق والأحياء ممتطياً حصانه، تارة منفرداً وتارة مع زوجته، فإن اندرسون كان شخصية سرية مخابراتية قليلة الظهور، يمارس نشاطه وخططه القمعية في الخفاء (كما كان يفعل مع جماعة الماوماو)، مع علاقة ببعض علية القوم من تجار ووجهاء وشخصيات اجتماعية، لكنه بالتأكيد كان ينفد أجندة النظام الحاكم في البحرين والمدعوم من الامبريالية البريطانية.

ما اشبه الليلة بالبارحة

بناء على ذلك فليس غريباً أن يطلع علينا النظام في البحرين هذه الأيام، وبعد تقرير لجنة بسيوني، وأثناء ثورة 14 فبراير، أن يطلع علينا بجلب شخصيات تتصدى للثورة وتقمعها على غرار أسلافهم (ديلي وبلغريف واندرسون وسواهم من الضباط الانكليز والأمريكان) طبعاً تحت يافطة تنظيم جهاز الأمن والاستفادة من خبرات هذه الشخصيات (أي خبرات؟)، وهل جهاز أمن النظام بحاجة إلى الخبرات أكثر من الخبرات (القمعية) التي يمتلكها على امتداد 90 عاماً من تأسيسه في مواجه الحركات السياسية والثورات الشعبية، وأساليب القمع والتعذيب والتنكيل بالمعارضين للنظام.

لكن هذا هو ديدن النظام، إذْ كلما واجه مأزقاً سياسياً، اختصر المأزق في الجوانب الأمنية، وكيفية قمع الاحتجاجات، واستعان بخبراء محترفين في قمع الحركات السياسية، وبالتنسيق هذه المرة مع حلفائه وحماته وفي مقدمتهم الأمريكان والبريطانيين، لذلك ليس من الغريب أن يكون خبير الأمن والقمع هذه المرة شخصاً أمريكياً وهو جون تيموني قائد شرطة فلادلفيا، والذي عرف عنه قمعه الاحتجاجات التي حدثت في عام 2003 في مدينة ميامي على خلفية ما عرف حينها بالاحتجاج الشعبي على اجتماع منطقة التجارة الحرة للامريكيتين، حين قام بقمع ومواجهة المحتجين بطريقة دموية، وعرف هذا الاجراء القمعي بنموذج ميامي في معالجة الحركات الشعبية، وهذا ما سيقوم به بالضبط في البحرين خلال الفترة القادمة. وأيضاً ليس غريباً أن تتعاقد الحكومة البحرانية مع شخص آخر لا يقل قمعاً عن تيموني، هو جون ييتس مساعد رئيس شرطة لندن، وقد عرف عنه خبرته في قمع الاحتجاجات في هذه المدينة، كمساعد لـ تيموني. ومن خلال هذا الثنائي القمعي تكتمل دائرة القمع الجهنمية، التي يستعد لها النظام لمواجهة الاحتجاجات المستمرة في هذا البلد، ولكن بطريقة أكثر خبثاً ودهاءً من ذي قبل، وبفضل خبرات تيموني الأمريكي وييتس البريطاني.

وهكذا تتحالف الامبرياليتان الامريكية والبريطانية مع النظام بطرق شتى من بينها توظيف خبرات البلدين في القمع والتصدي لحركة الشعب البحريني، التي لا تختلف عن بقية حركات الشعوب العربية الأخرى. ولكن المصالح الامبريالية هي فوق كل الاعتبارات خاصة عندما تكون المسألة متعلقة بالبحرين مقر الأسطول الخامس الأمريكي.

نعم هذه هي الامبريالية وهذه هي شخصياتها وما يفعلون في هذا البلد على امتداد قرن من الزمان. إنه الزمن يعيد نفسه، لكن مرة في شكل ملهاة، ومرة في شكل مأساة.

 

باحث في علم الاجتماع/ البحرين